الجمعة، 27 ديسمبر 2019

-١٧- (رسالة)


هل كان مقدرا علي أن أتعرف عليك يا سيد هانس؟ 

لن أحدثك عن معرفتي بك، وكيف أنه لو قيل لي بعد ولادتي بأنك لن تنسى اسم ذلك الشخص أبدا لكان كلامهم صحيحا. كل خلية من جسمك لم تتصور يوما أن يذكرك شخص مثلي وأن يتمنى زيارة قبرك! "هانس" لهذا الاسم وقعه عندي من خلال ما لاعلاقة له بنا يمكننا معرفتنا أنفسنا كثيرا. لا علاقة بكل هانس أعرفه بك يا سيد هانس. لكن لأحدثك عن كل هانس مر علي وكيف أني وجدت -كما أنا معتاد على اعتبار بعض الأسماء مميزة صوتيا- بأن من يحمله شخص مميز. هانس غودريان وما أشهر هانس في الحرب العالمية الثانية وكم قرأت كثيرا عنه وتمنيت لو أني أجيد الالمانية لأقرأ مذكراته، للأسف كل من يحمل اسم هانس في الغالب شخص الماني. هانس، لا أدري أكان هذا اسمه؟ رفيق سيلفر في (جزيرة الكنز) على كل حال هكذا سمعت اسمه شخصية لها وقعها رغم أنها هامشية بالقصة لكن الاسم كان إطارا بارزا. بالفعل كدت أن أنسى، في فيلم Nordwand (2008) علق متسلقان المانيان في الجبل أحدهم أتى ليسأل مساعدة متسلقين مشهورين أحدهما اسمه هانس نعم هانس، لكنه قال بأن الأجواء العاصفة لا تساعد على الخروج أذكر وقتها كيف أن الـ آحدهم وقف صامتا فترة وهو ينتظر إجابة أخرى ومن ثم قال كرر رجاءه وبعد لحظة صمت قال "هاااانس" كان لوقع الاسم في خضم الصمت عميقا. وبالطبع لن أنسى أغنية البداية في فيلم Cross Iron (1977)  وكانت "Hanchen klien" وتعني هانس الصغير ذهب وحيدا، أيضا كان هانس وقد تواجد في واحدة من أفضل بدايات الأفلام بالنسبة لي. قبل أن أنهي حديثي هل تصدّق؟ أحب الخلفيات الموسيقية بالأفلام ألفها شخص اسمه هانس؟ هانس زيمر! NOW WE ARE FREE من لا يعرفها الآن يا سيد هانس؟ هل تصدّق في المسلسل الكرتوني (حكايات عالميّة) لا زلت أذكر صوت مناداة الأب "هانسيل" هانسيل وأخته التائهان في الغابة. (بائعة الكبريت) ايقونة تنقلت كثيرا بالحكايات حتى (سالي) ألفها شخص يدعى هانس. أكثرت من حديثي ولن أكثر وأقول بأني قرأت من أين أتى اسم هانس من البداية وكيف أنه كان صدفة، اختصار لاسم أطول. الصدف التي تبدو بلا معنى، تعني شيئا أعمق من المعنى نفسه سيد هانس. 

لم تفهم كلامي، ولم تفهم لم كتبت رسالة إليك يا سيد هانس، لن تصلك الرسالة، فأنت قبل ١٩ عاما. مؤلم أن نقول شيئا ذو معنى ولا يعني شيئا لأحدهم لهذا أحب أن أقول أشياء بلا معنى بلا مناسبة بلا فهم يمكن لأحد -إن وجد من يهتم- أن يفهم. على الأقل ليذهب كلامي سدى فهو بلا معنى لكن أؤكد لك أن أشياء هي بلا معنى لأنها تحمل أعمق من المعنى يا سيّد هانس. 

باللحظة الأخيرة مسحت اسمك الأخير وأبقيت على اسمك الأول "هانس". وقبل أن أختم كتبت رسالتي إليك وأنا أسمع أغنية Monkey 23 لفرقة اسمها The Kills قلت لنفسي ماذا لو كان اسم أحدهم هانس؟ تصور أحد الأعضاء اسمه Hince !  

الأربعاء، 25 ديسمبر 2019

جرأة و مشاغبة كوميدية في الانمي

.. لا تصل لحد الخلاعة بل الى كلمة أقل منها قليلا لكن سنستعير لفظة "خلاعة" بأقل ماتعنيه من معنى:

أتصور أنه لم يعد أحد يسأل هل الانمي للأطفال أم البالغين. نظرة واحدة على مراحل نمو "نامي" في انمي (ون بيس) توحي لك بأنّ الانمي أصبح بالغا. بقي لنا مانسميه "أفلام كرتون" أو هي انميات دبلجت ووجهت للأطفال و المراهقين. أتذكّر كيف أنها لم تكن تخلو كثيرا مما لا أدري هل تصل الى حدّ تسميتها ايحاءات جنسيّة. الإطار الكوميدي المرح هو ما كان يضحك بالفعل، لم يكن ذلك خادشا، كما يمكن أن يكون لو كان فيلما أمريكيا كرتونيّا أو غيره. شعرت بأنّ لليابانيين القدرة على المرح بتلك المواضيع دون أن نشعر بالذنب.


كيف نفهم الانمي والرسّام؟ 
من ملامح وجه الشخصية نعرف الكثير، الوجه الجوكريّ "المثلث المقلوب" يوحي بالشرّ عادة وأقرب مثال "دو فلامنغو" في (ون بيس). أو "المدمر جحيم" في المسلسل الكرتوني (جونكر) يمكن للرسام أن يخبرنا عن الشخصية من خلال الملامح التي اختارها. 

مع كثرة المشاهدات سنفهم نمطيّة الرسامين. تخيّل معي:
مشهد لولد وبنت يسقطان سويّة فوق الثلج. السيناريو النمطي لعادة اليابانيين في تصوّر شغب الأولاد ولطف البنات سترسم لنا الولد يقع على رأسه في حين البنت ستقع بخفّة. في ( هجوم العمالقة) عندما قامت العملاقة الأنثى برمي حصان أرمين وإلقائه على الأرض كان سقوط "أرمين" يشبه كثيرا سقوط البنات أو تماما مثلما سقطت "ميكاسا" بعد ذلك بحلقات ذلك أوحى كثيرا الى طبيعة "أرمين". بالرسم كلّ شيء متعمد ليس كالأفلام، قد يظهر شكل عفوي بالمشهد. 

نعود إلى الايحاءات. بالنسبة لي يمكننا -أو لأقل يمكنني- فهم اليابانيين في نكاتهم أكثر من الغرب ولا أدري مالسبب. لكن تلميحاتهم الكوميديّة أشعر بأنها قريبة ومفهومة أكثر. الصورة المترسخة حولهم عبّاد العمل والجديّة لا تعكس أبدا طبيعتهم المرحة وهنا أعني المرح بجرأة. 




في احدى حلقات المسلسل الكرتوني (الهداف) لعب فريق الكمال مع فريق البنات. طبعا لم يفوت اليابانيون لعبتهم بالمرح بهذه المواضيع. بالطبع يبدع اليابانيون في عدم تجاوز بعض الأمور والسبب هو قدرتهم على تصوّر ما يجب تجنبه لهذا يمكنهم رؤية ما تبقى من مساحة بوضوح بخلاف الأعمال الأمريكية مثلا، وإن حاولوا تجنب ما يجب تجنبه فإنهم يقعون فيه لأنهم على مايبدو لا يملكون تصوّرا واضحا حوله أو أن نظرتهم للجرأة تختلف.

أكيد لا أعني أن اليابانيين في أعمالهم بريئين، ففي أعمالهم الموجهة للبالغين أو "الهنتاي" خيال يصعب التفكير بإمكانه. لكنهم يجيدون كثيرا كوميديا الخلاعة بشكل ينزع عنها صفة الجدية أو لنقل صفة المجون ولو أن التفكير في بعض المواقف محير فهم جعلوا من الجسد متاح لأبعد حد لكنهم تجنبوا بشكل واضح الايحاء بأي اتصال صريح. 





في (ون بيس) الكثير من هذا المجال لكن الابتعاد عن التلميح بالاتصال كان صارما ولو أن صورة "سانجي" نادرا ماظهرت بهذه البشاعة -في الصورة الثانية- يمكنك من خلالها أن تفهم التصور الذي أراد الرسام ايصاله، كان هذا أكثر وجه شهواني "لسانجي". في ما عدا ذلك كان كل شيء مضحك ومرح ومقبول - كان ذلك سيمر على الرقابة لو دبلجت للمراهقين والأطفال- الذي يحب جميع الفتيات ولم تحبه فتاة -عدا واحدة- وصل مؤلف الشخصية معه إلى أقصى درجات الهيام حالة فقدان التوازن مع "سانجي" جعلت منه شخصيّة مضحكة حتى في شهامته التي أضحكت "لوفي" في احدى الحلقات. توجد شخصيات مثل "سانجي"، لكن التطرف في شخصيته برأيي الشخصي وصلت لقمّة المأساة والكوميديا بمشهده الذي يذكرنا بالتفاتة "أورفيوس" المأساويّة. يمكن فهم شخصيّة "سانجي" وكوميديا فقدان التوازن عنده من هذا المقطع

  

أو هنا بنفس الآرك "جزيرة البرمائيين". المشهد قمة في الكوميديا التي يمكن تخيل أداؤها من "سانجي"












يعرف كل مشاهد "لون بيس" مالذي سيقوله "بروك" "لنامي". طلبه لو صور في فيلم يصعب تمريره بشكل كوميدي لكن في "ون بيس" تم تمريره بخفة، لعل السبب في الإجابة التي اعتاد "بروك" سماعها 





وبالوصول الى (رانما ١/٢) نصل إلى ما أتوقع أنه أقصى خلاعة كوميدية مقبولة. تدور حول ولد يتحول لفتاة بعد سكب الماء عليه، نعرف كيف سيتصرف رسامي الانمي حول الموضوع. ويزيد ذلك أكثر مع ظهور المنحرف الهرم "هابوساي"، الذي يحب جمع الملابس الداخليّة للسيدات بالسطو على البيوت. شخصية "منحرفة" فهذه العبارة لا يمكن لغيرها أن تصفه ومع ذلك هي معه مضحكة، هل يمكن تصوير هذا الانحراف بشكل كوميدي دون اللجوء الى الصورة؟ جسد صغير، وهيئة مضحكة، كلها ساعدت على تلطيف صورة الانحراف في الشخصيّة. لكن أكثر مقطع محيّر مر علي كان فرحه بالتقاطه قطعة داخليّة نظيفة لكنه سرعانما أصيب بالإحباط بعد أن عرف أنها لطفلة، مرت الطفلة -كانت بمثل طوله- وأعطاها اياه وقال "هي لك ضائعة" ومضى. علامة استفهام غريبة تركها المشهد، منفرة نوعا ما. 


بالنهاية لو طلب من أحد أن يكتب مشهدا ايروتيكيا وجريئا بسرد غير خادش كيف يمكنه فعل ذلك؟ في الانمي أمكن فعل ذلك كوميديا نوعا ما. 

زائرة لازالت تمشي في الأفق








فَتَحت باب الغرفة منزوعة المفاتيح دون طرقه و قالت :"إنها قادمة لزيارتنا. انزل و ارقب قدومها عند الباب". أوقفتُ شريط الفيديو الذي كان يُكرر  الحلقةَ الثالثة للمرّة الثالثة. كانَ الجوُّ أقرَبَ للشتاء، للتوِّ بات بالإمكانِ رؤية الحلقات دون إزعاج المكيّف.
‏لَم أتضايق كثيرًا رُغم اندماجي مع الحلقة بعدَ مُضيِّ نصفها أخيرًا. أوقفتُها عندَ لقطةٍ متحفزةٍ، تنتظرُ وصولي لإكمالِ المشهد.

‏خَرجتُ و نَزَلتُ الدرَجَ كعادتي راكضًا و قافزًا فوقَ آخرِ ٤-٥ درجات ظَلَّت تَكبرُ معي. صوتُ ارتطام قدمَاي أَعلنَ حُضورِي للجميع بالدورِ الأسفل. على أَن مظهري يُوحي بسعادتي إِثرَ قَفزي، لكن لا أحدَ من البيت ظنَّ ذَلك. كانَ طَلبُها كافيًا لِكَسرِ رُوتيني؛ لهذا قفزتُ احتفاءًا بهِ.

‏المسافةُ التي تَفصلُ بابَ المبنى عن السُّور كانت طويلةً و سَمحت لي بالجري ليصطدم وَجهي بالهواءِ البارد. غَسل الهواءُ وَجهي طاردًا ما تبقى من خمولٍ و كسل. ركلتُ البابَ حتى يرتخِي سِنَّه ليفتح -بعد سنوات سيتطلبُ ركلةً أقوى مِنها- خَرَجتُ، صوتُ احتكاكِ الحجارةِ تحتَ قدمي يَحكني من الداخل. ذخيرةٌ لا تنتهي؛ لرميِ الجُدرانِ و المسافات

‏مشيتُ مبتعدًا قليلًا عن بابِ البيت. كأن حبلًا مشدودًا يشدُني إِليه. وصلتُ حدًا لا يمكنُ الابتعاد عنه. أصوِّبُ النظرَ بعيدًا، مُخترقًا الطريقَ بين بضعةِ بيوت عابرة مساحةً خاليةً من الحجارة و النباتاتِ اليابسة -يقال أن الجرابيع تجري هناك بعد أن طوقتها المدينة- وصولًا إلى قصرِ أفراحٍ يغطُّ في سباتِ مُنتَصفِ الأسبوع. و فوقَ طلعةٍ مرتفعة يمكنني رؤيتها تمشي. "وحيدة؟ ليسَ بعد واحدةٌ تمشي بالاتجاه نفسه تبدو قريبة منها، لا اعلم إن كانت برفقتها" تساءلتُ "لعلها أبعد منها؟" 

‏لا زالت تمشي. على مسافةٍ ما، كان هناك بيتٌ يُبنى يقف أمامهُ كَثيب رمليّ أبيض، بحجم ملءِ اليد من مكاني. لا أدري لِمَ أتخيّل صوتَ احتكاك قدميها بالأرض والحشائش هناك! لطالما قطعتُ ذلك المكان ماشيًا و راكضًا؛ لهذا يمكنني أن  أتخيَّلَ مسارَ صوتِ الأقدام. 

‏لا زالت تمشي. رائحة القهوة بدأت تُطل من نافذة منزلنا. الكتلةُ الرملية لَم تعد موجودةً، أو لعلها أُزيلت. إلا أني رأيتُها أمام بيتٍ آخر يُبنى. البناء السابق اكتمل، و بدأ النظر يضيق قليلًا في الأفق.
‏"هل تحركت كتلة الرمل خلسةً؟"
‏ذلك الكثيب الرملي في كل مرّةٍ يتحرك يكتمل مبنىً و يضيقُ معه الأفق أكثر. الأهم زائرتنا لا زلت أراها. بدأتُ ألحظُ طريقة مشيها. "إنها تشبهها، لكن اليد بعيدة قليلًا لأتمكنَ من الجزم بأن تلك التلويحة يدها هي حتى أجزم بهويتها."

‏الهواءُ بارد و الأشجارُ ترتعش و صوتُ النَّخْل مُنعش. لا تزالُ تمشي بهدوء. ليس عليها قَطعُ شارعٍ معرض لغارات السيارات. لا أحدَ إلا العابرون إن وجدوا حينها، و الجرابيعَ إن كانت هناك. أمَّا السحالي، فإني أذكرها. و قد تَعلَّمنا احترامها، و لا أحدَ منَّا يريدُ من أُم السحالي أن تنتقمَ مِنه. 

‏ألتقطُ حجرًا، أُجرِّب الرميَ بعيدًا. بيتٌ آخر اكتمل! شريط الفيديو لا زال ينتظر، الحلقة تنتظرني! متى تصلُ زائرتنا لأكمل المشهد؟

‏لم تَعد الأحجار موجودة. أمشي قليلًا -الحبالُ قُطعت- لم أعد أسمع صوت احتكاك الأحجار التي تنجرفُ مع كل خطوةٍ مِنِّي. أعثر على واحدةٍ دَحرَجَتهَا من بعيدٍ الأقدام. أقذف بها. الرمي بات أبعد، و زائرتنا لا تقترب



‏سيارة تعبرُ أمامي، قاطعةً لأول مرةٍ الطريق عن بصري. أثارت غُبارًا حجب عنّي رؤية زائرتنا. كانت آخر سيارة تثيرُ الغبار. السيارات باتت تقطع الطريقَ أمام بصري أكثر. زائرتنا باتت تلتفت -تبدو كذلك- وغيَّرت رُتم مشيها -أتخيل ذلك- و سيارة من عندها تلوحُ بالأفق.

‏عَبَرَت عندها أَكمَلَت زائرتنا المسير. جهاز الفيديو بانتظاري على أحرِّ من الجمر! تَركُه كل هذا الوقت مشتغلًا يشعلُ حرارتةَ انتظاره. كان هذا السبب الوحيد الكافي لجعلهِ يُطفأ ليلتقِط أنفاسه. كأني لم أشاهد نفس الحلقةِ مرتين! أتساءل "ما كان سيحدث؟" وكأن المشهد لن يتكرر للمرة الثالثة. و كأن زائرتنا لن تتكر

‏عَبَرَت الشارع الذي كانت تعيشُ فيه الجرابيع و تعبره السيارات المثيرة للأتربة وصولًا للسيارات التي تسير بسرعة جنونيَّة دون إثارة أي ذرة غبار. عَبَرَت قبلَ أن يلحقوا بها. المكان لم يعد مظلمًا. أعمدةُ الإنارة تضيء ذلك الشارع بعد أن عَبَرَته. كما أن أعمدة إنارةٍ غيرها باتت تملؤ الحيَّ الذي أسكنه بالنور.

‏الحجارة لم تعد موجودة. كما أن رمي واحدةٍ منها، سيجعلها عرضة للاصطدام بأحد الذين باتوا يخنقون المكان جيئةً  وذهابًا. الكثيب الرمليُّ لم يعد موجودًا أمام أيِّ مكان. دَفعَتهُ البيوت بعيدًا عن حيّنا. رائحة القهوة تملؤ المكان، تطل من عدة نوافذ.
‏الزائرة لم تصل.

السبت، 7 ديسمبر 2019

كرة بولينغ



في جوف ما يشبه كرة البولينغ بحجم بيت صغير كنت داخل تجويف بالكاد يسع شخص واحد. بالأمس كنت ألعب البولينغ، أو هكذا أذكر أو أحلم. ذلك ما أودعني في جوفها. المكان أضيق مما يبدو عليه. يخيّل إلى أن المكان يضيق أكثر وهذا يخنقني. أحاول دفع الجدار للخارج، أصرخ. لا شيء حتّى صراخي لا ينفذ للخارج. بكيت بحرقة، حيث أني لم أفهم قبل الآن لم يكتبونها هكذا "بكيت بحرقة" الآن أفهمها بحرقة. الدمع يشعل عيني، ولا نسيم أو نفس يطفئ اللهيب عن عيني. 
أصرخ، أدفع الجدار، أخدش الجدار بأظافري. لو أني حفرت للخارج؟ أحك الجدار بقوة، أصرخ حتى يخف الألم، أدميت أصابعي ومقدار ماحفرت لم يكن أعمق مما حفر الجدار في أصابعي. فكرت لو أني حفرت حتى آخر جزء مني لما وصلت للخارج. أجثو على ركبتي، أبكي بهدوء مسندا يداي على الجدار، أشعر بدوار! هل الكرة تتدحرج؟
بأعجوبة خرجت! كان حلما وكان ذلك وشيكا. 

أنهض لأردتي ملابسي، ملابس العمل. وداخل مقر عمل لا يمكنني الخروج منه ومن لباسه وأسواره وحتّى اتصالاته المزعجة أدرك أني لم أخرج منه يوما. 
انتهى العمل. خروج مؤقت. للأسف من المعيب أن تكره شيئا يتمناه غيرك. أصل للبيت بعد سباق مع الزمن للحاق بأكبر قدر من الوقت. أفتح خزانة ملابسي. حيث حبست ملابسي. بالكاد تتعدى اللون الأزرق والرمادي. أنهي لباسي وأخرج. كأن المكان كان مخططا له، أصل إليه بعد تداول عدة خيارات انتهيت كالعادة الى ماعتدت اختياره. كأني أحدق بباقي الخيارات دون أن أخرج إليها، من نافذة نفس الأماكن التي -ولا أدري كيف- أرغمت عليها. كل شيء مثل ما قبل الأمس وقبله. خرجت من المكان أو لا أدري للتو دخلت -متى دخلت لا أذكر- أجلس عنده نفس الطاولة التي اعتدت عليها. أضع أغراضي لأجلس أو لا أدري للتو جمعت أغراضي ونهضت -متى نهضت لا أذكر- على كل ملأت بها جيبي وخرجت وعند الباب أذكر أني للتو كنت قد خرجت، متي وهل فعلا خرجت؟ لا أدري أو لا يهم، أشعر بالدوار وكأنّ أحدهم يدحرج كرة حبسني فيها.



الأربعاء، 27 نوفمبر 2019

قارب نجاة





"كأنها تشعر بالدوار"
وحده صوت الصرير يشعرني بالاستقرار. الحلقة التي كانت تمسك بالمجداف كأنها تمسك رأسي عن الدوار.

الأمواج تموج بنا، شعور بالغثيان كأن أحشائي تموج داخل جوفي. على قلق فكرت بأن الحياة لن تسكن بعد الآن. كلّ شيء يتمايل، القارب، البحر، السماء، ونحن الستة مع رباننا. 

بحركة انتظامية كنّا نجدف بخلاف كل شيء مضطرب حولنا. الجو بارد، ملمس المجداف بارد ورطب يسري داخل عظامي.
العرق يتدفق من جسدي لكنه يرتعش حالما تلفحه الأجواء.

وكأني كنت أنفث في وجه الهواء أنفاسي. بغضب ينفث برودته في وجهي.

كان ربان القارب يجلس قبالنا. بدا كل شيء طبيعي من تعابير وجهه.

يصعب عليك الالتفات فذلك كفيل بتمزيق عضلات عنقك وهي تعارض اتجاه كل عضلات جسدك السائرة بالتجديف نحو وجهة لا تزال عين الربّان تراها بعيدة.

كل شيء بالخلف. لا أرى شيئا الا المكان الذي جئنا منه، بدا بعيدا وهو يحدق بنا من أمامنا وخلف ظهر رباننا الجالس بهدوء 

الهواء البارد يرش الرذاذ المالح على وجوهنا. المياه تملأ القارب. وعلى قلق انتظر تسلل الماء الى قدمي الباردة، هذا أكثر ما يقلقني انتظاره. حذائي لن ينتظر طويلا، زميلي الأقدم مهنة لم يبالي رغم أن المياه تسللت الى قدمه، ذلك يوحي بأن هنالك ما هو أجدر بالقلق.

بانتظام واصلنا التجديف. جدفت بجد، الانتظام كان أكثر شيء يبعد أي تفكير مزعج عن بالي.

بدأ صوت انكسار الأمواج يختلف. كما أن تمايل الأمواج الذي بدأ ينتظم مع قاربنا عاد للاضطراب وملامح الربان بدأت بالاختلاف 

"عليّ أن لا ألتفت، السمع والطاعة هو كل ماعلي فعله. تذكر ذلك عند كل لحظة تحتاج فيها الى التفكير"
بدأ الشعور بأن شيئا بالخلف يثور.
والشعور بأننا مندفعين باتجاه جوف ما بدأ يكبر. بدأ القارب يميل للأسفل أكثر، كل مرة ينزل فيها من فوق موجة عابرة. باتجاه غاطس يهوي لكن القارب بعد اصطدامه يعاود الصعود للأعلى، فوق موجة أعلى ومنها يهوي مجددا باتجاه غاطس يكاد يهوي بنا تحت الماء.

أشلاء أو بقايا قارب بدأت اسمع صوت ارتطامها بقاربنا -كأننا نلحق بذاك القارب- وبدأت تملؤ سطح البحر من حولنا تلك الأشياء، لكن لا أحد يبالي من المجدفين. أثناء التجديف وكأن شيئا ارتطم بمجدافي، وقع الارتطام كان بالغا في قلبي. أضعت رتم التجديف، أحاول اللحاق بالرفاق قبل أن يقذف الربان نظراته على قلبي.
لحسن الحظ، لم ينتبه أحد ووسط كل تلك الاصطدامات لم ينتبه أحد الى تفكيري. 

الأمواج والأمطار بدأت تبللنا أكثر. الهواء البارد ينهش ظهري وعوضا عن محاولة الهروب أجدف باتجاهه. كل شيء وراء ظهري يقلقني، القفز خارج القارب كان آخر اتجاه متاح للهرب.

بدأت عين الربان تحدق بانتباه أكثر. الى مكان قريب غير مبالي الى أي حطام يلوّح بالقرب. بقلب فزع بدأت أنتظر رؤية أي شيء نيء وحيّ يطفو بالقرب منا.

بالخلف أشياء تبدو أفظع من أن أراها قبل أن أرى شيئا من بدايتها.

أفكر بإلقاء ما في يدي ونسيان المياه التي تسللت إلى قدمي أخيرا وألقي بنظري للخلف. القفز بإلقاء نظرة، الهروب بنظرة، كان هذا كل ما بقي بالإمكان فعله. 

عدى ذلك كان الربان والذي بدأ يصرخ "بدأ يصرخ!" بكلام لا أفهمه يبدو أن كل المجدفين يفهمونه. يصعب سماعه مع اختلاط صوته وصت تكسر الأمواج ونفث الرياح.
"هذا مطمئن"
كلامه يبدو معتادا على أسماعهم، أمكنهم سماعه وفهمه لهذا واصلوا التجديف. 

لا زلت أدس نفسي بينهم وأنا أجدف. حتى فقد المجدفون القدرة على فهمه! وهذا ما أخافني. حاولت أن ألتفت "يبدو أنها فكرة الجميع" لكن الهواء البارد -الخوف- جمد عنقي كان علي كسر عنقي لألتفت للخلف. 

الأصوات تضطرب لكن المجدفين واصلوا التجديف  باضطراب حتى فقد الربان نفسه القدرة على فهم كلماته!

ها قد بدأنا نفهم كلام الأمواج والرياح، كل شيء من الطبيعة بدأنا نفهمه، وعلى نحو  مخيف بدأنا نفهم ما يقولون. توقف التجديف كليّا. كانت الطبيعة تستمر بالصراخ بكلام يفزعنا فهمه.
الأسماك والحيتان والطيور مع الأمواج والرعود والرياح كانت تصرخ باستمرار في وجيهنا. 

غاضبة، عاتية
لكنها سكتت إلى الأبد. بعد أن أيقنت أننا لم نعد نفهم ما تقوله. وأرغمنا على السكوت.

الثلاثاء، 29 أكتوبر 2019

دمى تتحرك



*




في اليوم الذي قررت فيه الدمى أن تتحرك دبّ الذعر في الناس. 
يمكن الشعور بذلك الفزع، لا يشبه الفزع من القيامة الذي يعني نهاية كل شيء. من هيئة المرعوبين كان ذلك يعني بداية شيء ما.

ليلا ومن النافذة وقد أطفأت الأنوار حتى لا يخرجني ظلي خارج الغرفة. الناس في الخارج مذعورون ويحاصرهم الفزع -أتخيل أن الوجود بينهم أكثر أمانا من وحدتي-. بطرف الساحة مجسم ضخم يتحرك -لا بفعل الرياح- يحاول ضجرا أن يتحرر مثل اجناسه من المسامير التي تثبت جسده. متضايقا من هيئته التي صنع بها على شكل نصف جسد علويّ ممسكا بتلك الأداة على يده. واصل الاهتزاز لينتزع نفسه من المسامير التي تثبته كلوحة إعلانية فوق أحد المحلات التجارية. كأنه ثبت بإحكام خوفا من مثل هذا اليوم. مثل الأضواء التي تحدق فيه، وخلافا لجموع الهاربين مجموعة من الناس تحدق فيه كأنها لا تصدق ما يتحرك أمامها. 

لم أعد أرى الخيول التي كانت تزين الساحة. امتطت حريتها وجرت بعيدا. كأنها تحركت قبل باقي الدمى. وبقية التماثيل انتزعت نفسها لا أثر إلا أقدام انتزعت سيقانها حتى ذلك الطير والذي كان يزين سطح أحد المباني طار بعيدا. المكان بات خاليا الا من الناس التي تملؤ المكان بالفزع

الفوضى تعم الساحة -أكرر ذلك يأسا في نفسي-. لم أزح الستارة عن وجهي كاملا. فلا يراني الوحش ولا باقي الدمى. يمنحني ذلك شعورا بأني بعيد عن حالة الرعب التي يعيشها الناس بالخارج "أنا في مأمن" أقول ذلك كأني أحسب أن ورقة  قد تقيني من لكمة أحدهم 

بالساحة أحد الهاربين يجرّ صاحبه يحاول إكمال شيء يود قوله، مالذي يوقفك عن الهرب للحديث مع أحدهم الا أن تقول بأنك كنت تعرف بأن ذلك كان سيحدث وأنك تعلم بأن الدمى كانت تحدق بنا طوال الوقت. وأن تلك الأصوات ليست تكسرا للفراغ داخل قطع الأثاث بالمنزل ولا خدش الرياح لصمت المكان. الدمى كانت تتحرك طوال الوقت دون أن ننتبه. 

لم ينتبه الهاربون الذين بدؤوا يحتشدون بالساحة الى الحشد المقترب من بعيد. ليسوا بشرا كما يبدو، فهم يمشون على مهل بخلاف البشر الذين أراهم أمامي. 

كأنه انتزع المسامير من أقدامه هرب أحد المتجمهرين من أمام ذلك الوحش. بدأت المسامير بالانحلال وحركته باتت أشد اضطرابا. كأنه يود أن يلقي ما في يده على الناس لينال نصيبه من إرعاب الهاربين

كان الهاربين الذين احتشدوا أكثر بالمكان وبعضهم أكمل هروبه خارج الساحة يصطدمون ببعضهم البعض. ومن ثم يهربون سوية باتجاه واحد. بالعادة كان أحدهم يشير الى مكان ما، لاشك يشير الى البيت الذي هرب ومنه، أحدهم يشير الى بيتي! "هل علي أن أركض مثلهم؟" 

خلفي مباشرة، أشعر بحسيس يتحرك. قدم صلبة تطرق الأرضية بهدوء "تحركت دميتي أخيرا" . وقدم أخرى بدت وكأنها تهمس في مشيها الناعم. الستارة عالقة في يدي. وقفت جامداً. بالخلف كأن شيئا ما يحدق بي. ذلك التحديق الذي خلته وهما بات يخترق جسدي ويكاد يهزني مسقطا طرف الستارة العالقة في يدي.

لم الذعر؟ الدمى كانت أفرادا من العائلة. أكانت تلعب خفية وتتحرك بالخفاء؟
بدأت الستارة تنحل من يدي وهو ما أقلقني. حكة تنهش جلدي -الفراغ فعل ذلك عمدا-. يمكنني أن أشعر  بما كانت تشعر به الدمى المقيدة في جمودها خوفا من الحركة. كم وددت تمزيق ذلك الجزء من يدي بأظافري. الأقدام لا زالت تقترب. لكنها على ما يبدو كفت عن التحديق بي. لم تعد توجه اقدامها نحوي. 

لكن حجم خطواتها بدأ يكبر. أي أنها تقترب أكثر. "ماهو حال الأطفال في مدن الألعاب؟" هذا أبعد مكان ذهب اليه تفكيري الذي يخشى التحرك مثلي. 

هل سقطت الستارة من يدي؟

لا أدري

دبّ الذعر في الدمى التي كانت تقترب. تمزقت أحشائي وهي تتحرك داخلي دون أن يتحرك جسدي شبرا واحداً.

هل أجري مع الناس للخارج؟ أم أتحول الى دمية قد تتحرك في يوم ما. 

قد يطول جمودي لسنوات طوال خوفا من أن تثير  حركتي الرعب والفزع في قلوب الدمى دون قصد مني 

الثلاثاء، 8 أكتوبر 2019

فقاعة ماء في الهواء


Henrik Sorensen

اليك أكتب..
ودائما أتخيل -وهذا مايخيفني بأن يأتي يوم لا أفرق فيه بين حياتي وخيالي- مشهد اكتشفت بأني أحبه من الخارج أكثر وكدور أقوم بتأديته لهذا أدركت بأني أجبن من أن أقدم على الانتحار في يوم ما.
وعرفت -أو يحتمل- أني أحب المشهد لانه عندما يقدم من يقوم بدور الانتحار عني لا يقتلني أنا بل أشياء أريد أن تموت عني

أتخيل
أني أصعد سلالم بناية عالية -المرتفعات العمرانية ترعبني إلا أن المرتفعات الطبيعية تأسرني- البناية كالبرج، وهي وسط منطقة مدنيّة حيّة ومليئة بالناس وكم تخيلت أن الناس يعيشون حياة رائعة دون أن يخبروني بها. أكمل صعودي للبرج، أخرج من جوفه الى السطح. الجو بارد، وأثر المطر واضح من خلال الأرضية الرطبة والأصوات التي تقطر من حولي، وتشعرني بأن شيئا ما يرمقني. وسحابة لم يكتمل رحيلها وإنزال مافيها.

أصعد درجات سلمٍ للأعلى
رجلي ترتجف، الهواء البارد. وتنزلق، لعله الخوف. ارتعش،البرد يفعل أكثر من ذلك. أتمسك بالقضبان الحديدية لأكمل صعودي، أتوكأ عليها، أنهار قليلا، أتوكأ بخدي على حديدة، باردة كالثلج. ألذ وأحن عليّ من الدفء

أبكي
أبكي وتتغير ملامح وجهي. لطالما اعتبرت ملامحي فظيعة عند البكاء.وجهي ليس قبيحا لكنه بشع عندما يبكي أحب طريقة تعبيره وإن لم يعجبني شكله وكأنه يمسك بملامحه ويشد على ما يبكيه بقوة

أتنفس بحرقة. أتحسس الحديدة أصبحت دافئة قليلا.

أكمل طريقي، وأتخيل بأني لا أدري مالذي فعلته بعدها لكن أَجِد نفسي أطير وأنا مستلقي بظهري على الهواء
أطير 
أطير للأسفل
بقوة
أحس بأن الدمع يطير للأعلى وهو يخرج من عيني، هذا الفراق يجعلني أتخيل الدمع فقاعات وأنا أغوص برأسي للأسفل بالماء كما كنت أحب
ابتسم
وارتطم بالأرض

لطالما كان السقوط بالخلف يؤلمني أكثر. أذكر أن رأسي يقتلني ألما ان سقطت على ظهري ورأسي بالخلف. ذلك يجعلني أطلق شهيقا حادا يخترق صدري بعنف
ألم
لا أدري لم اخترت أكثر شيء كان يؤلمني، طريقة لانتحار أحدنا؛ لعلي ظننت بأني سأسبح كما كنت أحب ولن أسقط كما كنت أخشى دوما

أكمل الرسالة بعد أن هربت وبطريقة بهلوانية كقصة من رأسي الذي كنت أفكر به 

الأحد، 29 سبتمبر 2019

( آلة الحكم بالإعدام )


*

كان لها هدير يشبه غرف التبريد المتجمدة. آلة صممت للأشخاص المحكوم عليهم بالدخول في جوفها لتقرير مصيرهم.

عدد من المسؤلين تواجدوا ببزاتهم الرسمية، لم يكن الجو مؤهلا لمثل هذه الملابس الثقيلة والمزعجة ما أكثر الزخارف فيها وكأنها تصر على اعطاء المشهد شيئا من الأبهة ولو كانت مصنوعة من قطعة قماش ملونة. آمر وحدة الاعدام يتحدث مع السيد مندوب المحكمة بحديث جانبي يشير إلى الخارج تماما، تعابيرهم لا تشبه المكان على الإطلاق وحدها بزة الآمر  الرسمية توحي بآنه معني بما يحدث. " حاولت أن أفهمهم لكن للأسف كما تعلم الإجراءات معقدة، سبق وخاطبتهم لكن دون جدوى" قال الآمر وهو يميل بعيدا عن صاحبه دون أن يبعد يده عن ملامسة السيد برفق سارحا بنظرته بعيدا. أجابه مندوب المحكمة " سمعت أن كل شيء سيتغير" "أي تغيير؟" أجاب الآمر بهدوء وأضاف  بعد سحب نفسه نحو المندوب وكأنه ممسك بعامود ثابت "أني أعرفهم جيّدا لا جدوى منهم على الاطلاق" هكذا قال وهو مبتسم هيئتة لا توحي بالأبهة لكن حضور تابعيه وعددهم يوحي بذلك. بادله المندوب بابتسامة قائلا "ستتحسن الأحوال على كل حال" كان ثباته وهندامه ولبسه الأسود الأنيق مع كبر سنه والشيب في وجهه يوحي بالوقار وسيما الرحمة بادية على وجهة الأمر الذي جعلني أتوهم بأنهم كانوا يتحدثون عن تحسن إحوالي

كان علي أن أدخل الآلة وهي بحجم حجرة صغير محملة على عربة قديمة. صعدت الدرج للدخول إليها، كان قد تم الحكم علي بها وفي موكب بسيط مع عدد من الأزياء الرسمية تم اقتيادي يمكنني الهرب لو أردت لكن الأيدي ستطالني حتما وتغير الحكم من ايداعي داخل الآلة المعدّة للانفجار بالمحكوم عليهم  ان هي انفجرت إلى الإعدام شنقا. الكل يعرف بأن عددا كبيرا من المحكومين بها بل أغلبهم خرجوا منها سالمين عدا عن بعض الحوادث المؤسفة والتي كانت نتيجة خطأ ما. لهذا الكثيرون يرون أن الحكم بالبقاء في جوفها ٦ ساعات  بانتظار انفجارها يعني النجاة حتما من الاعدام. الآلة صممت لتنفجر وفق إعدادات وخوارزميات يمكنها أن تقرر ما إذا كان المدان يستحق الموت أم لا. كل هذا لم يكن كافيا ليشعرني بالطمأنينة رغم الأوجه المطمئنة حولي. فكرت بالهرب لكن ذلك كان سيعني تبديل الحكم للموت قطعا. لكن فكرة التواجد في جوف آلة كأنها لعبة متاهات مصغرة من الداخل مليئة بكومة معقدة من القطع المتحركة وبأسلاك وتروس وبكرات مسننة وأذرع معدنية ومفاتيح من عدة أشكال وأزرة مضاءة بمختلف الألوان ومنافذ باعثة للحرارة والضجيج والاهتزاز كلها حشرت داخل جوفها بشكل معقد بحيث يبدو أن قطع سلك بسيط منها كافي لإبطالها. أي جرذ كان يمكنه انقاذي، لكن أي جرذ كان سيلج داخل جوفها مع كائن يفوق حجمه عشرات المرات.

بعد أن تمنوا لي التوفيق أغلقوا الباب علي لأبقى ٦ ساعات يفترض أنها صالحة للعيش دون أكل أو شرب لأترك فيها وحيدا.

الآلة من الخارج مكعب الشكل تقريبا دون أي لمسة فنية و بلون مهترئ عتيق دون نوافذ عدى عن فتحات موصولة  يبدو أنها صنعت لتمرير الهواء البارد من جهاز التكييف المثبت عليها أو منافذ لدخول الأسلاك الكبيرة وهي تثير الخوف لحجمها وشكلها الغريب تبدو وكأنها موجودة لحقن الآلة بالطاقة. شعرت بأنها كائن معدني أكثر من كونها آلة. بالداخل تبدو أصغر بكثير من الخارج بسبب متاهة الأجهزة المعقدة والمرصوصة بالجوانب لخلق أي مساحة فارغة وهي ممر فارغ لا يكفي للتمدد بسلام  ويوجد كرسي بالعمق وجهاز توقيت يحسب مدة الحكم مكان الجلوس

الكل واثق من خروجي حيا لأنهم ينظرون الي من الخارج

 اللعنة تذكرت أحد المنسوبين يقول بأن الفنيين أدخلوا بعض التحسينات في الآلة! أي أنها قد تعمل بعكس ماعتادوا عليه. كلمته تلك قتلتني. الآن أنا بداخلها كجثة باردة. كل شيء بارد لا ينبغي أن ترتفع حرارة الآلة وإلا ستنفجر، ينبغي أن لا تنفجر إلا وفق ما هو مخطط لها. قبل الصعود شاهدت عددا من الفنيين يعنون بجهاز التكييف، وجوده ظروري لعمل الآلة. لم يدخلوني إلا بعد أن وقع جميعهم على ورقة الفحص وأن كل شيء سليم لتعمل الآلة كما يجب.

الكرسي بارد للغاية، الأرقام تشير إلى أشياء لا قيمة لها لكن وجودها يوحي بأن كل شيء على ما يرام. بعض جوانب الآلة كتب عليها المحكومين قبلي ماكان يفترض أن تكون اخر كلماتهم. لم يتركوا لي ما يكفي من الفراغ آخرها كتبت قبل أعوام، أصبح الجميع ينظر الى هذه الآلة على أنها لا تعمل. لم يحدث وأن انفجرت بمحكوم مثلي من قبل. لكني سمعت عن حوادث يذكرونها حيث انفجرت بسبب أعطال فنية ومرات أقل انفجرت كما يجب.

الكثير تحدث بأن الآلة لا قيمة لها وأنها خدعة ذلك أن المؤسسة المصنعة تحلب الأموال لقاء تشغيلها والعناية بها وصنع بديل عن كل واحدة تنفجر بنجاح. فساد هذه المؤسسة يجعلنا نعيش! هكذا هي الأمور والخروج من الآلة حيا يعني اسقاط كل الأحكام عني

لهذا الهرب كان مخزيا والهرب سيجعل مني اضحوكة ويلحق بي العار ناهيك عن كوني أحمق استبدل حكم الاعدام المحتمل باعدام أكيد.

الكرسي البارد منعني من الذهاب أبعد بالتفكير. الباب مغلق الاحكام ولا شك أن الجميع بعيدون من حولي ويحاولون امضاء وقت فراغهم على مسافة أمان كافية، رغم استهانتهم بالآلة لا أحد منهم يقترب.

صوت هدير الآلة يخنقني. يشبه الغضب، الحديد والمعادن بدأت تزمجر. بدأت أشعر بغضب الأشياء من حولي، كأنها فعلا قرأت بيانات قضيتي وأن كلامهم عن الخوارزميات حقيقة! لم أكن مجرما لكن التهم أمكن إثباتها ورقيّا.

أحاول تغطية فمي وأنفي فالهواء البارد بدأ يحفر في حلقي. أذرع حديدية تدير تروسا مسننة بانتظام واحكام لم تقلقني حركتها الرتيبة إلا بعد أن شعرت بأن رتم حركتها بدأ بالتغيير! خطب ما أصاب الآلة والتي اشتهرت بأنها لا تعمل كثيرا كما يجب وبدلا من انفجارها بالنهاية انفجرت عدة مرات بسبب أعطال كهذه دون إكمال مهمتها بالحكم.

بالجهة الأخرى بدت احدى القطع منحلة أكثر من اللازم، لم تكن كذلك كما تحظن عيني. قطعة ممسكة بذراع يدير أحد التروس والذي بدا مائلا أكثر من غيره. حاولت احكام تثبيت القطعة بخوف لكن لعنة ما حلت بي، أصبحت أسوأ من السابق لاشك أن يدي ارتجفت أكثر من اللازم لهذا تخلخلت أكثر لم أعد أفرق بين اهتزازها واهتزاز يدي وقلبي. حركة الأذرع أصبحت أشد اختلافا!

شيء ما فعلته يدي، كنت واهما لم يكن الرتم إلا على حاله لكن تدخلي أفسد كل شيء، هل هذه هي الأعطال التي يتحدثون عنها؟ كان الهواء المنفوث من أحد الأجهزة حارا وجه الجهاز بتقاطيع أزرة التحكم والمفاتيح المضاءة تشبه وجها عابسا لن تحب التحديق به. الأسلاك من خلف هذا الوجه شدت بعناية وهي موصلة على مايبدو لتغذيته ونفخه أكثر بحيث يبدو كالمدعي العام بوجهه المتجهم  وهو من سيملأ صدر هذه الآلة لتنفجر بي.
لو أن اللمبة الحمراء تنطفئ لبدا الوجه أكثر قبولا. الاقتراب منه أصابني بالذعر، بخلفه وجوه وكومة لاتنتهي من مثل هذه الأجهزة المكدسة فوق بعضها. يمكنني رؤية بضع أسلاك منحلة بالداخل! "لا أحد يعبؤ بسلامة المواطنين ولا أحد يهتم" يبدو أن احكامها يحتاج إلى جهد ماكانت أوجه الفنيين الذين رأيتهم على الآلة قبل دخولي لتوحي بأنهم على استعداد لشدها، ان كان مقدرا للآلة أن تنفجر فلا يهم إن كان بسبب عملها أم بسبب خلل يصعب اقتفاؤه وسط كل هذه الأشلاء.

لعنة، هل علي أن أعنى بالآلة مثل الأهبل بالداخل كي لاتنفجر؟ بسبب اهمال هؤلاء الفنيين. للمرة الأولى شعرت برخص قيمة الأرواح عندهم.

   الباب مغلق بإحكام ومقفل ولا يمكن لأي يد أن تحفر في تلك المعادن مخرجا خلال ٦ ساعات ناهيك على أن شارات التحذير تملؤ الآلة وهي تحذر من أن أي عبث قد يتسبب بانفجار الآلة لهذا دائما ما يشار بالتقارير الى أن سبب العطل الفني ناجم من عبث المحكومين بحياتهم.
كيف حافظ من نجى من المحكومين على رباطة جأشهم؟!

لماذا لم أسأل أي أحد منهم عن مايجب فعله بمثل هذه الحالات.

هدير الآلة بات أشد ومفاتيح الإنارة التي كانت مطفأة باتت متوهجة بألوان مختلفة، ازدادت أزرة الأنوار المضاءة بشكل يثير الذعر، بالخصوص تلك الحمراء المصابة بالغبار، وكأنها تضيء للمرة الأولي! اذ أن الآلة كانت قد حوت عددا من المحكومين كلهم سلموا لكن لم تكن الحمراء مضاءة مع أحدهم. الكرسي أصبح أشد برودة والمكان أصبح باردا بشكل مرعب كأنه ثلاجة أموات.

الأصوات اختلفت، الأنوار كذلك، الاهتزازات، باتت أشد عنفا وقلبي يرجف صدري بشدة كأنه يحاول كسر بابه حتى يخرج مني. هو قد وجد نفسه حبيسا داخل جسدي.

حاولت ضرب الباب متجاهلا، الكتابة الحمراء والتي لم أفهم ما تعني إلا أن لونها يوحي بالمعنى

مرت ٤ ساعات بقيت ساعتان جلست على الكرسي جثة هامدة افترض أنها أنا. أمامي جهاز بجانبه قطعة نقدية. سمعتهم يقولون أن الآلة لا تنفجر إلا بعد أن يقوم هذا الجهاز (جهاز الطبع) بطباعة ورقة تشير الى النتيجة، انفجار أو الى وجود خلل يحتم الانفجار أو بوجود انذار كاذب. الجهاز يمد الورقة من فمه وكأنه يمد لسانه برسالة تقول "انفجار" وأحيانا غير ذلك.
كان المحكومين يضعون قطعة النقد هذه على طرف فم الجهاز اذ أن سقوطها ورنينها على السطح المعدني يشير إلى أن الجهاز مد لسانه أخيرا ناطقا بالحكم. وهم ينتظرون هذا الرنين على أحر من الجمر. وكم ماتوا لأن القطعة كانت تسقط أحيانا من طرف فم الجهاز بسبب عطسة أو اهتزاز الآلة أو بسبب عدم تثبيتها بعناية.    

ثبت القطعة جيدا. لانتظر الجهاز حتى أقطع لسانه حال خروجه لأقرأ مافيه
بقيت ساعة لا شك المكان هادئ بالخارج بعكس الصخب والعنف داخل هذه الآلة.

اربطة حذائي منحلة أميل لأشد الأربطة وأنا أسمع رنينا معدنيا يهز قلبي لأدفع جذعي بالأعلى لأرى مانتهيت عليه دون أن أفهم شيئا لم تعد أربطة أعصابي مشدودة بخلايا جسدي باحكام وشراييني لم يعد الدم يتدفق فيها بعناية كما بالسابق وعظامي لم تعد مشدودة على مفاصلي بقوة حتى تحملني وعضلاتي باتت كالاسفنج هشة من الضعف وقلبي بات ينبض بالفراغ ولم يعد تفكيري قادرا على تشكيل شيء من أشياء متفرقة لم يعد تفكيري جزءا من أي شيء مني

لا أهتم وإن خرجت سالما لا شيء مما حدث فيني يمكن أصلاحه 

فُتح الباب! يتفقد المسؤلون الآلة ويعيد الفنيون فحص الأجهزة. يوقعون على أوراق الفحص "كل شيء على ما يرام"

"هلا عزيز تهانينا كيف سارت الأمور, طيبة؟ "  



 * Max Ernst

الجمعة، 16 أغسطس 2019

كرسي (٢)

-٦٢-
قبل النوم، أدركت بأني أعيش حياتي لاستدراك ماضي تمنيته ولا أدري ما هو. كل ما أعرفه هو الوقت الذي كان فيه هذا الماضي حاضرا. ولا أدري -وكم لا أدري- ان كنت سأجتازه. يقضي الإنسان عمره من أجل نقطة زمنية، يعيش من أجلها كمستقبل يذهب إليه وحاضر يحاول الحصول عليه وماضي يسعى لاستعادته في يوم ما.






بعد أن أصبح طبيبي النفسي معروفا بالنسبة لي بات يصعب الدفع بشعوري خارجا لمسامعه. عرفت أن وجهه سيطاردني وسأظل أهرب منه ومن حقيقة أني بحت له بشيء هام. بعيدا عن وجهه أحاول أن أري نفسي ما سأقوله له:


هذا الماضي المتمنى يمكن معرفته واستعادته بأن يتحقق على شكل حلم قادم
سألتني: كيف ستعرفه وماعلاقة ذلك بالأحلام؟
سأقول لك: الأحلام لاتتغير لكن الزمن يغير حلتها وعلاقة ذلك بالأحلام تشبه تفسير الأحلام في منامنا، دائما ماتكون الحقيقة -وهي ثابتة- خارج نص الحلم. لو أمكن لي تفسير أحلامي لعرفت واستعدت ما كنت أريده آنذاك ولعلي أعرف نفسي أكثر
"فقط لو أني كنت مؤلف (هجوم العمالقة)!" سأقولها بلامقدمات.  
ماعلاقة ذلك؟ "لا أدري هو حلم أحاول تفسيره ولم راودني" أقول الكلمة الأخيرة بإلحاح. 
ككل أحلامنا نقول مستحيلة فهجوم العمالقة كان قد تم تأليفه بالفعل من قبل ايساياما، لا أدري هل أجد التفسير عنده؟ أو في (هجوم العمالقة) مالذي يجعلني أعتقد بأن تأليفه كان حلما لي؟

لا أود إقحامك في أحداثه كثيرا لكن كعادة الأحلام يصعب روايتها بدقة؛ لقد حكوا عن بشر يفقدون السيطرة على أنفسهم عندما يستحوذون على جسد ما! -أذكر أني قلت مثل ذلك في أول جلسة-  ذلك يشبه الأرواح في أجسادنا، نحن نفقد السيطرة تماما، هذا الجسد يسيرنا ولا يكفي التفكير بسطحية رغباته كل ذلك لا يغير شيئا. هل تصدق يمكن أن تعيش في جسد شخص آخر حال موتك! يمكنك أن تموت لتعيش للأبد، ذلك يشبه فكرة التضحيات البطولية في كل الروايات بكل بساطة أموت كي أعيش، مالذي يعنيه كل ذلك؟
إن لم أقحمك في الأحداث حتما لن أقحمك في مقاطعه والتي هي بمثابة شرائط ذكريات تعرض أمام عيني مضاءة بمصباح يجهر العين، كأني مشهد لأحد أبطالهم وهو يتذكر حلم شخص آخر. نعم يمكنك أن تفهمني أكثر عندما تراه، فأنا لم أختر حلمي وهذا العمل لم يكتب صدفة. قدر له أن يكون حلما لي لهذا أشعر بأني أعرف نفسي في كل مرة أفسر الأحداث فيه.
لا تسخر مني، اني دقيق ازاء نبرات الأصوات بشكل لا يصدق، يمكنني أن أعرض لك أصواتا لاتزال عالقة بلحظاتها.  لماذا أستمر في إعادتها؟ ألأعثر على شيء فيها؟ إنهم يستمرون في قول أشياء أود قولها وبالنبرة التي أريد  هذا العمل لايزال مستمرا في كونه حلما لي أكثر وأكثر من أسواره حتى ساحل بحره. هذا العمل يفهمني، يفسرني، يمكنه أن يكون دليلا لي نحو ما أبحث عنه في قبو روحي. على كل هل تدرك إلى أي مدى أأتمنتك؟ إني أقول لك بأن حلمي هذا العمل أي أني قد أعرض نفسي وكياني لأن يقول أحدهم بأن حلمي عمل تافه!
هو وإن كان سيظل حلمي الذي لن يتحقق إلا كما قلت سابقا في نفسي: لن يتحقق حلمي إلا بعد أن أستيقظ في يوم ما وأجد كل ماعشته كان حلما، وهو مايجعلني أعتقد بأن تأليف هذا العمل حلم يمكن أن يتحقق    

البشر يمكن تفسيرهم من خلال أحلامهم

يمكنني أن أميز لك بين ما أحب وبين ما أحلم به

أشعر بالحنين اتجاه كل ما أحلم به، أغاني، كلمات، صور ذكريات،أشخاص، هجوم العمالقة أشعر بالحنين نحوهم لا يمكن أن تشعر بالحنين اتجاه أشياء لم تنتمي لها من قبل. أكانت تلك الأشياء لي في عالم ما؟ أكان علي أن أكون صاحبها؟ لا يمكنني أن أقول لك ماهي فهي ليست أحلاما مكتملة، قد تستغرب اعتباري لها أحلاما لي، لكني أفهم من نفسي كثيرا من خلال كل محاولة لتفسيرها.

أتعرف كيف كتبت ما قلت لك؟
كان حلما كنت أكتب أسطرا على ورقة مظلمة، ماكانت الرغبة لتتركني "أنوم" دون أن أتظاهر بكتابة ماتمليه علي، حدث ذلك بشكل متقطع وكأن أحدهم قام بضبط المنبه عند كل اغفاءة.أو تدري لم أسميت مافعلته حلما؟ لأن ذلك قادني للحنين إلى يوم كان قبل أعوام يومها كتبت ما كتبت على ورقة مظلمة من شيء يدفعني. بالأمس تماما كما فعلت قبل أعوام  كتبت كل شيء بعد أن تحدثت مع أحدهم هل من تفسير لذلك؟ لا أدري لكن أيضا قبل سنوات في ذلك اليوم كان هناك أحدهم مثل ما كان بالأمس. لم يكن ذلك الماضي الذي أبحث عنه بعيدا عن تلك اللحظات ولا أذكر: أكان حاضرا أم ماضيا أم كان لا يزال حلما لم يأتي بعد.



(إنمي وكنت أتمنى تأليفه) !

عنوان الجلسة سيجعل مني شيئا سخيفا. لا أدري كيف كنت سأجرؤ على قول ذلك أمامه. لا أذكر عنوان جلستي الأولى معه، لكن ابتسامة مساعده جعلتني أشعر بالضيق والأسف ولا أود تكرار ذلك.


(أحظر لي كرسيا وضع فيه ما شئت، النتائج ستصلك بعد أيام)

لو كنت طبيبا لفعلت ذلك كرسي أو صورة، رسمة لكرسي ذلك لن يكون كافيا لكنه أجدى قليلا. توجد رسمة لا أدري لم ظننت لسنوات أنها لكرسي قابل للاهتزاز .. 








 

------------
١. ادفار مونش
٢. بول غوغان

الخميس، 8 أغسطس 2019

كائن غريب وقت الظهيرة



الكلاب تنبح! لاشك بدأت الشياطين تتجول وقت الغروب. لطالما وجدت في الخرافات تفسيرات معقولة أكثر من الأفكار المنطقية. لازلت أحكم على الأشياء وفق ماتعلمته في صغري، كان مبنيا أكثر على الخرافات، يمكننا اعتبارها تفسيرات منطقية صيغت على شكل قصص مشوقة. 

بدأت الطيور تخلي السماء وعادت الى أعشاشها. أستطيع أن أدرك الآن بأن الكلاب باتت تخاطب بعضها البعض بنباحها، ولم تعد تكترث للشياطين التي تتجول في الأرجاء، هل بدأت أفهم لغة الكلاب؟!

قبل سنوات، أيام طفولتي وأنا أتحدث عنها وكأنها كنزي الوحيد الذي أحب أن أعرضه لكم. كنت أجد الشارع أكثر رحابة ومتعة وقت "القايلة" كل الكائنات التي لا تحب البشر ولارؤيتها يمكنها الخروج بحرية في هذا الوقت وحده. اعتادت أن تراني كثيرا، لم تعد تنزعج من وجودي. ولا من الكائنات التي كنت أتخيل مقاتلتها، يبدو أنها كانت تراها بالفعل. الشمس حارة  لكنها لاتبدو مزعجة ووجهي يشتعل احمرارا بالمرآة أجده أكثر وجه أراه يعبر عن سعادتي. وقت أذان العصر يخرج البشر ويبدؤون بالتجول وتكثر العصافير والسيارات المزعجة والسماء تمتلئ بالطائرات المسافرة، والتي كنت أناديها بأسماء أقاربي علهم يسمعوني. كانوا قد غادروا نهاية العطلة الصيفية بالطائرة. يقينا كنت أشعر بأنهم يسمعوني، وحين كنت أسألهم كانوا يقولون: نعم نذكرك! ما كنت لأحب الحقيقة لو كانت غير ذلك. 

عندما يكثر البشر وتبدأ الشياطين وقت الغروب بمزاحمتهم وصوت العصافير يضج بالسماء قبل العودة الى العش، أشعر بهذا الوقت. خانق للغاية ومزدحم في تلك الساعة، تتبادل جميع الكائنات أدوارها حتى عندما ألعب بالتربة، الحشرات والديدان تكون أكثر وقت الغروب. البشر، الشياطين، العصافير، الحمام، القطط، الديدان، ونباح الكلاب، والسيارات والطائرات وقد بدأت تضيء والنجوم بدأت بالظهور و الأحياء والأموات كل شيء حيّ كان متواجدا في ذلك الوقت لهذا أجد بأن ذلك هو ما يجعل الصدور تضيق وقت الغروب. ولا شيء أكثر. لا لأنه يذكرنا بالراحلين ولا أي شيء من هذا الكلام. 

ذاك مايجعلني أحب وقت الظهيرة للعب أكثر. حيث الكائنات تشبه بعضها، التي تحب الحياة خلسة، كائنات لا أحد يعرف عنها شيئا وأراهن لو أن هنالك كائن لم يكتشف بعد حتما سيكون واحدا من تلك الكائنات التي تخرج في هذا الوقت، عدا عن سيارات قليلة جدا وأشخاص ملثمين يكتبون على الجدران أشياء لامعنى له. 
أفتقد تلك الأشواك، كانت حادة لكنها لاتعلق داخل الجلد، خضراء بقوة وزهرها أحمر فاقع في غاية الصغر. لا تشبه الأشواك التي تبدو عدوانية بمجرد النظر إليها. 

كانت الكلاب تنبح قليلا، الشياطين لا تخرج أبدا في هذه الأوقات. لكن كنت قد سمعت عن كائن يعيش في هذه الأوقات ويشكل مصدر قلق. كائن خرافي ولا شك أنه خرافة حقيقية؛ ماكان لأحد أن يختلق كائن خرافي يعيش في هذه الساعات. أكثر ساعات البشر مقتا وكسلا. 

أفهم جيدا سبب تكاثر تلك الكائنات الغريبة في الليل والفجر ووقت الغروب. فهي أوقات لا تحتاج لخيال نافذ. بل إن حركات ظلال الأشجار وهي  تلعب على الأرض ونسمات الهواء الباردة والتي يحلو معها كل حديث. أشكال لا نهائية من المخلوقات. حتما لن يرى أحد هذه الكائنات في الظلام أي أنها ستظل موجودة في الأذهان للأبد. لكن كائن يعيش في أشد أوقات النهار وضوحا حتما سيلقى القبض عليه ويرى دون تجاهل. 

لا أفهم لغة الكلاب ولكن شيء ما كان هناك ولو هربت حينها لشعرت بشيء يلحق بي؛ الخوف يصنع المخلوقات. لكني لم أهرب، فالنهار لا يخفي شيئا والرؤية تردي هذه المخلوقات قتيلة بين أعيننا، فهي تتواجد أكثر إن لم نراها.
الكائنات تخفي شيئا، والتي اعتدت أن ألعب حولها بدت تتصرف وكزن لا شيء غريب يحدث هنا بطريقة توحي وبشكل صارخ بوجود شيء غريب مر من هنا. القلق وحشرات والطيور النادرة والقطط والسحالي والكلب الطائش كلها انتبهت بقلق الى شيء ما كان سيموت للأبد لو انتبهت إليه. 

الثلاثاء، 6 أغسطس 2019

كلام لا طائل منه حول البحر





لطالما اعتقد أن نقمته تمنحه القدرة على رؤية الأشياء بوضوح أكبر.


 "غشاوة قذرة على عيني" قالها وهو يمسح عينه من ماء البحر. حال خروجه من الماء شعر بالانزعاج وحبيبات الرمل عالقة على ساقه. كان مشمئزا من ملمس جلده اللزج بعد انحسار ماتبقّى من مياه البحر على جلده. لا يدري أي نوع من الافرازات تلك.

بعد أن شعر بأن حبيبات الرمل كادت تصل الى ركبته وهي تتسلق مع كل خطوة كان يخطوها نحو دورة المياه قتله اليأس "لاتوجد طريقة لمعاقبة الشعب أكثر من حرمانهم من مكان يغسلون فيه أجسادهم عند البحر" المكان مستخ إلا من رائحة الصابون التي زادته شعورا بالاتساخ.

عاد الى أصحابه متضايق من رائحته العالقة من البحر. قبل ساعة كانت الشمس ساطعة، بدت المياه صافية ونظيفة لكن بعد خروجه شعر بأنه كان قد تمرغ بسوائل البحر. الذي يتكون من عدد لا يحصى من الافرازات الخارجة من أجساد كل الكائنات التي يمكنك تخيلها. بدأ يتصور بأن البحر ماهي إلا الافرازات التي تخرج من جلد اليابسة، ونحن نتمرغ فيها بكل سرور. "لاشك وأن هذه المدينة في غاية التعب"  قال ذلك وكأن الطعم العالق في فمه أوحى له بذلك.

كل شيء منفر، البساط الذي كان نظيفا أصبح مشتتا بالرمال والملمس اللزج لجلده كان يضايقه أكثر من مساحات الجفاف التي كانت تحك جلده والذي علق فيه كل شيء، بقايا سمكة نافقة، افراز لزج لكائن رخوي، نبتة بلون العفن عالقة في شعره وخليط الملوحة العالقة في جسده من مصادر مختلفة التفكير فيها سيذهبه بعيدا. كل مايفكر به هو أن يسلخ جلد الافرازات وبقايا الكائنات العالق في جسده. لا شك أنه حساس ازاء كل شيء يلمسه.

لطالما ادعى بأنه قادر على الشعور بأي أحد عند مصافحته. "اللمس أكثر من حاسة" هذا ماعتاد قوله. أي شيء لمسه وجعله يشعر بكل هذا الضيق؟ من علق في جلده؟

الكل يبدو مرحا وسعيدا في هذا الشاطئ
"كيف لك أن ترتاح وقد علقت فيك هذه المياه؟" بهذا فاتح اصحابه. "كنتَ سعيدا وأنت تتحدث عن السباحة على شواطئ الجزر التي زرتها" معلقين باستغراب وتهكم. "البحر هنا يلوثك ليس إلا كومة من الافرازات لا أشعر معها بارتياح. في الجزر افرازات الأسماك التي تشبه أسماك الزينة تعلق بك وشعيرات جوز الهند تعلق في شعرك وعوالق من نباتات لايشوب لونها الملوثات وحبيبات الرمل الناعمة، الطبيعة كلها تعلق بك وتلمسك. عدا عن بعض السياح هنا وهناك ومنهم من تتمنّي أن يعلق بك شيء منه و .."  شعر بأنه يخوض في جدال لا طائل منه فقد زال عنه ذلك الشعور بالضيق، فقد جفت آخر ذرة لزجة من جلده.

الأربعاء، 10 يوليو 2019

من أوديسا كوبريك إلي سولاريس تاركوفسكي


A Space Odyssey:2001 (1968)




Solaris (1972)



سيحلو لك أن تقارن بين الفيلمين كما كان يحلو للنقاد من قبل. كمقارنة بين قطبي الإخراج السينمائي الأمريكي والسوفييتي. يمكن أن تقارنهما من الخارج لكن من الداخل -أحداث الفيلم- يصعب ذلك. 

الفيلمان في غاية الاختلاف، فيلم كوبريك فضائي للغاية كما هو واضح لكن فيلم تاركوفسكي انسانيّ أو أرضيّ بامتياز، حتّى الكون الذي صوره تاركو بالفيلم لم يكن إلا جزءا من الكون الذي يعيشه الإنسان من ذاكرته لا من خياله

في البدء القاعدة الفضائية، عند كوبريك هي نموذج للقاعدة الخيالية والتي اعتدنا عليها لاحقا بالأعمال الفضائية، مباني خياليّة نظيفة ومرتّبة بإتقان كأنّها عمل ينتمي للفنّ الحديث. في حين نجد القاعدة في فيلم تاركو فوضويّة ومتّسخة كأي منشأة بشريّة، أو كأي قاعدة حقيقية لاخياليّة كما هي مع كوبريك. لاتشعر بوحشة معها إذ أن تاركو لم يملأ فيلمه بالتجسيدات الغرائبية كما فعل كوبريك، بل إنّه قدر الإمكان جعلك تشعر بأن الفضاء الخارجي لن يكون كما اعتدنا بشاشات الغرب، فضاء أسود وفراغ لانهائي موحش ومليء بالنجوم بل سماء تشبه سماؤنا مع نور لايختلف عن نور الشمس. حتّى الملابس لم تكن مصطنعة بل كانت مثل ملابس الأرض تاركو صبّ تركيزه على الانسان في العمل لهذا لم يشتّتك من خلال جرّ خيالك بعيدا نحو الفضاء. 

فيلم كوبريك حاول تجسيد صورة للزمن بوصفه الكون الذي نعيش فيه في حين حاول تاركو تجسيد صورة للذاكرة بوصفها الكون الذي نعيشه. كان يمكن أن نشاهد الحكاية تصور في فيلم على الأرض لكن الفضاء خلق إطارا مناسبا للغاية وأبعد مما نتصوّر. بل أكاد أجزم أن هذا الإطار خلق فرصة لاتعوّض لتاركو ليبثّ كل مايودّ قوله.

تاركو أحضر معه في هذا الفيلم كل  شيء يحبه، الكتب وهي أشياء لانشاهدها في أفلام الفضاء الامريكي وقصة (دون كيخوت) ولوحات بيتر بروغل والتي ظهرت في فيلم (المرآة) ولوحة لروبليوف وهو فنان ظهرت لوحاته في أفلامه واحتل عنوانا لواحد من أهم أعماله.  في الأرض تمثال نصفي لأفلاطون وفي المحطة الفضائيّة تمثال نصفي لسقراط أشياء أبدا لا تبدو وأنّها ستحل في الفضاء في يوم ما. ما أود قوله أن تاركو لم يستغل حقيقة أن الفيلم على الفضاء ليتلاعب بأعصابك ومشاعرك ويغري خيالك من خلال كل الغرائب التي كان يمكن الحديث عنها وتصويرها من عالم المستقبل كالأفلام الغربية أو الخيال الغرائبي والذي كان واضحا جدّا في فيلم زيلوفسكي On The Silver Globe (1988)  من صور مألوفة يحلّق بك حتّى أنّه في مشهد انعدام الجاذبية أراهن بأنه استطاع أن يبعث من الأعماق كل الدلالات الممكنة لانعدام الجاذبية في مشهد. مشهد خلاب أكثر من المشهد المشهور في فيلمه الأشهر (المرآة) 

ولأن تاركو لا أقول يكرر نفسه بل إنه يحب الحديث عن مايحب في كل مرة. نجد مشهدا لامرأة جالسة -بالشكل الذي تبدو فيه لوحات هامرشوي-  وهي تدخّن، وهو ماكرره في فيلمه (المرآة). 




    

الفيلم اعتمد كثيرا على الحوار والمعنى فيه في حين رائعة كوبريك الأوديسا كانت في المشاهد يكفي أنها تولّد صورا وتصورات لاتنتهي في بال كل من شاهد الفيلم وهذا البوستر البديل يدل على ذلك





وكما قلت سابقا أن المقارنة صعبا بينهما، إذ ان لكل فيلم اتجاهه، لايمكن الحديث عن هذا والعودة لذاك بسهولة إلا في اطار حديثنا بشكل عام عن تصوّر الفضاء والاسلوب الذي اتبعه كل مخرج لسرد حكايته. 

وهنا فيلم تاركو والذي اعتمد كثيرا على الحوارات 






..



وكأنّه يستحضر "فاوست" الذي ذكر بالفيلم.شخصيات الفيلم هنا قلقة من خلال التساؤلات (من الداخل) لكنها مع فيلم كوبريك مرتابة ومتوجسة (من الخارج). 


وفي بداية الفيلم كان هنالك مشهد لهطول المطر يشبه الأمطار في أفلام تاركو، تظهر فجأة وتفسد كل شيء على نحو يدعو للبهجة!




المقارنة بين الفيلمين صعبة وان بدت ممتعة. ولأنّ رغبتي بالأساس كانت الحديث عن سولاريس لم أتحدث كثيرا عن اوديسا كوبريك ولأنّنا نريد رغم كل شيء يمنعنا أن نقارن بينهما أستطيع القول بأن فيلم سولاريس كنص مكتوب أعمق من فيلم أوديسا لكن كوبريك وهو صاحب مقولة:
"If it can be written, or thought it can be filmed"
أخذ بالنص بعيدا عبر بصرياته الخلابة وادخاله المدروس للموسيقى كخلفية ودقته في تحديد ردات الفعل مع الوانه التي جعلت العمل يبدو كسلسلة من اللوحات الفنية أشهرها تلك الألوان التي شكلت وجه رائد الفضاء ديفيد باومان وكأنه سلسلة بورتريهات لأندي وارهول





 التساؤل الذي انتهى به الفيلم يدور حول الكون والانسان كجزء في حين التساؤل في فيلم تاركو انتهى حول الإنسان ككون لا ينتهي. وكما يحب معجبوه أن يصفوا أفلامه بأنها شعرية، فيلمه سولاريس يمثل صورة نقية للأفلام الشعرية. كما يفعل الشعر يأسرك حينما يدخلك إلى تصور جديد حول أشياء لم تعتد رؤيتها بجوانب معينة، الجوانب التي يرى الشاعر من خلالها الأشياء.