الثلاثاء، 27 نوفمبر 2018

قبل أن ألقي طفولتي في سلّة المهملات





قبل آن آلقي طفولتي في سلة المهملات قرّرت أن آحتفظ قدر الإمكان بما أمكنني في شريط "كاسيت" يحفظ أجمل الأغاني واللقطات في أفلام الكرتون. لم تعد الأشرطة متوفّرة وحفظها بات معقّدا كنت قد حفظت أغلب مافيها عن ظهر قلب، لطالما أعدت تكرار الشريط أكثر من مرّة في جلسة واحدة، لم يكن هنالك شيء لأفعله في بيتنا البعيد. قد يبدو الأمر غريبا ومرعبا لكنّي أدرك أن هذه الأشرطة تركت تأثيرها العميق فيني. لم أدرك كعادة أيّ  انسان كلّ شيء إلا متأخّرا اعتادت الأفلام كرتون أن تضيّق الخناق على الأمل  وفي الحلقة الأخيرة يذهب كلّ  شيء وتتحقّق الأحلام. كنت في قرارة نفسي أؤمن بأنّ كلّ كلّ أحلامي ستتحقّق في الحلقة الأخيرة من حياتي لكن الحياة ليست مسلسلا كرتونيّا! الآن أدركت بأنّ الحلقة الأخيرة من حياتي لن تنتهي بتحقيق شيء وأنّي لن أكون إلا شخصيّة هامشيّة رسمت على عجل في حلقة ما. لازالت ملامح الوجوه في أفلام الكرتون تعطيني فكرة عن الأشخاص الذين أقابلهم في حياتي، كنت أستعين بخبرة الرسامين في تحليل شخصيّات الناس من حولي وذلك مايجعلني ساذجا ولا أفهم بالضبط مالذي يعنيه الناس في تصرّفاتهم، إنّهم لايتقيّدون بما كنت معتادا عليه في الشخصيّات الكرتونيّة. لم يكن يزعجني أن أبدو غبيّا، لطالما كانت الشخصيّات الغبيّة طيبة القلب في عالم الكرتون. أحببت أن أكون طيّبا وإن جعلني ذلك غبيّا أمام الجميع. حلمت كثيرا أن أبدو شخصيّة كرتونيّة في عالم أفلام الكرتون لكن الأمر انتهى بي وأن جعلني شخصيّة كرتونيّة في الواقع، كيف يمكنني أن أشرح ذلك؟ إنّ ذلك يدفعني للحديث عن أشياء لا أودّ الحديث عنها في حياتي ومواقف ليست مخجلة ولكن لا أريد ذكرها ببساطة. حزنت غالبا عند كلّ حلقة أخيرة في أي مسلسل كرتوني أحبّه كنت أعيد مشاهدة الحلقة أكثر من مرّة طالما أنّها الأخيرة كنت بذلك أحاول أن لاتنتهي وتمنّيت أن أهرب من حياتي إليهم، كنت أعيد مشاهدة الحلقات زملا في أن يدعوني للإنضمام إليهم. على كلّ  حال أطفأت الجهاز ولم يدعوني أحد للانضمام اليه، لا الشخصيّات الكرتونيّة ولا الناس من حولي لهذا وجدت نفسي أعيش في برزخ خالي من الحياة. على كلّ حال لاشيء من ذلك يهمّ، أعود للحديث عن "كاسيت" الذكريات التي جمعتها. بطبيعة الحال أغنية (في قصص الشعوب) لأصالة و (جرندايزر) وصوت الكمان في أغنية (فارس الفتى الشجاع) وفيها أجمل قصّة حبّ شاهدتها في عالم الكرتون بعد (رانما ٢\١) والسبب أن قصّة الحبّ كانت هامشيّة. ولقطات من (ليدي اوسكار) بطبيعة الحال لقطات لنهايات معيّنة. وكذلك أغنية (جزيرة الكنز) الأجمل ولحظات الوداع المؤثّرة. في تلك الأثناء كانت أغنية (السندباد) تعرض على التلفاز فقمت بتسجيلها مع الجميع. وأغاني كثيرة لكن ختامها مع أجمل أغنية كرتونيّة (النسر الذهبي). الأغنية الجديرة التي لم تكن موجودة كانت (ريمي الفتى الشريد).

لو أن أحدا سألني ماهو أجمل مسلسل كرتونيّ شاهدته لذكرت له قائمة بالأفلام الكرتونيّة التي تمنّيت لو عشت فيها. على كلّ حال وضعت طفولتي جانبا مع "الكاسيت" الى عالم الأفلام، الوحيد الذي وجدته يشبه عالمي ويشبه تصويره وتصميمه للشخصيّات العالم الكرتونيّ هو ستانلي كوبريك! كانت اكتشافا سعيدا بالنسبة لي، لم أفهم مالذي جعلني أحبّ هذا المخرج بالذات واعتبرته يعبّر عن ما أريد لو كنت مخرجا، الآن فقط أقول لأنّ عالمه يشبه العالم الذي عرفته في أفلام الكرتون. وفي عالم كرة القدم أحببت برشلونة من صميم قلبي، كانت كرة القدم تلعب للمتعة فيه، وهذا مايجعلك قادرا على التمنّي للعب معهم بالفعل.

ورغم حبّي لكلّ  شيء تقريبا من: موسيقى وأغاني ورسم وشعر وكتب وروايات وقصص وأفلام لكن الشيء الوحيد الذي تمنّيت لو كان من تأليفي أنا هو (هجوم العمالقة) هل لذلك علاقة بطفولتي؟ لا أدري بالفعل. كما أنّي لا أدري إن كان ماقلته حول تأثير ذلك العالم الذي خبأته في "الكاسيت" صحيحا. وهل أنا قادر على اخراج نفسي من ذلك البرزخ والوصول الى أيّ  عالم يمكنني أن أعيش فيه كشخصيّة طبيعيّة.

الأمر يبدو غريبا ولكن الأكثر غرابة هو أن الشخصيّة الكرتونيّة التي يقول الكبار من حولي بأنّي أحببتها كثيرا بطفولتي هي (كاليميرو)! حسنا لا أذكر الأيّام التي شاهدت فيها هذا الكرتون، لأنّي كنت أصغر من أن أذكر أيّ  شيء منه لكن المضحك أن الشخصيّة تشبه كثيرا ما تحدّثت عنه. فرخ يضع قشرة البيض على رأسه، وكأنّه يعيش في برزخ ولم تكتمل ولادته في هذا العالم بعد.           

الأربعاء، 19 سبتمبر 2018

-١٦-

-١٦-




مدينة  كانت تشعرني بالضيق كلّ مرّة أدخلها أقع في مأزق شوارعها وتحويلاتها التي  لاتنتهي فأبحث لاهثا عن أقرب مخرج منها الى مدينتي القريبة. عرفت لها أربعة  مداخل إلا أنّي لم أدري يوما كيف يمكنني الخروج منها. لهذا كنت أتحاشى  الذهاب إليها وأتضايق كثيرا عندما أجد نفسي مضطرّا للذهاب؛ كلّ شيء في  مدينتي لم يكن كافيا. لا أحد يتذمّر من كثرة التحويلات التي كانت تغيّر  مسارها في كلّ مرّة نحفظ الطريق إليها. والطرقات السيئة، لم يكن أحد يتذمّر  كان الوضع سيئا لدرجة أنّ عدم تذمّر الناس كان يبدو طبيعيّا وأمر  اعتياديّ. كنت أستغرب، الكثيرون  كانوا يمدحونها ويقولون كلّ شيء جميل فيها وأنّني لا أعرفها، وأنّني واهم عندما أقول بأنّ مدينتي المرتّبة أفضل منها. وأستغرب من رفيقي الذي كان يجرّني إليها في عطلة نهاية  الأسبوع للتمشية، لا شيء فيها يدعو للبهجة هكذا أقول لكن لا أدري من أين  يأتي رفيقي بكلّ تلك الأماكن الجميلة فيها؛ فالمكان المفضّل لديّ  لم يكن  إلا أقصى طرف فيها أي أبعد شيء منها. عندما أعود وحدي إليها أتوه فأكرّر  كلّ  لعناتي السابقة، كان الشتم بصوت عالي هو الشيء الوحيد الذي يشعرني  بالراحة فيها. لكن الغريب أنّي في كلّ مرّة آتيها وأعود ضائعا كنت أمرّ  بنهاية يومي بالذات -أيّ عندما يهمّ الجميع بإقفال محلاتهم والعودة لأخذ  ماتبقّى من وقتهم ليكملوا سهراتهم كلّ في مأواه- كنت أشاهد طريقا في غاية  الروعة، كانت إنارته بهيجة لأبعد حدّ، تشبه مدنا حلمت بها أو بالسكن فيها.  كان الجلوس على رصيفها والاستماع لصخب الناس والسيّارات فيها كافيا لقضاء  وقت ممتع. أين كنت كلّ هذا الوقت عن هذا الشارع؟ فكنت في كلّ مرّة أقفل  راجعا أعقد العزم على زيارة ذلك الشارع في هذه المدينة البغيضة. أعود وأتوه  كالعادة ولا أجد ذلك الشارع وعندما أعود شاتما هذه المدينة على ضياع عطلتي  أمرّ بنفس الشارع أو لا أدري غيره ولكنّه مثل الأوّل، في غاية البهجة.  المكان يبدو سعيدا لا أدري كيف شعرت بذلك. كنت أغبط نفسي لاأنّي أخيرا  توصّلت الى هذا المكان مع عزم للعودة إليه في أقرب فرصة، كانت تراودني فكرة  المشي فيه والتعرّف على كلّ محلاته عن قرب. ولكن لفرط بهجتي لم أفكّر في  قراءة اسم الشارع. أضحت هذه المدينة لغزا أدخل اليها لا أرى فيها إلا ما  أكره ومايشعرني بحسرتي على وقتي ولكن عندما أهمّ بالرجوع غاضبا أمرّ على  ذلك الشارع الذي يواسيني. لم أكن في كلّ مرّة أفلح بالعثور عليه، وماكان  يغيضني هو أنّي عندما أصف الشارع لرفيقي لم يكن -على معرفته الجيّدة  بالمدينة- قادرا على معرفة هذا الشارع من خلال وصفي، كنت أقول "الشارع الذي  كنت أقول لك لحظة مرورنا فيه: فلنعد إليه في يوم ما" لكنّه لم يذكر! هل  كنت أحلم؟ بدأت أشعر بأنّ الجميع يخبّئ عنّي هذا المكان أو هذه الأماكن  عنّي، كان مدحهم للمدينة التي أجدها بغيضة ينطبق على تلك الشوارع أو الشارع  الذي كنت أمرّه. وكأنّي في غفوة كنت أمرّ به وأستيقظ واصلا إلى مدينتي دون  أن ألتقط إسم ذلك المكان. كان الطريق طويلا الى الحدّ الذي يبدو فيه كافيا  لاستيعاب أوقات فراغي. حديث الإنارة الطويل ذاك كان شيئا لا يُنسى، كان  مثل حكاية مرئيّة تشاهدها عيني بكلّ  سرور وفي كلّ مرّة حكاية جديدة، لأنّ  الشارع كان حيّا الى درجة أنّ المحلات تتجدّد مضيفة بإنارتها بعدا  للحكاية. 
تلك الأضواء لايمكن أن تُنسى. 
دام  الأمر طويلا، بل أكثر من سنة أو سنتين وعندها عرفت ذلك الشارع، كان مدخلا  للمدينة، لم أعد أدخل المدينة تلك الا من خلاله. كان المرور به يكفيني. لا أستطيع أن أصف سعادتي فهي ليست بتلك الدرجة التي تجعلني أهلهل وأعبّر بحماس عنها لكنّي كنت مسرورا بعمق وكأنّي أخيرا وجدت كلّ المدح الذي قيل فيها مختبئا هنا. على  سعادتي بذلك المكان لكنّي كنت أشعر بنقص ما في ذلك المكان، لا أدري هل كنت  أخدع نفسي به أم لأنّه بات مألوفا. 

مضت  سنوات على ذلك حاليّا المدينة الكريهة باتت جميلة، إنّها تفاجئني، ولكن  الناس يغيضوني. فهم لايذكرون كم تحسّنت وباتت أجمل وأكثر مايثير غيضي هو  أنّ عدم انتباههم لذلك بدا أمرا طبيعيّا.

واليوم  بالذات مررت بشارع كان مختبئا، إنّه يذكّرني بذلك الشارع الحلم، بعد كلّ  هذه السنوات عرفت لم بدا ذلك الشارع الذي عرفته ناقصا. الواقع أنّي عثرت  على مكان واحد من تلك الأماكن واكتفيت به على شعوري بنقصه لكن صدفة اليوم  وجهت صفعة عتاب أليمة على وجهي لأرى هذا المكان أو الشارع الذي مررته لهذا  اليوم يعاتبني على وصولي متأخرّا بعد كلّ هذه السنين.   

بقي أن أسأل نفسي: هل أحبّها؟
الواقع أنّي الى حدّ الآن لا أملك شعورا مكتملا

السبت، 8 سبتمبر 2018

-١٥-

-١٥-

(تذكرة سفر)

لطاما اعتبرت الستر ذات الألوان الزاهية الأكثر أناقة من بين ملابس الرجال كافة. كنت أستغرب كثيرا عن السبب الذي لايجعلني أرتديها مرارا وتكرارا وبعد أوّل يوم سفر أدركت السبب بالفعل. فهي بحاجة إلى الكيّ في كلّ  مرّة. قد يبدو هذا السبب تافها لكنه كافي لعدم ارتدائها. من قال إنّ الأشياء التافهة غير مهمة؟ أنا على استعداد لأنّ أثبت لك بأنّ أفخم الفنادق قد تكرهها لأسباب تافهة. بل إنّ أكثر شيء يقف حجر عثرة على الكمال الأشياء التافهة. وهي تمنحك الجرأة على أن تقول عن أحدهم بأنّه شخص لا مثيل له لولا "..." صدّقني لا شيء سيكون جديرا بعد "لو" هذه. 

الراحة جزء من الأناقة لهذا فاللبس المريح أكثر أناقة من لبس جميل وغير مريح. كذلك الفنادق والأماكن الفخمة، فهي تبدو مزعجة جدّا عندما تشعر بأنّ عليك أن تكون مهذّبا أكثر مما اعتدت حتّى تواكب حسن تعاملهم. قد تكون نقطتي هذه تافهة لكنّها كافية لجعلي أكفّ عن التفكير بالإقامة في مثل هذه الأماكن. 

حفظت في جوالي تقارير كثيرة أدركت أنّها غير مفيدة في نهاية المطاف، على كثر ماقيل فيها بدت وكأنّها لم تقل شيئا على الإطلاق! لم أبدو وكأنّني سافرت من قبل وهو ماتوقّعته من تلك التقارير. حتما لا شيء من تلك التقارير وتلك التوصيات تصلح لأنّ تبدأ بـ "عزيزي القارئ" ولأكون واضحا، أغلب تلك التقارير بدت غير مفيدة لأنّها تجاهلت تفاصيل بدت تافهة في نظرهم وهذا ماجعلها تبدو فارغة رغم كلّ شيء مهم فيها 

الخميس، 6 سبتمبر 2018

أبجديّة الأشكال في لوحات جورجيا أوكيفي

عند مشاهدتك للحرف "ح" لاشكّ  بأنّك ستستشعر صوت احتكاك الهواء في حلقك وإن لم تنطق هذا الحرف. الحرف يترك أثرا في ذهنك وكذلك الألوان كأن يشعرك اللون الأزرق بالسكون والبرد أو أي شعور -يبدو أنّ ذلك يعتمد كثيرا على الشخص نفسه وذاكرته- حتّى الكلام له أثره فلو قلت لك "حصان" ستبرق أمام ذهنك صورة حصان خاطفة. وكأنّ كلّ  تلك الأشياء الهامشيّة التي تمرّ على حواسك نقرات كيبورد تنقر في ذهنك لتشكيل جملة ذهنيّة في بالك. جملة لاتُدركها بوصفك ولكن تدركها بانطباعك. حتّى الخطّ المستقيم يمنحك شعورا أو انطباعا عنه، خطّ أنيق أو متوتّر أو حادّ. دلالات تصل اليك بالمنطق ولكن مايعنيني الدلالات التي تصل بلا منطق معيّن، بل تصل بشكل غير مفهوم وعصيّ على الفهم. قد تجد شكلا في لوحة تجريديّة (بلاعنوان) يشعرك بالإرتياح وأحيانا العكس. ليس لأنّه يذكّرك بشيء بالذاكرة بل بما قبل الذاكرة، شيء أصيل في تكوينك. وكأنّ كلّ زاوية وركن وخطّ وانحناءة في شكل ما تعطي نقرة كيبورد خفيّة الى جانب ماتجسّده. أو لنقل بأنّ كلّ  شكل هو حرف من أبجديّة يتقن كتابتها بعض الفنّانين وتقرؤها بشعورك

كذلك الشاعر، الموسيقي، الرسّام يخاطبك لا بالخطاب الاعتياديّ الذي يتشكّل وفق مفهوم مشترك، بل بمثل هذه الإشارات الغير مباشرة أو الانطباع الجانبيّ. 

  حديثي عن اللوحات أي عن الأشكال من هذه النقطة. يمكنك فهم لوحة مكتملة الأركان والتفاصيل ومعرفة كلّ مايودّ الرسّام قوله ولكن الحديث عن من لم يرسم الكثير من التفاصيل، بل رسم جزءا بسيطا -من كلّ - وكأنّه بذلك ترك لك حرفا يدلّ على جملة. إنّ الأشكال التي رسمها تترك أثرا في نفسك وذلك الأثر ليس عبثيّا بل كأنّ الفنّان أدرك قدرة الأشكال التي يرسمها على التعبير.

الرسّامة الأمريكية: جورجيا أوكيفي ١٨٨٧-١٩٨٦م



  

لعل أوكيفي أكثر اسم نسائي يمتاز بالأصالة أو التفرّد في عالم الرسم. رغم كثرة الأسماء إلا أنّها ظلّت لسوء الحظّ قرينة لأسماء رسّامين رجال أو لنقل تشبه لوحات رسّامين معيّنين الى حدّ ما- على كلّ  حال العديد الرسامين الرجال كذلك-. بداية من الايطاليّة ارتيميسا جينتليسكي ١٥٩٣-١٦٥٣م إلى الرسامة ماري لويز فيجيه لوبرن بنهاية الملكيّة بفرنسا وعودتها. وصولا لفنّانات عادة لايتمّ ذكرهنّ إلا ضمن مجموعة مثل الانطباعيّات بيرت موريسو وماري كاسات وبدرجة أقلّ ايفا غونزاليس. لموريسو لوحات مشهورة ومميّزة تشعر بأنّها جديرة بأنّ تكون ذات أثر مهمّ ومُعترف. لكن لعلّ السبب مع الأسف كونها إمرأة ويصعب فعلا الجزم بأنّ هذا السبب وحده ليس كافيا. حتّى فريدا كاهلو يرتبط الحديث بها وبحياتها وزوجها ريفيرا وعلاقاتها أكثر من فنّها لكن الوضع كلّه مختلف مع أوكيفي في كلّ  شيء حتّى في تعاطيها مع فنّها، بل إنّها لم تكن حاذقة فقط في مجال رسم الأشكال والتقاطها بل بالصور التي تؤخذ لها، تشعر بأنّها جزء مكمّل للوحاتها. تقليب صورها وبيتها المعزول وتأملّها لاتقلّ  روعة عن تأمّل لوحاتها. 
باختصار هي فنانة صنعت مكانتها بكلّ أريحيّة. حتّي اسمها المكتوب  Georgia O'Keeffe يبدو شكلا فنيّا (":









أشتهرت كثيرا زهور أوكيفي وتفاصيلها التي تبدو وكأنّها تشير إلى شيء\شعور نعرفه مع الشعور بأنّنا لسنا متأكّدين من ذلك. أبعد من كونها رسمت لتبدو قريبة من العضو التناسليّ للمرأة، الى الحدّ الذي يجعلنا نفكّر بما يعنيه ذلك في زهرة؟ أو الى الحدّ الذي يجعلنا نتساءل لماذا تبدو وكأنّها توحي تموّجاتها وكأنّ شيئا ما سينبثق من اللوحة؟ أي أنّك تتأمّل اللوحة وكأنّك في حالة انتظار لشيء ما. 
















ان طريقتها في رسم المناظر الطبيعيّة تعبّر عن فهمها أو لنقل صوّرتها بالشكل الذي يجعلك تشعر بطباع الطبيعة وكأنّها بورتريه لشخص توحي ملامحه بطباعه. التفاصيل البسيطة والتي عشقها الفنّانون بالخطوط اليابانيّة الأنيقة هي كذلك مع لوحات أوكيفي لكن ليس بالاعتماد على الخطوط بل على تموّجات الأشكال بالألوان




حتّى الزوايا تعطي انطباعا خفيّا، بعض الزوايات لها القدرة على ايصال ذلك الشعور الغير مريح والذي ينتابك بمثل هذه المدن. أو كأنّ الزاوية منحتك موطئ قدم بالمكان الذي تصوّره اللوحة





'


لم يكن شكل الصليب أساسيّا في أغلب اللوحات التي صوّر بها، كان أداة لا أكثر ولم يعطي شعورا بارزا. كان يظهرا في لوحات مزدحمة بالأشخاص والأشكال في حين أنّه هنا وبهذا الشكل بدا قادرا على منح شعور لم تمنحه كلّ الأشكال التي كانت معه في تلك اللوحات  





من أشهر الرموز التي رسمتها أوكيفي. لعلّه أكثر رمز قادر على أن يجعلنا نفهم الطبيعة التي صوّرتها أوكيفي. تلك الصحراء والتي لطالما تغنّى البشر بقسوتها التي بدت لهم شيئا يستحقّ التبجيل. هذا الرأس يمثّل الموت وقسوة الصحراء وكم يبدو غريبا أن يكون شكل يدلّ على الموت مثيرا في جماله. توجد الكثير من اللوحات التي صوّرت جماجم بشريّة من قبل أشهر الرسّامين. لكنّها لا تمنحك إلا شعورا عاما. لعلّ  عِظم قدر الموت بالنسبة للإنسان تجعله غير قادر على أن يبعد الموت من تصوّراته حين يرى جمجمة مرسومة، فيقف عند الشعور بذلك المعنى. في حين أن جمجمة حيوان قادرة على أن تجذب اهتمامه حول تصوّر البيئة التي كانت تعيش فيها ويتلمّس أثر نحت الزمن عليها. 
لعلّ  أوكيفي أدركت مدى قدرة هذه الجماجم على التعبير، لذلك رسمتها بعدّة هيّئات. بشكل أنيق وكأنّها زينة معلّقة على جدار الطبيعة، تماما كما يفعل الصيّادون في بلدها بتعليق رؤوس الحيوانات التي اصطادوها.








  ومن أبرز مايمتاز به فنّها أنّها تدرك مقدار التأثير الذي يتركه أبسط شكل في اللوحة. تماما مثل البقعة الحمراء التي جعلت لوحة تيرنر تجذب الانتباه عوضا عن لوحة كونستابل. ومثلما يترك وستلر شيئا من أثر الفرشاة هنا وهناك في لوحاته.












ليس لأنّها صاحبة أغلى لوحة بيعت لفنّانة تستحقّ لوحاتها التأمّل. بل لأنّها بدت وكأنّها قادرة على جعل الأشكال تقول مالم تستطع الأشكال سابقا قوله. والى جانب كلّ ذلك ليس غريبا أن تجد كتابا لا يحوي إلا صورها - خاصة التي التقطها زوجها لها- وصور بيتها والبيئة التي عاشت فيها حتّى طبيعة حياتها مميّزة.








للأسف يصعب كثيرا أن نصف بعض شعورا خفيّا يكمن فينا فكيف في وصف ما تمنحه بعض الأشكال فينا. ما كلّ شكل يمنح نفس التأثير عند كلّ  شخص ولكن أشكال معيّنة لها القدرة على منح تأثير محدّد عند قدر كبير من الأشخاص. تلك الأشكال الفنّانون يدركونها كما يدرك الشاعر تأثير بعض الكلمات والتعابير. 

الرغبة في قول شيء، هذا ما أستطيع قوله حول الأشكال التي تبدو في لوحات أوكيفي والتي لايشبهها إلا صورة شخص يبدو وكأنّه يودّ أن يقول لك شيئا ولكنّه لايقول لأنّه محبوس داخل الصورة ولايمكنك أبدا أن تعرف ماسيقول بالضبط ولكن يمكنك أن تشعر نسبيّا بما يودّ قوله 

 تحويل الأشكال لأبجديّة تخاطب الشعور هو عمل برع فيه العديد من الفنّانين ولعلّ أقرب مثال كاندنيسكي وماليفيتش وبول كلي و أوكيفي برعت بذلك بأسلوب أكثر خصوصيّة

قد لا أكون معجبا كثيرا بجمال لوحاتها ولكنّي معجب بقدرتها على التعبير بشعور ما ينتاب من يتأمّلها




الجمعة، 15 يونيو 2018

شانتال اكرمان: مايمكن أن يكون شعورا ويصعب أن يكون فيلما



"When people ask me if I am a feminist filmmaker, I reply I am a woman and I also make films"

هذا الاقتباس يمرّ كثيرا بتويتر لشانتال اكرمان، انه كافي ليقنعك -وإن لم تقرأ عنها- بأنّها إمرأة لايستهان بتفكيرها. كلامها ينمّ عن استقلاليّة واضحة في حين تبدو بعض التصرّفات النسويّة حتّى بأشدّ حالاتها تطرّفا مصممة وفق تصوّر رجل ما. أوّل فيلم شاهدته لها كان Jeanne Dielman, 23 quai du commerce, 1080 Bruxelle (1975) قد يمنحك العنوان الطويل انطباعا معيّنا لهذا الفيلم وعندما تشاهده ستدرك أنّ أيّ  تفصيل بسيط في هذا الفيلم الطويل قد صنع عمد. أوّل ميزة وجدتها بالمخرجة كانت القدرة على تصوير اللقطات الطويلة والمملة دون أن تشعرك بالملل تماما مثل بيلا تار لكنّ الفرق في أن وجهتها مختلفة عنه. شيء غريب أن تجد مملا يصنع يوما جميلا لك.






قد تصوّر الأفلام مشاهد سبق وأن شاهدت مثلها وأعجبتك أو تصوّر لك مشهدا لأمور سبق وأنّ فكّرت بها بالفعل والآن تشاهدها في فيلم وأخيرا قد تصوّر لك أشياء لم يسبق لك أن فكّرت بها ولكنّها موجودة فيك بالفعل ولهذا سيبدو المشهد مفاجئا وجميلا كالصدفة لك حال مشاهدتها في فيلم. في فيلم Toute Une Nuit (1982) تؤخذ على حين غرّة بمشاهد ليليّة لحالة تمرّ بك أو حالة موجودة بك لأنّها جزء من تكوينك كإنسان. 

أشخاص هائمون في ليلة تبدو "كسير الجري " الذي تجري فيه دون أن تمضي الى أيّ  مكان فقط الوقت يمضي ويسرق عمرك، وتشعر بأنّك بحاجة إلى قفزة للتخلّص من كلّ ذلك. كما أن الأرواح عندما تفقد الجسد تهيم بحثا عن جسد آخر كذلك الأشخاص في هذا الفيلم يهيمون أحدهم روح والآخر جسد وكلّ يبحث عن الآخر وكأنّ الوقت يخنقهم إذ أنّ بانتهاء الليل تعود الأرواح الى مخابئها وتعود الحياة طبيعيّة من جديد. شيء غير مفهوم يدفع الأشخاص لذلك، لقد قام الفيلم بعمليّة تقليب سريعة في حياة العديد من الأشخاص الذين انتابتهم هذه الحالة، كلّ مشهد بدا فوضويّا ومتداخلا ومكرّرا - بمشهد يذكّرك أحيانا بأفلام كيشسلوفسكي- لكنّ ذلك لم يكن إلا في سياق محكم بالفيلم.

مثل هذه الحالات الحديث عنها ممل بالفعل وإن كان ممكنا ويسهل الحديث عنها ولكنّ يصعب تصويرها كما هي في مشهد. هذا ما جعلني أحبّ عمل المخرجة بالضبط. أنّ تصوّر شيئا يمكن الشعور به ولكن يصعب تمثيله وتصويره كما يفعل كوبريك عكسيّا بتصوير شيء يصعب كتابته. إن ما يقوم به كل من كوبريك واكرمان هو القفز تاركين مسافة مبهمة لايمكن تفسيرها. 
كوبريك يصوّر شيئا لانتصوّره مكتوبا
اكرمان تصوّر شعورا لانتصوّره مصوّرا
شانتال اكرمان لها القدرة على جعل مشهد عابر ولاهدف له لكنه يمنحك شعورا معيّنا بحيث يكون جزءا فاعلا في سياق الفيلم. 

ولا أنسى بأنّ هذا الفيلم واحد من الأفلام التي أهدتني أغنية جميلة أعجبتني وبالنسبة لي هذا سبب كافي ليعجبني كثيرا. 

 

الخميس، 14 يونيو 2018

في ذكرى النقمة: مذكّرات (٢)

عليك أن تصدّقني نعم عليك أن تفعل ذلك. حتّى وإن لم يحدث أي شيء مما قلته وإنّ كذّب الجميع أقوالي وقالوا: بأنّ ماقلته غير صحيح. يكفي بأنّي شعرت بكلّ ذلك وذلك أكثر من أن يكون كافيا كيّ نعتبر أن ذلك قد حصل بالفعل. لازلت أحاول أن ألقي بمحاولاتي لألتقط تلك المشاعر التي شعرت بحاجتي لكتابتها، وللأسف لم يكن الوقت كافيا ومناسبا لكتابة كلّ ذلك ومتى كانت الأشياء تكتب بالوقت المناسب إنّما تكتب عندما تأتي بحلّتها وهي بكامل زينتها. من المهين أن تطلب من الكلمات أن تعود وترتدي تلك الحلّة التي أعجبتك حتّي تلتقطها كتابة بعد أن أهملتها في أوّل ظهور لها بتلك الحلّة. 

أتذكّر بأنّي قلت: لعلّي أكمل والواقع أنّي ماقلت ذلك إلا لأنّي كنت عاقد العزم على العودة بالفعل. ولو قلت بأنّي سأكمل لم أكن لأشعر بإلحاح يدفعني للعودة مثل الآن 

على كلّ حال ورغم عودتي إلا أنّني بالواقع لم أكمل بعد 

الخميس، 7 يونيو 2018

في ذكرى النقمة: مذكّرات (١)

"الأحلام سخيفة في الواقع"

لا هدف لكتابتي، يمكنك أن تعرف ذلك بمجرّد أن تعرف بأنّ أهمّ القرارات المصيريّة في حياتي لم تكن باختياري. لهذا أنا عاجز تماما عن اتخاذ أيّ  شيء حتّى عن تحديد هدف لما أكتبه

في ظهيرة ذلك اليوم أوّل يوم عمل رسميّ كان أوّل من استقبلني قد سحبني وقال: لاعليك من أحد فلندعهم. تعرّفت عليه كان من النوع الذي يجيد التظاهر بأنّه إنسان مهمل ومتهوّر ولايهمّه أحد والحقيقة أنّه خلاف ذلك. أدخلني في صالة مليئة بالزملاء، أكثر رائحة تبغ أكرهها "ديفيدوف أبيض" كانت تعجّ بالمكان حتّى أنّ الجلوس على الموكيت كفيل بإلصاق هذه الرائحة بملابسك بل إنّ يدك سرعانما تتلطّخ بهذه الرائحة بمجرد اللمس. كانت النفوس مريبة، لا أدري لكنّهم بدوا وكأنّهم مجبرون كلّهم على القيام بدور يكرهونه في كلّ  يوم وهذا ماجعلني أكره ابتسامتهم لي. كلّ  كلمة تقال هي سهم مصوّب نحو أحدهم.  شعرت من الوهلة الأولى بأنّني زائد عن هذا المكان. حيث يطلب منك أن تبحث عن دورك بنفسك ولأنّك جديد ينبغي أن يكون كريها، في هذا المكان أن تكون تحت الضغط وبنفس سيّئة يعني أنّك تعمل بجد. بعض الوجوه كنت أعرفها لكنّها لم تعد تلك الوجوه التي كنت أعرف، كنت مغرورا لهذا لم أفكّر يوما بأنّي سأكون مثلهم في يوم ما.  

يمكنك أن تشعر بالغثيان بمجرّد أن تعرف ماهو برنامجي اليوميّ، لك أن تتخيّل أن برنامجي هذا كان ملاذي مما أنا فيه. كان للحياة رتم يعيش فيه الجميع من دوني وكنت عاجزا على الدخول إليه. ببساطة بدا وكأنّ الجميع يلعبون لعبة وجئت إليهم متأخّرا كان الكثيرون يكملون اللعب معهم دون استئذان، كان تصرّفا أهوجا ولكنّهم اكملوا اللعب واستمتعوا سويّة وبالنهاية بقيت أنا أفكّر بمناسبة لاستئذان الجميع بمن فيهم من دخل متأخّرا. شارفت اللعبة على النهاية ولم ألعب مع الجميع. 

ولعلّي أكمل لاحقا ..

السبت، 12 مايو 2018

بين ما لا يمكن كتابته وما لايمكن أن يكون فيلما

" If it can be written , or thought , it can be filmed "

ألهذا الحدّ هذا ما يمكننا بالأفلام؟

لعلّ أكثر فكرة بديهيّة في البال هي أنّ الروايات -الكلمات - يمكنها أن تقول أكثر مما تستطيع الأفلام قوله أو تعبيره لهذا في حال أعجبك فيلم مستمدّ من رواية فإنّه من المعقول جدّا أن تجد في الرواية تفاصيل أكثر وأعمق. برأيك مالأقلّ  ضررا: مشاهدة الفيلم قبل الرواية أم قراءة الرواية قبل الفيلم؟ بالنسبة لي أعتبر الرواية اسهابا في حكاية الفيلم لهذا لا أشعر أن الأفلام تفسد الروايات عليّ كثيرا. وأجزم بأنّني سأجد بالرواية المكتوبة مالم أجده بالفيلم. أمّا مشاهدة الفيلم سأجد فيه تلخيصا ممتعا للرواية المكتوبة، وسأعيش الأحداث هذه المرة بحواسي، سمعيّا وبصريّا. ولهذه الأسباب قد يفضّل المرء الفيلم على الرواية. أي أن الشخص سينطلق بعد الرواية للفيلم ليجد تلخصيا أمتع أوضح لا ليتعمّق أكثر.



لكن الفكرة هي أنّ الكتابة تتفوّق على الفيلم كونها تصل لتعابير لاتصلها الأفلام إلا تلميحا. مثل حديث النفس والذي يمكن كتابته ببساطة، وانطباع الشخص ورأيه الكامن في باله حول مسألة ما، كلّها أشياء تكتب ولكن يصعب التعبير بها شكلا في فيلم ولو عن الطريق الملامح إلا مجازا. بل إنّ رتم الفيلم السريع لايمنح الذهن وقتا كافيا للتأمّل.
الكتابة أولا ثمّ الفيلم ولايمكن تصوّر وجود فيلم قبل الكتابة. بل يكفيك أن تجزم كون روايات رائعة مثل (زوربا) لكازانتزاكيس و (الحارس في حقل الشوفان) لسالينجر لايمكن أن تكون بالأفلام كما هي بالكتاب. يوجد فيلم لزوربا ولكنّي أراهن بأنّه يصعب أن يعجبك دون قراءة مسبقة للرواية  



السؤال: هل يمكن للفيلم أن يعبّر بشيء لايمكن كتابته؟ كما يمكن للكتابة -كما يمكن تصوّر ذلك أكثر- أن تعبّر بشيء لايمكن "أفلمته"؟
بسؤال آخر: هل يوجد مشهد في فيلم لايمكنك وصفه كتابة لنا؟ 




A Clockwork Orange (1971)
إخراج: ستانلي كوبريك

هذا الفيلم مقتبس من رواية (البرتقالة الآليّة) لأنتوني بورجيس. هذا هو الفيلم الذي جعلني أحبّ عمل كوبريك كثيرا ولكن لا أدري مالذي وجده كوبريك في هذه الرواية حتّى يتحمّس لإخراج فيلم منها؟ طوال التساؤلات الأخيرة كنت أدور حول نقطة أن الأفلام تحاول أن تقول ماقالته الرواية لكن مع هذا الفيلم وجدت أن كوبريك استطاع أن يصوّر مشاهد لايمكن كتابتها، أي أنّك عبثا -بتصوّري- لن تجد بالرواية شيئا من التعابير التي صنعها هذا الفيلم. إن كان كوبريك يقول بأنّ كل مايمكن كتابته وتخيّله يمكن أن يصنع منه فيلما فإنّه من البديهيّ أنّ نتصوّر أن كلّ  فيلم يمكن كتابته وjخيّله لكن بهذا الفيلم كنت أشعر بصعوبة الحديث عنه ووصف لقطاته. 
في هذا الفيلم كوبريك كما في Dr. Strangelove (1964)  صوّر كوبريك الكثير من المشاهد التي يصعب ايصال تعبيرها كتابةً وكأنّه في أفلامه يتعمّد فعل ذلك كثيرا، كما أن الكتابة يمكن أن تستحيل على التجسيد بالأفلام فالأخيرة كذلك في مواقف تستحيل على الكتابة، لم ألمس كثافة مثل هذه المشاهد إلا عند كوبريك وبدرجة أقل ديفيد لينش وقبلهم كان لويس بونويل. هل لهذا علاقة في وعي باتّجاه أمر معيّن؟ أن الفيلم عليه أن لايجسّد بل أن يمتدّ إلى مالاتصل إليه الكتابة؟ 

أجد صعوبة عندما أودّ وصف يد الدكتور سترانجلوف وهي تندفع آليّا لأداء التحيّة النازيّة وكيف يحاول الدكتور عبثا إعادة يده "المهنّقة" على هذه الوضعيّة. بطبيعة الحال أكثر مايصعب كتابته هي المواقف الكوميديّة والتي تميل للكوميديا السوداء أو للكوميديا المخفيّة في عمق الموقف، شيء مضحك ومناقض مثل أن مشاهدة مشهد محزن ومبكي يعدّ أمرا ممتعا في فيلم. تجد هذه الكوميديا كثيرة لدى كوبريك وقبله بونويل ونوعا ما ديفيد لينش وبالعصر الحالي عند تارانتينو الجميل ولو أنّه يبدو كملصق إعلاني جميل مقارنة بهم. لاشكّ  وأن التجسيد المرئيّ -الفيلم وقبله المسرح- كان لغرض التسلية والضحك وشيء من هذا القبيل وكأنّ ذلك إقرارا مبكّرا بعجز الكتابة عن فعل ذلك بدقة عالية.  


بالنسبة لي أتصالح مع فكرة أنّ أعظم فيلم لن يكون بإخراج كوبريك ويحتمل أن يكون لكوروساوا أكثر منه. لكن كمخرج أستطيع القول -بحسب رأيي- أن كوبريك أفضل مخرج. هم أفضل منه في اختياراتهم للقصص والحكايات وبجذب الجماهير بمختلف أنواعهم أي أمور تأتي قبل الفيلم وبعده لا أثناءه. كوبريك بالنسبة لي يشبه شاعرا أدرك أنّ قدراته أفضل بكثير من شعره.
هل أفلامه غريبة الأطوار؟ أفلامه توحي بأنّها كذلك. لديّ  قناعة أن شكل المرء يوحي بشيء منه. في ملامح كوبريك شيء من الحدّة، أو يمكن أن تقول بأنّ ملامح وجهه لاذعة على الذاكرة أكثر من غيره وليست ناعمة مثل فيلليني وغيره وأقرب شخص يعطيني وجهه نفس الانطباع هو لويس بونويل 

  
بالنسبة لي هم يشبهون بعضم حتّى بالأفلام، ومع ذلك أستغرب كثيرا كيف أن ديفيد لينش لايشبههم؟ رغم أن أعماله توحي بأنّه كذلك بطريقة ما. يبدو لينش بريئا مقارنة ببونويل وكوبريك بملامحهم الحادّة والتي تعكس اخراجهم وطرحهم لبعض الأمور بحدّة. ففي فيلم Lolita (1962) المستوحاة من رواية بنفس الإسم لفلاديمير نابوكوف كان كوبريك مستفزّا للغاية. كان كمن يمرّر سكّينا حادة في جلد ناعم بقبضة مرتعشة برغبة. تنتظر أنت أن يحدث شيء ما دون أن يحدث. بدا وكأنّ كوبريك وبالعامي "فيه حردة" لكنه لم يفعل أي شيء. 
 الاعتماد على الملامح للحكم أمر أقرب كما يحبّ  المشيرون الى الدراسات كثيرا نوعا من التخلّف أو هو التخلّف بعينه وإن كان من المثير الحديث عنها. وعلينا أن نقرّ بأنّنا خلقنا بهيئتنا بحكمة نحن أعجز من أن نفهم سرّها ولسنا مرسومين في عالم للإنمي حيث يمكنك أن تفهم رغما عن الرسّام والمخرج بماذا توحي ملامح هذا أو ذاك. 

 على كلّ  حال ستظلّ الأفلام ترجمة للكتابات وككلّ ترجمة ستقف عاجزة عن ايصال بعض الأشياء لكنّها ستحاول قول كلّ  شيء لكن لاننسى بأنّها تستطيع أن تضيف شيئا من عندها لدرجة قد تغري الكتابة بالقيام بعمليّة عكسيّة لترجمة الفيلم الى كتابة.  



لو كان هنالك قاموس مصوّر أقترح أن تكون هذه الصورة موجودة عند مفردة "مُخرج" كونها تعكس كثيرا شكل وحال المخرج. 

بالنهاية كلمة "أفضل مخرج" هي "كأفضل شاعر" هي لاتعني ماتقوله بالفعل لكنّها بذلك تودّ أن تقول شيئا ما، وبدرجة ما هي كأنّ يقول الأب لابنته بأنّها أجمل بنت في العالم، هو لن يقاتل الناس ليقنع الآخرين بذلك بل إنّه مطمئنّ لاعتبارها كذلك بقلب مرتاح.

الخميس، 8 مارس 2018

-١٤-

-١٤-

كان للأشياء طعم بالأمس واليوم نفس هذه الأشياء لاطعم لها. كنت قد أبقيت الكثير منها لهذا اليوم مع الأسف. لاسبيل لفعل شيء، والوقت لايزال باكرا لقلب صفحة هذا اليوم بالنوم بحثا عن يوم آخر. هذا اليوم أفرغ كلّ مافيه باكرا ولم يعد لي أي شيء منه.حتّى الأشياء التي كنت أودّ كتابتها وإن لم تكن تهمّ أحدا فهي كانت كافية لتهمّني اليوم أفتقد الاهتمام بها. وليس الأمر في أنّ لاشيء أفعله بل في أنّي لم أعد قادرا على الرغبة بفعل ماأحبّ. في مثل هذه الظروف ألجأ للبحث عن يوم آخر بالذكريات ولكن الحنين موحل بالألم ويصعب الخروج منه. لا أدري لم في كلّ مرّة ينتابني ذلك أشعر بلذّة الصراخ وإن لم أذق طعمه، فأنّي أشعر بذلك من مقاطع تمرّ في بالي لأناس يصرخون أو يحاولون ركل الفراغ بما أوتوا من قوّة. في هذه اللحظة أتذكّر الصراخ في وجه الباب المغلق بفيلم Oldboy (2003)  وصرخات لاعبي كرة القدم وهم في قمّة فرحهم وكأنّي كنت أبحث عبثا عن فم أصرخ به. ولأركل الكلمات بكلّ قوّة من فمي. 

الأربعاء، 7 مارس 2018

-١٣-

-١٣-
 

" .... لم تكتب قصيدتي التي أنتظرها منك ولكن صدّقني بأنّي واثق كلّ الثقة من أنّك ستفعلها ذات يوم وهذا اليوم ليس ببعيد وسأذكّرك" 

للأسف خذلتك أيّها الصديق. 


لم أنس ذلك الكلام وغيره الكثير وكيف أنّ كلّ ذلك أدخلني إلى عالم وجدت فيه من يمنحني فَرحهُ بما أكتبه، على الأقل بتعبيره. لم أكن لأطلب أكثر من ذلك. كان التعبير عن رضاهم بكلّ ذلك كافيا وبفضلهم كانت تلك الزاوية الضيّقة من حياتي كافية لإسعادي وللشعور بالرضا، كنت أحجب هذه الزاوية عن عالمي بالواقع. مضى زمن طويل على ذلك الشعور للأسف ياصاحبي لم أعد قادرا على بلوغ ذلك اليوم لأنّي خرجت من تلك الأيّام واختلف كلّ شيء، فمهما مضت الأيّام فإنّ ذلك اليوم لن يأتي لأنّه في زمن آخر. في فضاء كان كلّ شيء فيه يطفو بخفّة ولاوجود لجاذبيّة تذكّرك دوما بأنّك في قبضة الأرض، بات الشعور بتلك القبضة ملتصقا في تفكيري. فكيف لي أن أبعد تفكيري إلى حيث لا يمكن وصفه، بالكاد أستطيع وصف ذلك المكان من خلال ماكنت عليه، مضى زمن طويل على ذلك. عندما تكتب الشعر غير مهتمّ بما يجب أن تكتبه وبماهو أجود للمعنى وبقافية تعطيك أفضل إطلالة للوصف وتنسى أن هنالك من لن يعجبه كلامك ويكون همّك في وصف شعور هَمّ بإسعادك وإن خرج حزينا، فكما يقولون بأنّ الإنسان بإمكانه أن يفهم العالم والكون عندما يتعمّق أكثر ويتأمّل في ذاته فالتأمّل في ذلك الشعور يمنحك فرصة لفهم نفسك بدلا من هذا العالم، ما أجمل أن تصادف نفسك. سيبدو كلامي غريبا ولكن ذلك الشعور والموجود في مكان أسميته بالفضاء كان كلّه موجود في تلك الزاوية. إنّ عجزي عن إبداء أبلغ امتنان وأعمق تعبير نحوهم يشعرني بالوحدة. وبعد أن خرجت من ذلك العالم وحيدا وفقدت آخر ورقتين تنتميان إلى ذلك العالم وكنت في حينها في أوج مايمكّنني من بلوغ ذلك اليوم، كان الأمر أشبه بفقدات آخر خطوتين في طريقي. على كلّ حال هل فكّرت يوما بالعودة إلى حلم حلمت به؟ هل فكّرت يوما بالذهاب فعلا إلى مكان في عالم آخر كنت تتخيّله؟ هل فكّرت يوما بالذهاب إلى الماضي؟ أو إلى أي أماكن مستحيلة؟ سيكون ذلك ممكنا مثلما سيكون الوصول إلى ذلك العالم الذي تركته ممكنا عبر كتابة ما وُعدت به، حيث سيصل ذلك اليوم الذي قال بأنه سيذكّرني فيه، مثل مكان أذهب إليه.    


الأحد، 25 فبراير 2018

كتب تولد كتب أخرى





كتب الموسوعات أو الكتب الموسوعيّة هي من أفضل مايبدأ فيه الشخص بالقراءة. بفضل تنوع مواضيعها يمكنك أن تلتقي بموضوع قد يهمّك لتبدأ بعدها رحلتك الخاصة مع الموضوع المحبّب إليك وتكتشف الموضوع ونفسك أكثر. 

لكن المشلكة أنّ الاستمرار بقراءتها دون غيرها قد يوحي بأنّ مالديك ليس إلا مجموعة بيانات مخزّنة، وهذا ما يجعلنا نشعر أحيانا بأنّ بعض الأشخاص ليسوا إلا بنكا للمعلومات لا أكثر. كيف تستطيع إستثمار رصيدك في هذا البنك المعلوماتيّ؟ وبالمناسة الفكرة حول قرّاء الكتب الموسوعيّة قد تنتطبق على من يقرأ فقط نوعا معيّنا من الكتب بشكل غزير، مثل قرّاء الروايات والأدب. إذ أنّ لديهم رصيد عالي من المعلومات وإن كانت كلّها في عالم الرواية والأدب ولكن يمكن بالنهاية الخروج بها بمعلومات خارج ذلك النطاق، بالتنزّه قليلا بموضوعات أخرى.

المعلومة تشبه إلى حدّ ما العناصر الكيميائيّة، بخلط معلومتنين قد تحصل على معلومة ثالثة جديدة تماما مثل خلط العناصر وهو مايشبه الجمع والربط بين مابيدك من معلومات لتصل لاستنتاج يمنحك معلومة جديدة ومعتبرة. بالطبع خلط كمّ أكبر من المعلومات سيعطيك نتائج أكثر ولكن معقّدة. هذا ليس إلا شكلا من أشكال تكوين معلومات جديدة من معلومات قديمة.

 أتذكّر أحدهم سأل "كيف تواصل المسلمون الفاتحون مع سكّان البلدان المفتوحة من ذوي اللغات المختلفة؟" الكلّ يرى خريطة شاسعة للدولة الأمويّة ويعرف أنّها دولة مسلمة عربيّة ولكن بالواقع انّها دولة متعدّدة اللغات فهنالك مدن كثيرة لم يتحدّث العربيّة إلا أحفادهم ومع ذلك لاتذكر كتب التراث ذلك كثيرا ، إذ أنّ ذلك كان يعتبر حقيقة معروفة لدرجة لاتستحقّ التنويه والذكر ولم يكنّ الإنسان في تلك الأزمان مهتمّا بتلك الظواهر وهذا ماجعل الإنسان الحاليّ المهتمّ بها يعنى بالتعرّف عليها ولكن عن طريق معلومات ثانوية وجانبيّة لعلّ توفيقا في جمعها يوصله إلى مايود معرفته حول تلك الظواهر.
الكثير من الحقائق ليست موجودة مباشرة بالكتب ولايمكن الوصول إليها إلا بجمع حقائق متفرّقة وبصورة صحيحة ومعيّنة.


كتب التاريخ مهما بدت ميّتة فإنّها حيّة من خلال بعض المعلومات التي تذكرها، والتي لها صدى خافت يفتح تساؤلات عدّة. مثلا الإمام الغزالي ألّف عدّة كتب معروفة ومشهورة وكلّها بالعربيّة ولكن أحدها ألفه باللغة الفارسيّة وهو "كيمياء السعادة" إن هذا يفتح بابا لتساؤلات عدّة، حول أمور كانت في زمنها أشياء معروفة ومثل تلك الأمور مع الأسف لاذاكرة\كتب لها، كونها أمور لم تثر علم الإنسان بعد والآن بات عليه بناء تاريخ لتلك الأمور من جديد إذ أنّها حاليّا تحتلّ مكانة كبيرة في معرفة المجتمعات البشريّة الحاليّة وفهم الإنسان والعالم الذي يعيش فيه. 
إلى أيّ حدّ كانت كتب اللغة الفارسيّة منتشرة؟ إذ يقال بأنّ الغزالي ألّفه بالفارسيّة ليصل إلى شريحة أوسع من القرّاء، ذلك قد يوحي بوجود كتب عديدة باللغة الفارسيّة وبمواضيع مختلفة، فالعربيّة مناسبة للمواضيع الدينيّة والأدبيّة ولكن هل ذلك يعني بأنّ هنالك مواضيع معيّنة تطرقت لها كتب اللغات الأخرى؟ كل ذلك يمكن معرفته ولكن لايمكن العثور عليه مباشرة في كتاب ما. أيضا مقولة أبي عمرو بن العلاء:"ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا .. " هذا يوحي بالكثير من الحقائق التي لم تذكر بالكتب ولكنّها كانت معروفة في عصرها ومع مرّ السنين اختفت تلك الحقائق إلى أيّ مدى هي هامة لفهم التاريخ البشري ومجتمعه؟ وهي الحقائق التي أعتبرت من المسلمات وبات العثور عليها صعبا من خلال ماروي بالكتب والكتب لاتذكر حقائق يعرفها الناس ببساطة.      

ولتبدو الصورة أوضح في كتاب اسمه (الطعام والمجتمع في العصر الكلاسيكي) لبيتر غرانسي من الأشياء التي نوّه بها المؤلّف مدى صعوبة العثور على معلومات حول هذا الموضوع، أشياء كانت معروفة ومسلّمة  مثل: إلى أيّ حدّ عانى الناس من سوء التغذية؟ ومامدى تأثير ذلك على صحّتهم ومعدّل الأعمار؟ من أين يأتي الناس بطعامهم؟ وكيف أمكن إطعام المدن المكتظّة بالسكّان مثل روما -بالطبع الصورة ليست مثل ماهو بالعصر الحديث- ومدى اهتمام الناس بمذاق طعامهم؟ كلّ ذلك لايمكن إلا من خلال الاستقراء إذ لايوجد كتاب مباشر أو بحث مباشر حول ذلك. ولم يكن الطعام إلا مجالا نال الاهتمام بالعصور الحديثة ومن أشهر المهتمّين كلود ليفي شتراوس لأنّ من خلاله يمكن فهم المجتمع البشريّ كثيرا وهو مالم يكن مفهوما بالسابق ولذلك لم يذكر ذلك قديما.  

بفضل الاستقراء وجمع المعلومات يمكننا القول بأنّ الكتب تولّد كتبا أخرى

بالإضافة إلى التفاصيل المهملة التي لم تذكرها كتب التاريخ لأنّها كانت من المسلّمات عند أهلها توجد أمور أخرى ذكرتها كتب التاريخ أو بالأحرى ذكرتها الروايات ورسمها الرسامون ولحسن الحظّ الكثير من التفاصيل يمكن الرجوع إليها من خلالها وقد وصلت إلينا بتلقائيّة دون قصد. 
إلى أيّ حدّ يمكنك معرفة الكثير عن عالم الموضى والاهتمام بالمظهر من خلال لوحات الرسامين؟ لاشكّ يمكنك معرفة الكثير عند تأمّلك لوحات رينوار مثلا وهو يرسم الحياة الباريسيّة وتجمّعاتهم وديجا وهو يرسمهم في بيوتهم وخارج بيوتهم. بالروايات يمكنك أحيانا التعرّف على السلع الرائجة في ذلك الوقت وعلى ذوق ذلك العصر ونوعا ما على أدبيات الحوار بعفويّة، من خلال المحادثات مثلا أو عندما ذكر بلزاك برواية (النسيبة بت) على لسان أحدهم وهو يحاول أن يعده بإحضار البنّ الرائع من اليمن. لهذا قرّاء الروايات محمّلين بالكثير من الحقائق الجانبيّة والتي قد لايدركونها. فبلزاك رواياته مليئة بهواجس البرجوازيين ومظاهر ذلك المجتمع، أمّا فيكتور هوغو تشعر بأنّ يستحضر دائما المثل العليا للبشر أو المثاليّة إنّك تجد فيه وفي غيره الإعجاب بتلك المثل العليا من خلال عناوين اللوحات الفائزة بجائزة روما Prix de Rome خاصة بالرسم. والجوائز وهي من غير قصد ربما تنبؤك كثيرا عن الذوق الرسمي لكلّ العصور، ذلك أنّ الذوق الرسمة تمّت مواجهته في عالم الرسم من قبل الانطباعيين ومن قبلهم الواقعييين. ليست الكتب وحدها من تحمل معلومات من غير قصد بل الجوائز كذلك. 

الى أيّ حدّ كلّ شيء غامض واضح من الأساس؟
في لقاء مع الفريق الأردني نذير رشيد وعندما تحدّث عن مدى نجاح الاستخبارات الأردنيّة في جمع الكثير من المعلومات الاستخباراتيّة والتي -على حدّ قوله- كانت أعمق مما لدى العرب الآخرين قال بأنّ أغلب ماجمع كانت مصادرها من وسائل منشورة ومعلنة مثل كتب المذكرات والصحف المنشورة من قبل الاسرائيليين! وهو بذلك يؤكّد قول أحد الغربيين - على ماذكر- الذي قال بأنّ أغلب المعلومات الاستخباريّة يمكن الحصول عليها من وسائل عامة ومصادر منشورة. على كلّ حال فتعريف الاستخبارات: ليس إلا معلومات تمّت معالجتها.

كلّ ماعلى قارئ الموسوعات وكتب المعلومات والروايات أن يجرّبوا ويقفوا عند مافي حوزتهم وسيجدون أنّهم يحملون الكثير دون أن يدركوا ذلك. كيف؟ لاتوجد طريقة بعينها ولكن بعض المواضيع والكتب لها قدرة على تحفيز مافي جعبتك لإظهار كلّ مافي مكنونها. 

وإن بدت المعلومات سطحيّة إلا أنّ كثرتها وتكرارها يتيح مجالا لعمقها. الويكيبيديا مثلا وهو مصدر يعتبر غير موثوق أحيانا  لكنّ فيه ميزة جوهريّة وهي الربط السلس بينها. ولا أدري ولكن أعتقد بأنّ هذه الميزة لم تكن في الحسبان، امكانيّة الدخول عبر روابط لاتنتهي من موضوع لآخر عبر علاقة ما لتكوين صورة أشمل مع وجود هامش يجمع القواسم المشتركة بين كلّ موضوع كلّ هذا عبارة عن صورة مصغّرة أو صورة مصفّحة لما في عقل القارئ من حقائق ومعلومات


هنالك مؤلفين كانت لهم القدرة على إدراك أمور أو رؤيتها من عين أخرى مثل ابن خلدون وآدم سميث وكارل ماركس


وبرأيي من الكتب التي قد تنبّهك الى الكثير كتب علم الاجتماع مثل (مقالة في تاريخ المجتمع المدني) لآدم فيرغسون إنّه ينبّهك الى قوانين يمكنك من خلالها فهم التاريخ البشريّ بصورة أوضح ولعلّ مايجدر أن نذكره قبله (مقدمة ابن خلدون) فهو مؤسس ذلك المجال. وكتاب ميشيل فوكو الجميل (الكلمات والأشياء) إنّه لايمنحك الكثير مثل كتب أمبرتو ايكو بل ينبّهك إلى الكثير. أمّا المجال الذي بحقّ فتح عالما واسعا جديدا هو اللسانيّات إنّ هذا المجال واسع باتساع المجالات كلّها، فهو على علاقة بتاريخنا وتكويننا وتفكيرنا بل إنّه مجال يتيح فهمنا بصورة دقيقة مثلما يتيح الطبّ -والعلاج غايته الأبرز- فهمنا. ستتفاجأ بمقدار ماتزودك القراءة عن اللسانيات من ادراك حول المواضيع التي تهمك. وكتاب مونتسكيو (روح الشرائع) ولأنّه ركّز على فهم نشوء القوانين فتحت من خلال ذلك على مايبدو نافذة جديدة على التاريخ والبشر. إن لمونتسكيو قدرة عجيبة على إثارة التاريخ وملاحظة الأحداث وكتابه عن تاريخ الرومان المختصر يدلّ على ذلك. وهنالك كتب الاقتصاد والتي من خلالها يمكن فهم السلوك الجمعيّ للبشر وكان هذا المجال قد بدأ يلفت الانتباه في انجلترا أيام الحصار القارّي بالحروب النابليونيّة ومن الكتب الاقتصاديّة الجميلة يوجد كتاب تيم هارفورد (تكيّف) وكتاب (الفيلسوف الاقتصادي) لستيفين لاندسبيرج.


 على كلّ حال الموضوع طويل الى حدّ لايمكن إدراكه مثل أنّ الإنسان في كلّ مرّة يجد أنّه مضطرّ للبدء من جديد في علم جديد بعد أن خال بأنّه بات يعرف كلّ شيء. وذلك يطرأ مع تساؤل جديد. ذلك يذكّرنا بوصف انشتاين للعلم الذي شبّهه بقيادة درّاجة هوائيّة حيث أنّك ستسقط إن لم تواصل بإدارة عجلاتها. 

باختصار ان المعلومات تشبه الأشخاص يمكنك أن تعرف الكثير عنهم من خلال تصرّفاتهم، إنّهم يحكون أكثر من خلال ذلك أكثر من ألسنتهم. ففي التاريخ الكلّ يعرف أنّ الرومان عندما غزوا فرنسا (بلاد الغال) تحوّل سكّانها تدريجيّا إلى رومان يتكلّمون اللغة الرومانيّة، حتّى تلاشت اللغة الأصليّة لبلاد الغال وبقيت فقط بإقليم "البريتاني" إن ذلك يوحي كثيرا إلى قدرة الرومان على إقامة دولة وأنظمة مدنيّة قادرة على تحفيز أهالي البلاد على تعلّم لغتهم، إذ أنّ ذلك يعدّ بوابة للانخراط بالحياة الرومانيّة. لم يحدث ذلك قسرا -أعني مسألة اللغة- بل كان اختيارا وهذا التصرّف التاريخيّ مجال خصب لمعرفة الأوضاع في تلك الأوقات. التاريخ يذكر كيف انتشرت اللغات ويمكن فهم الكثير من خلل معرفة اسباب الانتشار وحدها. 



وبالاخير وبخصوص من يحبّ قراءة كتب الموسوعات أو الروايات والتاريخ بتوسّع أكثر مايثير فضولي: ماهو الموضوع أو الكتاب الذي تودّ أن يؤلَّف عنه في يوم ما؟ 


الأربعاء، 7 فبراير 2018

يمكن أن يكون أجمل كتاب قرأته (التاريخ الكامل للحرب العالميّة الثانية)



للتوّ أنهيت كتاب (التاريخ الكامل للحرب العالميّة الثانية) للفرنسي ريمون كارتيه. لا أدري كم مرّة قرأت هذا الكتاب والذي كان سببا في جعل الحرب العالميّة الثانية من المواضيع التي أحبّ قراءة ومشاهدة كلّ شيء عنها. ألن يبدو الأمر غريبا لو اعتبرت أنّ أفضل كتاب قرأته أو أحبّ كتاب قرأته كان كتابا يتحدّث عن الحرب العالميّة الثانية؟

لايشبه على الإطلاق تلك الكتب التي تعيد سرد الأحداث برتابتها وبهياكل معلوماتها الجامدة، بحيث تشبه كتب المناهج المعدّة للامتحانات. كارتيه يحيي الأحداث بحشد ذاك الكمّ من أقوال الشاهدين والمعنيين، حتّى أنّك تجد مختلف استشهاداته موزّعة في الكتب المختلفة مما يدلّ على دقّة المؤلف بتحرّي الصدق برواية الأقوال. ليست الأقوال وحدها بل تفاصيل فنيّة للمعدّات يخبرك عنها ويجعلك تلمّ بالأحداث من وجهة نظر الأشخاص الذين قاتلوا بتلك المعدّات وبمعيّة الأقوال والأرقام وتعابيره فإنّك ستتعايش مع الحرب أكثر من كونك تقرأ عنها.

كصحفيّ تشعر بجهده وعناده في سبيل نيل المعلومات -وهو يذكر قليلا ظروف جمع المعلومات وبعض الصعوبات حول ذلك خاصة عن الاتحاد السوفييتي والمقاومة الفرنسيّة-  وتلمس ذلك الأسلوب الرشيق في وصف الأحداث والإشارة برفق إلى معلومات جانبيّة بسيطة لكنّها تعطيك زاوية فريدة للرؤية، فتمنحك قدرة على بناء تصوّر أشمل. مثلا عندما ذكر المؤلف فريدريك باولوس قائد الجيش السادس الذي استسلم بستالينغراد،  قال: بأنّه إبن موظّف عادي من كاسل، هذا المعلومة أعطت صورة واضحة عن باولوس ولاشكّ أنّ من قرأ عن معركة ستالينغراد سيدرك كيف أنّ هذه المعلومة البسيطة تتوافق تماما مع شخصيّته. بالإضافة إلى أنّ المؤلف لم يبخل بإعطاء أوصاف أكثر حوله وغيره تنمّ عن إلمام بشخصيّة كلّ القادة الألمان بالذات. سيبدو وكأنّه قد قرأ عن كلّ شخصيّة وقائد بالحرب، بل كأنّه يتحدّث عن أشخاص يعرفهم.

ستتفاجأ بأنّ هذا الفرنسي لايخفي إعجابه أبدا بالألمان في عزّ انتصاراتهم وهزائمهم وستحتار كثيرا عندما تجده يميل إلى الاعجاب الى السوفييت والى الأمريكيين. ولايخفي اعجابه أحيانا بالانجليز أو اليابانيين في بعض المواقف إنّ ذلك يجعلك تطمئن لإنصافه أمّا الايطاليين لايمكن لأيّ منحاز لهم أن يعبّر عن إعجابه بهم بكتاب يتكلّم عن هذه الحرب.

لاشكّ وأنّ الترجمة يصعب أن تبرز روعتها بكتاب غير أدبيّ ولكنك تجد ذلك بهذا الكتاب. وإن لم تخفى عليك روعة تعبير ووصف كارتيه وايجازه ومقارناته لن تخفى عليك شاعريّة المترجم وانتقائه الجميل للمفردات.

الكتاب شيء آخر لايشبه غيره.


بالنسبة للحرب العالميّة الثانية وهي التي رسمت فعليّا العالم بالقرن العشرين ولازالت أكبر تجربة بشريّة يمكنك من خلالها معرفة الطبيعة البشريّة بأقصى تصرّافتها. من وحشيّة وجنون ورحمة ومغفرة وانسانيّة وغير ذلك. لايمكن أن تؤلّف كتابا عن هذه الحرب ليشمل كلّ جوانبها دون أن تسمّيه "موسوعة الحرب العالميّة" لأنّ الأحداث ستجبرك على التشعّب هنا وهناك لتجد نفسك تبتعد عن ساحة المعركة لتتطرّق لأحداث لايمكنك أن تغفلها، لهذا لايمكن أن تسع هذه الحرب إلا موسوعة.


مالجديد الذي يمكن أن تدركه بالحرب العالميّة الثانية؟ 

أشكال العنف:

أشتهرت بهذه الحرب أحداث "الهولوكوست" دائما تصوّر على أنّها أقصى ماوصل اليه البشر من جرم، والواقع أنّ الشيوعيّة لا تقلّ عن النازيّة إجراما ولم يكن هتلر إلا حمل وديع عند ستالين لكن المرعب بالموضوع هو أن تكون مكروها بسبب عرقك -وهو شيء لاتختاره أنت- وأن يستدعي ذلك قتلك بطرق لاتكلّف الكثير من المال والوقت. ليس حجم وعدد الضحايا مهمّا بقدر مالسبب في فعل ذلك. ولاننسى  التجارب المرعبة التي أجراها علماء نازيّون على البشر، كانوا يضعون الأسرى في أحواض مياه باردة ويزيدون من برودتها للوصول إلى الدرجة التي عندها يموت الشخص، تمّ تسجيل درجات الحرارة تلك التي يموت فيها الشخص بناء على عرقه! كان الروسي هو أكثرهم تحمّلا، مثل هذه التجارب ستشعرك بالذنب بمجرّد التفكير أنّها قد تكون مفيدة للعلم! إنّ العالم عبّر عن صدمته لفعل ذلك وكيف يمكن للنازي أن يفعل كلّ ذلك بدم بارد ولكن بنفس الوقت الشخص الذي رمى القنبلة النوويّة التي أذابت عشرات الآلاف من الأبرياء قام بذلك بضغطة زرّ باردة، ومع ذلك لم يعبّر أحد عن مدى رعبه مما حدث!. الواقع أنّه في هذه الحرب بات يمكن للإنسان أن يقتل العديد من الناس بضغطة زرّ باردة، حيث باتت الآلات تحمل عبء مسؤليّة القتل والدمار عن الإنسان فبات بالإمكان القتل بضمير مرتاح أكثر من السابق وأصبح البشر بعد ذلك مجرّد أرقام فلا أحد يشعر بموتهم، إنّه العصر الرقمي بامتياز. الهولوكوست مرعبة ولكن الأزرار أكثر رعبا. 

في هذه الحرب قام المنتصر بمحاكمة الخاسر بمحاكمة علنيّة وهذا مايجعلك تعرف عقليّة المنتصر والمهزوم في كلّ العصور. 

في هذه الحرب كانت الكاميكازي، الهجمات الانتحاريّة الأولى.

في هذه الحرب ستعرف كيف تولد الدول بشكلها الأخير عن قرب (فنلندا) وكيف ترسم خرائط الدول وبكلّ بساطة كيف يمكن لهذا الخط أو ذاك أن يذهب بعيدا كما حدث في "مؤتمر يالطة" التي رسمت حدودا جديدة لبولندا وكأنّ الأمر كان يحتاج فقط إلى ورقة وقلم .

في هذه الحرب قفز الإنسان بمخترعاته عشر سنوات فوق الزمن: الرادار، الطائرة النفاثة، الصواريخ البالستيّة، السونار، القنبلة النوويّة، التوجيه بالراديو، كلّها اختراعات ولدت بالحرب. 

في هذه الحرب ستجد كيف يمكن للإعتبارات أن تبرّر كلّ شيء. كان الأمريكيين يرون الألمان جنرالاتا ورجال دولة مذنبين يستحقّون العقاب ومع ذلك منحت الجنسيّات الأمريكيّة سريعا للذين صنعوا الصواريخ البالستيّة مثل فون براون! كان خليفة هتلر دونيتز حريصا على نقلهم إلى الجبهة الغربيّة ليقعوا بأسر الأمريكيين بدل السوفييت.

في هذه الحرب كان الألمان وحوشا في بيلاروسيا ضد السكّان المدنيين في حين أنّهم في ليبيا كانوا ينزلون العقوبة بعدل على الجنود الطليان الذين يعتدون على سكّان الصحراء. 

في هذه الحرب كانت ظاهرة الانتحار بارزة الأمر الذي يجعلك تقترب أكثر لفهم هذه الحالة -الانتحار- ويمكن اتخاذ هذا الموضوع وحده عنوانا لكتاب ما. 

في هذه الحرب تمّ تشخيص أوّل حالة جنون فريدة بهذا الوضوح وهو "جنون العظمة"العديد من الألمان الذين التقوا بهتلر أجمعوا على عبقريّة بأمور وعلى جانبه الطبيعي اللطيف وبنفس الوقت عبّر الكثير عن جنونه في أكثر من صوره بعد انتصاف الحرب. 

في الحرب العالميّة الثانية يمكنك أن ترى الديموقراطيّة وهي تصنع ديكتاتورا ويمكنك أن ترى ديموقراطيّات عريقة تتحالف مع أنظمة دكتاتوريّة.

في هذه الحرب قد تجد تفسيرا لسبب ظهور العديد من الشخصيّات الشريرة بعالم الإنمي كأشرار وغزاة، بل إنّ غزاة الفضاء لطالما شكّل تطوّرهم العلمي أحد جوانبهم المرعبة. إن ذلك قد يكون تأثيرا غير مباشر للقنبلة الذريّة التي سعى العديد من العلماء لإلقائها فوق اليابان.


لايمكن حصر مايمكن أن يكون فريدا في هذه الحرب يكفي أنّ عشرات الأفلام السينمائيّة لازالت تحقّق نجاحاتها من خلال مواضيعها التي لاتنتهي ولازالت أحداثها مصدر إلهام لاينتهي للمخرجين. أعظم فيلم لسبيلسبرغ كان عنها وأشهر فيلم بيلاروسي كان عن الحرب و توجد سلسلة لاتنتهي من أسماء أجمل الأفلام كلّها تدور حول الحرب. فيلم عن هيروشيما للفرنسي رينيه وآخر دنماركي عن ألغام مابعد الحرب وفيلم ميلفيل عن المقاومة الفرنسيّة وفيلم ألماني استطاع أن يريك هتلر وكأنّه حيّ أمام عينيك وغيرها الكثير وفيلم طفولة ايفان لتاركوفسكي عن ستالينغراد المدينة التي كانت موضوعا للعديد من الأفلام وصولا بفيلم الإنمي المشهور (قبر اليراعات)



أكثر ماقد يسيء إلى معلوماتك هي كتب تمنحك المعلومات في إطار ميّت ، معلومة لايمكنك أن تبني عليها حقيقة واضحة. فمثلا بالويكيبيديا الكثير قد يتناول معركة العلمين باعتبار أنّ موازين القوى كانت متقاربة، لأنّ الأرقام ستخبرك بأنّ لرومل عدد لابأس به من الدبابات مقابل مونتغمري. بالواقع كان لدى رومل دبّابات ايطاليّة لم تكن لها قيمة إلا برفع الأرقام وكانت كدمى ورقيّة مقارنة بغيرها. أنت كقارئ قد لاتريد أن تعرف بأنّ تلك الدبّابات اسمها "21" وعيار مدفعها ٢٠ ملم وأنّ مابيد رومل بسبب غرق ناقلة نفط ايطالية إلا ١٠٠ كيلو تقريبا من الوقود لكلّ دبابة أي أنّها معرّضة للشلل ولكن يهمّك أن تجد من يخبرك بذلك بطريقة ما دون أن يخوض بك في مجال وتفاصيل تشعرك بالملل وهذا مايفعله كارتيه بالضبط. 

 قد تجد أشخاصا أخذوا من مصادر أو كتب تخبرهم بأنّ مادفع اليابان للاستسلام كان اعلان الاتحاد السوفييتي الحرب عليها وأنّ السوفييت شرعوا بغزو شمال اليابان ذلك ينجم عن سوء باستخدام المعلومات، صحيح الاتحاد السوفييتي أعلن الحرب ولكن ذلك بعد قنبلة هيروشيما وصحيح أنّهم حصلوا على جزر الكوريل ولكن ذلك كانت بضوء أخضر أمريكي. ولو كان يعرف تفاصيل انزال النورماندي لعرف بأنّ الإنزال بالأرض اليابانيّة مستحيلة على السوفييت. 

أبسط مايقال عن هذا الكتاب هو أنّ المؤلف بذل جهدا كبيرا في تأليفه تشعر معها بأنّك ممتن له. 


الأربعاء، 31 يناير 2018

-١٢-

-١٢-

(كان يوجد بريد وعد صاحبه بأنّ الجميع يستطيع أن يرسل مايشاء دون أن يتوقّع أيّ ردّ أو أنّ تقرأ رسالته)
 
لو كان هناك بريد لسلّة المهملات ولرسائل لاتقرأ أراهن بأنّ هذا البريد سيكون مليئا برسائل المرسلين. إنّ الكتابة قد تكون رهينة الخوف والخدعة، فنحن لانكشف عن كلّ شيء نشعره أو نريده. وحيث تكون الكتابة خائفة فإنّها تحاول إخفاء ماتضمره وتخدع القارئ إلا أنّها تترك منفذا يمكن للتفكير النفاذ إليه حتّى يقف على حقيقة مافي صدر كاتبها. وكأنّ الكاتب رهينة يحاول قول شيء بطريقة لاتمسّ سلامته. قد يجيد أحدهم قول شيء عبر تكرار أسلوبه وتكرار سرديّاته حتّى يقول بطريقة أخرى أنّه يشعر بالاختناق إلى حدّ أنّه لم يعد قادرا على الخروج من سياج أسلوبه، قد يقول ذلك خارج كتابته عبر لقاء أو تصرّف أو سطر ينفذ من خلال هذا السور بخفّة، بما يشبه زلّة لسان.  التكرار كتابة أخرى، لايوجد أحد يكرّر شيئا ما إلا ويود أن يقول شيئا غير الذي يكرّره. مالذي يعنيه مثلا تكرار فان غوخ لرسم الأحذية بمختلف الوضعيّات؟ صحيح الرسم ليس كتابة ولكنّه تعبير. ولك أن تسأل مالذي يجعل جرأة صارخة في الكتابة والتعبير أو حتّى الإخراج عاجزة عن قول كلّ شيء بوضوح؟ مثل فيلم Salo مالذي يجعل فيلما جريئا لحدّ القرف كهذا يقول شيئا بطريقة غير مباشرة؟ أيوجد شيء أجرؤ مما قيل بالفيلم؟ أمّ أنّ الأشياء التي نودّ البوح بحقيقتها لايمكن أن نخرجها بلاحشمة على الملأ. أعرف بأنّ الفكرة غير واضحة وأدرك بأنّ تلك الحقائق التي أفترض وجودها عن بعض الكتابات الخائفة موجودة فقط لأنّني يمكن أن أشعر بها دون أن أصفها بوضوح. إنّ أكثر شيء مؤسف في الواقع هو أنّك لاتستطيع إلتقاط القرّاء إن كان أسلوبك مملا وهذا مايجعل مشاعرك وإن كانت فاتنة -لو كانت لها صورة- محرومة من الظهور ولو خفية. لهذا يحاول أحدهم أن يطوّر أسلوبه وأن يطوّر ويطوّر حتّى يجد نفسه قد دفن مايودّ قوله بركام محاولاته العابثة ومايخيف هو أن تموت عندها لن يكون هنالك معنى لكلّ ذلك.

بقي أن أقول بأنّ ذلك البريد سيمتلئ لا لأنّ هنالك أشخاص لايريدون لأحد أن يقرأ ماكتبوه، بل لإنّ ذلك يشعرهم بالطمأنينة -كتبتها طمأمينة مرّتين قبل التصحيح ولا أدري لمَ؟- على كلّ حال سيودعها وفي قلبه أمل طفيف بأنّها ستقرأ في يوم ما ولو كان هذا الأمل يشكّل ١٪ لا أكثر ولكن هذا النوع من الأمل الطفيف يخلق رئة في صدر الكاتب تتنفّس بطمأنينة -هذه المرّة لم أخطئ بها- لحين علمه بقراءة أحدهم لرسالته ، عندها لا أملك وصفا بسيطا أعبّر به عن كتابة قرِأت وكيف يمكن أن يكون شكلها بعد ذلك. 

لا أجد طريقة تنهي الموضوع إلا بذكر ما فعلته للتوّ
أنهيت فيلم The Hateful Eight (2015) لم تكن قفزة موفّقة خارج سور فيلم Reservoir Dogs (1992) 

بقي أمر آخر ولا أدري لم أذكر ذلك. تعرفون المشهد المألوف بالأفلام والانميّات وافلام الكرتون لشخص يكتب شيئا على الورق وبعد ذلك يقوم بتمزيق الورقة ويقذف بها بعيدا ويتناول بيأس ورقة أخرى جديدة يلحقها نفس المصير بعد أو حرف يخطّه! سؤالي كيف يمكن لشخص يكتب شيئا على جهازه أن يفعل مثل ذلك؟ إنّ زرّ "حذف" بغيض وساخر ولايشبه إطلاقا الورق الذي يمنحك شعورا مرضيا لأنّه يريك كيف تنتقم من سخافتك التي كتبتها أمام عينيك   
  

الأحد، 14 يناير 2018

١١

-١١-
احتقان بسيط في الحلق ولازال ينتقل من مكان إلى آخر بحثا عن مكان يتسلّل من خلاله. جرّبت كلّ وصفحة أتذكّرها والتي كانت إحداها سببا في تخفيف الألم ولا أعرف ايّاها مايجعلني أعيد تجربة كلّ شيء في كلّ مرّة. أحيانا أحسّ بأنّ الحياة هي محاولة تجربة كلّ شيء من أجل شيء ما لا نعرفه. للتخلّص منه أو الحصول عليه، لا أعرف بالتحديد وكذلك لا أعرف إن كانت تلك التجربة "اياها" أفعلتها أم لم أفعلها بعد.