الأربعاء، 27 نوفمبر 2019

قارب نجاة





"كأنها تشعر بالدوار"
وحده صوت الصرير يشعرني بالاستقرار. الحلقة التي كانت تمسك بالمجداف كأنها تمسك رأسي عن الدوار.

الأمواج تموج بنا، شعور بالغثيان كأن أحشائي تموج داخل جوفي. على قلق فكرت بأن الحياة لن تسكن بعد الآن. كلّ شيء يتمايل، القارب، البحر، السماء، ونحن الستة مع رباننا. 

بحركة انتظامية كنّا نجدف بخلاف كل شيء مضطرب حولنا. الجو بارد، ملمس المجداف بارد ورطب يسري داخل عظامي.
العرق يتدفق من جسدي لكنه يرتعش حالما تلفحه الأجواء.

وكأني كنت أنفث في وجه الهواء أنفاسي. بغضب ينفث برودته في وجهي.

كان ربان القارب يجلس قبالنا. بدا كل شيء طبيعي من تعابير وجهه.

يصعب عليك الالتفات فذلك كفيل بتمزيق عضلات عنقك وهي تعارض اتجاه كل عضلات جسدك السائرة بالتجديف نحو وجهة لا تزال عين الربّان تراها بعيدة.

كل شيء بالخلف. لا أرى شيئا الا المكان الذي جئنا منه، بدا بعيدا وهو يحدق بنا من أمامنا وخلف ظهر رباننا الجالس بهدوء 

الهواء البارد يرش الرذاذ المالح على وجوهنا. المياه تملأ القارب. وعلى قلق انتظر تسلل الماء الى قدمي الباردة، هذا أكثر ما يقلقني انتظاره. حذائي لن ينتظر طويلا، زميلي الأقدم مهنة لم يبالي رغم أن المياه تسللت الى قدمه، ذلك يوحي بأن هنالك ما هو أجدر بالقلق.

بانتظام واصلنا التجديف. جدفت بجد، الانتظام كان أكثر شيء يبعد أي تفكير مزعج عن بالي.

بدأ صوت انكسار الأمواج يختلف. كما أن تمايل الأمواج الذي بدأ ينتظم مع قاربنا عاد للاضطراب وملامح الربان بدأت بالاختلاف 

"عليّ أن لا ألتفت، السمع والطاعة هو كل ماعلي فعله. تذكر ذلك عند كل لحظة تحتاج فيها الى التفكير"
بدأ الشعور بأن شيئا بالخلف يثور.
والشعور بأننا مندفعين باتجاه جوف ما بدأ يكبر. بدأ القارب يميل للأسفل أكثر، كل مرة ينزل فيها من فوق موجة عابرة. باتجاه غاطس يهوي لكن القارب بعد اصطدامه يعاود الصعود للأعلى، فوق موجة أعلى ومنها يهوي مجددا باتجاه غاطس يكاد يهوي بنا تحت الماء.

أشلاء أو بقايا قارب بدأت اسمع صوت ارتطامها بقاربنا -كأننا نلحق بذاك القارب- وبدأت تملؤ سطح البحر من حولنا تلك الأشياء، لكن لا أحد يبالي من المجدفين. أثناء التجديف وكأن شيئا ارتطم بمجدافي، وقع الارتطام كان بالغا في قلبي. أضعت رتم التجديف، أحاول اللحاق بالرفاق قبل أن يقذف الربان نظراته على قلبي.
لحسن الحظ، لم ينتبه أحد ووسط كل تلك الاصطدامات لم ينتبه أحد الى تفكيري. 

الأمواج والأمطار بدأت تبللنا أكثر. الهواء البارد ينهش ظهري وعوضا عن محاولة الهروب أجدف باتجاهه. كل شيء وراء ظهري يقلقني، القفز خارج القارب كان آخر اتجاه متاح للهرب.

بدأت عين الربان تحدق بانتباه أكثر. الى مكان قريب غير مبالي الى أي حطام يلوّح بالقرب. بقلب فزع بدأت أنتظر رؤية أي شيء نيء وحيّ يطفو بالقرب منا.

بالخلف أشياء تبدو أفظع من أن أراها قبل أن أرى شيئا من بدايتها.

أفكر بإلقاء ما في يدي ونسيان المياه التي تسللت إلى قدمي أخيرا وألقي بنظري للخلف. القفز بإلقاء نظرة، الهروب بنظرة، كان هذا كل ما بقي بالإمكان فعله. 

عدى ذلك كان الربان والذي بدأ يصرخ "بدأ يصرخ!" بكلام لا أفهمه يبدو أن كل المجدفين يفهمونه. يصعب سماعه مع اختلاط صوته وصت تكسر الأمواج ونفث الرياح.
"هذا مطمئن"
كلامه يبدو معتادا على أسماعهم، أمكنهم سماعه وفهمه لهذا واصلوا التجديف. 

لا زلت أدس نفسي بينهم وأنا أجدف. حتى فقد المجدفون القدرة على فهمه! وهذا ما أخافني. حاولت أن ألتفت "يبدو أنها فكرة الجميع" لكن الهواء البارد -الخوف- جمد عنقي كان علي كسر عنقي لألتفت للخلف. 

الأصوات تضطرب لكن المجدفين واصلوا التجديف  باضطراب حتى فقد الربان نفسه القدرة على فهم كلماته!

ها قد بدأنا نفهم كلام الأمواج والرياح، كل شيء من الطبيعة بدأنا نفهمه، وعلى نحو  مخيف بدأنا نفهم ما يقولون. توقف التجديف كليّا. كانت الطبيعة تستمر بالصراخ بكلام يفزعنا فهمه.
الأسماك والحيتان والطيور مع الأمواج والرعود والرياح كانت تصرخ باستمرار في وجيهنا. 

غاضبة، عاتية
لكنها سكتت إلى الأبد. بعد أن أيقنت أننا لم نعد نفهم ما تقوله. وأرغمنا على السكوت.