الجمعة، 30 مايو 2025

-38-

 هل علي أن أستسلم؟

لم تعد أحلامي واقعيّة؛ استمرت كتلة تثقل ذهني وتفكيري ولم تخرج بين يدي. وصلت الى مرحلة فاتني فيها الكثير. أشعر بالتعب، بالخلا، بالإحباط، وبالهزيمة فوق كل شيء. أحسّ بانّ الزمن يشدّني بقوّة من يدي وينتزعني من عالم نسجته بأحلامي، كنت أقف بقدم هنا وهناك، لكن انتهى الوقت. شعور محبط، حتما أشدّ مرارة من اعلان مشغّل ألعاب الملاهي بانتهاء وقت اللعبة، او اعلان الشاشة الالكترونية بانتهاء وقت لعبك (GAME OVER). 

ما لذي بقي لأفعله؟   بقيت "الحلقة الأخيرة" أن أستلسم وينتهي كلّ شيء، او أن أسير بجمود في الفراغ، كما تفعل الألعاب الالكترونية بعد خسارتها بالاستمرار بحركة تكرارية بلا هدف وستظل الى الأبد الى أن يعاد اطفاؤها! كيف تفضّل نهايتك؟ استسلام معلن أم سير وإكمال بلا فائدة؟


لطالما كان الاستسلام شاعريّ وباسلا بكل جدراة! لم أنسى المعلومة التي لا أذكر من أين أتت، تقول المعلومة: بأن المحارب في عهد الرومان عندما يشعر بالهزيمة ويرغب في انهاء كل ذلك الصراع بعد طفق من صرخات جماهير "الكوليسيوم"، يجثو على احدى ركبتيه وينزل رأسه ويرفع يده اليسرا معلنا استسلامه، عندها يأتي الخصم لينهي كلّ شيء سريعا ويموت. "أديت ما عليك"، ربما كان أسيرا، فلاحا أو شخصا لا يرغب بالقتال، تمنّيت لو أربت على كتف كلّ المستسلمين في ذلك الزمان. منذها وجدت في الاستسلام لحظة شاعريّة ورثاء يستحق التأمل. " I am tiered boss" بهذه العبارة طلب كورفي من الشرطي إدجيكامب السماح له بالاستسلام بسلام، في فيلم، The Green Mile (1999) . بل من منّا لا يعرف رثائية مالك بن الريب لنفسه؟ وهل تعرف رثائية الصمة القشيري؟ لحظات الاستسلام الأخيرة مهيبة. وبخلاف ما تبدو، لطالما وجدت فيها الكثير من الشجاعة، هكذا ظهرت في ذاكرتي الطفولية -ولا أدري إن كان ذلك هو السبب- إصرار بلاكي على الاصطدام بدوق فليد لينقذ سيده قاندال، وبعدها بحلقات طوال، محاولة جاندال نفسه للاصطدام بدوق فليد لينقض فيجا الكبير، في مسلسل الأنمي الشهير "جرندايزر"، استسلام ينمّ عن تضحيات، تشبه المحاولات اليائسة للجنود اليابانيين في الحرب العالمية الثانية (الكاميكازي مثال)، لعلّ تلك الروح شعر بها مؤلفي  الانمي دون وعي منهم. تلك الروح تتلبّس صنّاع الأعمال كثيرا، في بداية رواية "لعبة العروش" لجورج مارتن، بيأس اندفع السير وايمار رويس صارخا في وجه قاتليه "لأجل روبرت" ومات في غابة يلفّها البرد والثلج أمام قاتلين مجهولين، دون أن يعرف عنه أحد بما فيهم روبرت نفسه، لحظات استسلام لا تُسمع صيحاتها الأخيرة، من سمع وايمار وهو يصرخ  سوى المؤلف؟ و روبو، الملقّب بالذئب البشري، في أنمي "مخلص صديق الحيوان" من سمع عبارته بعد أن  استسلم  للصياد الذي أوقعه بالفخاخ ووضع جذعا على فمه وقيده! من سمعه يقول :" لقد هزمتني فافعل بي ما تشاء" باستثناء المؤلف؟. كانت لتكون نهاية عادية لو لم يخبرنا المؤلف.  في مشهد وثائقيّ شاهدته، لا يمكن نسيان النظرات الوادعة لقرد صغير يطوّق فكّه نمر يحمله وعلى وشك أن يأكله! كان القرد ينتظر مصيره بسلام واستسلام. لعلّ لحظات السلام تلك، اللذة الأخيرة التي يذوقها المستسلمون، بعد كل تلك لمعارك، آن لكل ذلك أن يستريح. وللمهزومين والمستسلمين بطولاتهم التي تستحقّ الاحتفاء. كم واحدا رحل دون أن يُذكر وكانت في جعبته أحلام تفوق عالمه، ما هو شعوره يوم يجد أن كل ذلك ينتهي، ويزول، كأن لم يحلم، كأن تلك الأحلام ليست له، ليست من عالمه، مثل الكلمات الأخيرة، لروي باتي، الانسان الآلي في فيلم Blade Runner (1982) " كل تلك اللحظات ستضيع في الزمن، مثل دموع في المطر"، لا أحد سينصت لدمعة وسط كلّ هذا الزخم.


 شعور مرير، أن تذبل قبل أن تزهر أحلامك.


وبعد كل ذلك، هل من خيار غير الاستسلام؟ هل ألقي ما في يدي وأسير بلا هوادة الى النهاية أم استسلم وأقرّ بنهاية كلّ الأحلام؟ على أن عبارة "قاتل حتى النهاية"، أكثر شيء سمعته في ذاكرتي، في مشاهداتي للأعمال الطفوليّة منها بالذات، بدت وكأنّها عبارات تشجيعيّة، تنطلي على أطفال بعمري حينها وآمنت باكرا، باكرا أكثر من اللازم بأنها خديعة مع الأسف، لكنها عادت ومن باب أنمي ، كان السبب في اعادتي لمشاهدة الأنمي بعد سنوااات الانقطاع، "هجوم العمالقة" وصوت ايرين الذي جاء إليه من الأعماق يقول "قاتل .. قاتل .." أحببتها بصوتها الياباني "تاتا كاهيه .. تاتا كاهيه..". بمثل تلك المشاهد والعبارات أعاد "هجوم العمالقة" حماسي للأعمال التي أحببتها، وإن لم تحقّق شيئا، دع روحك لاحقا تشدّ على كتفك وهي تقول "فعلت ما في وسعك".


عبثا لا أدري ما لذي أحاول قوله وترتيبه في كلماتي العبثيّة تلك، الأمر ببساطة، أني شعرت بأني أقف في لحظة جرّدت فيها من كلّ أمل في أحلامي وأفكّر في الاستسلام والتخلي عنها بطريقة تليق بما كنت أحاول فعله أو أن امضي بسير لعبة عليها عبارة GAME OVER   

بين الاستسلام، والمضيّ قدما، كلها لحظات شاعريّة تمرّ في حياة الانسان. يحاصر المرء تفكيره "ما من جدوى" إلا أن ايمانا داخليا يشعرك بأن شيئا ما يستحقّ أن تسلّ  جهدك وتندفع صارخا في وجه حياتك على غرار السير وايمار قائلا " لأجلك يا .. " وإن لم يسمعك أحد، أو مؤلف أنت في حكايته، على الأقل يقينا ربّك يسمعك كلماتك تلك.    




 

الجمعة، 23 مايو 2025

-37-

 وجهي مفكّك، هكذا أشعر فعليّا. لم تعدّ أعضاؤه مشدودة وأصوات الصرير مزعجة. هل ركل أحدهم  وجهي؟ أذكر أني قلت لو رأيت نفسي في عمر معيّن لركلت وجهي! لازلت ناقما على نفسي ولو أن الوتيرة خفّت قليلا، يا لتهوري! بعد العناء الذي أعيشه أدركت حماقتي. كيف اعتبرت الملاكمة يوما رياضة مفضلّة؟ أحببت فيها "فارس الفتى الشجاع" وشخصية كارلوس ريفيرا في "جو  البطل". استهنت كثيرا بالعناء الذي يمكن أن يسببه تحطيم وجهي. حتّى التكنيك الذي تخيّلت أتقانه ينمّ عن تهوّر، كنت سأدخل الحلبة وأمتصّ حماس الخصم بالسماح له بتوجيه لكماته المتسرعة نحوي من حين الى آخر، الى حين يملؤ الغيض قلبي وأشعر برغبة عارمة بالانتقام، المشكلة أني لا أغضب سريعا وقد لا أغضب إلى حين تحطيم وجهي، وماكنت متأكدا منه أني كنت سأنهي الخصم بلكمة واحدة، تماما كما فعل كارلوس ريفيرا في احدى النزالات، عندما وعد بالفوز من الجولة الأولى، ترك كارلوس النزال لخصمه وبعد اندفاع الخصم والقاء نفسه بحماسه تفاداه كارلوس بنزول مفاجئ ليجد الخصم نفسه مكشوفا، ويحدّق في عينيّ كارلوس بالأسفل والرعب يملؤ قلبه وهو يشاهد قبضة كارلوس تدفع بسرعة على فكّه! النصر وحده يكفي لتضميد جراحي وعلاج كدماتي، وهتافات الجمهور كافية لإنعاش قلبي وإعادة تنفسي. كل ذلك بالحلبة وبعدها يعود الملاكم الى غرفته وتبدأ العظام والعضلات والمفاصل المفككة في وجهه بالصراخ في وجه وتأنيبه. صراخ لا يسمعه أحد غيره. 


لا أدري لكن، أحدهم ركل وجهي ووجه لكماته نحوي، ولازلت واقفا أملؤ غيضيّ وأشدّ قبضتي لكن لا خصم أمامي .. ولا جمهور ينتظر ضربتي .. لا أحد  إلا أنا. أتلقّى الضربات وصرخات عظامي ومفاصلي وحيدا في غرفة تملؤها الفوضى وملابس الأيام الفائتة ونافذة تتثاءب ستارتها على كسل. وعلى طاولتها بضعة أدوية مرميّة بإهمال لعلاج الكدمات.   

الأحد، 13 أبريل 2025

قصّة الفنّ كما رواها غومبرتش : سيرة الأساليب وشيء من المفاهيم

 




كتاب "قصة الفن" ، تأليف إرنست غومبرتش، ترجمة عارف حديفة، منشورات هيئة البحرين للثقافة والآثار



الفنّ، تاريخا وقصّة

رغم كثرة الكتب التي تناولت تاريخ الفنّ، يبقى كتاب "قصة الفن" لغومبرتش الأشهر على الإطلاق. فالفنّ ليس حكاية تُروى، ولا مجرّد تسلسل زمني لأسماء الفنانين وأعمالهم؛ بل هو سلسلة من المفاهيم والأساليب التي تشكّلت على امتداد الأزمنة والأمكنة. لا يمكن فهم هذا التاريخ إلا بتحليل الأعمال نفسها، عبر تتبّع خيوط دقيقة جاءت في سياقات هامشية لا في متون السرد. فالمصريون القدماء لم يشرحوا دلالة بعض الألوان والأشكال في رسومهم، ورجال الكهوف لم يتركوا أثرًا يُفسّر ولعهم برسم قطعان الحيوانات قبل أكثر من ثلاثة عشر ألف عام. نتحدّث إذا عن سيرة الأساليب والمفاهيم التي جسّدت في  أعمال الفنانين، وكيف كان سبيل وصولها الى عقل الفنّان وانتهائها بفرشاة الرسام و مطرقة النحّات وتخطيطات المعماريّ، كلّ ذلك بسياقه التاريخي والاجتماعي، نجده في هذا الكتاب.

 

عن الكتاب

ما يثير الدهشة في هذا الكتاب هو تتبّعه الدقيق لتطوّر أساليب الفن ومفاهيمه؛ بدءًا من الرسم على جدران الكهوف وعلاقته بالسحر والشعوذة، مرورًا بالرسومات الفرعونية التي صوّرت الأجساد بمقاطع جانبية رمزية، دون مراعاة للاختلاف في الأبعاد، وصولًا إلى منحوتات الآشوريين التي لم تكن ملامحها دقيقة بما يكفي لتمييز هوية الشخص المصوَّر. لم يكن التجسيد يهدف لإبراز الفروق الفردية، بل للتعبير عن فكرة أو دور.

ثم تطوّر هذا التوجّه تدريجيًا، فبدأ الإغريق بتجسيد انفعالات الجسد، وأدخلوا مفهوم العمق والزوايا في الرسم. يتتبع المؤلف هذه التحوّلات بدقة حتى عصر النهضة، حيث بدأ الفنانون يُعامَلون كفنانين لا كحرفيين، وظهرت مفاهيم مثل المنظور، وتوزيع التناسق في التكوين، والتبخير. يعرض المؤلف أبرز المحطات الفنية والأسماء التي تركت بصمة حاسمة، مثل مايكل أنجلو، دافينشي، رافائيل، ورامبرانت، دون أن يغفل تحوّلات الفن في العصر الحديث.

يبيّن كيف انتقل الفن من الواقعية والاتقان البصري في أعمال فان آيك وألبريخت دورر، إلى التجريد والتفكيك مع كاندينسكي وبول كلي، وكيف عادت الأشكال البدائية الوثنية التي سبقت التاريخ لتظهر من جديد على يد فنانين معاصرين يستعيدون طفولة الفن الأولى. كما يشير إلى تغيّر موقع الفن الطليعي، من كونه مرفوضًا ومطارَدًا إلى تسيّده صالات العرض.

وإن كان قد أغفل ذكر بعض الأسماء المؤثرة في تطوّر الفن، مثل جيريكولت، وكليمنت، وموديلياني، وماليفيتش، فإن قراءته للأعمال والمدارس الفنية جاءت مدهشة في عمقها، وبخاصة في ربطه بين كل أسلوب وسياقه التاريخي والاجتماعي. كما أنّه يوفّق في الموازنة بين الحديث عن الرسم والنحت والمعمار.


ما لذي ينقص الكتاب ليكمل قصته؟

رغم اتساع الكتاب وشموليته، إلا أن غياب الحديث المفصّل عن الفنون خارج الإطار الغربي يُعدّ من أبرز النواقص فيه. يكاد يكون مختزلا بالعصور القديمة أو في سبيل ربطه بسياق الفنّ الغربي وهذا ما يجعل عنوان "قصة الفن" يبدو أحيانًا أوسع من محتواه، إذ أنّ 600 صفحة لا تكفي لاحتواء قصة الفنّ بجميع أبعادها الثقافية والجغرافية. كذلك، لم يُسلّط الكتاب الضوء الكافي على مساهمة الفلاسفة والمنظرين في علم الجمال، أمثال بومغارتن الذي وضع أسس الاستطيقا كمجال فلسفي مستقل. كما لم يُناقش بعمق أثر السياسات الكبرى كالمعسكر الشيوعي على الفن، خاصة في أوروبا الشرقية. ويمكن هنا الاستشهاد بفيلم Never Look Away (2018)، الذي يقدم لمحة درامية مؤثرة عن تجربة الفنان الألماني المعاصر غيرهارد ريختر، وتأثير النظام السياسي على مساره الفني. لكن، ورغم ما يمكن أن يُقال عن نواقصه، يصعب إنكار الإحاطة المدهشة التي حققها غومبرتش في تأريخ أساليب ومفاهيم الفنّ عامة والغربي خاصة، ومن زواياه التقنية والتاريخية والجمالية.


وربما ما ينقصنا لا ما ينقص الكتاب، كتابة قصّة الفنّ من وجهات نظر أخرى، عربيّة، إسلامية، شرقية وغيرها. سرديات بديلة تنبع من سياقاتها الخاصة، وتسلّط الضوء على تجارب فنية لم تمر بالضرورة عبر عدسة الفنّ الأوروبي.




الأحد، 6 أبريل 2025

إسكان الخوف




لم يعد يعرف، أيعلمون بأنه يعرف أمرهم؟

 لا يتذكر كيف انتهى به المطاف للعيش بينهم. كلّ ما يدور في البيت على أنه منهم. أحيانا لم يكن يفهم شعوره الخافت بأنّه ليس واحدا منهم، حتما لم يمكن ليتذكّر يوم ولادته إلا أنه حاول الحفر عميقا للوصول لأبعد نقطة. ما لذي دعاه ليحفر أكثر؟ كلّ شيء كان على ما يرام الى أن بدأت ذاكرته تستيقظ، وتلملم شتات ما في جعبتها، كقطع لعبة " البازل" المبعثرة. في بالذاكرة : يد، كرسيّ، نصف وجه يحدق ويوحي بأنّه كان متفاجأ من تعابير نصفه الثاني بخفاء، خمّن بأنّ قطعة نصف الوجه الآخر لابدّ وأنها ضحكة ساخرة أو ردّة فعل لحدث عابر. مع الأيام بدأت ذكرياته تفاجئه أكثر، وأدرك أنّ ذكرياته تحاول إخباره وإيقاظه بحذر كي لا ينتبه الجميع.

يوما على طاولة الطعام، قال له أحدهم: "جلدك مقشعرّ" مع ابتسامة ترقب، يجيب : " لا أدري، أوه أكره جسدي يتصنّع الشعور بالبرد"، لم يكن عسيراً إغلاق تلك الاستفسارات بجواب سريع وابتسامة هروب. لكنه بدأ يخشى جسده. نبضات قلبه، مسامات جلده، رعشة يده... كلها كانت تحاول إخباره بشيء. كان الحديث معهم باسترسال وإسهاب ينسيه ويشعره بأمان خافت. "ناولني ذاك" قالها بصوت متسرّع كمحاولة للهرب، يجيبه أحد منهم " أيهم؟" فيقول سريعا وكأنه يحاول تدارك موقف ما " ذاك فوق الأدراج أنت أطول منّي، ناولنيها" يعطيه أياها مع ابتسامة كأنها تقول: وماذا بعد، يمشي بهدوء يثقله خارج المنزل قائلا " سأعود قريبا"  ويلوّح لآخر، ويمشي أسرع بعد أن زال ثقله كأن قدميه تقولان له: كان ذلك وشيكا! 

مما الخوف والهرب؟ لم يفهم، إلا أنه اعتبر  الخوف نذير ينبئه، لا شعورا يتوهمه.

الأيام تمضي  مكررة معها تلك المواقف. انتابه قلق بأنهم يشكّون بأمره، بعد أن عرفهم وأنهم لم يكونوا إلا شيئا متنكّرا يرتدي ما يشبه هيئته، هكذا انتهى به القلق والتفكير نحوهم. احساسه بأن عيشه لم يعد إلا أداءً وخدعة يرهقه أكثر "لن يطول ذلك الى الأبد ولو عرفوا لانتهى أمري وعرفت ما هُم". لم يصدق، كان محاطا بعدد منهم في منزل واحد. رغم اهتمامهم الذي يحاصره كان يعرف بأنّ تظاهره سيحميه منهم. ذكرياته وجسده كانا يعرفان كلّ شيء وهو بالكاد يعرف أي شيء. وكلما استيقظت ذكرى جديدة، كان الهواء يثقل من حوله والمكان يضيق أكثر، لكنه ظلّ يطمئن نفسه "لا يعرفون بأني أعرف أمرهم، وما ظلّ كذلك سيبقى في مأمن منهم ولن يفعلوا شيئا". "يمكن أن أستمر كذلك الى الأبد"  قالها يحدّث نفسه، وفكّر "سأظلّ في مأمن"، لكن بعد إلحاح ذاكرته وجسده وأفكاره التي بدأت تخبره، بأنهم يعلمون ما يخفيه عنهم، إلا أنهم يتظاهرون ليكيدوا له! كان ذلك التفكير يزعجه ويرعبه. بل إنه شعر بأنّ عقله يتفتّت من هول التفكير، وافتقد الشعور المريح بأن تظاهره ينطلي عليهم. لكنهم الآن يحاصرونه بشكوكه التي بدأت المواقف والأحداث تلوّح بها،  "كلهم يعرفون .. كلهم يعرفون" كان يضرب عقله بهذه الكلمات. لم يعد يطيق ذلك. ولا يدري كيف يقوى على الاستمرار وتعجّب من قدرتهم على الاستمرار بتعذيبه وتظاهرهم بأنهم لا يعرفون بأنه على علم بأمرهم. وبعد التفكير بدأ نداء خفيّ يوحي إليه ويخبره بأنهم يتعمدون تعذيبه وسيستمرون بأقنعتهم يتظاهرون أمامه إلى الأبد ولن يكشفوا أمرهم له. ومحال أن يطمئن حتّى الى وجوده محاطا بينهم في صورتهم الجماعيّة المعلقة على الجدار، الى الأبد، أو -فكّر- إلى أن يكبر ويذكر أكثر ولا يدري حقّا، إن كان يودّ أن يذكر أو ينسى 

  

الجمعة، 21 مارس 2025

أندريه روبليف وتاركوفسكي: همس الفن وسط ضجيج التاريخ

"السينما فنّ صعب وجاد للغاية، يتطلب التضحية بالنفس" 

(أندريه تاركوفسكي)

يبدو أن للمخرج الكثير مما يودّ قوله، وأن كل مشهد ليس لحظة عابرة تمرّ دون أن تقول الكثير من الأمور الجديّة. في عالم تاركوفسكي، كل لقطة تحمل عبئًا من التأمل، وكل حركة كاميرا هي محاولة للغوص والبحث عن معنى وراء ما هو ظاهر. 



عمق بالمعاني، رغم عبء الملل

أندريه تاركوفسكي، ربما يكون أكثر مخرج  يتحدث محبّوه بشغف عن محاولاتهم لفهم أعماله.  ورغم أن مشاهده الآسرة بصريّا وزوايا تصويره الفريدة هي أكثر ما يعلق في الذاكرة، إلا أن الحديث عنه غالبًا ما يتمحور حول المعاني التي تحملها أفلامه وشاعريتها أكثر من جمالياتها الفنيّة. أما أبرز الانتقادات التي تُوجَّه إلى أعماله، فهي بطء إيقاعها، وافتقارها إلى الأحداث المشوّقة، والإكثار من المشاهد المطوّلة والمعقّدة. ومع ذلك، حتى لمن لم تستهويه أعماله، يصعب تجاهل  ما تحمله من معاني عميقة تستحق التأمل، وإن أصابتك بالملل. إضافة الى أن طبيعة أفلامه تفرض هذا الأسلوب الفني، حيث يُبنى السرد على الإيقاع المتأمل بدلًا من السرد التقليدي. لهذا أعدت مشاهدة ما اعتبرته أكثر أفلامه  قابليّة للفهم.




أندريه، عن أندريه  الرسّام 

فيلم "اندريه روبليف"، 1966م. أكثر فيلم يمكن فهمه بعمق للمخرج، كونه يتحدث عن أشهر رسام في التاريخ الروسي، ويعكس سياقًا تاريخيًا متقاطعًا مع الفن، بالإضافة الى سهولة القصّة وتسلسل أحداثها مقارنة بباقي أفلامه. تاركوفسكي الذي يبدو من خلال صوره وآرائه، إنسانا لطيفا وهادئا، عاش في واحدة من أحلك فترات التاريخ الروسي (1932-1986). أفلامه تحمل طباعه، لا تبدو صاخبة وعنيفة حتى في أكثر مشاهدها قسوة. أيضا أندريه روبليف عاش في واحدة من الفترات الحالكة في التاريخ الروسي (1360-1430). الفيلم، المصوَّر بالأبيض والأسود، ليس مجرد تتبع لسيرة حياته، إذ لا تظهر أعماله إلا في المشاهد الختامية، حين يتحول التصوير إلى الألوان، كاشفًا تفاصيل لوحاته والتشققات التي أحدثها الزمن.

الفيلم يتكوّن من حكايات قصيرة، تجري عبر فترات وأماكن متفرّقة، يشهدها روبليف ويتفاعل مع شخصيات مختلفة بظروف ذلك الزمان، لهذا يمكن اعتبار الفيلم من احدى جوانبه قطعة وثائقيّة، نرى: الوثنيّين، الرهبان، التتار، الأمراء، الفقراء، المهرجين، الفنانين، بمسرح روسيا الشاسعة جغرافيّا. لكن تاركو لا يوضّح كثيرا في أفلامه؛ بالكاد تدرك تفاصيل الأحداث وأحيانا تفاجأ بسرعة تنقلاته الزمنيّة  وكأن الكاميرا تترك مشاهدا مهمّة خلفها، لأن المخرج انتهى من التقاط القبس الذي يبغيه من الحدث. 

روبليف لا يتحدث كثيرًا في الفيلم، ونادرًا ما نراه يرسم! بخلاف أفلام أخرى عن: فان جوخ، جويا، مونش، بيكاسو، كانت هنالك مشاهد تفصيليّة عن الرسم، يبدو أن كاميرا تاركوفسكي اختارت أن  تسند ظهرها على أعمال روبليف بدلا من التركيز عليها. هيئة روبليف بالفيلم تبدو متسائلة، من أنا وما لذي يمكنني فعله؟ في هذا المحيط الموحش بفرشاة رسم بالكاد أظهرها  تاركوفسكي. هل كان لروبليف في ذلك الوقت أن يقول شيئا بالأصل؟ آنذاك، كان الفنّ يُعامل كحرفة، شأنه شأن النجارة وغيرها. فهل نعرف اليوم من هو أعظم نجّار في التاريخ؟ لا! لأن النجارة لم تكن تُعامل كإبداع شخصي، بل كحرفة وظيفية، وكذلك كان الرسم. ولا نعرف أصحاب الكثير من الرسومات؛ لم يكن للفنّان ذاتا معتبرة تضع توقيعها على الأعمال، غالبا ما كانت الأعمال تنسب الى ورشة أو معمل يقوم عليها معلّم ما، فينسب العمل الى  "معلّم مدينة [س]" دون ذكر أسماء الفنانين الحقيقيين. لماذا اختار تاركوفسكي الرسام روبليف، الذي لا يعرف التاريخ الكثيرعنه، وجلّ أعماله -القليلة أصلا- على الجدران؟ ولم يرد اسمه في الكتاب الشهير لجومبريتش، "قصة الفن"، الذي يمتدّ لأكثر من (600) صفحة.






ما لذي كان يحاول رسمه بالفيلم؟

لفهم ذلك، لا بد من الربط بين أحداث الفيلم والمكانة الرمزية التي يحتلها روبليف في أذهان الروس والفنّ الروسي خاصة، وطبيعة الأعمال الفنية في ذلك العصر، كانت تُنفَّذ كمشاريع كبيرة تستغرق سنوات من عمر الفنان، قد يموت الفنان دون اكمالها. وأحيانا تكون ضمن مشروع انشائيّ ضخم، لكنيسة أو دير،  كانت هذه المشاريع توازي ما نطلق عليه اليوم Mega Projects بالنسبة لحرفيّ، حيث يكون مجرد ترس في آلة ضخمة، يخضع لسلطة الرعاة والممولين، ولا يُمنح سوى هامش ضئيل من الحرية الشخصية. في تلك الحقبة التي لم يكن يُنظر إلى الرسام باعتباره شخصية ذات شأن أو تأثير (وذلك قبل العصر الذي بدأ فيه الفنانون يحظون بالاعتبار والتقدير، كما حدث مع مايكل أنجلو وأعماله الجدارية)، ما لذي يمكن لفنّان مثل روبليف  فعله وقوله من خلال مشروعه، كما يمكننا أن نتساءل في خضمّ الرقابة الرهيبة والفكر الشيوعيّ الذي يلغي ذاتيّة الفرد، ما لذي يمكن لتاركوفسكي فعله وقوله في مشاريعه؟ ونحن نعلم أن الفيلم نفسه، تعرّض لمضايقات رقابيّة.





* من مشهد الجرس


في مشهد الجرس، يدعي صبيّ أن والده علمه سرّ صناعة الأجراس ويوهم الناس الذين كلّفوا رسميّا بصناعة جرس ضخم للمبنى الكنسيّ بذلك. هنا تتجلى روعة تاركوفسكي، مشهد حافل بالحياة والعشوائيّة، جمع من الناس والفوضى والجهد المضنيّ وعبر جميع الفصول يتدافعون لصنع ذلك الجرس الذي يقوم على كذبة قد تودي بحياتهم إن كُشفت، جهدت كاميرا تاركوفسكي لإظهار أن الجرس المعدني المهيب ذو الصوت الرخيم الذي نسمعه من بعيد ويثير إعجابنا، يخفي وراءه قصة من العرق والدم  ومن البرد القارس والنار الملتهبة.  ينجح المشروع، ينجو الصبيّ بكذبته، لكنه ينهار باكيًا في حضن روبليف، كأن العبء الذي حمله يفوق طاقته. لقد أوجد شيئًا منح الناس الفرح والمعنى في زمن بدت فيه الحياة خاوية من أي معنى. كان النجاح ثمرة الإيمان الجماعي والشغف، حتى لو بدأ الأمر بكذبة. والفنّ قد يبدأ بكذبة موهمة ويحقّق معنى لا نفهمه. إذا كان الصبي قد خلق وهما أصبح حقيقة، فهل احتاج تاركوفسكي يوما لمثل تلك الكذبة؟




" لقد شعرت طوال الوقت أنه لينجح الفيلم، يجب أن يملأني نسيج المشاهد والمناظر الطبيعيّة بذكريات محددة وروابط شاعريّة" 

(تاركوفسكي)


مشاهد تاركوفسكي المطولة كثيرة بالفيلم، أحيانا تتخيله يلتقط كاميراته بعيدا عن فريق الإنتاج ويلقي بها في زاوية مهملة أبطالها، أعشاب ومياه وحشرات وهواء طبيعي. في مشاهده البانورامية والجماعية، مثل مشهد الجرس، لا يسعى تاركوفسكي إلى الدقة الفنية المتقنة التي نجدها في أفلام هوليوود، حيث تُدار الحشود بمهارة وحساب دقيق لكل حركة. على العكس، تبدو مشاهد تاركوفسكي وكأنها التقطت بالصدفة، كأن الجمع الغفير من الناس لا يدرك وجود الكاميرا التي تصوّرهم. قد لا يتميّز هذا الأسلوب بالإتقان الفني بمعناه التقليدي، لكنه يعوّض ذلك بعمق عفويّ يلامس الحقيقة، حيث يصبح كل شيء أقرب إلى التوثيق الحقيقيّ منه  إلى التمثيل المستعار. توثيق يلمس شاعريّة اللحظة. 




* لوحة بريشة لروبليف


إليك، قبل وبعد خمسة قرون

ما صنعه روبليف كان بحق معجزة؛ فمن بقعة صعبة تاريخيًا وجغرافيًا، استطاع أن يخلّف إرثًا استمرّ لأكثر من خمسة قرون. والذي احتفى الفيلم به، بمشهد يظهر لوحاته الجداريّة بمشاهد ملوّنة تبرز تشققاتها الزمنيّة. رغم الزمن والظروف والقيود كان للفنّ تلك القدرة على ايصال صوت وإن لم نفهمه كليّا، لكنه صوت سحيق واصل من الأعماق عبر كل الظروف. لروبليف رمزيّة خاصة لدى الروس بالذات، لهذا وإن لم يذكر في كتاب مثل "تاريخ الفنّ"، فإنه يظل بالنسبة للروس فنانهم الأعظم عبر التاريخ.