الخميس، 6 سبتمبر 2018

أبجديّة الأشكال في لوحات جورجيا أوكيفي

عند مشاهدتك للحرف "ح" لاشكّ  بأنّك ستستشعر صوت احتكاك الهواء في حلقك وإن لم تنطق هذا الحرف. الحرف يترك أثرا في ذهنك وكذلك الألوان كأن يشعرك اللون الأزرق بالسكون والبرد أو أي شعور -يبدو أنّ ذلك يعتمد كثيرا على الشخص نفسه وذاكرته- حتّى الكلام له أثره فلو قلت لك "حصان" ستبرق أمام ذهنك صورة حصان خاطفة. وكأنّ كلّ  تلك الأشياء الهامشيّة التي تمرّ على حواسك نقرات كيبورد تنقر في ذهنك لتشكيل جملة ذهنيّة في بالك. جملة لاتُدركها بوصفك ولكن تدركها بانطباعك. حتّى الخطّ المستقيم يمنحك شعورا أو انطباعا عنه، خطّ أنيق أو متوتّر أو حادّ. دلالات تصل اليك بالمنطق ولكن مايعنيني الدلالات التي تصل بلا منطق معيّن، بل تصل بشكل غير مفهوم وعصيّ على الفهم. قد تجد شكلا في لوحة تجريديّة (بلاعنوان) يشعرك بالإرتياح وأحيانا العكس. ليس لأنّه يذكّرك بشيء بالذاكرة بل بما قبل الذاكرة، شيء أصيل في تكوينك. وكأنّ كلّ زاوية وركن وخطّ وانحناءة في شكل ما تعطي نقرة كيبورد خفيّة الى جانب ماتجسّده. أو لنقل بأنّ كلّ  شكل هو حرف من أبجديّة يتقن كتابتها بعض الفنّانين وتقرؤها بشعورك

كذلك الشاعر، الموسيقي، الرسّام يخاطبك لا بالخطاب الاعتياديّ الذي يتشكّل وفق مفهوم مشترك، بل بمثل هذه الإشارات الغير مباشرة أو الانطباع الجانبيّ. 

  حديثي عن اللوحات أي عن الأشكال من هذه النقطة. يمكنك فهم لوحة مكتملة الأركان والتفاصيل ومعرفة كلّ مايودّ الرسّام قوله ولكن الحديث عن من لم يرسم الكثير من التفاصيل، بل رسم جزءا بسيطا -من كلّ - وكأنّه بذلك ترك لك حرفا يدلّ على جملة. إنّ الأشكال التي رسمها تترك أثرا في نفسك وذلك الأثر ليس عبثيّا بل كأنّ الفنّان أدرك قدرة الأشكال التي يرسمها على التعبير.

الرسّامة الأمريكية: جورجيا أوكيفي ١٨٨٧-١٩٨٦م



  

لعل أوكيفي أكثر اسم نسائي يمتاز بالأصالة أو التفرّد في عالم الرسم. رغم كثرة الأسماء إلا أنّها ظلّت لسوء الحظّ قرينة لأسماء رسّامين رجال أو لنقل تشبه لوحات رسّامين معيّنين الى حدّ ما- على كلّ  حال العديد الرسامين الرجال كذلك-. بداية من الايطاليّة ارتيميسا جينتليسكي ١٥٩٣-١٦٥٣م إلى الرسامة ماري لويز فيجيه لوبرن بنهاية الملكيّة بفرنسا وعودتها. وصولا لفنّانات عادة لايتمّ ذكرهنّ إلا ضمن مجموعة مثل الانطباعيّات بيرت موريسو وماري كاسات وبدرجة أقلّ ايفا غونزاليس. لموريسو لوحات مشهورة ومميّزة تشعر بأنّها جديرة بأنّ تكون ذات أثر مهمّ ومُعترف. لكن لعلّ السبب مع الأسف كونها إمرأة ويصعب فعلا الجزم بأنّ هذا السبب وحده ليس كافيا. حتّى فريدا كاهلو يرتبط الحديث بها وبحياتها وزوجها ريفيرا وعلاقاتها أكثر من فنّها لكن الوضع كلّه مختلف مع أوكيفي في كلّ  شيء حتّى في تعاطيها مع فنّها، بل إنّها لم تكن حاذقة فقط في مجال رسم الأشكال والتقاطها بل بالصور التي تؤخذ لها، تشعر بأنّها جزء مكمّل للوحاتها. تقليب صورها وبيتها المعزول وتأملّها لاتقلّ  روعة عن تأمّل لوحاتها. 
باختصار هي فنانة صنعت مكانتها بكلّ أريحيّة. حتّي اسمها المكتوب  Georgia O'Keeffe يبدو شكلا فنيّا (":









أشتهرت كثيرا زهور أوكيفي وتفاصيلها التي تبدو وكأنّها تشير إلى شيء\شعور نعرفه مع الشعور بأنّنا لسنا متأكّدين من ذلك. أبعد من كونها رسمت لتبدو قريبة من العضو التناسليّ للمرأة، الى الحدّ الذي يجعلنا نفكّر بما يعنيه ذلك في زهرة؟ أو الى الحدّ الذي يجعلنا نتساءل لماذا تبدو وكأنّها توحي تموّجاتها وكأنّ شيئا ما سينبثق من اللوحة؟ أي أنّك تتأمّل اللوحة وكأنّك في حالة انتظار لشيء ما. 
















ان طريقتها في رسم المناظر الطبيعيّة تعبّر عن فهمها أو لنقل صوّرتها بالشكل الذي يجعلك تشعر بطباع الطبيعة وكأنّها بورتريه لشخص توحي ملامحه بطباعه. التفاصيل البسيطة والتي عشقها الفنّانون بالخطوط اليابانيّة الأنيقة هي كذلك مع لوحات أوكيفي لكن ليس بالاعتماد على الخطوط بل على تموّجات الأشكال بالألوان




حتّى الزوايا تعطي انطباعا خفيّا، بعض الزوايات لها القدرة على ايصال ذلك الشعور الغير مريح والذي ينتابك بمثل هذه المدن. أو كأنّ الزاوية منحتك موطئ قدم بالمكان الذي تصوّره اللوحة





'


لم يكن شكل الصليب أساسيّا في أغلب اللوحات التي صوّر بها، كان أداة لا أكثر ولم يعطي شعورا بارزا. كان يظهرا في لوحات مزدحمة بالأشخاص والأشكال في حين أنّه هنا وبهذا الشكل بدا قادرا على منح شعور لم تمنحه كلّ الأشكال التي كانت معه في تلك اللوحات  





من أشهر الرموز التي رسمتها أوكيفي. لعلّه أكثر رمز قادر على أن يجعلنا نفهم الطبيعة التي صوّرتها أوكيفي. تلك الصحراء والتي لطالما تغنّى البشر بقسوتها التي بدت لهم شيئا يستحقّ التبجيل. هذا الرأس يمثّل الموت وقسوة الصحراء وكم يبدو غريبا أن يكون شكل يدلّ على الموت مثيرا في جماله. توجد الكثير من اللوحات التي صوّرت جماجم بشريّة من قبل أشهر الرسّامين. لكنّها لا تمنحك إلا شعورا عاما. لعلّ  عِظم قدر الموت بالنسبة للإنسان تجعله غير قادر على أن يبعد الموت من تصوّراته حين يرى جمجمة مرسومة، فيقف عند الشعور بذلك المعنى. في حين أن جمجمة حيوان قادرة على أن تجذب اهتمامه حول تصوّر البيئة التي كانت تعيش فيها ويتلمّس أثر نحت الزمن عليها. 
لعلّ  أوكيفي أدركت مدى قدرة هذه الجماجم على التعبير، لذلك رسمتها بعدّة هيّئات. بشكل أنيق وكأنّها زينة معلّقة على جدار الطبيعة، تماما كما يفعل الصيّادون في بلدها بتعليق رؤوس الحيوانات التي اصطادوها.








  ومن أبرز مايمتاز به فنّها أنّها تدرك مقدار التأثير الذي يتركه أبسط شكل في اللوحة. تماما مثل البقعة الحمراء التي جعلت لوحة تيرنر تجذب الانتباه عوضا عن لوحة كونستابل. ومثلما يترك وستلر شيئا من أثر الفرشاة هنا وهناك في لوحاته.












ليس لأنّها صاحبة أغلى لوحة بيعت لفنّانة تستحقّ لوحاتها التأمّل. بل لأنّها بدت وكأنّها قادرة على جعل الأشكال تقول مالم تستطع الأشكال سابقا قوله. والى جانب كلّ ذلك ليس غريبا أن تجد كتابا لا يحوي إلا صورها - خاصة التي التقطها زوجها لها- وصور بيتها والبيئة التي عاشت فيها حتّى طبيعة حياتها مميّزة.








للأسف يصعب كثيرا أن نصف بعض شعورا خفيّا يكمن فينا فكيف في وصف ما تمنحه بعض الأشكال فينا. ما كلّ شكل يمنح نفس التأثير عند كلّ  شخص ولكن أشكال معيّنة لها القدرة على منح تأثير محدّد عند قدر كبير من الأشخاص. تلك الأشكال الفنّانون يدركونها كما يدرك الشاعر تأثير بعض الكلمات والتعابير. 

الرغبة في قول شيء، هذا ما أستطيع قوله حول الأشكال التي تبدو في لوحات أوكيفي والتي لايشبهها إلا صورة شخص يبدو وكأنّه يودّ أن يقول لك شيئا ولكنّه لايقول لأنّه محبوس داخل الصورة ولايمكنك أبدا أن تعرف ماسيقول بالضبط ولكن يمكنك أن تشعر نسبيّا بما يودّ قوله 

 تحويل الأشكال لأبجديّة تخاطب الشعور هو عمل برع فيه العديد من الفنّانين ولعلّ أقرب مثال كاندنيسكي وماليفيتش وبول كلي و أوكيفي برعت بذلك بأسلوب أكثر خصوصيّة

قد لا أكون معجبا كثيرا بجمال لوحاتها ولكنّي معجب بقدرتها على التعبير بشعور ما ينتاب من يتأمّلها




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق