الأربعاء، 25 ديسمبر 2019

زائرة لازالت تمشي في الأفق








فَتَحت باب الغرفة منزوعة المفاتيح دون طرقه و قالت :"إنها قادمة لزيارتنا. انزل و ارقب قدومها عند الباب". أوقفتُ شريط الفيديو الذي كان يُكرر  الحلقةَ الثالثة للمرّة الثالثة. كانَ الجوُّ أقرَبَ للشتاء، للتوِّ بات بالإمكانِ رؤية الحلقات دون إزعاج المكيّف.
‏لَم أتضايق كثيرًا رُغم اندماجي مع الحلقة بعدَ مُضيِّ نصفها أخيرًا. أوقفتُها عندَ لقطةٍ متحفزةٍ، تنتظرُ وصولي لإكمالِ المشهد.

‏خَرجتُ و نَزَلتُ الدرَجَ كعادتي راكضًا و قافزًا فوقَ آخرِ ٤-٥ درجات ظَلَّت تَكبرُ معي. صوتُ ارتطام قدمَاي أَعلنَ حُضورِي للجميع بالدورِ الأسفل. على أَن مظهري يُوحي بسعادتي إِثرَ قَفزي، لكن لا أحدَ من البيت ظنَّ ذَلك. كانَ طَلبُها كافيًا لِكَسرِ رُوتيني؛ لهذا قفزتُ احتفاءًا بهِ.

‏المسافةُ التي تَفصلُ بابَ المبنى عن السُّور كانت طويلةً و سَمحت لي بالجري ليصطدم وَجهي بالهواءِ البارد. غَسل الهواءُ وَجهي طاردًا ما تبقى من خمولٍ و كسل. ركلتُ البابَ حتى يرتخِي سِنَّه ليفتح -بعد سنوات سيتطلبُ ركلةً أقوى مِنها- خَرَجتُ، صوتُ احتكاكِ الحجارةِ تحتَ قدمي يَحكني من الداخل. ذخيرةٌ لا تنتهي؛ لرميِ الجُدرانِ و المسافات

‏مشيتُ مبتعدًا قليلًا عن بابِ البيت. كأن حبلًا مشدودًا يشدُني إِليه. وصلتُ حدًا لا يمكنُ الابتعاد عنه. أصوِّبُ النظرَ بعيدًا، مُخترقًا الطريقَ بين بضعةِ بيوت عابرة مساحةً خاليةً من الحجارة و النباتاتِ اليابسة -يقال أن الجرابيع تجري هناك بعد أن طوقتها المدينة- وصولًا إلى قصرِ أفراحٍ يغطُّ في سباتِ مُنتَصفِ الأسبوع. و فوقَ طلعةٍ مرتفعة يمكنني رؤيتها تمشي. "وحيدة؟ ليسَ بعد واحدةٌ تمشي بالاتجاه نفسه تبدو قريبة منها، لا اعلم إن كانت برفقتها" تساءلتُ "لعلها أبعد منها؟" 

‏لا زالت تمشي. على مسافةٍ ما، كان هناك بيتٌ يُبنى يقف أمامهُ كَثيب رمليّ أبيض، بحجم ملءِ اليد من مكاني. لا أدري لِمَ أتخيّل صوتَ احتكاك قدميها بالأرض والحشائش هناك! لطالما قطعتُ ذلك المكان ماشيًا و راكضًا؛ لهذا يمكنني أن  أتخيَّلَ مسارَ صوتِ الأقدام. 

‏لا زالت تمشي. رائحة القهوة بدأت تُطل من نافذة منزلنا. الكتلةُ الرملية لَم تعد موجودةً، أو لعلها أُزيلت. إلا أني رأيتُها أمام بيتٍ آخر يُبنى. البناء السابق اكتمل، و بدأ النظر يضيق قليلًا في الأفق.
‏"هل تحركت كتلة الرمل خلسةً؟"
‏ذلك الكثيب الرملي في كل مرّةٍ يتحرك يكتمل مبنىً و يضيقُ معه الأفق أكثر. الأهم زائرتنا لا زلت أراها. بدأتُ ألحظُ طريقة مشيها. "إنها تشبهها، لكن اليد بعيدة قليلًا لأتمكنَ من الجزم بأن تلك التلويحة يدها هي حتى أجزم بهويتها."

‏الهواءُ بارد و الأشجارُ ترتعش و صوتُ النَّخْل مُنعش. لا تزالُ تمشي بهدوء. ليس عليها قَطعُ شارعٍ معرض لغارات السيارات. لا أحدَ إلا العابرون إن وجدوا حينها، و الجرابيعَ إن كانت هناك. أمَّا السحالي، فإني أذكرها. و قد تَعلَّمنا احترامها، و لا أحدَ منَّا يريدُ من أُم السحالي أن تنتقمَ مِنه. 

‏ألتقطُ حجرًا، أُجرِّب الرميَ بعيدًا. بيتٌ آخر اكتمل! شريط الفيديو لا زال ينتظر، الحلقة تنتظرني! متى تصلُ زائرتنا لأكمل المشهد؟

‏لم تَعد الأحجار موجودة. أمشي قليلًا -الحبالُ قُطعت- لم أعد أسمع صوت احتكاك الأحجار التي تنجرفُ مع كل خطوةٍ مِنِّي. أعثر على واحدةٍ دَحرَجَتهَا من بعيدٍ الأقدام. أقذف بها. الرمي بات أبعد، و زائرتنا لا تقترب



‏سيارة تعبرُ أمامي، قاطعةً لأول مرةٍ الطريق عن بصري. أثارت غُبارًا حجب عنّي رؤية زائرتنا. كانت آخر سيارة تثيرُ الغبار. السيارات باتت تقطع الطريقَ أمام بصري أكثر. زائرتنا باتت تلتفت -تبدو كذلك- وغيَّرت رُتم مشيها -أتخيل ذلك- و سيارة من عندها تلوحُ بالأفق.

‏عَبَرَت عندها أَكمَلَت زائرتنا المسير. جهاز الفيديو بانتظاري على أحرِّ من الجمر! تَركُه كل هذا الوقت مشتغلًا يشعلُ حرارتةَ انتظاره. كان هذا السبب الوحيد الكافي لجعلهِ يُطفأ ليلتقِط أنفاسه. كأني لم أشاهد نفس الحلقةِ مرتين! أتساءل "ما كان سيحدث؟" وكأن المشهد لن يتكرر للمرة الثالثة. و كأن زائرتنا لن تتكر

‏عَبَرَت الشارع الذي كانت تعيشُ فيه الجرابيع و تعبره السيارات المثيرة للأتربة وصولًا للسيارات التي تسير بسرعة جنونيَّة دون إثارة أي ذرة غبار. عَبَرَت قبلَ أن يلحقوا بها. المكان لم يعد مظلمًا. أعمدةُ الإنارة تضيء ذلك الشارع بعد أن عَبَرَته. كما أن أعمدة إنارةٍ غيرها باتت تملؤ الحيَّ الذي أسكنه بالنور.

‏الحجارة لم تعد موجودة. كما أن رمي واحدةٍ منها، سيجعلها عرضة للاصطدام بأحد الذين باتوا يخنقون المكان جيئةً  وذهابًا. الكثيب الرمليُّ لم يعد موجودًا أمام أيِّ مكان. دَفعَتهُ البيوت بعيدًا عن حيّنا. رائحة القهوة تملؤ المكان، تطل من عدة نوافذ.
‏الزائرة لم تصل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق