الخميس، 27 أبريل 2023

حنيني الى كتاب عن الفضاء الخارجيّ




أجمل ما يمكن أن تقرؤه بعزلة كتب الكون والفضاء. أثناء القراءة يقودك حنين غابر للتحليق أبعد عن عالمك. للأرقام الفلكيّة، والأبعاد السحيقة جاذبيّة غريبة؛ اللحظة التي تبدأ فيها بتخيّل المكان والزمان هناك تمنحك سكينة تكاد تجعلك تشعر بغتة بنبضات جوفك. إن التعجّب من كلّ تلك المعلومات تجعلك وياللمفارقة تدرك الكون الذي أنت تمثّله بالنسبة لملايين الخلايا والمكوّنات الحيّة التي تعيش في داخلك.


الكتاب الموجود بالصورة كان الوحيد عن الفضاء الخارجي في المكتبة، كان بعبارة أخرى مكوكي الفضائي الوحيد والذي يمكن من خلاله الانطلاق نحو عالم يتمنّى البشر جميعا معرفة كلّ شيء عنه. 


كنت أتخيّل عند كلّ جملة تصف تضاريس وأجواء كوكب ما كيف سيبدو العيش هناك؟ وكيف ستبدو الحجارة هناك؟ وكثر الخيال الى حدّ أني كنت أشعر ببرد الكواكب البعيدة وبالحرارة اللاهبة للكواكب القريبة ومن الشمس وكم شعرت بالاختناق بعد أن قرأت بأنّ الزهرة كوكب يفوح بالأدخنة الملتهبة وتحسست تلك الحرارة وهي تلهب قصبتي الهوائيّة. وبعيدا الى المريخ أعتقد أن نبضات قلبي تغيّرت قليلا عند القراءة بأن القطب الشمالي منه هو المكان الوحيد الذي يمكن العيش فيه، بضعة عشر درجة تحت الصفر. المريخ كوكب عجيب؛ تقرؤ فجأة بأن أعلى قمة جبل فيه ارتفاعها أكثر من ٢٥ كيلو مترا! قمة افرست تقريبا ٨ كيلومترات؟ كيف يبدو المشهد على القمة هناك؟ هل تخيّلت ذلك؟ لو قرأت الكتاب وحيدا لتخيلت بالفعل. بعد المريخ وبمسافة سحييقة يطلّ المشترى وتبدأ الكواكب بعدها بالتباعد أكثر وأكثر عن الشمس، بل عن الأرض حيث نحن. الكواكب أكبر وأبعد للغاية ولم أستوعب إلا متأخرا أن المشترى وزحل كواكب غازيّة يمكن أن تغوص فيهما على حدّ فهمي! كأنه كوكب من طين. وكنت أدهش لأن وصف كوكب زحل مرّ بالكتاب الخالي من شاعريّة التعابير بسلام؛ دون التغزّل بحلقته الفريدة. حجارة وقطع من الجليد هذا كل ما في الأمر! الواقع أن الكتاب ليس بحاجة إلى تعابير شاعريّة؛ الأرقام الفلكيّة تُغني. بالكتاب مرّ عليّ أكثر من مرة الفلكي الالماني هيرشل، والفلكي الفرنسي الذي خمّن بذكاء بسبب انحراف كوكب أورانوس بأنه يوجد كوكب مجهول خلفه وبالفعل كان نبتون وعن الفلكيّ الانجليزي تعيس الحظّ الذي استنتجع مثله وجود نيبتون لكن المرصد الحكومي تجاهله في حينها.

 

بقيّة أجزاء الكتاب، عن البيئة وغيرها لم أقرأها بعد. كنت أكتفي بصفحات الفضاء وأعيد الأسطر علّي أجده يتحدّث بأسطر نسيتها -أو لا أدري تظهر فجأة!- عن الحياة في الكون لكن للأسف لم يكن من ذلك النوع الذي أحب ومع ذلك، أحببت محاولتي الاحتكاك بهذا الموضوع ولو عن بعد.


لا زلت ومع مرور السنوات أقلب صفحات هذا الكتاب سريعا في كلّ مرة. حنين الى تلك الأحلام.

السبت، 15 أبريل 2023

(كل شيء هادئ على الجبهة الغربيّة)


 

 All Quiet on the Western Front

كل شيء هادئ على الجبهة الغربيّة:

عبارة شهيرة وعنوان لأفلام سينمائيّة عدّة وهي بالأصل عنوان رواية الألماني إريش ماريا ريمارك (لا جديد في الجبهة الغربيّة)، الذي شارك في الحرب العالميّة الأولى بالجبهة الغربيّة (١٩١٤-١٩١٨). من بين مئات الروايات ومئات القصص التي روت حكايات مختلف الحروب نجد لهذه الرواية وللحرب نفسها طابعها الخاص بالذاكرة البشريّة. لمَ يبدو الحديث مختلفا عن هذه الحرب بجبهتها الغربيّة؟ 

 

قبل عام ١٩١٤م:

بعد حرب ١٨٧١ وانتصار بروسيا انتزعت مقاطعتي الإلزاس واللورين من فرنسا، أغنى مناطقها بالحديد والفحم الحجريّ الضروريين لاقتصاد الثورة الصناعية. بعدها بدأ سباق التسلّح وما يشبه الحرب الباردة بين الدولتين وبقية الدول الأوروبية استمرت الى أن وصل عام ١٩١٤ ووصلت الحرب أخيرا. الجيوش أصبحت متخمة من سباق التسلّح وعلى الجبهات أعداد مليونيّة. لم يحشد البشر من قبل مثل ذلك العدد إستعدادا للمذبحة. الأسلحة أصبحت أشدّ فتكا للبشر ويمكن رؤية ذلك من خلال انتصارات الاوروبيين السهلة بعدد قليل من الجنود على مختلف الشعوب المُستعمرة. واستخدمت الأسلحة الكيميائيّة المخيفة والغريبة بذاكرة الجنود حيث قال أحدهم "أتذكّر المشاهد الفظيعة في المستشفى العسكري حيث يرقد ضحايا الغاز مختنقين أياما بطولها وهم يتقيؤون قطعا من رئاتهم المحروقة"[١] لم يخترع البشر بعد وسائل وقاية فعالة ومناورات تقي من أغلب الأسلحة تلك فهو لم يجربها إلا على جيوش بدائيّة خارج القارة الأوروبيّة، لهذا كانت هذه الأسلحة على استعداد تام لحصد أكبر عدد ممكن من البشر.     

 

الفيلم الألماني

 

مالذي حدث بالجبهة الغربيّة؟:

تحدّث الفيلم الألماني  All Quiet on the Western Front (٢٠٢٢)  -المشتق من رواية ريمارك - وقبله فيلم كوبريك Path of Glory (١٩٥٧) عن هذه الجبهة بالذات. الأوضاع كانت مختلفة على تلك الجبهة. فبعد اندفاع الجيوش الألمانيّة وتصدّي الجيش الفرنسي له "بالمارن" تجمّدت الجبهة وبدأت الجيوش بحفر الخنادق وإنشاء التحصينات التي كبرت مع الحرب وأصبحت جيوش بأكملها مختبئة في جيوبها. من بعدها أصبح الوقت لا يمضي وبدأ الرعب والخوف والترقّب. هناك شاهد الجنود الموت بالحركة البطيئة شيء لا يشبه ما يصوّر بالأفلام السريعة والتي تصوّر انفجارا مفاجئا لعشرات القذائف مسببة تطاير أشلاء البشر، في المشهد ترى الأجساد بعد تطايرها ساكنة، جامدة، لكن الجنود المرعوبين والذين يشهدون تساقط الموت من فوقهم يرون تلك الأشلاء من البشر وهي تتحرك وتصرخ ملطخة بالدماء والوحل، لا يستطيع المخرجون ولا الكتّاب تصوير كلّ ذلك الصراخ والدماء وقبل ذلك رائحة الموت المخيفة  "الرجل الذي لم يفهم بلحمه ودمه لا يستطيع أن يتكلم عنها"[٢]. كانت الخنادق حصينة للغاية، وبات اندفاع عشرات الآلاف من الجنود في سبيل اكتساب عشرات الأمتار صعبا بسبب الأسلاك الشائكة والرشاشات. حُصدت آلاف الأرواح بسهولة بسبب عناد الجنرالات خلف الجبهة وهم يحاولون مدّ سيطرتهم لبضعة كيلو مترات على الخريطة، على الخريطة بدت تلك الكيلو مترات سهلة لكنها بالواقع تتطلب فرش الدرب بجثث الجنود، مايخلق مشهدا أشبه بالكوميديا السوداء؛ جنرالات متعطشين للأوسمة والنصر يستنفذون برعونة أرواح المجنّدين -وقد ركّز فيلم كوبريك على هذا الجانب كثيرا لدرجة أنه أحدث ضجّة في فرنسا- كانوا بالغالب مواطنين مدنيين والكثير منهم يحمل السلاح لأوّل مرّة، لم تكن الحرب بين جيوش مدرّبة بالضرورة، بل الكثير منهم أتوا من قراهم النائية من افريقيا والهند ببدلات فرنسيّة وانجليزية. 


صوت المدافع المتكرّر والمرعب والذي نجم عنه كثيرا تطاير الأشلاء كان سببا بتسجيل حالات كثيرا من الصرع والأمراض النفسيّة؛ كان العلماء قد بدؤوا لتوّهم بدراسات مثل تلك الحالات قبل الحرب وما إن بدأت حتّى ألقت الحرب عليهم سيلا لا ينتهي من هؤلاء الجنود الذين بدت الأعراض الغريبة تنتابهم وسجّلت علاجات بالصعق الكهربائي لمثل تلك الحالات "كانت الحرب قد أنمت بالفعل في المانيا كما في بلدان الغرب الأوروبي الاهتمام بالتحليل النفسي فمعاينة أعصبة الحرب فتحت عيون الأطباء أخيرا على أهمية المنشأ النفسي للاضطرابات العصابية"[٣]


بسبب طبيعة الحرب المختنقة بالخنادق شاهد الجنود موت رفقائهم دون مواجهة مباشرة مع العدو، أكثر من أيّ مرة مرت على تاريخ البشريّة. تأمّل الجنود مثل تلك المناظر دون صخب المواجهة ما شكّل حملا ثقيلا على ذاكرتهم. معالم مسرح الحرب التي شوّهت أرضها حفر الخنادق والمدافع كافيا لترك انطباع لا يُنسى "مازلت عاجزا عن العثور على الكلمة أو الصورة التي تعبر عن فظاعة هذا الخراب ، لا شيء يشبهه على وجه الأرض، ولا يمكن أن يوجد مثيل له تبقى الصحراء صحراء دائما، ولكن الصحراء التي تخبرك طوال الوقت أنها لم تكن صحراء من قبل أمر مقرف، تلك هي الحكاية التي ترويها جذوع الأشجار السوداء المبتورة التي لا تزال قائمة حيث كانت القرى من قبل"[٤] يمكن تخيّل البشر وهم يحصدون بعضهم في المعارك الالتحاميّة وهم مشغولوا البال بالمقاومة والقتال وكيف أن ذلك سيخفّف - وياللغرابة من مراقبة ما يحدث لزملائهم- لهذا كان الجنود شهود عيان بمعنى الكلمة. ناهيك عن المهام المستحيلة بمحاولة اختراق مستميتة لمختلف الخنادق. برع المخرجون بتصوير مشاهد الاندفاع اليائسة للجنود وهم يتلقّون بصدورهم أعيرة الرشاشات التي لا ترحم، وكل ذلك الوحل والمسالك الطينيّة الوعرة والأسلاك الشائكة ما تشاهده بكاميرا الفيلم شاهده الجنود بصورة أشد رعبا. مع الأشهر أصبح اليأس قاتلا مع حقيقة أن كلّ ذلك لا فائدة منه. بضعة كيلو مترات بعد كلّ ذلك العناء والقتال ويتمّ استعادتها من قبل العدو كثيرا. الشعور باليأس شكّل حملا آخر يصعب على الكاميرا تصويره لكنه صوّر بكتابات الجنود  ولمس من خلال تصرفات القادة العسكريين وهم يحاولون دون جدوى فتح الجبهات والنتيجة لا شيء ولا حتّى تلك البضع كيلوا مترات. دخلت الحرب إذا مرحلة "كسر العظام".

 

عبثيّة الحرب:

شكّل سلاح الفرسان طبقة عليا بالجيش، هذا السلاح العريق والذي انتسب اليه العديد من أبناء الأسر المرموقة والعسكريّة أصبح بلا فائدة بحرب الخنادق، أوقفت محاولات الزجّ بوحدات الفرسان العبثيّة بوجه الخنادق والرشاشات. " لقد عدونا بخيولنا هنا وهناك مثل الأرانب أمام خط من المدافع وكان الرجال والخيول يتساقطون في كل الاتجاهات، أنفقنا معظم الوقت في تفادي الخيول" هذا ماقاله فرانسيس غرانفيل[٥] بالواقع بدا غريبا وأقرب للكوميديا السوداء وجود وحدات الفرسان ببداية الحرب العالميّة الثانيّة بعد كلّ ماحدث. كان تحطّم رمزيّة هذا السلاح بهذه الصورة محبطا. طبيعة الحرب قلّلت من دور الشجاعة في المعارك، الشجعان خامدون بالخنادق وكانوا ضمن طوابير لا تفرّق الرشاشات بينهم. وكذلك المهارة ، هذه الحرب لم تكتمل تقنيّا ولا تكتيكيّا، لهذا لم يكن هنالك وزن ملموس للإتقان في هذه الحرب كل ماكانت تحتاجه أشخاص يرتدون بدلة عسكريّة وينفذون الأوامر، بلا مهارة وإتقان بخلاف الحرب العالميّة الثانية وغيرها -في الحرب العالميّة الثانية مُنح الطيار هانز أولريش رودل  "وسام فارس الصليب الحديدي مع أوراق البلوط الذهبيّة والسيوف والماس" لتدميره أكثر من ٥٠٠ دبابة وعشرات السفن والقوارب والمعدات-  قلبت الحرب العالميّة الأولى كلّ الموازين ببساطة وسخرت من كل القيم، مشهد بداية الفيلم الألماني وهم يجردون الجثث من الملابس العسكريّة ليتم غسلها وخياطة ما تمزّق منها من أجل إلباسها لأفواج المجنّدين الجدد دون الحصول على وقت كافي لانتزاع أسماء الجنود القتلى الذين كانوا يرتدونها بالسابق كان معبّرا وصلت الحرب حينها لأعلى درجة من اللامبالاة. في شهر يوليو ١٩١٦م بدأت "معركة السوم" واستمر لأشهر وبلغت خسائرها أكثر من مليون جندي مابين قتيل وجريح ومفقود، والنتيجة بضعة أميال لا أكثر ربحها الجيش الفرنسي والبريطاني بقيادة الفرنسي جوفر والانجليزي هيغ. وقبلها في فبراير ١٩١٦م هاجم الألمان الفرنسيين  "بمعركة فردان" للسيطرة على المدينة استمرت لمدة أطول حاصدة هذه المرة أكثر من ٧٠٠ ألف جندي من الطرفين.  


بدأ حمل هذه الحرب يظهر أكثر مع ابادة عدد من الوحدات بأكملها -وحدات تحمل رقما معينا- وما زاد الطين بلّة أنها كانت مكونة من مجندين ينتمون لمناطق محدّدة ومدنيين من الطبقة الوسطى نسبة كبيرة من الجنود المحترفين - الرسميين- قتلوا أو شوّهوا وأصيبوا وأصبحت الجيوش بالغالب مكوّنة من سيل من أجيال المتطوّعين للحرب. ومعدّل أعمار الجنود بدأ ينخفض. ما شكّل عبئا على الدول، وبصورة خاصة على الألمان الذين لم تكن لهم مستعمرات متاحة لجلب المتطوعين والمرتزقة كما يفعل الفرنسيون والانجليز. لم تكن على الجبهات أسلحة سريعة تحسم الموقف ولا قادة عباقرة يسجلون اختراقات وانتصارات تنهي كلّ ذلك بوقت أسرع بعمليّة قتل رحيم. 

يجعلك الفيلم الألماني تتعلّق بحكاية أحد الجنود وتتعرّف عليه أكثر لكن هذا الجندي يموت سدى في معركة عبثيّة، بعد ادراك الجميع بأن الحرب انتهت وبأن المانيا استسلمت وأرسلت فعلا مندوبين من حكومتها لتوقيع الهدنة، أحد الجنرالات وبسبب حنقه العبثي يرسل ما تبقّى من حطام الجنود الى الجبهة، لا لشيء إلا ليرضي فكرة تأزّ في رأسه المليء بتأثير الكحول. يساق الجنود اليائسون الى المعركة، يدركون أن بلدهم أعلن استسلامه ولم يتبقّى على وقف اطلاق النار (الساعة الحادية عشر) إلا أقل من ساعة لكن الجنرال من مقره المريح يصرّ على ارسالهم. يهجمون بيأس، فيموت الكثير، بالنسبة لك ليسوا إلا كومبارس لكن أحد الشخصيّات الأساسيّة يموت بهذه الصورة العبثيّة، تشعر بحسرة، بمقدار ما نالته الشخصيّة من اهتمامك وتعاطفك خلال مشاهدتك، لتدرك أن من مات بهذه الطريقة كان يعني الكثير لعائلته أكثر منك ياعزيزي المشاهد. هكذا مات الكثيرون في هذه الحرب بالذات. أيضا لم ينسى كلا المخرجين أن يصوّروا حياة المترفين بالحرب، القادة العسكريون وهم ينعمون بأفخم الأطعمة وأنظف الأماكن، في حين كوبريك كان أكثر قسوة، فهو صوّر حفلات العبث التي أقيمت بمشاركة الجنرالات والرجال الصحافة والسياسيين، لهذا يمكن أن نفهم سبب غضب الحكومة الفرنسيّة من الفيلم والسبب الذي جعل هتلر -بزعمه- يكره اليهود الذين كما يقول الأوروبيون بأنه أحرق ٦ ملايين يهودي؛ كان ذلك بسبب رؤية هتلر لليهود وهم يعيشون بترف في داخل المانيا بخلاف الألمان بالجبهة.


بعد الحرب حكى الجنود عن تجربتهم لعائلاتهم والأدباء منهم لقرّائهم والرسامون منهم لمعجبيهم. كانت حالة فريدة، من عاد كانوا بالغالب مدنيين جنّدوا بالحرب "لم تخرج حكاية الحرب العظمى من بين صفوف الجنود العاديين، لقد جاءت من متطوّعي الطبقة الوسطى الذين أصبحوا ضباط الحرب الصغار وهو أمر مفهوم ؛ الطبقة الوسطى هي الطبقة العظمى في مجال تسجيل الذات" [٦] وهذا ماجعل وقع حكاياتهم مختلفا ناهيك عن طبيعة الحرب العالميّة الأولى، الحرب البطيئة، المملة والمضجرة والخالية من نشوة الحركة والانتصارات ليس فيها إلا جمود وترقّب الخنادق وكلها تجعل من وجه الموت المرعب يقترب ببطء، لهذا يمكن أن نقول بأن جنود الجبهة الغربيّة شاهدوا الموت وهو يقترب ببطء، ذلك أتاح لهم رؤية جانب لا يكاد يرى على مرّ التاريخ من وجه الموت والحرب "الجبهة قفص ينتظر المرء ما يحدث فيه بتوتّر". [٧] والغريب أن الإصابات قد لحقت بذاكرة الجنود كذلك؛ عندما شرع الأديب روديارد كبلنغ بكتابة تاريخ عسكري عن الحرس الايرلندي بالحرب حاول تقصّي الأحداث والقصص من ذاكرة الجنود ومروياتهم لكنه لاحظ الاختلاط الكبير في حكايتهم وامتلائها بالأخطاء "يصاب الرجال بالشك أو بالثقة الزائدة بالنفس، ويقدمون بنية حسنة تماما نسخا متناقضة عن ما حدث، المشهد المؤثر لرفيق شوّه الى حد بدا معه ميتا ينطبع على عقل المرء، ويطرد كل حدث عداه في ذلك اليوم، صدمة مستودع عتاد يُفجّر ويقلب السماء على الأرض الخالية يشوّش الذاكرة طوال نصف المعركة"[٨] كما أن الجنود أصيبوا حتما في انسانيّتهم حيث حضرت السخرية في أكثر المواقف رعبا، مثل استهزاء جنود انجليز بجثة جندي فرنسي محترق [٩] أو عندما يقول أحدهم بكلّ بساطة " من الأفضل أن نضرب الحربة في البطن؛ لأنها لن تعلق هناك كما يحصل عندما ندفعها بالأضلاع" [١٠]

 

 مفارقة الجندي الطيّب شفيك:

بالجانب الآخر وعلى الجبهة الشرقيّة كان ياروسلاف هاشيك يروي حكاية (الجندي الطيّب: شفيك) واحدة من أكثر الروايات الكوميديّة شهرة، يمكنها أن تأخذك الى أقصى اتجاه مخالف لما ستشعر به من حزن برواية (لا جديد على الجبهة الغربيّة) لريمارك، ستضحك كثيرا بالرواية من دعابات شفيك ومواقفه الساخرة، وماهي إلا انعكاس حيّ لما يكنّه هاشيك التشيكي/السلافي للتاريخ و لامبراطوريّة الهابسبورغ -البلد الذي كان يحمل على مضض جنسيّته ويرتدي بزّته العسكرية- "لاشيء قد تغير منذ ذلك الحين، الذي ظهر فيه اللص فويتخ [القديس أدالبرت شفيع التشيكيين] الذي لقب بالقديس وراح يعمل قتلا وإبادة في السلاف البلطيقيين وهو يحمل السيف بيد والصليب بيد أخرى" [١١]. لم تخلوا الجبهة الشرقيّة من الكوارث والمصائب، ذكرت قليلا بالرواية ورأى هاشيك شيئا منها؛ كان قد شارك في تلك الجبهة. لكن هل كان بالإمكان تأليف رواية (الجندي الطيّب: شفيك) وهو يقاتل بخنادق الجبهة الغربيّة؟ لم تخلوا الجبهة الغربيّة من توصيف كوميديّ وساخر والمسألة لا تدور حول شرط وجود الموت والخوف والمآسي؛ فهي موجودة في كلّ الجبهات، لكن للجبهة الغربيّة طبيعتها، التي كانت تشكّل ثقلا رهيبا على الجنود. تحرك جنود الجبهة الشرقيّة لمسافات طويلة في حين تعفّن الجنود بخنادق الجبهة الغربيّة. أيضا المساحة والمجال الذي تحدثت عنه رواية هاشيك كانت خلف خطوط القتال بالغالب وبحكم توجه هاشيك الناقد نجد حكاياته من خلف جبهات القتال تشي بخلفيات إداريّة واجتماعيّة وتاريخيّة، بعضها حقائق عرفها وبعضها تعكس وجهة نظره " كان العقيد فريدريش كراوس الذي يحمل لقبا إضافيّا هو "فون تسيلرغورت" وتسيلرغورت هذه قرية في سالزبورغ سبق لأسلافه أن سلبوها من كل شيء في القرن الثامن عشر".[١٢]  

 

فرانز مارك، لودفيغ كيرشنر، ماكس بيكمان، ماكس أرنست، أوتو ديكس، جورج غروس, أوغست ماك:

فرديناند سيلين روائي فرنسي ألف رواية (سفر الى آخر الليل) وهي تصف الحرب على الجبهة الغربيّة من الجانب الفرنسي ، في حين رواية ريمارك ( لا جديد عل الجبهة الغربيّة) تحكي عن الحرب من الجانب الالماني. الأسماء التي ذكرناها قبل الروائيين هي لرسامين مشهورين ألمان صادفت الأقدار أنهم شاركوا بنفس الحرب بالجبهة الغربيّة. مات اثنين منهم، فرانز مارك و أوغست ماك. رسم مارك قبل بداية الحرب بعام ١٩١٣م  لوحة تشبه ما ستراه البشريّة لاحقا في فوضى الحرب "مصير الحيوانات" وصوّر أوغست ماك  في لوحته "الوداع" ١٩١٤م مشاعر الكآبة المحيطة بالجميع من الحرب ببدايتها. أما بقيّة من نجى فقد تركت تلك الحرب أثرا بليغا بأعمالهم، ولعلّ أشدّ من رسم أهوالها أوتو ديكس، كما عكست لوحة جورج غروس "تحيّة الى أوسكار بانيتزا" ١٩١٧م -وهي تصوّر مشهد تأبين الكاتب الالماني بانيتزا- الفوضى والأجواء المشحونة في الداخل الألماني أثناء الحرب. ويمكن رؤية الأشكال المشوّهة في لوحات بيكمان وماكس أرنست بعد الحرب. وكان كيرشنر الوحيد الذي رسم نفسه ببدلته العسكرية. أيضا اشتهرت مشاركة رسامين آخرين خارج المانيا. وكان الرسام الأمريكي جون سارجنت قد زار الجبهة الغربيّة ورسم لوحته المشهورة "بالغاز" ١٩١٩م وهي تصوّر كومة من المصابين من بينهم صفّ من الواقفين والمصابين بهجوم غازيّ. على كلّ حال يمكنك مشاهدة الفرق بين لوحة الجندي ديكس والزائر للجبهة سارجنت.

"جندي جريح" ١٩٢٤ لأوتو ديكس


                                                    "بالغاز" ١٩١٩ لجون سارجينت



 

بماذا اختلفت عن الحرب العالميّة الثانية:

كانت الحرب العالميّة الثانية نتيجة لشروط الصلح بمعاهدة فرساي ١٩١٩  "رأى الاقتصادي الشهير كينز، الذي اشترك في المؤتمر كعضو في الوفد الانجليزي أن معاهدة الصلح غير أخلاقيّة وعقيمة واستقال تعبيرا عن الاحتجاج" [١٣]الحرب العالمية الثانية كانت "حرب الصاعقة" وطائرات "الشتوكا" والقاذفات "كاتيوشا" والقادة "جودريان، فون مانشتاين، رومل" والدبابات " t-34 و تايغر" واختراع "الرادار" وبروز "الغواصات وحاملات الطائرات" حرب الآلات والابداع والسرعة والابتكار بامتياز، لم تكن حرب الجمود والانتظار الخانق في خنادق الجبهة الغربيّة. الدبابات التي ظهرت بمشهد جانبيّ بالفيلم الألماني أصبحت لاعبا رئيسيّا. وتيرة الحرب المتسارعة والمتنقّلة خفّفت من أثر التفكير والكآبة لكنها لم تخفف من الدماء والآلام بطبيعة الحال. كلّ شيء حدث بسرعة مفاجئة بما فيها سقوط فرنسا " إنه ليصعب على المرء أن يحكم بموضوعيّة ووضوح على مجرى الحرب في الجبهة الغربية خلال شهر أيار وحزيران سنة ١٩٤٠؛ فإن تواتر الهزائم السريعة وعدد الأسرى الضخم والمدن المفتوحة وما إليها قد أوحت إلى العالم المشدوه بأن فرنسا لم تقاوم قطّ. هناك حقيقة لا مجال للشك فيها هي أن الجيش والأمة لم يبديا من ضروب البسالة في هذه الحرب التي لم يستعدا لها ما أبدياه في حرب ١٩١٤ ولكن هنالك حقيقة أخرى حرص هذا الكتاب [التاريخ الكامل للحرب العالميّة الثانية لريمون كارتييه] على إثباتها وهي أن هذه الحرب لم تعدم معارك بطوليّة دامية تخللتها أيام الهدنة".[١٤].  معدل الوفيات باليوم كان أكبر لكن المعارك كانت أقصر والموت أسرع بفعل الآلات. قطعت الوحدات والجنود مسافات أطول بكثير مما قطعوه في الحرب الأولى. الموت كان يسير بسرعة جنونيّة بخلاف الحرب الأولى الذي كان يسير فيها ببطء رهيب. أبرز من حكى عن هذه الحرب وشهد فظائعها هم المدنيّون! هذه الحرب فتكت بالمدنيين أكثر من الأولى، في: درسدن، هيروشيما، ناغازاكي، لينينغراد. وجه الموت واحد لكنه هنا ظهر بأقنعة مختلفة، أكثر تنوّعا بحكم تواجد الآلات الحربيّة المختلفة ومن أبرز معالمها ما يمكن أن نراه من اقتراب الموت والخوف في قعر أعماق المحيط داخل غوّاصة بالكاد تتسه لطاقمها الذي تخنقه المعدّات في الفيلم الألماني Das Boot (١٩٨١).


مالذي تمنحه المشاهد الجانبيّة:

عودة الى الفيلم وللأفلام عامة. كومة الملابس التي صورها الفيلم الألماني ولوحة الأسماء المنزوعة منها والملقاة وهو حدث ثانوي بالحرب أعطى للمشاهد رؤية أعمق للأحداث، حتّى مظاهر الترف، يمكن لمثل هذه المشاهد الجانبيّة بمفارقتها الصارخة أن تمنحك زاوية وعمقا أفضل للرؤيا، كون مشاهد الدماء والقتل مكرّرة ومعتادة في التصوير والأفلام مشاهد ينطبق عليها ماقاله جندي الماني شارك بالحرب العالميّة الأولى  " قد يتعاطف أولئك الذين لم يعيشوا التجربة وهم يقرأون كما يتعاطف شخص مع بطل رواية أو مسرحية  لكنهم لن يفهموا بالتأكيد كما أن المرء لا يستطيع أن يفهم ما يتعذر تفسيره" وآخر انجليزي قال " يجب عليك أن ترى الأشياء بأم عينيك قبل أن تصدقها بأي قدر من الحميمية"[١٥] . إذا لا مجال لقول كلّ شيء وكل ما يمكن فعله اقتناص اللحظات التي لم تروى من قبل لعلّها تكشف الغطاء عن معاني فاتت من ذاكرة الحرب.


------------------------------

الهوامش:

[١] إريش ماريا ريمارك ، لا جديد على الجبهة الغربيّة، ترجمة ليندا حسين، دار أثر للنشر والتوزيع.

[٢] صموئيل هاينز، حكاية الجند: الحرب والذاكرة والمذكرات في القرن العشرين، ترجمة فلاح رحيم، دار التنوير للطباعة والنشر.

[٣] سيغموند فرويد، محاضرات تمهيديّة جديدة: حياتي - خمسة دروس - مساهمة في تاريخ التحليل النفسي، ترجمة جورج طرابيشي، دار مدارك للنشر. 

 [٤] مصدر رقم (٢). 

[٥] مصدر رقم (٢).

[٦] المصدر رقم (٢). 

[٧] مصدر رقم(١)

 [٨] مصدر رقم (٢).

[٩] مصدررقم (٢).

[١٠] مصدر رقم(١).

[١١] ياروسلاف هاشيك، الجندي الطيب: شفيك، ترجمة توفيق الأسدي، دار الخيال للطباعة والنشر والتوزيع.

[١٢] مصدر رقم(١١).

[١٣] ج.ه.ج اندريشين، موسوعة الحرب العالميّة الأولى، ترجمة نسيم واكيم يازجي، دار مؤسسة رسلان للطباعة والنشر والتوزيع.

[١٤] ريمون كارتييه، التاريخ الكامل للحرب العالميّة الثانية، سهيل سماحة و أنطوان مسعود وإشرف جبران مسعود، نشر مؤسسة نوفل ش.م.م.

[١٥] مصدر رقم (٢).