الأربعاء، 4 نوفمبر 2020

لا نهائيّة المعاني

 


 

توصف اللغة كثيرا بأنها أصوات لها طابع اعتباطي ولكن الانسان (المجتمع) يمنح هذا الصوت دلالة ما. وحتّى ان أصرّوا على أن لا علاقة للدلالة بذلك الصوت (صوت الكلمة) فإنه من الجميل أن نفكر بأن كلمة "أم" صيغت بهذه النبرة الحميمية بحرف الميم التي تضم الشفاه لكنها أفكار سخيفة وساذجة وواهمة في نظر علماء اللغة واللسانيين بالذات. ويرون بأن الناس يفكرون بهذه الطريقة لأنهم يرون الفكرة تبدو جميلة وخلابة لكنها ليست منطقية وصحيحة. الواقع أن ما يجعل هذه الفكرة أقرب الى الحقيقة كونها جميلة، يمكن اعتبار بعض النظريات والفرضيات صحيحة كونها جميلة وخلابة؛ الفكرة تبدو صحيحة لأنها جميلة، لا يعقل للحقيقة أن تتركها فارغة. طوال التاريخ والانسان يحارب هذه الأفكار الجميلة في سبيل الحقيقة وإن كانت مُرّة واعتبرها أهم من كل شيء -كان ذلك صعبا-  بعكس انسان العصور القديمة الذي لم يكن يحمل ذلك التقدير للعلم أو لم يكن يتخيل أن للحقيقة شكل مبسط لهذا أتاح لمختلف التفسيرات وأكثرها تحليقا وجمالا بأنّ تحيك من الحقائق ما تشاء. أتخيل أنه بعد ألف عام لن يرث البشر أساطير وقصص جميلة خرافية من عصرنا بل سيقفز للخلف أكثر.


حين يكون للصوت الاعتباطي دلالة ويصبح بعدها كلام ذو معنى ماذا عن بقية الإشارات على اعتبار أن الصوت إشارة. اللون مثلا، هل هو اعتباطي؟ أعني دلالاته هل منحناها له نحن أم وجدناها باللون نفسه؟ بعضها كذلك وبعضها منحت منّا، فكان اللون بهذه الصورة إشارة اعتباطيّة لكنه لم يكن كذلك عندما عنى اللون الأزرق الهدوء والسكون، حتما هو يعني أكثر من ذلك لكن هذا أسهل مايمكننا أن نجزم به. الشعوب تمنح الدلالات: ذاكرتها وأحداثها وأشياء كثيرة من حولها قد تصل الى حدّ اعتبارها جميلة، مقدسة. ولو خرجنا عن الألوان والأصوات البشرية لوجدنا الأشياء التي تبدو إشارات يمكن أن تكون لغة ذات دلالة: الغروب، الرعد، المطر. أوكلها اعتباطيّة أوكل الدلالات الممنوحة لها جاءت اعتباطيّة؟ كأننا نخزّن فيها بيانات رقميّة وهي المعنى لنجد كل تلك الأشياء أو اللغات من حولنا ذاكرة متنقّلة.

 

هل تمنح بعض الشعوب دلالات لما حولها أكثر من غيرها؟ وهل نحن كأشخاص نمنح الدلالات؟ كل شخص يمنح وفق طريقته؟؟ وهل هنالك أشخاص أكثر من أشخاص؟ ماذا عن الحدّ الأقصى هل لذلك حدّ؟ ماذا لو أن أحدهم منح لكل شيء من محيط حياته دلالة ومعنى، لم يمنح النجوم دلالة ومعاني بل منح كلّ نجمة دلالة ومعني وحيدا وكلّ ذكرى (الذكريات إشارات كذلك) منحها دلالتها ومعانيها أيضا كيف يمكنه العيش وسط هذا الضجيج وسط هذه الغابة المكتظة من المعاني والكلمات (على شكل أشياء) التي ((لا نهاية لها)) هل يمكن حينها أن يجد لحظة صمت في حياته؟ لو وصل إلى حدّ أوصله الى ما يشبه الانتحار هذا يعني أنه استنفذ كل شيء، حتّى الصمت وهو آخر شيء يملكه الانسان وهو الرمق الأخير للسكون وهو القلب النابض لكل المعاني والذي سيظل ينبض بمعناه الذي يملكه في أعماقه حتّى يطغى بالمعنى المجازي/ الإضافي الملقى على عاتقه. الصمت هو الأساس الي نستند عليه في كل ما نمنحه من دلالات ومعاني.


إننا لا نمنح الأشياء من حولنا دلالات ومعاني بل شيء من روحنا يتمّ قطفه إن وصل الى حدّ المعنى. في مشهد يشبه "ون بيس" وكيف كان الناس يدفعون الضرائب من أرواحهم في جزيرة الـ بيغ ماما نفسها. كذلك الأشياء تطلب منك روحا لتأخذ المعنى منك. ماذا لو منح أحدهم كلّ شيء معنى ووجد نفسه خاليا تماما من أي شيء؟

لازلت أذكر حديث أحدهم الذي قال بأنه يستحيل حذف أي صورة أو أي شيء من ذاكرة "الميموري" حتّى لو حذفت فلا يمكن حذفها فيزيائيّا! كأن الحذف ليس إلا إعادة صياغة لا أكثر. كأنه ((لا نهاية لها)) مثل الفراغ تماما.


"ألا تسمع هذا الصراخ الرهيب الذي يحيط بك من كلّ جانب؟ هذا الصراخ يسمّيه البشر بالصمت"

جورج بوشنر


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق