ملء الغرف بالأثاث والزوايا وبتعبير آخر ملء الفراغ، هل يمكن أن نقول بصورة أخرى أنه رسم أو نحت للفراغ لإعطائه شكلا؟
عند دخولك أي غرفة أو مكان مغلق بطبيعة الحال مليئة بالأثاث والزوايا وهي بالمجمل تشكّل شكلا لها وللفراغ بالنهاية. يمكن تقييم مدى جمال الأشياء الماديّة أكثر وبصورة أقل الفراغ "الذي يسبح فوق أسطح الأشياء بتعرجاتها" فوق وعلى جنبات الزوايا وقطع الأثاث ويأخذ شكلا بالنهاية . لو غمرنا المكان بالماء ثم جمدناه وأزلنا قالب الثلج الناتج، سيكون له شكلا وهو انعكاس ماهو موجود من مواد وزوايا وقطع. بكلّ الأحوال المصمم لم يصمم ذلك القالب من الفراغ بل وُجد كانعكاس لما قام بتصميمه.
السؤال: شكل الفراغ هذا، هل نشعر أو نعلم أو نراه في باطننا دون أن ندرك؟ هل يحدث ذلك من دون وعي ويكون له أثر بالغ على ارتياحنا في المكان نفسه؟
Ando Fuchs
كيف يمكننا أن نفهم بأننا نشعر بهذا الشكل من الفراغ دون وعي؟
(سقف الغرف) لو نسخنا غرفتين وجعلنا احداهما ذات سقف منخفض والأخرى ذات سقف عالي. سيحدث ذلك تغييرا كبيرا، يشبه الاختلاف بين شكل "المستطيل" و "المربع". رغم أن مساحة الغرفة لم تختلف ولا توزيع القطع والمواد، لكن الغرفة اختلفت كثيرا، وأثرها على الشخص أيضا. كلّ هذا أحدثه تغيير شكل الفراغ، وبصورة أدق كتلة الفراغ. ولو أدخلنا على السقف تعديلات شكليّة ليست بالزخارف والأبعاد التي يتضح تأثيرها بسهولة، بل تعديلات مثل انحناء زوايا السقف بطريقة معيّنة "ربع دائرة مثلا" أو بزاوية مكسورة على 90ْ هل سيحدث ذلك فرقا؟ وهل الفرق سينجم عن شكل زاوية السقف المنحنية أو المكسورة نفسها أم بالفراغ الناجم عن ذلك؟ يمكننا أن نقول بأنّ زوايا الأسقف تحدث فرقا بالفعل وعلى افتراض ذلك لماذا نجزم بتأثير الفراغ الناجم من زوايا الأسقف ولا نجزم بالفراغ الناجم من أسطح المواد والأثاث نفسه؟ ولو أجزمنا بتأثيرها نعود ونقول: هل ذلك ناجم من الشكل أم من الشكل الناتج بالفراغ؟ وعندما نقول مكان مريح، أثاث مريح، هل يعني ذلك أنه جميل؟ إذا كيف يكون العمل الفنّي مريحا -على اعتبار أن التصميم الداخلي عمل فنّي كذلك- هل نقول ذلك عند اعتباره عملا جميلا؟ بالنسبة للمكان والقطع، هل نقول مكان مريح بفضل الكرسيّ المريح فيه وباقي أدوات الراحة، أبفضلها نقول عن المكان مريح؟ أم لأسباب تتعدّى ذلك؟
ولو جزمنا بأن التصميم الداخلي عمل فنّي، أيعني ذلك أننا سنجد ما يتوافق بالمعنى استخدام كلمة "مريح" لوصف جمال عمل فني آخر وليس تصميما داخليّا؟ هل من مقاييس جمال العمل الفنّي أن يكون مريحا؟ لعل علينا أن نعود إلى معنى كلمة "مريح" باختلاف لغاتنا ان كنّا نؤمن بدقة إطلاقاتنا وتعابيرنا العفوية وكيف أنها عميقة إلى حدّ أن المفردة المختارة تحيط بالمدلول بكافة مرادفاتها (معانيها المعجمية) هل ماهو مريح بالفن (التصميم الداخلي) له رديف بالأعمال الفنية الأخرى مثل الرسم والنحت وغيره؟
Jesus Perea
في سبيل محاولتنا معرفة قيمة الفراغ، من خلال توزيع المواد والزوايا علينا أن نتذكّر أن ذلك سيعتمد على "ثلاثة أبعاد" في حين الرسم مثلا يعتمد على "بعدين" لكن البعد الثالث بالرسم يتمثّل بالخلفية وتخلقه الأشكال والألوان. الموناليزا المزيّفة، تختلف عن الأصلية في أوضح صورها من خلال الخلفيّة، (كتلة الفراغ ذهنيّا) والتي يمكن افتراضها وفق الألوان والأشكال. البورتريهات تختلف كثيرا وفق لون الخلفيّات وحدها، بعضها قد تخنق الوجه والشخص المرسوم وتغرقه، تمنحه مساحة شاسعة، وكما عبّر شبنغلر بكتابه "تدهور الحضارة الغربيّة" عن عمق "البني السرمديّ" وأشار إلى عظمة اكتشاف هذا اللون بالبورتريهات وكيف أنه يمنح الشخصيّة المرسومة بعدا وعمقا وأنت تتأمّلها، كأنك تتأمل عمر الشخص نفسه. يعني أن اللون وتدرجاته سيتحكم ويغيّر كثيرا بكتلة الفراغ المفترضة بالأذهان.
أيضا الشكل (شكل الشخص وهيئته وكتلته الأمامية وتقاطع حدوده) والانحناءات الناجمة عن ذلك صانعة حدودا للخلفيّة. كيف يؤثر على شكل الفراغ باللوحات؟
عائلة رولين، رسم فان غوخ
يتضح ذلك كثيرا في لوحات فان غوخ بالذات، خصوصا رسمه لعائلة ساعي البريد رولين والدكتور جاشية. الخطوط فيها أنيقة وليّنة وفي غاية اللطف تمنحك شعورا مريحا تشبه نوعا ما الخطوط الأنيقة والميلان في الرسومات اليابانيّة.حدود الفراغ خلف لوحات فان غوخ لطيفة.
ولو قلنا بأن الفراغ الناجم بالنهاية شكل. وقبل ذلك لنعد للشعور المريح أو الإحساس المريح، هل لهذا الشعور أو الإحساس وزن أم شكل؟ هل له شكل (كتلة) أكثر مما له وزنا؟ وهل لهيئة الفراغ شكله (وإن كان غير مرئي بل شكل ذهنيّ) وزن وثقل نشعر به في قلوبنا (مثل أن نقول شعور ثقيل) ؟ لديّ شعور بأنّ شكل الفراغ له أثر على هذا الشعور بالراحة وفي حكمنا على المكان. كأن نقول بكلّ بساطة عن شيء بأننا لا نرتاح له -وفق شكله-. هذا الشكل الذي نشعر به ونراه دون وعي أكثر مما نراه مباشرة ويؤثر في شعورنا نحو المكان.
على كل حال وكما يصعب حكر الجمال بقاعدة أو نظام ثابت؛ بالإضافة الى تخبّط الأذواق واختلافها وتباينها توجد أمور أخرى غير مفهومة تجعلنا لا نفهم على وجه الدقة متى يكون الشيء جميلا أو لا كعمل فنّي لكن الأمر أقل ابهاما مع البشر والكائنات.
دائما ما أتخيل أن أثاثا مليئا بالنتوءات البارزة والطويلة بنهايات "شعيرية" -أو نهايات كنهايات أسطح كنيسة السيجرادا فاميليا- قد يخلق فراغا منفّر الشكل، يشبه بأطرافه الكائنات المجهريّة. مما يجعل المكان غير مريح. أتساءل إن كان ذلك ناجم من أطراف الأثاث نفسه أم الفراغ؟
الى هنا نحن نعرف بأن للفراغ شكل مؤثر لكن ليس له لون يرسم حدوده بدقّه. فراغ مجوّف، فكيف يمكننا الحكم على أثره وهو لايملك لونا وإن خمّنا بأن له هالة نشعر بها وبحدودها ما يجعل له شكلا تقريبيا يتشكل بالنهاية في أذهاننا، هذا الشكل "الهولوجرامي" الذي نجد أنفسنا -دون أن نشعر- أمامه وحتّى ونحن في داخل عمقه لا يخرج عن أذهاننا وجوده. إن ما يساعدنا على تشكيل الفراغ هو اللون والضوء. فهو يرسم حدوده بالزوايا والمساحات والأسطح والمواد. لهذا يمكننا أن نتخيّل أكثر بأنّ التصميم الداخلي عمل صعب. لا نستطيع القول بأن التصميم الداخلي والأماكن -بما فيها الطبيعيّة- تصمّم شكل هذا الفراغ بالأساس. بل هو نتيجة انعكاسية وإن كان جميلا ومريحا كان انعكاسا لما هو أجمل بالواقع. شيء جميل في نفسه وأثره (انعكاسه)
رينيه ماغريت
بالنهاية لنقس على الأشخاص في معرفة عمق الحكم وفق الفراغ وشكله. نحن نعلم لأي درجة بأننا لا نحكم على وجودهم بالأساس دون أن نحكم وبصورة أعمق على غيابهم وما يحدثه هذا الغياب -ولو فرضا- من فراغ. بل إننا وبلا وعي نراهم من خلال ذلك الفراغ الذي يمكن افتراضه