الأحد، 25 فبراير 2018

كتب تولد كتب أخرى





كتب الموسوعات أو الكتب الموسوعيّة هي من أفضل مايبدأ فيه الشخص بالقراءة. بفضل تنوع مواضيعها يمكنك أن تلتقي بموضوع قد يهمّك لتبدأ بعدها رحلتك الخاصة مع الموضوع المحبّب إليك وتكتشف الموضوع ونفسك أكثر. 

لكن المشلكة أنّ الاستمرار بقراءتها دون غيرها قد يوحي بأنّ مالديك ليس إلا مجموعة بيانات مخزّنة، وهذا ما يجعلنا نشعر أحيانا بأنّ بعض الأشخاص ليسوا إلا بنكا للمعلومات لا أكثر. كيف تستطيع إستثمار رصيدك في هذا البنك المعلوماتيّ؟ وبالمناسة الفكرة حول قرّاء الكتب الموسوعيّة قد تنتطبق على من يقرأ فقط نوعا معيّنا من الكتب بشكل غزير، مثل قرّاء الروايات والأدب. إذ أنّ لديهم رصيد عالي من المعلومات وإن كانت كلّها في عالم الرواية والأدب ولكن يمكن بالنهاية الخروج بها بمعلومات خارج ذلك النطاق، بالتنزّه قليلا بموضوعات أخرى.

المعلومة تشبه إلى حدّ ما العناصر الكيميائيّة، بخلط معلومتنين قد تحصل على معلومة ثالثة جديدة تماما مثل خلط العناصر وهو مايشبه الجمع والربط بين مابيدك من معلومات لتصل لاستنتاج يمنحك معلومة جديدة ومعتبرة. بالطبع خلط كمّ أكبر من المعلومات سيعطيك نتائج أكثر ولكن معقّدة. هذا ليس إلا شكلا من أشكال تكوين معلومات جديدة من معلومات قديمة.

 أتذكّر أحدهم سأل "كيف تواصل المسلمون الفاتحون مع سكّان البلدان المفتوحة من ذوي اللغات المختلفة؟" الكلّ يرى خريطة شاسعة للدولة الأمويّة ويعرف أنّها دولة مسلمة عربيّة ولكن بالواقع انّها دولة متعدّدة اللغات فهنالك مدن كثيرة لم يتحدّث العربيّة إلا أحفادهم ومع ذلك لاتذكر كتب التراث ذلك كثيرا ، إذ أنّ ذلك كان يعتبر حقيقة معروفة لدرجة لاتستحقّ التنويه والذكر ولم يكنّ الإنسان في تلك الأزمان مهتمّا بتلك الظواهر وهذا ماجعل الإنسان الحاليّ المهتمّ بها يعنى بالتعرّف عليها ولكن عن طريق معلومات ثانوية وجانبيّة لعلّ توفيقا في جمعها يوصله إلى مايود معرفته حول تلك الظواهر.
الكثير من الحقائق ليست موجودة مباشرة بالكتب ولايمكن الوصول إليها إلا بجمع حقائق متفرّقة وبصورة صحيحة ومعيّنة.


كتب التاريخ مهما بدت ميّتة فإنّها حيّة من خلال بعض المعلومات التي تذكرها، والتي لها صدى خافت يفتح تساؤلات عدّة. مثلا الإمام الغزالي ألّف عدّة كتب معروفة ومشهورة وكلّها بالعربيّة ولكن أحدها ألفه باللغة الفارسيّة وهو "كيمياء السعادة" إن هذا يفتح بابا لتساؤلات عدّة، حول أمور كانت في زمنها أشياء معروفة ومثل تلك الأمور مع الأسف لاذاكرة\كتب لها، كونها أمور لم تثر علم الإنسان بعد والآن بات عليه بناء تاريخ لتلك الأمور من جديد إذ أنّها حاليّا تحتلّ مكانة كبيرة في معرفة المجتمعات البشريّة الحاليّة وفهم الإنسان والعالم الذي يعيش فيه. 
إلى أيّ حدّ كانت كتب اللغة الفارسيّة منتشرة؟ إذ يقال بأنّ الغزالي ألّفه بالفارسيّة ليصل إلى شريحة أوسع من القرّاء، ذلك قد يوحي بوجود كتب عديدة باللغة الفارسيّة وبمواضيع مختلفة، فالعربيّة مناسبة للمواضيع الدينيّة والأدبيّة ولكن هل ذلك يعني بأنّ هنالك مواضيع معيّنة تطرقت لها كتب اللغات الأخرى؟ كل ذلك يمكن معرفته ولكن لايمكن العثور عليه مباشرة في كتاب ما. أيضا مقولة أبي عمرو بن العلاء:"ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا .. " هذا يوحي بالكثير من الحقائق التي لم تذكر بالكتب ولكنّها كانت معروفة في عصرها ومع مرّ السنين اختفت تلك الحقائق إلى أيّ مدى هي هامة لفهم التاريخ البشري ومجتمعه؟ وهي الحقائق التي أعتبرت من المسلمات وبات العثور عليها صعبا من خلال ماروي بالكتب والكتب لاتذكر حقائق يعرفها الناس ببساطة.      

ولتبدو الصورة أوضح في كتاب اسمه (الطعام والمجتمع في العصر الكلاسيكي) لبيتر غرانسي من الأشياء التي نوّه بها المؤلّف مدى صعوبة العثور على معلومات حول هذا الموضوع، أشياء كانت معروفة ومسلّمة  مثل: إلى أيّ حدّ عانى الناس من سوء التغذية؟ ومامدى تأثير ذلك على صحّتهم ومعدّل الأعمار؟ من أين يأتي الناس بطعامهم؟ وكيف أمكن إطعام المدن المكتظّة بالسكّان مثل روما -بالطبع الصورة ليست مثل ماهو بالعصر الحديث- ومدى اهتمام الناس بمذاق طعامهم؟ كلّ ذلك لايمكن إلا من خلال الاستقراء إذ لايوجد كتاب مباشر أو بحث مباشر حول ذلك. ولم يكن الطعام إلا مجالا نال الاهتمام بالعصور الحديثة ومن أشهر المهتمّين كلود ليفي شتراوس لأنّ من خلاله يمكن فهم المجتمع البشريّ كثيرا وهو مالم يكن مفهوما بالسابق ولذلك لم يذكر ذلك قديما.  

بفضل الاستقراء وجمع المعلومات يمكننا القول بأنّ الكتب تولّد كتبا أخرى

بالإضافة إلى التفاصيل المهملة التي لم تذكرها كتب التاريخ لأنّها كانت من المسلّمات عند أهلها توجد أمور أخرى ذكرتها كتب التاريخ أو بالأحرى ذكرتها الروايات ورسمها الرسامون ولحسن الحظّ الكثير من التفاصيل يمكن الرجوع إليها من خلالها وقد وصلت إلينا بتلقائيّة دون قصد. 
إلى أيّ حدّ يمكنك معرفة الكثير عن عالم الموضى والاهتمام بالمظهر من خلال لوحات الرسامين؟ لاشكّ يمكنك معرفة الكثير عند تأمّلك لوحات رينوار مثلا وهو يرسم الحياة الباريسيّة وتجمّعاتهم وديجا وهو يرسمهم في بيوتهم وخارج بيوتهم. بالروايات يمكنك أحيانا التعرّف على السلع الرائجة في ذلك الوقت وعلى ذوق ذلك العصر ونوعا ما على أدبيات الحوار بعفويّة، من خلال المحادثات مثلا أو عندما ذكر بلزاك برواية (النسيبة بت) على لسان أحدهم وهو يحاول أن يعده بإحضار البنّ الرائع من اليمن. لهذا قرّاء الروايات محمّلين بالكثير من الحقائق الجانبيّة والتي قد لايدركونها. فبلزاك رواياته مليئة بهواجس البرجوازيين ومظاهر ذلك المجتمع، أمّا فيكتور هوغو تشعر بأنّ يستحضر دائما المثل العليا للبشر أو المثاليّة إنّك تجد فيه وفي غيره الإعجاب بتلك المثل العليا من خلال عناوين اللوحات الفائزة بجائزة روما Prix de Rome خاصة بالرسم. والجوائز وهي من غير قصد ربما تنبؤك كثيرا عن الذوق الرسمي لكلّ العصور، ذلك أنّ الذوق الرسمة تمّت مواجهته في عالم الرسم من قبل الانطباعيين ومن قبلهم الواقعييين. ليست الكتب وحدها من تحمل معلومات من غير قصد بل الجوائز كذلك. 

الى أيّ حدّ كلّ شيء غامض واضح من الأساس؟
في لقاء مع الفريق الأردني نذير رشيد وعندما تحدّث عن مدى نجاح الاستخبارات الأردنيّة في جمع الكثير من المعلومات الاستخباراتيّة والتي -على حدّ قوله- كانت أعمق مما لدى العرب الآخرين قال بأنّ أغلب ماجمع كانت مصادرها من وسائل منشورة ومعلنة مثل كتب المذكرات والصحف المنشورة من قبل الاسرائيليين! وهو بذلك يؤكّد قول أحد الغربيين - على ماذكر- الذي قال بأنّ أغلب المعلومات الاستخباريّة يمكن الحصول عليها من وسائل عامة ومصادر منشورة. على كلّ حال فتعريف الاستخبارات: ليس إلا معلومات تمّت معالجتها.

كلّ ماعلى قارئ الموسوعات وكتب المعلومات والروايات أن يجرّبوا ويقفوا عند مافي حوزتهم وسيجدون أنّهم يحملون الكثير دون أن يدركوا ذلك. كيف؟ لاتوجد طريقة بعينها ولكن بعض المواضيع والكتب لها قدرة على تحفيز مافي جعبتك لإظهار كلّ مافي مكنونها. 

وإن بدت المعلومات سطحيّة إلا أنّ كثرتها وتكرارها يتيح مجالا لعمقها. الويكيبيديا مثلا وهو مصدر يعتبر غير موثوق أحيانا  لكنّ فيه ميزة جوهريّة وهي الربط السلس بينها. ولا أدري ولكن أعتقد بأنّ هذه الميزة لم تكن في الحسبان، امكانيّة الدخول عبر روابط لاتنتهي من موضوع لآخر عبر علاقة ما لتكوين صورة أشمل مع وجود هامش يجمع القواسم المشتركة بين كلّ موضوع كلّ هذا عبارة عن صورة مصغّرة أو صورة مصفّحة لما في عقل القارئ من حقائق ومعلومات


هنالك مؤلفين كانت لهم القدرة على إدراك أمور أو رؤيتها من عين أخرى مثل ابن خلدون وآدم سميث وكارل ماركس


وبرأيي من الكتب التي قد تنبّهك الى الكثير كتب علم الاجتماع مثل (مقالة في تاريخ المجتمع المدني) لآدم فيرغسون إنّه ينبّهك الى قوانين يمكنك من خلالها فهم التاريخ البشريّ بصورة أوضح ولعلّ مايجدر أن نذكره قبله (مقدمة ابن خلدون) فهو مؤسس ذلك المجال. وكتاب ميشيل فوكو الجميل (الكلمات والأشياء) إنّه لايمنحك الكثير مثل كتب أمبرتو ايكو بل ينبّهك إلى الكثير. أمّا المجال الذي بحقّ فتح عالما واسعا جديدا هو اللسانيّات إنّ هذا المجال واسع باتساع المجالات كلّها، فهو على علاقة بتاريخنا وتكويننا وتفكيرنا بل إنّه مجال يتيح فهمنا بصورة دقيقة مثلما يتيح الطبّ -والعلاج غايته الأبرز- فهمنا. ستتفاجأ بمقدار ماتزودك القراءة عن اللسانيات من ادراك حول المواضيع التي تهمك. وكتاب مونتسكيو (روح الشرائع) ولأنّه ركّز على فهم نشوء القوانين فتحت من خلال ذلك على مايبدو نافذة جديدة على التاريخ والبشر. إن لمونتسكيو قدرة عجيبة على إثارة التاريخ وملاحظة الأحداث وكتابه عن تاريخ الرومان المختصر يدلّ على ذلك. وهنالك كتب الاقتصاد والتي من خلالها يمكن فهم السلوك الجمعيّ للبشر وكان هذا المجال قد بدأ يلفت الانتباه في انجلترا أيام الحصار القارّي بالحروب النابليونيّة ومن الكتب الاقتصاديّة الجميلة يوجد كتاب تيم هارفورد (تكيّف) وكتاب (الفيلسوف الاقتصادي) لستيفين لاندسبيرج.


 على كلّ حال الموضوع طويل الى حدّ لايمكن إدراكه مثل أنّ الإنسان في كلّ مرّة يجد أنّه مضطرّ للبدء من جديد في علم جديد بعد أن خال بأنّه بات يعرف كلّ شيء. وذلك يطرأ مع تساؤل جديد. ذلك يذكّرنا بوصف انشتاين للعلم الذي شبّهه بقيادة درّاجة هوائيّة حيث أنّك ستسقط إن لم تواصل بإدارة عجلاتها. 

باختصار ان المعلومات تشبه الأشخاص يمكنك أن تعرف الكثير عنهم من خلال تصرّفاتهم، إنّهم يحكون أكثر من خلال ذلك أكثر من ألسنتهم. ففي التاريخ الكلّ يعرف أنّ الرومان عندما غزوا فرنسا (بلاد الغال) تحوّل سكّانها تدريجيّا إلى رومان يتكلّمون اللغة الرومانيّة، حتّى تلاشت اللغة الأصليّة لبلاد الغال وبقيت فقط بإقليم "البريتاني" إن ذلك يوحي كثيرا إلى قدرة الرومان على إقامة دولة وأنظمة مدنيّة قادرة على تحفيز أهالي البلاد على تعلّم لغتهم، إذ أنّ ذلك يعدّ بوابة للانخراط بالحياة الرومانيّة. لم يحدث ذلك قسرا -أعني مسألة اللغة- بل كان اختيارا وهذا التصرّف التاريخيّ مجال خصب لمعرفة الأوضاع في تلك الأوقات. التاريخ يذكر كيف انتشرت اللغات ويمكن فهم الكثير من خلل معرفة اسباب الانتشار وحدها. 



وبالاخير وبخصوص من يحبّ قراءة كتب الموسوعات أو الروايات والتاريخ بتوسّع أكثر مايثير فضولي: ماهو الموضوع أو الكتاب الذي تودّ أن يؤلَّف عنه في يوم ما؟ 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق