الأربعاء، 19 سبتمبر 2018

-١٦-

-١٦-




مدينة  كانت تشعرني بالضيق كلّ مرّة أدخلها أقع في مأزق شوارعها وتحويلاتها التي  لاتنتهي فأبحث لاهثا عن أقرب مخرج منها الى مدينتي القريبة. عرفت لها أربعة  مداخل إلا أنّي لم أدري يوما كيف يمكنني الخروج منها. لهذا كنت أتحاشى  الذهاب إليها وأتضايق كثيرا عندما أجد نفسي مضطرّا للذهاب؛ كلّ شيء في  مدينتي لم يكن كافيا. لا أحد يتذمّر من كثرة التحويلات التي كانت تغيّر  مسارها في كلّ مرّة نحفظ الطريق إليها. والطرقات السيئة، لم يكن أحد يتذمّر  كان الوضع سيئا لدرجة أنّ عدم تذمّر الناس كان يبدو طبيعيّا وأمر  اعتياديّ. كنت أستغرب، الكثيرون  كانوا يمدحونها ويقولون كلّ شيء جميل فيها وأنّني لا أعرفها، وأنّني واهم عندما أقول بأنّ مدينتي المرتّبة أفضل منها. وأستغرب من رفيقي الذي كان يجرّني إليها في عطلة نهاية  الأسبوع للتمشية، لا شيء فيها يدعو للبهجة هكذا أقول لكن لا أدري من أين  يأتي رفيقي بكلّ تلك الأماكن الجميلة فيها؛ فالمكان المفضّل لديّ  لم يكن  إلا أقصى طرف فيها أي أبعد شيء منها. عندما أعود وحدي إليها أتوه فأكرّر  كلّ  لعناتي السابقة، كان الشتم بصوت عالي هو الشيء الوحيد الذي يشعرني  بالراحة فيها. لكن الغريب أنّي في كلّ مرّة آتيها وأعود ضائعا كنت أمرّ  بنهاية يومي بالذات -أيّ عندما يهمّ الجميع بإقفال محلاتهم والعودة لأخذ  ماتبقّى من وقتهم ليكملوا سهراتهم كلّ في مأواه- كنت أشاهد طريقا في غاية  الروعة، كانت إنارته بهيجة لأبعد حدّ، تشبه مدنا حلمت بها أو بالسكن فيها.  كان الجلوس على رصيفها والاستماع لصخب الناس والسيّارات فيها كافيا لقضاء  وقت ممتع. أين كنت كلّ هذا الوقت عن هذا الشارع؟ فكنت في كلّ مرّة أقفل  راجعا أعقد العزم على زيارة ذلك الشارع في هذه المدينة البغيضة. أعود وأتوه  كالعادة ولا أجد ذلك الشارع وعندما أعود شاتما هذه المدينة على ضياع عطلتي  أمرّ بنفس الشارع أو لا أدري غيره ولكنّه مثل الأوّل، في غاية البهجة.  المكان يبدو سعيدا لا أدري كيف شعرت بذلك. كنت أغبط نفسي لاأنّي أخيرا  توصّلت الى هذا المكان مع عزم للعودة إليه في أقرب فرصة، كانت تراودني فكرة  المشي فيه والتعرّف على كلّ محلاته عن قرب. ولكن لفرط بهجتي لم أفكّر في  قراءة اسم الشارع. أضحت هذه المدينة لغزا أدخل اليها لا أرى فيها إلا ما  أكره ومايشعرني بحسرتي على وقتي ولكن عندما أهمّ بالرجوع غاضبا أمرّ على  ذلك الشارع الذي يواسيني. لم أكن في كلّ مرّة أفلح بالعثور عليه، وماكان  يغيضني هو أنّي عندما أصف الشارع لرفيقي لم يكن -على معرفته الجيّدة  بالمدينة- قادرا على معرفة هذا الشارع من خلال وصفي، كنت أقول "الشارع الذي  كنت أقول لك لحظة مرورنا فيه: فلنعد إليه في يوم ما" لكنّه لم يذكر! هل  كنت أحلم؟ بدأت أشعر بأنّ الجميع يخبّئ عنّي هذا المكان أو هذه الأماكن  عنّي، كان مدحهم للمدينة التي أجدها بغيضة ينطبق على تلك الشوارع أو الشارع  الذي كنت أمرّه. وكأنّي في غفوة كنت أمرّ به وأستيقظ واصلا إلى مدينتي دون  أن ألتقط إسم ذلك المكان. كان الطريق طويلا الى الحدّ الذي يبدو فيه كافيا  لاستيعاب أوقات فراغي. حديث الإنارة الطويل ذاك كان شيئا لا يُنسى، كان  مثل حكاية مرئيّة تشاهدها عيني بكلّ  سرور وفي كلّ مرّة حكاية جديدة، لأنّ  الشارع كان حيّا الى درجة أنّ المحلات تتجدّد مضيفة بإنارتها بعدا  للحكاية. 
تلك الأضواء لايمكن أن تُنسى. 
دام  الأمر طويلا، بل أكثر من سنة أو سنتين وعندها عرفت ذلك الشارع، كان مدخلا  للمدينة، لم أعد أدخل المدينة تلك الا من خلاله. كان المرور به يكفيني. لا أستطيع أن أصف سعادتي فهي ليست بتلك الدرجة التي تجعلني أهلهل وأعبّر بحماس عنها لكنّي كنت مسرورا بعمق وكأنّي أخيرا وجدت كلّ المدح الذي قيل فيها مختبئا هنا. على  سعادتي بذلك المكان لكنّي كنت أشعر بنقص ما في ذلك المكان، لا أدري هل كنت  أخدع نفسي به أم لأنّه بات مألوفا. 

مضت  سنوات على ذلك حاليّا المدينة الكريهة باتت جميلة، إنّها تفاجئني، ولكن  الناس يغيضوني. فهم لايذكرون كم تحسّنت وباتت أجمل وأكثر مايثير غيضي هو  أنّ عدم انتباههم لذلك بدا أمرا طبيعيّا.

واليوم  بالذات مررت بشارع كان مختبئا، إنّه يذكّرني بذلك الشارع الحلم، بعد كلّ  هذه السنوات عرفت لم بدا ذلك الشارع الذي عرفته ناقصا. الواقع أنّي عثرت  على مكان واحد من تلك الأماكن واكتفيت به على شعوري بنقصه لكن صدفة اليوم  وجهت صفعة عتاب أليمة على وجهي لأرى هذا المكان أو الشارع الذي مررته لهذا  اليوم يعاتبني على وصولي متأخرّا بعد كلّ هذه السنين.   

بقي أن أسأل نفسي: هل أحبّها؟
الواقع أنّي الى حدّ الآن لا أملك شعورا مكتملا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق