الاثنين، 8 فبراير 2021

صانع الآلة

*



بالبداية كان متلهفا لإنجاز العمل على آلته التي لم يرها أحد. كان قد أمضى سنوات وهو يبني آلته القابعة في قبو البيت من مختلف القطع والبراغي والأفكار. نسي متى بدأت فكرة صنع الآلة ونسي كذلك تصميمها الأولي. لكنه كان مذهولا من قدرته على إكمال عمله بها واستعادة صورتها الأولى وكأنه بمجرّد لمسها ومسح يده عليها تخبره أين وصل وإلى أين عليه أن يكمل. يعرف يقينا أنها ستعمل ولكن لا يدري كيف ومتى. مالهدف الأول من صنعها وماذا تعمل لا يذكر بدقّة. يقف بإعجاب لمظهرها، يدير ظهره يغلق الأنوار والباب منهيا عمله لهذا اليوم.

 

كان يشعر بالرضى كثيرا وهو يشدّ البراغي جيّدا ويده تختبر ثبات القطع الموصولة بهزّها. يشعر بالارتياح أكثر مع تأكده بأن يده لم تعد قادرة على هزهزة تلك الأجزاء التي باتت مثبتة بإحكام. كأن قلبه هو من أُحكم إثباته ولم يعد يضطرب بشعوره داخل صدره. كانت تسري في عضلات يده دغدغة تحثّه على شدّ البراغي بكل ما أوتي من قوّة ليحس بثبات الأجزاء أكثر ويشعر بالاحتكاك المريح وهو ويشدّ ويبرم آخر رمق من البراغي التي أكملت الدوران في المجرى بإحكام.


"أكمل غدا" نهض وهو يأخذ كوب الشاي الذي نسي -كعادته- شربه. يشعر بأنّ السكر قد ازداد مع برودته، لكنه يشرب الكوب على آخره بكل رضى. وكالعادة أعطى نظرة فخرة واعتزاز بآلته التي باتت أكمل. يغلق الباب خارجا ليكمل يومه كيفما كان فهو قد نال القسط الأوفر من هذا اليوم بإنجازه وعليه يمكن اعتبار ماتبقى من اليوم وقت فراغ يقضي فيه ما يشاء. 


لكن ودائما مع مضي الوقت وتركه لآلته مدة يبدأ الشك يسري في تفكيره. لم يكن على يقين بما يمكن لهذه الآلة أن تصنعه، لكنه واثق من أنها ستصنع معجزة تسعده. كان يعجبه أن أجزاءها موصولة بإحكام إلى بعضها البعض دون أن يشوّه أي مسمار مطرقة جسدها. كل شيء محكم بسلاسة. كان يعجبه التأمل الى الأجزاء الموصولة بمختلف الأشكال. وكان يرى في بعضها يد تلمّ اليها يد أخرى، هكذا يراها. وبكل ما أوتي من قوة كان يحاول منع الشكوك من دقّ أي مسمار في آلته بقوّة.


كان حريصا على إغلاق الباب لم يكن يحب أبدا أسئلة المتطفلين العقلانيين الذين يسألونه، كيف ستعمل؟ وأين المخطط؟ كيف يفهمهم بأن الآلة ستعمل في يوم موعود ينتظر قدومه. يوم قريب، من الصعب اقناعهم بأنه يبني آلته وخطة العمل في روحه وأن طريقة عملها موجودة لكنها في درج الأيام أو في درج ذاكرته وكل ما عليه هو إكمالها لينفتح ذلك الدرج. لم يكن يمنعه من الوصول لليقين بذلك إلا مشاغبة الأسئلة له. 

 

ومع مرور السنوات بدأ ينقطع عن العمل أحيانا. تمر أيام يفقد شغفه فيها لكنه يعود لاحقا بحماس وثقة متخيلا أنها أوفى ما تدّخره الأيام له ولمستقبله. 

 

 كان شكل الآلة عجيبا، أعين المتطفلين من أقربائه طالتها. بدؤوا يسألونه أكثر لكنه يجيب اجابات ابتعاديّة. (إنها أقرب الى العمل الفني منه إلى آلة ميكانيكية) مع أنها أعطت أشواطا من النجاح في مراحل التشغيل الأولى " ليتهم يرونها وهي تتحرك وكيف تسري الحركة بين دوائرها بانسياب ودقة" قالها وهو يشعر برعشة فرح في قلبه. 


"منذ متى وأنت تعمل عليها؟ ومتى اكتملت إلى هذا الحد؟" يسأل أحد أقرب أقربائه وهو يرى الآلة أول مرة. "منذ سنوات عملت عليها وفي بالي خطّة أشعر باكتمالها لكن لا أستطيع الإفصاح عنها"، "جميل، عملك يبدو متقنا لم أتخيل أن غيابك في هذه الغرفة سينجم عنه شيئا بهذا الإتقان" هذا أقصى ماستطاع قريبه قوله.

 

  أكمل حياته، وكل ما يمر على أقرانه من قرارات ومجالات مرت عليه. لم يكن يختلف عنهم خارج الغرفة. كان في نظرهم انسانا عاديّا. لكنه لم يشعر بالرضى على الإطلاق كانت الأيام تكدّس -خارج الغرفة- أثقالها على صدره. لم يعد يحتمل، بدأت أعراض مضايقته تزداد، روحه بدأت تنفلت من هدوئها وحدها الآلة كانت القادرة على امتصاص ما يحدث من همّ بالخارج . 


كان يضع آماله عليها، ومع السنوات كبرت آماله بها أكثر.

"حتما ستعمل، حتما ستعمل" 

لم يعد يطيق انسلال أي شكّ فيها، كانت أمله الوحيد والتشكيك فيها يعني القضاء عليه لم يعد يملك إلا أن يؤمن بها.


اكتملت الآلة، الجسد، العمل الفني، الكتلة، ولم تصنع شيئا "وماذا بعد؟" شعر بتوتر. بالإلهام الذي كان ينساب قد جفّ وبدأت الشكوك تجفّف خياله أكثر لم يعد يفهم ولم يعد يتذكر كيف ابتدأت أحلامه، الآلة باتت باهتة ووجهه أصبح باهتا. 

 

بدأت التعليقات تنساب على آلته. جن جنونه -من الداخل لا أكثر-. كأنهم يضعون الديناميت فيه ويطوقون بها روحه التي بدأت تشعر بأنها مكبلة أكثر.

 

بدأت مشاعر الكره 

" آلتي كانت خطأ" قالها لنفسه كثيرا ولم يسمعها أحدا من حوله. "بماذا تصلح؟" لم يدركوا مدى فداحة ماقترفوه. لم تكن آلة عادية كانت شيئا غرس فيها روحه وخياله وأحلامه أكثر عمل يقدسه وكرس فيه أمله ملطخا بالتعليقات الساخرة، لم تكن الكلمات ثقيلة لكن لا أحد شعر ببركانه. 

بقطعة حديدية وحادة دخل على آلته أو كومة الأجزاء لينهي كلّ شيء.



 

   *van gogh

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق