السبت، 18 مارس 2023

عن الضحك والنكت والكوميديا

 

Children in a movie theater. 1958. Wayne Miller

 

"الأرض تضحك وردا" 

رالف أميرسون

 

الكوميديا، النكتة، الضحك. قد يحصرنا الحديث عن الكوميديا كعمل ابداعي بالكلام عن الأعمال الكوميدية، نشأتها، تاريخها، أهم مؤلفيها وأهم الأعمال، إلخ. لكن الحديث عنها وما يتبعها من أشياء أخرى مثل النكتة وصورها المختلفة وصولا الى الـ meems والضحك بما يعبّره  سيخرجنا من ذلك الإطار لنرى الكوميديا بشكل أوسع.

 

 عند كل بداية لمختلف المواضيع والأشياء أفضل بداية البحث عن مفهومه وما يعنيه. غالبا ما يبدأ البحث بأقوال اليونانيين الذين على مايبدو لم يتركوا شيئا إلا وأفردوا له تعريفا لمفهومه ليكون منطلقا للتفلسف حوله؛ فليس غريبا حينها أن تكون بداية الحديث عن الاصطلاحات اليونانية.

 

معنى الكوميديا؟ 

بالرجوع الى مختلف القواميس نجد أنها كلمة يونانية مركبة وبأخذها على حدة هي مكونة من komos يقابلها بالانجليزية revel: عربد،استمتع، [وتأتي الكلمة الانجليزية revel كذلك بمعنى قصف]. و ōidē بالانجليزية to sing ما يعني غناء أو لنقل تغنّي ويذكر أرسطو في كتابه (فن الشعر) : أن الكوميديا نشأت من الأغاني المتصلة بالعضو الذكري وكانت تغنّى بالاحتفالات والطقوس التي تخصّ الخصوبة. وبشكل أوسع "على الرغم من أن أصل الملهاة [الكوميديا] القديمة غامض، فإن الدور الذي لعبه الكورس [جوقة الإنشاد] يعتقد أنه جاء من أداء المطربين الأثينيين.. مجموعة من المغنين كانوا يرقصون ويغنون ويمتعون الحضور بهزل فاحش ونقد شخصي لما يبدو أنه كان من طقوس الخصوبة ويحتمل أنه متصل ببداية عبادة ديونيسيس.. يُعتقد أن مساهمة الممثلين في الكوميديا القديمة انبثقت عن الحكايات الهزلية التي تختلف عن حكايات المغنين بحبكتها. كانت تقدم مواقف مسلية في مشاهد قصيرة تؤديها شخصيات جماعيّة من نموذج واحد. كان أداؤهم غير محتشم لأن هذه الحكايات كانت لها علاقة بطقوس العضو الذكريّ"[1] وما أغرب أن يحمل المعنى بإحدى تشعباته وصدفه عبارة "قصف" الكلمة التي نقولها بتعبيرنا العاميّ "قصف الجبهة" وأن يوحي أرسطو الى الأصل الجريء للكوميديا. للكوميديا صور متعددة بالمسرح اليوناني القديم عُرف أرسطوفانيس ونجده بالحكايات القديمة والفلكلورية مثل ما دوّنه الإغريقي إيسوب وما جمعه وترجمه عبدالله بن المقفع من قصص (كليلة ودمنة) وبالروايات الأدبيّة مثل (غرغانتوا وبانتاغرويل) لرابله لا يوجد شعب لا يحمل إرثا كوميديا سواء كان فلكلوريا أم أدبيا. وأكثر الأشكال الكوميدية شهرة ماجسّد بطريقة تفاعليّة وحركيّة.

 

فسيفساء تصوّر الأقنعة التي كانت تستخدم بالمسرحيّات قديما

 

قوة الكوميديا ومكانتها:

 الكوميديا وحكايات الضحك حاضرة كثيرا بحكايات الملوك والحكّام حيث بدوا مع تلك الحكايات أقرب الى طباع سائر الناس كأنهم خلالها يقتربون أكثر من الناس ويلمسون حياتهم بعيدا عن طقوس القصور الرسميّة وتزخر كتب التراث العربي مثلا بقصص الظرفاء من أدباء وشعراء وأناس من عامة الناس. ورُوي بالأثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم متى وكيف ضحك وتناولت الشريعة الإسلاميّة الضحك كموضوع ونهي فقهيّا عن الكذب في سبيل إضحاك الآخرين وبحديث رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- :"كثرة الضحك تميت القلب" ذلك يعني أن الضحك ومايجلبه بالكوميديا والنكت لا يخلو من الذمّ بظروف. بعيدا عن التراث العربيّ تواجد المهرجون في قصور الحكّام الأوروبيين ولعلّ أشهر صورة تحكي لنا تواجد مهرّج في حضرة أحد الحكّام ماصورته لوحة (ستانزيك، ١٨٦٢م)  للرسام البولندي يان ماتيكو وهي تحكي قصة المهرج ستانزيك الذي شاهد بالصدفة خريطة تصف الوضع العسكريّ لبولندا نرى المهرج يجلس بعيدا عن ضحكات النبلاء واحتفالاتهم بوجه متجّهم خائف على مصير بلاده بعد أن هاله ماتعكسه الخريطة من كارثة تنتظر بلده الأم. لعل هذا يظهر لنا إلى أي مدى يمكن أن تكون الكوميديا حاضرة في كلّ المستويات والأزمنة وبمختلف الظروف بما في ذلك أحلكها وإلى أي مدي يمكن أن يكون تواجدها معبّر وبقسوة. كوسيلة من خلالها حاول الملوك العودة لطبيعتهم البسيطة والاطلاع على البسطاء وحاول العامة تسلية حكامهم لنيل الحضوة والمكافآت وبها نصح الحكماء ملوكهم، ومثل هذه الحالات رويت في كتب التراث مثل (الأغاني) للأصفهاني  و (العقد) لابن عبدربّه. وظلّت الكوميديا قناة فعّالة ومرنة وإن كانت غير رسميّة للاتصال والتواصل بين مختلف الطبقات البشريّة من ملوك وحكام ورعيّة، قوّة ناعمة يفرض هيمنتها ميل البشر الطبيعيّ للكوميديا بدونها كان يمكن أن يغدو الانسان أكثر انفصالا عن غيره ولأصبحت الحواجز بين الطبقات الاجتماعيّة أكثر إحكاما ومن خلالها تأمل الانسان كثيرا سلوك الحيوانات والطبيعة ونرى كيف أسقط الانسان سلوك الحيوانات في قصصه الفلكلوريّة والطريفة؛ نجد الأسد بجبروته والثعلب بمكره والذئب بدهائه ولعل أكثر الانطباعات رسوخا عن سلوك الحيوانات في الأذهان نابعة من تلك القصص. 


Stańczyk by jan matejko 1862

 

عن النكتة وفي أي سياق نجدها؟

  وعادة يتبع الحديث عن الكوميديا الحديث عن النكتة ويمكن اعتبارها فنّ شعبيّ تتكوّن عادة من قصة قصيرة هدفها إضحاك الآخرين لأسباب عديدة كإدخال البهجة والسرور على المستمعين أو السخرية والتشفّي أو لإيصال حكمة ورسالة مبطّنة ومن معاني النكتة باللغة العربيّة: الأثر أو العلامة سواء كانت خفيّة أم ظاهرة، وهي فعلا تترك مثل ذلك أثرا في حالة المستمتع. يقال بأنها تكثر عند الشعوب الأكثر فقرا وأنهم ينفّسون عن أنفسهم بممارستها فتُصدر الكثير من النكت محملة بالمواضيع التي تقلقهم: اقتصادية، سياسية، ما يخلق حالة أشبه بالكوميديا السوداء. وبالأعمال الأدبية من أشهر صور النكت شعر الهجاء، يندر أن تجد بيتا هجائيّا لا يحمل في طيّاته غاية لإضحاك الآخرين ما يضع الشخص المهجوّ في حالة من الكوميديا السوداء ويظهر كنكتة مؤلمة. نجده بالشعر العربي (الجاهليّ والإسلامي) إلا أنه يبدو أكثر وضوحا وإلحاحا بالأخير من خلال أبيات الأخطل وجرير والفرزدق وصولا إلى أقذع حالاته مع شعراء العصر العبّاسي ومابعدهم. ومن أشهر أشعار الهجاء المُضحكة شطر بيت شهير لحسان بن ثابت -رضي الله عنه- "جسم البغال وأحلام العصافير" كأن الشطر بتناقله على الألسن احدى صور الـ meems الشهيرة. ووجدت النكات كثيرا من خلال الشخصيات الأدبيّة خياليّة وواقعيّة لها نكات وتعابير مشهورة مثل "جحا وشعيب" بالتراث العربيّ.


خروج عن السياق؟

تصرفات البشر مع بعضهم محكومة بأدبيات وقواعد سلوكيّة ما يخلق سياقا يسير فيه البشر معا والضحك غالبا ما يكون خروجا لحظيّا من هذا السياق أشبه بانحراف طفيف عن مسار مستقيم يخلق ترويحا لعضلات القدم وبالمثل ترويحا عن النفس والأفكار. وبعبارة أخرى كأن أحدهم يرخي قليلا ربطة عنق الرسميّات عن أنفاسه. لذلك له طابع متمّرد على كل السياقات ومن خلاله يمكن تمرير أكثر الرسائل جرأة وبذاءة حتّى في الأعمال الكرتونيّة اليابانية (الانمي) كثيرا ما خالطت لقطات الإيروتيك تعابير كوميدية تنعكس برسومات الأوجه الشاخصة بنهم بعينيها أحيانا مرسومة بالقلوب ورعاف الأنف وفوران الأنفاس فيه وكثيرا ما رويت النكات السياسيّة في ظلّ أكثر الأنظمة السياسيّة قسوة وتكمن براعة النكتة في الخروج من المسار والسياق بطريقة بهلوانيّة تجلب الرضى رغم النقد إلا أنها بالمبالغة قد تدفع الثمن غاليا.

 مشهد اعتيادي لسانجي من "One Piece" يمكن فهم الإشارات الكوميدية ومدى جرأتها من خلال العناصر الموجودة بالصورة.

والنكتة أو الكوميديا واحدة من أكثر وسائل الخروج عن السياق أمانا مرّرت من خلالها أقسى تعابير النقد على المجتمعات والشعوب والأعراق. عبارة nigga وهي غير مقبولة بتاتا إلا من باب النكتة والأعمال الكوميدية وعلى نطاق ضيق بالتعامل بين الناس مباشرة بحكم أن الأعمال الكوميديّة يظنّ أنها تحمل رسالة هادفة في حين لا يحمل التعامل المباشر رسائل هادفة دائما. وكما بالتعبير الذي نقوله عاميّا "مزحة برزحة" مالذي يجعل الخروج على ظهر الكوميديا والنكتة مقبولا أكثر من غيره؟ "لقد كان أرسطوفانيس معلما وشاعرا كوميديا. نقده الذي لا رحمة فيه للحركات الفكريّة والسياسية وقادتها قد أراد منه أن يقنع الأثينيين بتعديل سياساتهم العامة. كتب كل مسرحيّاته تقريبا حول مشاكل وأشخاص محليين. في مسرحياته بذاءة كبيرة. بتحويل أفكاره الأساسيّة الى مسرحيات، فإنه يستفيد من كلّ وسيلة ليدفع الناس الى الضحك. بتفوقه بالكوميديا الساخرة والحكايات الهزليّة إنه سيد الكلمة المسرحيّة، يعرف القيمة الكوميدية للقول المناسب والنهاية غير المتوقعة. كثير من نوادره لا تحكى بل تمثّل."[1] حتّى أنه بالضحك أو التعابير الكوميدية يمكن للأشخاص القفز للوصول الى الآخرين والتفاعل معهم وهو مانسمّيه كسر الحواجز.

 يحبّ الانسان أحيانا الخروج عن المألوف تتميّز الكوميديا أنها خروج مقبول عن المألوف ولكونه غالبا ما يكون أداء تفاعليّا حتّى النكتة لا تكون كذلك الا بتفاعل المتلقّين وتقبلهم لها وإلا فإنها ستسمّى وقاحة أو غير ذلك من التعابير مثل لغة لا تكتمل وتعتبر لغة مفهومة إلا بوجود متلقّين يقبلون بها.

لو طلبنا منك أن تتذكّر النكت التي مرت عليك ماهي نسبة النكات البذيئة في ذاكرتك؟ لماذا تكثر النكات البذيئة؟ وكيف لها أن تكون في أقرب الصور تقبّلا بالنكتة؟ وكما أن الكوميديا خروج محترف ومرن من السياق أمكن تمرير كلّ ذلك وسط قبول كامل. يصعب عليك أن تحكي حكاية بذيئة إلا بمناسبة مرصودة لكنها بالنكتة يسهل تناولها والتفاعل معها لأنها لا تبدو جديّة ولو أنّها في الواقع مسألة جديّة كونها تمثّل الطبيعة البشريّة المحبة للضحك والترويح عن النفس والحاجة للنكات والضحك والكوميديا مثل الحاجة الى اللغة للتواصل وهو ربمّا أعمق ما سيفرّق بين الانسان والذكاء الصناعي الذي يُنتج بمشاريع جديّة.

 

المجون والبذاءة بالأعمال:

في رواية (أيام سدوم المائة والعشرون) حاول ماركيز دو ساد الوصول لأقصى حالات اللغة تعبيرا للمجون وحاول ملامسة أعلى سقف للرغبات بالخيال وصل بعيدا بذلك، ربّما أبعد مما وصل اليه بازوليني في فيلمه Salo وفي الأعمال الفنيّة حاول الكثير من الرسامين التفنّن برسم الإيروتيك واتخام المشاهد بالرغبات الطافحة وبطبيعة الحال واجهها النقّاد بعنف، خصوصا إن قُدمت كعمل ابداعيّ ولنا أن نتخيّل لو أن نتفا من تلك المشاهد المكتوبة والمصوّرة تم تناولها بإطار مضحك وكوميدي وان لم تكن الكوميديا الهدف كما نجد بالأعمال الفنيّة للياباني تاكاشي موراكامي، أجساد لشخصيات كرتونيّة منفوخة الأعضاء كأنها أخذت من انميّات hentai ولكن بوضعيّات مضحكة كانت المبالغة في الوضعيات المضحكة لا المثيرة. قد يبدو المجون حادّا ومنفّرا وسيبدو أقلّ حدّة وأنعم لو تم تناوله بإطار كوميدي وساخر، في كلا الحالتين يمثّل ذلك انفلاتا ولكون انفلات الرغبات غير محبّب سيغدو أكثر تقبلا بالحالات الكوميديّة كما يمكن إستخدام صورة إباحّية لممثل أو ممثلة اباحيّة بإطار كوميدي أو meem ساخر كما هو مشهور في meem ممثلة مشهورة برداء محتشم استخدمت كثيرا للتعبير في حالة الحديث عن الشرف وما يماثله بسياق لا يعني الشرف بأي حال بالواقع.  


Meems:

 كما أن اللغة بالكلام عبارة عن أصوات منبرة كإشارة تحمل دلالة بين المستمعين والأحرف تمثّل رسما يشير لتلك الأصوات ويمكن تركيبها لتغدو كلمة ومثل ذلك إشارات الضوء والتلغراف بنمط معيّن يمنحها دلالة للتواصل بين متلقين. أيضا الـ  meems صورة وإشارة لها دلالة بين المتلقّين بوسائل التواصل الاجتماعيّ وكأي وسيلة تواصل وُجدت وليدة ظرف معيّن فإن الـ meems اختلقت لتختصر الكثير من العبارات على متلقّي يقلّب صفحات الانترنت سريعا بحيث لا يغدو له وقت للقراءة والتمعّن بعمق وجديّة وبطبيعة الحال الظروف تساهم في تجسيد طرق ولغات التواصل بين البشر وفق الاحتياج مثل لغة الاشارة والتلغراف وحتّى طريقة التواصل بين المساجين بقرع القضبان وغيرها واستخدام أدخنة النيران قديما للإشارة بين الناس من مسافات بعيدة والـ meems في عصر ازدهار وسائل التواصل الاجتماعيّ وما يلفت النظر أنها أخذت كثيرا طابع النكت والكوميديا وهو ما يُفهم أن ذلك ما يتطلبه الظرف وحاجة المتلقّين لتلك اللغة في وقت فراغهم، صورة لكن بدلالة مستحدثة خارج دلالة الصورة الأصليّة فهي لغة محكيّة مثل أي لغة تبدأ بإشارة اعتباطيّة يفهمها سكّان وسائل التواصل الاجتماعيّ ويصعب قليلا أن يفهمها أشخاص منقطعون عن وسائل التواصل تلك ومالذي تعنيه حقيقة كون الـ meems لها طابع كوميدي بفهم مشترك ولماذا اختار الناس في حساباتهم الافتراضية تعابير كوميدية للتواصل؟ ما قد يدلّ على أن الكوميديا والنكتة طبيعة بشريّة ذات فهم مشترك قد تشبه بجوانب في وجودها وجود اللغة نفسها.

وبتعريف آخر الـ meems عبارة عن صورة نمطيّة مبدئيا وتخرج من السياق ولعلّ واحدة من أقدم أشكال meems الرسومات الزخرفيّة والموجودة تارة بالنقوش القديمة والرسومات القروسطية التي تصوّر الوحوش الخرافيّة كائنات بجسد مركب من عدة حيوانات وفي المنمنمات ورسومات الفنانين اليابانيين لمختلف المخلوقات الأسطوريّة أحيانا بأعين جاحضة مخيفة لكنها تخفي شيئا من الطرافة والسخرية الى درجة أنها رغم رعبها فهي قد تسرق ضحكة ساخرة من فمك وبكتب القرون الوسطى الأوروبيّة وبعضها تحمل تعابير مضحكة وطريفة ولو وجدت في أكثر الكتب تعنّتا والعصور تشدّدا تصوّر الشياطين والوحوش بأشكال غريبة وبوضعيات مضحكة ومشينة بعضها حيوانات ترتدي ملابس بشريّة ونستذكر لوحات هيرومينوس بوش (١٤٥٠-١٥١٦م) ولوحات الرسام بيتر بروغل (١٥٢٥-١٥٦٩م) وما تحمله رسوماتهم من صور طريفة ومضحكة وإن كانت تصوّر الجحيم والعذاب. 

لنقل إن حاولنا إعادة الصياغة بصورة أخرى أو وصف تلك الأشكال قد نقول بأنها كائنات مركبة أو مشوّهة ولاننسى أن خيطا رفيعا يفصل بين الأشكال المرعبة والمضحكة والأشكال المشوّهة قد تحمل تعابير فنيّة بعيدة عن الهزل مثل لوحات بيكاسو وفرانسيس بيكون. وقد نجد الأطفال يرتعبون من بعض وجوه الشخصيّات الكرتونيّة الطريفة بالشاشة، نعم بالشاشة -وهي بالأساس أشكال فيها غرابة تلك الرسومات- لكنها أصبحت طريفة بفضل السياق والإطار المحصور بالشاشة ولعلّ هذا ما يصنع الطرافة بالأشكال الغريبة، السياق والإطار المحصور بفكرة طريفة. والسياق مع الإطار المحصور يشكّل الفهم الذي ينبغي أن يبنى بالأذهان بمعنى طريف وفكاهيّ ومثل هذا البناء لا يكون إلا بفهم جمعيّ يتشكّل بصورة قريبة -ربّما- من تشكّل المفردات والمصطلحات ولعلّ أشهر ما يمكننا الاستشهاد به الـ meem الشهير لمعركة غودزيلا وكونج. وماذا لو كانت الأشكال في meems لكائنات طبيعيّة وصور بشريّة مثل meem القط الأبيض الشهير على طاولة الطعام، هنا التركيب ليس بالشكل بل في هيئة المشهد، قطّ يجلس على مائدة طعام مثل قطّ يرتدي ملابس بشريّة بمشهد كرتوني أو حيوان طبيعي رُسم بملابس بشريّة في لوحة أو رسم قروسطي. المعنى إذا ليس فقط بالخروج عن المألوف.

 
احدى الرسوم القروسطيّة بأحد الكتب


meem مشهد المعركة في فيلم Godzilla Vs Kong


صورة من مسلسل The Real Housewives of Beverly Hills أصبحت باستخدام العبارات الملصقة من أشهر الـ meems

 

مالذي يعنيه الشخص الضاحك في أذهاننا؟

خارج عن المألوف؟ كما يفهم أن الكوميديا والنكت خروجا عن السياق سيعني أن الضاحك  خارج عن سياق التصرفات والمألوف وكم سيبدو ملفتا لو طال خروجه. تزخر الأدبيّات البشريّة بذمّ ذلك مثل القول الدارج "الضحك من غير سبب  قلة الأدب" ولا تحبّذ بعض الشعوب -الشعب الروسي مثلا- الابتسامة من غير سبب واضح. أيعني أن الابتسامة من غير سبب تعني مبالغة في الابتسام؟ أم هل السبب في عدم الفهم؟ كما أن الكوميديا والنكتة أداء تفاعليّ فإنها تفقد ذلك بغياب الفهم ولا تعدّ النكتة والكوميديا فعليا كوميديا بغياب الفهم. قد يكثر مطلقوا النكت من الضحك أكثر من المتلقّين لزيادة التفاعل أو لتحفيزه وأبلغ النكت كما قد نشعر ما تخلق تفاعلا من المتلقّي (ضحك ، ابتهاج) دون أي تفاعل من راوي النكتة كما يصعب إطلاق النكات كتابيّا وتكون أكثر فاعليّة عندما تحكى من قبل شخص يجيد الأداء بنبرات الكلام والتفاعل حركيّا وكأن لها جذورا متشعبة في داخل النفس البشريّة وإن كنا نفهم بأن الضحك والنكت عمل تفاعليّ له جانب أدائيّ فقدرة إخراجها في إطار معيّن ومحدود ككلام مكتوب بلا تفاعل عمل في غاية الصعوبة سواء في الروايات أو بعبارات ضمنيّة مكتوبة مثل عبارات مارك توين وكم تبدو العبارات المضحكة والطريفة عميقة بلسان الفلاسفة الذين يقلّ عندهم الطابع الكوميدي إلا من باب النقد و تكون لاذعة وبليغة بامتياز مثل عبارات نيتشه الناقدة للألمان والعبارات السياسيّة اللاذعة للأديب والفيلسوف الفرنسي فولتير ولفهم الغاية لمثل تلك العبارات "يمكن وضع حدّ فاصل بين النقد والإهانة المباشرة، يكمن الاختلاف في ذكاء التقديم الذي يعتبر سمة هامة للنقد إن هذه حقيقة نفسية و ليست تقليدا أدبيا. نستطيع أن نتحدّى أو نشتم الأشياء التي نخافها لكننا لا نضحك عليها. أن تضحك على شيء دليل على إحساس الضاحك بالتفوّق" [2]

 

الابداع بالكوميديا:

 لهذا ما أصعب الإبداع بالكوميديا خارج الأعمال التفاعليّة والحركيّة؛ لطالما ازدهرت الكوميديا بالإبداع من خلال هذه الأعمال: بالتمثيل والمسرح والأغاني الشعبيّة بما فيها من أشعار هزليّة ورقصات ولكن مع جنس أدبيّ يفتقد للتفاعل المباشر والأداء مثل الرواية تصعب الكوميديا. يسهل تأليف الروايات المأساويّة لكنها أصعب بالكوميديا والخروج من السياق يتطلّب رشاقة وخفّة ما يسمّى بالحسّ الفكاهي يصعب تصوّره بلا حركة وتفاعل -ويبدو أن هذا التعريف العربي موفّق للغاية لرهافة عبارة "حِسّ" - وإن كان صعبا فإنه ليس مستحيلا لنرى مثلا رواية (الجندي الطيّب: شفيك) تعتمد الفكاهة كثيرا على المفاجأة كطبيعة الخروج من السياق برفق لهذا لا تكفّ ابتسامتك عن الارتسام وانت تقرأ عن الطيّب شفيك الذي يفاجئك في كل صفحة دون أن يستهلك ابتسامتك. 

 

هل سمعت أحدهم يقول -دون أن يضحك فعلا- أضحكني قول فلان أو ضحكت من تصرف ذاك؟ 

ولو أنه فعليّا لم يضحك، أي لم يصدر ذلك الانفعال والذي نسمّيه الضحك. هل يصحّ أن نقول بأن الإنسان يضحك في قلبه (من داخله؟) عدا عن حالة الرغبة بالتعبير عن الفرح والابتهاج التي يريد القائل بقوله أنه ضحك دون أن يصدر منه ذلك التفاعل إثبات وجود الفرح والابتهاج بضحكة افتراضيّة كثيرا ما تكون حالة الضحك الافتراضية من باب التندّر كأنه خروج من سياق الحالة التي يجب أن تكون عليها ردة الفعل أو ضحك يحمل طابع التفاعل مع الكوميديا السوداء "ضحكت في داخلي" و "أنا من داخلي أضحك" هل هذا النوع من الضحك حقيقيّ ويخلق حالة كوميدية تحت صنف الكوميديا السوداء في القلب؟  وهل خلق تفاعلا كيميائيا داخل النفس بما يجسّده من شعور خافي كما يفعل الحزن ولكن الضحك بما تتصل كوميديته من تفاعل وانفعال يحمل طابعا أكثر تعقيدا وفجائيّة. ويبدو الحزن وما يتصل به من صفات وتعابير أعمق وأحب كثيمة يتم تناولها بالابداعات البشريّة من قصص وأشعار وحتّى خرافات لعل هذا لسهولة الإمساك بهذه الحالة بالوصف والعبارات تأملا وتشريحا لعلّها لاتصالها أكثر في أعماقنا في حين قد يصعب الإمساك والتمعّن بموضوع الكوميديا والضحك والنكت بما يمكن تأمله. كأن الحزن صورة ساكنة في حين يبدو الضحك صورة متحرّكة. 

 

 "إذا ضحك المرء فعلى الآخرين، وإذا بكى فعلى نفسه."

مثل هنديّ [3]


ماهي الكوميديا السوداء؟

 بعيدا عن التعاريف إنها تشبه ما نعبّر عنه بأنه "المضحك المبكي" خروج حاد ولكنه خاطف عن سياق الواقع. ليست المسألة في جمع الأضداد؛ فالضحك ليس نقيضا للبكاء وإن بدا كذلك وإلا لكانت الكوميديا السوداء أسهل فجمع الأضداد ينتج غالبا حالة بروز ملفتة لجمع النقيضين كما قال شاعر قصيدة (اليتيمة)

فالوجه مثل الصبح مبيضّ

والشعر مثل الليل مسودّ

ضدان لما استجمعا حسنا

والضدّ يظهر حسنه للضدّ

ولو عومل الضحك كنقيض للبكاء وأنتج من خلال هذا المفهوم عمل كوميدي سيبدو مبتذلا ولن يصحّ القول عنه بأنه عمل ينتمي للكوميديا السوداء. ولكونهما غير نقيضين إبراز حدّيتهما تشبه ما يفعله الطباخون بإضافة الملح إلى الأطعمة الحلوة بمقدار قليل يساهم في ابراز حلاوة النكهة (salted caramel) بل المسألة أعمق من ذلك فهي عمليّة جمع لطبيعتين مستقلتين من تفاعلات النفس البشريّة والجمع بينهما بقالب واحد بمقياس محكم صعب لكنه ينتج عملا عميقا وفي غاية الذكاء يشبه مشهد فيلم A Cloclwork Orange عندما اقتحم أليكس منزل امرأة كبيرة بالسنّ كانت تمارس الرياضة في غرفة مليئة بالقطع الفنيّة الحديثة وأغلبها خليعة وإيروتيكيّة حاولت المرأة ضرب أليكس بتمثال نصفي لبيتهوفن في حين أمسك أليكس بقطعة فنيّة حديثة وبدأ الشجار بينهما بالقطعتين وذلك على وقع سيمفونيّة بيتهوفن التاسعة، الفنّ الحديث ضدّ الفن الكلاسيكي. الكوميديا السوداء تشبه الضحك بإيلام أو سخرية لاذعة أكثر من كونها الضحك على المشاهد المؤلمة. 


 لقطة فيلم A Clockwork Orange




هل الكوميديا بحدّ ذاتها فنّ؟

 تبدو أقرب إلى ذلك لنقل أن الحسّ الفكاهيّ موهبة أكثر من كونها إبداع وفن لكن ما إن يكتسب إطارا فنيّا إلا ويغدو عملا فنيّا (كوميديا). والمبدعين والأذكياء على ندرتهم حين يمتلكون حسّا فكاهيّا يحوزون على سحر خاص مثل فولتير كفيلسوف وشفيك كروائي. يمكن تعلّم الكتابة الابداعيّة ، الإخراج، التمثيل لكن الحسّ الفكاهيّ يصعب تعلمه والتعلّم يحتاج الى قدر من الذكاء والالتزام وهو ما لا يشترط مع الأشخاص الذين يمتلكون حسّا فكاهيّا لهذا -ربما- لم يدرج في الأذهان وصف المضحكين والكوميديين بالذكاء ولو أن للذكاء صبغة كوميديّة عندما يقترن بالغدر والخداع مثلما يرويه الانسان بفلكلوره القصصي من حكايات و تصرّفات الثعلب الذكيّة الذي يبدو أن لديه ذكاءً يخرجه قليلا من سياق طبيعة الحيوانات وسلوكياتها الاعتيادية لهذا ربط الثعلب كثيرا بالشياطين بمعتقدات عدد من الشعوب[4]. ولو كان لنا أن نتساءل فسنقول هل يمكن للروبوت (الذكاء الصناعيّ) المتّقن الصنع أن يكون مضحكا وذا حسّ فكاهيّ؟ قد نتخيّل أي ابداع للذكاء الصناعيّ إلا الإضحاك والكوميديا يصعب تصوّر أن شيئا في غاية الإتقان والدقّة قد يخرج عن السياق المصمّم له ولو تخيّلت وسيلة لاختبار وفحص انسان آلي ما إذا كان روبوتا \ ذكاءً صناعي أم لا لاخترت الضحك والإضحاك بدلا من سلسلة الأسئلة المنطقيّة التي يتم عملها للكشف عن البشر الآليين مثل كما نشاهده في فيلم Blade Runner (1982).

لو أردنا فعل ذلك، كيف يمكننا إنتاج الكوميديا بنكتها المضحكة بالذكاء الصناعيّ؟ ما ينتج عن المسائل المنطقية يمكن تضمينها ضمن خوارزميات الذكاء الصناعيّ بسهولة والشكل الأسهل منه المسائل الحسابيّة إذ أنها قد تبدو لوهلة أوليّة ذكاء صناعيّا بسبب سرعة النتائج، أيضا ما يتعلق بمنطق النحو والصرف وما يرتبط بالقواعد اللغوية والكتابيّة وأبسط صورها المصحّح الإملائي كل بيانات يمكن أن ينتج تحليلها نتائج منطقيّة وتوقعات يستطيع الذكاء الصناعي إنتاجها بما في ذلك شيء من نطاق المشاعر والأحاسيس الداخليّة مثل الحزن ولكن بدرجات معيّنة فالحزن يمكن توقعه ويمكن فهمه أسبابه وبناء أحداثه في حين نفتقد إلى فهم دقيق للحسّ الفكاهي بالكوميديا فهو عنصر مفاجئ ولا يمكن توقعه وردود الأفعال الناجمة عنه كذلك (الضحك) لا يمكن بناء قصة كوميديّة مبنيّة على حدث واحد يكبر ككرة ثلج بخلاف الحزن. وتعتمد القصص الكوميديّة على سلسلة من الأحداث المضحكة والنكت إذ أن توقّفها يعني انتهاء حالة الكوميديا كون مفعول الأثر منها يمحى بسرعة بخلاف الحزن الذي يبقى ويسود وله مدى وعمق وزمن. للكوميديا طابع أكثر ابتكاريّة من الحزن ما هو محزن عند شعب معيّن هو حتما محزن عند باقي الشعوب لكن ماهو مضحك عند شعب ما قد لا يُضحك شعوبا أخرى  بنفس الدرجة، بل إن المجال يزداد ضيقا كون النكتة يتفاوت مفعولها من راوي الى آخر ان كانت كرواية أو أداء. يمكن أن نفترض مقياسا للحزن وللأشياء المحزنة وإعطائها قيمة أو بناء أحداث قصة ما بأحداث تجعل من الحزن يزداد أكثر وأكثر. بالأساس مفهوم ماهو مضحك أوسع بكثير من ماهو محزن. ماهو محزن يُبنى ويكون ضمن قصّة أو حكاية في حين أن ماهو مضحك يمكن أن يكون تصرّفا أو تجسيدا أي شيء لحظيّ ليس له امتداد منطقيّ كقصة أو حدث ضمن سلسلة وفقط من خلال ذلك قد نتخيّل الذكاء الصناعي بخوارزمياته يبني حكاية أو حدثا كوميديّا لكنه لن يكون إلا اجترار أو استنساخ لصيغ فكاهيّة سابقة. الشخص الذي يملك حسّا فكاهيّا لا يمكنه نقل معرفته لها بل إنه لا يملك لها معرفة ولا نتخيّل أن ينتهي حسّه الفكاهيّ، يمكن فقط أن نتخيّل روبوتا ذو حسّ فكاهيّ -وإن بدا غريبا اطلاق الوصف على روبوت- في حالة استقباله للبيانات مثل الانسان بحواسه وانتباهه لردود الأفعال وتلميح الملامح والنبرات. 

 

متى ضحك الإنسان أو مرة؟

 هل تعلّم الانسان الضحك؟ ومنها تعلّم ما هو مضحك (الكوميديا)؟ يسهل إضحاك الأطفال أكثر من غيرهم وبنفس الدرجة يسهل إبهارهم وخداعهم وكأنّ كل ذلك ناجم عن روابط معيّنة بين عقل الانسان وعمره. هل يملّ الانسان من الأشياء التي كانت تضحكه؟ لهذا تزداد صعوبة الأشياء المضحكة وتقلّ  بتقدّم الانسان بالعمر؟ كأن في الأمر خدعة! كأن ما يضحك الانسان ليس إلا شيئا قام بخداع تركيز الانسان وردة فعله شيء قد لا ينطلي على آخرين لهذا ما يضحك أحدهم قد لا يضحك الآخر. يمكننا القول بأنّ الضحك يحمل شيئا من آثار طفولتنا. ولنا أن نسأل باعتباطيّة: متى سيضحك الروبوت أوّل مرة وهو لم يكن طفلا ليوم ما؟

 

هل يمكن اعتبار الحسّ الفكاهي ملكة من الملكات؟

كيف يعرف من يملك الحسّ الفكاهي ما يضحك الناس؟ قد يبدو الأمر كأنه معرفة أو فهما لنفسيّات البشر وتفكيرهم ولكونها ان افترضنا ملكة فهي ليست قائمة على سلسلة من العمليّات التحليليّة والذي ينتهي باستنباط دقيق بل هي أقرب إلى الحدس لهذا يصعب فعلا حصر نمط الابتكار لأنها إن حصرت ولو من خلال فكاهات أحدهم لبدت أقرب إلى السماجة بالنهاية لهذا من يملك حسّا فكاهيّا سيصح لو قلنا بأن الحدس الكوميديّ لديه دقيق أكثر من غيره. 

يظل ما هو مضحك (الكوميديا) موضوع يصعب فهمه وتناوله. يمكن اسقاط أوصاف كثيرة لوصفه ومن ثم دراسته كأن نتخيّل أن الكوميديا عمل يحاكي الجانب الخلفيّ لتفكيرنا والجانب الذي لانرغب أن يمثلنا ونُعرف به ونختزل في داخله. ولكنه سيظل جانبا نحبّ من وقت لآخر الهرب إليه كمساحة مريحة من ثقل وعبء الحياة وجديتها.

 

---------------------------

الهوامش:

[1] ليليان هيرلاندز، ج. د. بيرسي، ستيرلنج أ. براون، ترجمة محمد الجورا، دار الحقائق للطباعة والنشر والتوزيع.

[2] نفس المصدر السابق.

[3] روحي البعلبكي، موسوعة روائع الحكمة والأقوال الخالدة، بيروت: دار العلم للملايين.

[4] مارتن والن، (٢٠١٠)، الثعلب التاريخ الطبيعي والثقافي، ترجمة ريم الذوادي، أبوظبي: كلمة للنشر والتوزيع.