الجمعة، 30 مايو 2025

-38-

 هل علي أن أستسلم؟

لم تعد أحلامي واقعيّة؛ استمرت كتلة تثقل ذهني وتفكيري ولم تخرج بين يدي. وصلت الى مرحلة فاتني فيها الكثير. أشعر بالتعب، بالخلا، بالإحباط، وبالهزيمة فوق كل شيء. أحسّ بانّ الزمن يشدّني بقوّة من يدي وينتزعني من عالم نسجته بأحلامي، كنت أقف بقدم هنا وهناك، لكن انتهى الوقت. شعور محبط، حتما أشدّ مرارة من اعلان مشغّل ألعاب الملاهي بانتهاء وقت اللعبة، او اعلان الشاشة الالكترونية بانتهاء وقت لعبك (GAME OVER). 

ما لذي بقي لأفعله؟   بقيت "الحلقة الأخيرة" أن أستلسم وينتهي كلّ شيء، او أن أسير بجمود في الفراغ، كما تفعل الألعاب الالكترونية بعد خسارتها بالاستمرار بحركة تكرارية بلا هدف وستظل الى الأبد الى أن يعاد اطفاؤها! كيف تفضّل نهايتك؟ استسلام معلن أم سير وإكمال بلا فائدة؟


لطالما كان الاستسلام شاعريّ وباسلا بكل جدراة! لم أنسى المعلومة التي لا أذكر من أين أتت، تقول المعلومة: بأن المحارب في عهد الرومان عندما يشعر بالهزيمة ويرغب في انهاء كل ذلك الصراع بعد طفق من صرخات جماهير "الكوليسيوم"، يجثو على احدى ركبتيه وينزل رأسه ويرفع يده اليسرا معلنا استسلامه، عندها يأتي الخصم لينهي كلّ شيء سريعا ويموت. "أديت ما عليك"، ربما كان أسيرا، فلاحا أو شخصا لا يرغب بالقتال، تمنّيت لو أربت على كتف كلّ المستسلمين في ذلك الزمان. منذها وجدت في الاستسلام لحظة شاعريّة ورثاء يستحق التأمل. " I am tiered boss" بهذه العبارة طلب كورفي من الشرطي إدجيكامب السماح له بالاستسلام بسلام، في فيلم، The Green Mile (1999) . بل من منّا لا يعرف رثائية مالك بن الريب لنفسه؟ وهل تعرف رثائية الصمة القشيري؟ لحظات الاستسلام الأخيرة مهيبة. وبخلاف ما تبدو، لطالما وجدت فيها الكثير من الشجاعة، هكذا ظهرت في ذاكرتي الطفولية -ولا أدري إن كان ذلك هو السبب- إصرار بلاكي على الاصطدام بدوق فليد لينقذ سيده قاندال، وبعدها بحلقات طوال، محاولة جاندال نفسه للاصطدام بدوق فليد لينقض فيجا الكبير، في مسلسل الأنمي الشهير "جرندايزر"، استسلام ينمّ عن تضحيات، تشبه المحاولات اليائسة للجنود اليابانيين في الحرب العالمية الثانية (الكاميكازي مثال)، لعلّ تلك الروح شعر بها مؤلفي  الانمي دون وعي منهم. تلك الروح تتلبّس صنّاع الأعمال كثيرا، في بداية رواية "لعبة العروش" لجورج مارتن، بيأس اندفع السير وايمار رويس صارخا في وجه قاتليه "لأجل روبرت" ومات في غابة يلفّها البرد والثلج أمام قاتلين مجهولين، دون أن يعرف عنه أحد بما فيهم روبرت نفسه، لحظات استسلام لا تُسمع صيحاتها الأخيرة، من سمع وايمار وهو يصرخ  سوى المؤلف؟ و روبو، الملقّب بالذئب البشري، في أنمي "مخلص صديق الحيوان" من سمع عبارته بعد أن  استسلم  للصياد الذي أوقعه بالفخاخ ووضع جذعا على فمه وقيده! من سمعه يقول :" لقد هزمتني فافعل بي ما تشاء" باستثناء المؤلف؟. كانت لتكون نهاية عادية لو لم يخبرنا المؤلف.  في مشهد وثائقيّ شاهدته، لا يمكن نسيان النظرات الوادعة لقرد صغير يطوّق فكّه نمر يحمله وعلى وشك أن يأكله! كان القرد ينتظر مصيره بسلام واستسلام. لعلّ لحظات السلام تلك، اللذة الأخيرة التي يذوقها المستسلمون، بعد كل تلك لمعارك، آن لكل ذلك أن يستريح. وللمهزومين والمستسلمين بطولاتهم التي تستحقّ الاحتفاء. كم واحدا رحل دون أن يُذكر وكانت في جعبته أحلام تفوق عالمه، ما هو شعوره يوم يجد أن كل ذلك ينتهي، ويزول، كأن لم يحلم، كأن تلك الأحلام ليست له، ليست من عالمه، مثل الكلمات الأخيرة، لروي باتي، الانسان الآلي في فيلم Blade Runner (1982) " كل تلك اللحظات ستضيع في الزمن، مثل دموع في المطر"، لا أحد سينصت لدمعة وسط كلّ هذا الزخم.


 شعور مرير، أن تذبل قبل أن تزهر أحلامك.


وبعد كل ذلك، هل من خيار غير الاستسلام؟ هل ألقي ما في يدي وأسير بلا هوادة الى النهاية أم استسلم وأقرّ بنهاية كلّ الأحلام؟ على أن عبارة "قاتل حتى النهاية"، أكثر شيء سمعته في ذاكرتي، في مشاهداتي للأعمال الطفوليّة منها بالذات، بدت وكأنّها عبارات تشجيعيّة، تنطلي على أطفال بعمري حينها وآمنت باكرا، باكرا أكثر من اللازم بأنها خديعة مع الأسف، لكنها عادت ومن باب أنمي ، كان السبب في اعادتي لمشاهدة الأنمي بعد سنوااات الانقطاع، "هجوم العمالقة" وصوت ايرين الذي جاء إليه من الأعماق يقول "قاتل .. قاتل .." أحببتها بصوتها الياباني "تاتا كاهيه .. تاتا كاهيه..". بمثل تلك المشاهد والعبارات أعاد "هجوم العمالقة" حماسي للأعمال التي أحببتها، وإن لم تحقّق شيئا، دع روحك لاحقا تشدّ على كتفك وهي تقول "فعلت ما في وسعك".


عبثا لا أدري ما لذي أحاول قوله وترتيبه في كلماتي العبثيّة تلك، الأمر ببساطة، أني شعرت بأني أقف في لحظة جرّدت فيها من كلّ أمل في أحلامي وأفكّر في الاستسلام والتخلي عنها بطريقة تليق بما كنت أحاول فعله أو أن امضي بسير لعبة عليها عبارة GAME OVER   

بين الاستسلام، والمضيّ قدما، كلها لحظات شاعريّة تمرّ في حياة الانسان. يحاصر المرء تفكيره "ما من جدوى" إلا أن ايمانا داخليا يشعرك بأن شيئا ما يستحقّ أن تسلّ  جهدك وتندفع صارخا في وجه حياتك على غرار السير وايمار قائلا " لأجلك يا .. " وإن لم يسمعك أحد، أو مؤلف أنت في حكايته، على الأقل يقينا ربّك يسمعك كلماتك تلك.    




 

الجمعة، 23 مايو 2025

-37-

 وجهي مفكّك، هكذا أشعر فعليّا. لم تعدّ أعضاؤه مشدودة وأصوات الصرير مزعجة. هل ركل أحدهم  وجهي؟ أذكر أني قلت لو رأيت نفسي في عمر معيّن لركلت وجهي! لازلت ناقما على نفسي ولو أن الوتيرة خفّت قليلا، يا لتهوري! بعد العناء الذي أعيشه أدركت حماقتي. كيف اعتبرت الملاكمة يوما رياضة مفضلّة؟ أحببت فيها "فارس الفتى الشجاع" وشخصية كارلوس ريفيرا في "جو  البطل". استهنت كثيرا بالعناء الذي يمكن أن يسببه تحطيم وجهي. حتّى التكنيك الذي تخيّلت أتقانه ينمّ عن تهوّر، كنت سأدخل الحلبة وأمتصّ حماس الخصم بالسماح له بتوجيه لكماته المتسرعة نحوي من حين الى آخر، الى حين يملؤ الغيض قلبي وأشعر برغبة عارمة بالانتقام، المشكلة أني لا أغضب سريعا وقد لا أغضب إلى حين تحطيم وجهي، وماكنت متأكدا منه أني كنت سأنهي الخصم بلكمة واحدة، تماما كما فعل كارلوس ريفيرا في احدى النزالات، عندما وعد بالفوز من الجولة الأولى، ترك كارلوس النزال لخصمه وبعد اندفاع الخصم والقاء نفسه بحماسه تفاداه كارلوس بنزول مفاجئ ليجد الخصم نفسه مكشوفا، ويحدّق في عينيّ كارلوس بالأسفل والرعب يملؤ قلبه وهو يشاهد قبضة كارلوس تدفع بسرعة على فكّه! النصر وحده يكفي لتضميد جراحي وعلاج كدماتي، وهتافات الجمهور كافية لإنعاش قلبي وإعادة تنفسي. كل ذلك بالحلبة وبعدها يعود الملاكم الى غرفته وتبدأ العظام والعضلات والمفاصل المفككة في وجهه بالصراخ في وجه وتأنيبه. صراخ لا يسمعه أحد غيره. 


لا أدري لكن، أحدهم ركل وجهي ووجه لكماته نحوي، ولازلت واقفا أملؤ غيضيّ وأشدّ قبضتي لكن لا خصم أمامي .. ولا جمهور ينتظر ضربتي .. لا أحد  إلا أنا. أتلقّى الضربات وصرخات عظامي ومفاصلي وحيدا في غرفة تملؤها الفوضى وملابس الأيام الفائتة ونافذة تتثاءب ستارتها على كسل. وعلى طاولتها بضعة أدوية مرميّة بإهمال لعلاج الكدمات.