الأحد، 25 يوليو 2021

( العالم الذي تمّ تجسيده في فيلم Blade Runner 2049 )

 



Blade Runner 2049

إخراج الكندي: دينيس فيلنوف (٢٠١٧)

للمخرج أفلام تركت بصمتها الملفتة Prisoners (2013) و Arrival (2016). الاستمرار على هذه الوتيرة مذهل وأكثر شيء يشدّ الانتباه جمال الألوان والصور في أفلامه.


ليس تناصا بل بناء يمكن الحديث عنه. يمكن الانتباه الى أن الفيلم بنى أغلب تجسيداته من أعمال سابقة بالذاكرة. الجميل أن الفيلم أكمل ما يمكن أن نسمّيه ما بدأ به السابقون في تصوّراتهم وتجسيدهم للعالم بعد انتهائه أو مشارفته على الفناء حتّى استعادة السيطرة عليه من خلال قوى خارقة. أعداد لا حصر لها من الأفلام تحدثت عن الدمار ونهاية العالم يمكن أن تستشفّ مدى تشابه مخيّلة المخرجين عند النظر الى أوجه الشبه بين عوالمهم المظلمة. هذا الفيلم لم يقدّم تصوّرا موازيا بقدر ما يمكن اعتباره بأنّه أكمل البناء على نحو أفضل


-فيلمي Demolition Man و Equilibrium -


من أولى علامات التشابه وضوحا بطل الفيلم الذي يتجوّل بحثا بالقصّة يذكّرنا كثيرا ببطل فيلم Equilibrium (2002)  قد لا ننتهي ونحن نتطرّق ونعيد استذكار كل تلك المتشابهات بالأفلام ولا يمكن أن ننتهي بذكر الأمثلة إلا ونتوصّل لبعض الأسباب القريبة وهي أن أغلب شركات الانتاج والاستديوهات والمصممين زملاء مهنة وعمل ويشتركون كثيرا معا في مختلف الأفلام ناهيك عن تأثير مجتمع صنّاع الأفلام الحيّ والذي يملك -حتما- تصوّرا جمعيّا للعديد من الأمور لهذا نجد نسقا متينا يشبه بعضه بالأفلام والبروز منه صعب ويحتاج الى تفرّد يجيده كثيرا مخرج هذا الفيلم. 


نعود الى بناء عالم الفيلم والذي يشكّل بنهاية المطاف الاستديو الخيالي الذي تسير القصّة عليه. حتّى بأفلام الفضاء قد يبدو عالم الفيلم ضيّقا ،خانقا ،لا تشعر باتساع كون الفيلم وإن عبّر الفيلم عبر شخصيّاته وأحداثه بأنّ العالم لا نهائيّ لكنه يبدو ضيّقا مثل استديو مغلق -لنقل كأنهم يمثّلون في حجرة- بالنهاية كل فيلم استديو سيميائيّ مغلق وما يختلف هو مقدار الاتساع بالمعاني ودقة الوضوح. ما يميّز هذا الفيلم هو الشعور باتساع عالمه لا من خلال نقل المشاهد لمساحات واسعة ومفتوحة ففيلم 2012 (2009) نقل المشاهد الى مناطق جغرافيّة مختلفة لكنه ظلّ محصورا رغم وجود سياقين للقصّة في نفس الفيلم وكذلك لوس أنجلوس في فيلم Demolition Man (1993) لوس أنجلوس تبدو محدودة في حين أنها واسعة كثيرا في هذا الفيلم الذي لم يصوّر مناطقها الداخليّة كثيرا. 

العالم في هذا الفيلم أوسع يشبه الذاكرة والتي تبدو لا نهائيّة وعميقة بسبب معالمها المشوشة التي تبقى بفضل محاولات الاستعادة والتأمل واسعة. في أحد مشاهد الفيلم حديث جميل عن الذاكرة مع شخصيّة تملك مؤسسة لصنع الذاكرة التي يتمّ غرسها في الكائنات البشريّة التي يتم انتاجها مختبريّا. وبالحديث عن البشر الموازون للبشر الطبيعيين تعود ذاكرتنا كثيرا الى تلك الكائنات التي صنعناها بالأفلام لتشبهنا أو لتخدمنا لكنها انتهت الى عذاب لا ينتهي ما إن تدرك مصيرها أو ماهيّتها في هذا العالم وكيف أنها ليست مثلنا لا تملك ذكريات ولا لحظة فناء تشكّل هويّة دائمة لها مثلنا نحن البشر. رجال آليين شاهدناهم يعانون رغم آليتهم بالأفلام.ولعل أشهر فيلم تعامل مع هذا الجانب مشروع كوبريك الذي أخرجه سبيلبيرغ

 A.I.Artificial Intelligence (2001) 

صبي شعر بالمعاناة بعد أن أدرك أنه آلة وليس بشرا، مثلما نعاني نحن من تحسّرنا لأنّنا لم نلد كما وأين ما نتمنّى. أما كيف تلعب تلك المخلوقات دورا مصيريّا في مصيرنا وعن ذلك التوجّس الذي ينتابنا من مخلوقات صنعناها نحن البشر فهو يبدو واضحا في فيلم I, Robot (2004) -كالعادة الأمثلة كثيرة ولا تنتهي ويوجد ماهو أحسن منها لكن لا يمكن حصرها- في هذا الفيلم مزج بين هذين الأمرين بشكل مؤثّر، تشعر بأنّ القصة بنت على ما نملك من قصص حكايتها الأكمل. أكثرت الأفلام بالحديث عن المشاعر والعاطفة والحب لكن هذا الفيلم ركّز على ماهو أعمق، الذاكرة. 

 

-قلعة هاول المتحركة-




السيارات الطائرة والمباني المهيبة والسدود التي تحجب المحيط بأمواجه الهادرة بفعل اختلال البيئة والمركبات المخيفة، وكل تلك المعدات والمنشآت بنيت بالفيلم بصورة جماليّة وذات أثر بليغ بالمعنى. الجمال في كل تلك المجسمات والمباني والألوان  توحي بأنّ كل لقطة ومشهد تمّ تصويرها لتبدو عملا فنيّا. لا يمكن الاستهانة بشكل الآلات والمنشآت وأثرها بالأفلام.  ولو أردنا تذكّر بعض الأفلام التي أبدعت في تجسيد ذلك لوجدنا الأمثلة تبدأ من أفلام الفضاء وصولا بالأفلام التي تتحدّث عن المستقبل. بعض النماذج المجسمّة قد تصبح أيقونة لفيلم كامل وأشهر مثال سفينة فيلم Titanic (1997) الكل منبهر من تجسيد ضخامتها بالفيلم و مثال من عالم الانمي (قلعة هاول المتحرّكة) لميازاكي لا يمكن أن يفلت شكل القلعة من ذهنك عند مشاهدتك الفيلم. أيضا لا يمكن الاستهانة بالأشكال والأشياء التي يتمّ بناؤها للظهور في بضعة مشاهد في فيلم، بل إنها أحيانا تأخذ جزءا كبيرا من ميزانيّة الانتاج كما حدث بالمركبة الفضائية بفيلم كوبريك A Space Odyssey:2001 (1968)  

 

-مشهد الحديقة الافتراضيّة من مسلسل (عدنان ولينا) وهنا يبدو عدنان ولينا وعبسي مدهوشين من وجود البشر يلعبون في الحديقة حولهم ولم يكونوا إلا صورا هولوغراميّة-


-الحديقة الافتراضيّة بالفيلم-


يوجد مشهد مبهر وجميل وهي الحديقة الافتراضيّة، الفيلم يتحدّث عن انقراض الغابات والأشجار لهذا وُجد من أنشأ حديقة افتراضيّة تروّح عن روحه. تلك الحديقة تذكرنا بحديقة البرج في القلعة بالمسلسل الكرتوني (عدنان ولينا) صنعت هذه الحديقة أيضا لنفس الغرض ولأننا نتحدّث عن بناء من مكوّنات وأساسات من ذاكرة عالم الأفلام، هل شاهد فيلنوف (عدنان ولينا) ؟ أكاد أجزم بأنّه لم يشاهده على الإطلاق؛ لكننا كبشر وإن كنّا نبني تصوّراتنا وخيالاتنا على ذاكرتنا وللبشر تجربة مشتركة لا شكّ أننا سنبني أشياء متشابهة بطريقة أو بأخرى. حتّى في تكويننا كبشر ولو اعتبرنا ذلك جزء من تجاربنا سنفهم أكثر كيف أننا قد نلتقي كثيرا بتصوّراتنا عن أبعد الأمور من الحديقة الافتراضيّة الى أساطير النشوء وحكاية الطوفان والتي اشتركت فيها شعوب لم تلتقي ببعض ومع ذلك لها تصوّرات مشتركة في العديد من المسائل. وكأن لنا تصوّرا جمعيّ.

 



يمكننا أن نتخيّل الفيلم كقصّة جميلة لكنها مثّلت في مسرح خلاب وفي غاية الروعة ومبهر بكل الإمكانات والتقنيات. كل ذلك الوهج كان مسلّطا على القصّة نفسها لهذا أتت بهذه الروعة. 

 



البناء الذي جسّد عالم الفيلم هو أقرب مافي الفيلم من كمال ولو أنّ عالم المشاعر في الشخصيّة الأساسيّة بالفيلم مؤثر للغاية وحكاية الذاكرة من أروع ما جسّد في عالم الأفلام؛ ولم يتم اعتصار مشاعر ولحظات الشخصيّة الى حدّ الابتذال. كذلك لا يمكن نسيان بعض زوايا المشاهد والتي أخذت بطريقة فنيّة ومعبّرة




 ومشاهدة لا تُتنسى

   

السبت، 10 يوليو 2021

إجراءات سفر

*



وصل باكرا لكنّه يشعر بأن الوقت يخنقه ويكاد يُلقي به بيد الموظفين للخارج.  قبل انهاء اجراءات السفر يلازمه شعور مزعج بأنه نسي شيئا. رغم امتلاء جيوب ملابسه على غير العادة وكأنه حشر فيها قبل اخلاء غرفته كل مايمكن حمله ويسهل نسيانه. الجميع جيوبهم فارغة وعاديّة وهو يمشي وفي جيبه الأيسر نتوء مزعج.

يحاول اخفاء شعوره بالثقل بابتساماته التي يوزعها للمارة، خاصة للبزّات الرسمية.

بهو فسيح وأصوات تدوي تنادي بالأسماء والأرقام في كل مكان. كم هو مزعج أن تصطاد عينه نظرة فاحصة في هذا المكان المتّسع. يجرّ حقيبته ويعجل في مشيته برتم ثابت هربا من تلك الأعين ويغضّ طرفه هربا من الاصطدام بإيماءة توقفه. يحسّ بأنه تحت سلطة كل الأشخاص الذين يحيطون به.

أخيرا يصل الى بهو آخر بجانبيه سلسلة من مكاتب إنهاء اجراءات السفر، كلها مرقّمة بلوحات بالأعلى وأغلبها خالية من الموظفين. ثلاثة صفوف بشريّة اصطفّت لإنهاء الاجراءات. كانت تلك الصفوف واثقة الى درجة أحس معها بقلّة فهمه وبدت على معرفة تامة بكلّ ما تتطلبه اجراءات السفر، وإن كانت روتينية لكنه شعر بأنّها بحاجة الى درجة عالية تعوزه من الذكاء.

مالذي تعنيه كل تلك الأرقام؟ لا يجد أي شيء منها في أوراق سفره!

الأعين التي انتبهت اليه تشعره بأنّه اقتحم المكان عليهم. يحسب كلّ خطوة يخطوها عمقا الى البهو. وينتبه الى وجود أية ردّة فعل من الجميع تنبئه بخطأ ما. مشهد تحديث الجميع اليه يربكه.

أي رقم؟ أي صف؟ أيّ موظف عليّ أن أقف أمامه؟ يتوغّل عمقا، لم يقرر بعد، التوتر يقوده، كما لو أنه يمشي على حبل معلّق بالسيرك والكل يحدّق به. وهو يسير الى حيث يقوده.

ينتبه الى أنه يكاد يصل الى نهاية البهو بالطرف الآخر، دون أن يأخذ صفّا أو أن يقف أمام أحد الموظفين. الخوف من الحرج يجعله يجنح الى أقرب مكتب. يقف أمامه وكأنه يأخذ صفّه أمام مكتب خالي من الموظفين! ولا أحد يصف خلفه. واقف بكلّ اتزان أمام المكتب الخالي بانتظار انهاء اجراءات سفره. 

يدرك بأنه علق وحيدا في هذا الجرف. ولا يستطيع اخراج نفسه. يكاد يلتفت لكنه يمتنع . حتما أعين كثيرة تحدّق في هذا المعتوه الذي يقف وحيدا وكأنّه بالصفّ  



 

 ________

* Gueorgui Pinkhassov



الاثنين، 7 يونيو 2021

( نادني لينا )





 "اندلعت الحرب العالميّة الثالثة عام ألفين وثمانية. استخدمت فيها الشعوب المتحاربة أسلحة مغناطيسيّة تفوق في قدرتها الأسلحة التقليديّة. ونتيجة لذلك حلّ الدمار في البرّ والبحر. انقلبت محاور الكرة الأرضيّة وباتت الكرة الأرضيّة تعيش كارثة مؤلمة. مضى الآن عشرون عاما على الكارثة ولم يبقى على هذه الجزيرة سواي. أتت الحرب على معضم أجزاء الكرة الأرضيّة. والآن أخذت الأشجار والحشائش تنمو ثانية، وأخذت الأسماك تملؤ مياه البحر. لقد انتعشت الأرض وامتلأت بالحياة من جديد"




المقدمة الأشهر في عالم الكرتون؛ لا شكّ أن الكثير ستشتغل أذهانهم بصوت جدّ عدنان وهو يكتب المقدمة بمذكراته ، ونسبة منهم سينتبهون لصوت عدنان وهو ينادي "جدّييييي" آخر المقطع. ألفت الرواية عام ١٩٧٠ تخيل المؤلف قيام هذه الحرب بعد ٣٨ سنة ولو افترضنا أن الكتاب ألّف هذا العام يعني أن الحرب ستقوم عام ٢٠٥٩. 

 

رواية المدّ الهائل:



خبر إعادة الدبلجة ذكّرتني برواية (المدّ الهائل) لألكسندر هيل كي، لهذا بدأت بقراءتها لأرى القصّة بالكتاب. أنهيت الرواية وبدأت أقارنها بالقصة الكرتونيّة

 


تذكّرت ستانلي كوبريك وهو يتعامل مع النصوص التي يقتبس منها أفلامه، الكثير من هذه التفاصيل موجودة في كتاب (ستانلي كوبريك: سيرة حياته وأعماله) للمؤلف: فنسينت لوبرتو. يمكن اعتبار هذا الكتاب مرجعا رائعا لهذه المواضيع وكذلك يحكي كثيرا عن التفاصيل التقنيّة والتي حتّمت على المخرج تغيير النصوص الأصليّة والخروج بنصّ جديد أو لنقل محسّن سينمائيّا، ولكن مع ميازاكي الأمر مختلف؛ لم يغيّر القصّة؛ كلّ العناصر موجودة وحتّى الهامشيّة منها لكن حصل تبديل كبير بالمسارات وترتيب الأحداث، ميازاكي حلّق بالقصّة بمعنى الكلمة. الرواية انتهت عند الحلقة الثالثة  على ما أذكر من الجزء الخامس -عدنان ولينا مكوّن من ستة أجزاء- وأغلب الأحداث تدور بالجزء الثاني والثالث من الشريط الكرتونيّ، جزء كبير وكبير جدّا من إرث عدنان (القصّة الكرتونيّة) بجمالها وروعتها أستحدثها ميازاكي. رغم التغيير شعرت فعلا أن الرواية هي القصّة الكرتونيّة نفسها؛ فهي بدّلت دون انتهاك لروحها.   

 

 

 إعادة الدبلجة:

نعود للدبلجة الجديدة، لماذا كل هذه الضجّة؟ الكثير لا يعرف بأنّ (سلاحف النينجا) لها دبلجتين مختلفتين كليّا وأجزم أنها لم تكن لتثر الجدل رغم اختلاف المستوى بينهما. وكذلك توم سوير على ما أذكر لها دبلجتين بل إن هنالك مسلسلات أعيد انتاجها بحلّة جديدة وأفضل مثال (ريمي الفتى الشريد) و (دروب ريمي) وأتذكّر مسلسلا أعيد دبلجته بما يسمّى بالدبلجة الاسلاميّة، كانت تجربة تدعو للسخرية أحيانا وطالت هذه التجربة الفيلم الجميل (قبر اليراعات) والمعروف عربيّا باسم (سيتا الحنون) دبلج ثانية باسم (نارا الصغيرة والطائرات المغيرة) وكانت أصواته تشبه أشرطة التسجيلات الاسلاميّة، لكن ذلك لم يحدث أي ضجّة تذكر، وإن تحسّرت على فوات (سيتا الحنون) على من شاهدها بنسختها الأخرى (نارا الصغيرة..) 

لكن مع عدنان ولينا الأمر مختلف. من الخطأ احداث ردود الأفعال باسم ذكريات الطفولة؛ أنت لن ترغم غيرك على مسار طفولتك وليست المسألة مثلما تقول الكلمات التي أقتبست كثيرا كثيرا بالسوشيال ميديا عن المقاهي والرفاق ومن يعيد الرفاق والخ أنت لن تستطيع إعادة حالتك الأولى وأنت تشاهد عدنان ولينا في طفولتك؛ لن تستعيد الدهشة الأولى ولا تلك المساحات المبهمة من غموض التعابير والأحداث بالنسبة الى عمرك ومعرفتك وطريقة تعاملك الأمر أشبه بقاعة سينما بشاشة مميّزة أقفلت أبوابها الى الأبد ولو أعدت مشاهدة نفس المسلسل في أماكن مختلفة لن تغيّر من حقيقة أنك لن تشاهد بعد الآن هذا المسلسل من ذلك المكان. أنت بنفسك خسرت طفولتك بحكم الزمن، عن أي شيء تحافظ عليه إذا؟؟ من وجهة نظري إن كان هنالك شيء يدعو للغضب فهو: 

١. اقفال حلقات المسلسل القديم من اليويتوب وهو تصرّف عدواني -للأسف مشروع ربّما- 

٢. التفريط بقيمة عمل ثمين يعدّ إرثا، لا لطفولة جيل بل لنا جميعا.

 

 

قيمة الدبلجة القديمة:

دبلجت مئات المسلسلات الكرتونيّة لكن حتما عندما نتحدّث عن عدنان ولينا ستدرك أذهاننا أن لها نجاحا مختلفا، يمكن أن نعبّر عنه بأنه كان نجاحا أيقونيّا. إذا كان جزء كبير من قيمة المسلسل الكرتوني (جزيرة الكنز) في صوت وحيد جلال (جون سيلفر) فكيف بعدنان ولينا والذي يستمدّ جزءا كبيرا من روعته وقيمته من نبرات صوت المؤدين وانفعالاتهم، نستطيع القول بأنّه أفضل عمل كان الأداء الانفعالي للأصوات مميّزا. قد يتذكّر من شاهد المسلسلات الكرتونيّة العديد من المشاهد واللقطات والمواقف ولكن مع عدنان ولينا سيتذكّر حتما بعض الكلمات والجمل؛ لا لأنّها جملا ترسخ ككلمات بل كأصوات علقت بانعفالها بالأذهان. من مِن متابعي عدنان ولينا لا يتذكّر جيّدا كلمة "إخرس" بصوت نمرو وعلام -بالرواية ذكرت كلمة "إخرس" مرة واحدة ص ١٧١- ليس في الأمر مبالغة عندما أتحدث عن مثل تلك الأمور فلها وقعها ومثال آخر ضحكة عبسي وأجد مفردة مؤدّي الصوت لا تؤدي الغرض لعل مفردة مجسّد الصوت أفضل تعبيرا، فكلهم كانوا يتفاعلون بالمشاهد ولا أذكر مسلسلا كرتونيا خلق في الأذهان ذاكرة صوتيّة مثل عدنان ولينا الدبلجة الجديدة تشبه مقطع يوتيوبي لتعليم الأطفال الجمل والكلمات. رتم ثابت ورتيب وبلا روح وتفاعل.  

 

 

"نادني لينا"

بهذه الجملة بالدبلجة القديمة تحدثت لينا مع عدنان وفي الدبلجة البديلة تقول "أنا اسمي لينا، لينا نادني باسمي" . يعرف الكثير البداية الشهيرة لرواية (موبي ديك) "نادني اسماعيل" لهذا الاسلوب من الكلام سحره، أقرب للحديث منه إلى الإنشاء وهو الفرق بين الدبلجة القديمة والحديثة.

 


مقارنة بين الرواية والانمي:



"إذ قال: وغطّت السماء طائرات تشبه الفراشات"

لينا وهي تحكي لعدنان ماقاله جدّها عن ذلك اليوم

كان هذا المشهد المنذر بقيامة ذلك العالم، لينا قالت ذلك وهي تنظر الى عيّنة من تلك الطائرات (جمانة) وهي خامدة في قبو القلعة. الجمال الغرائبي والمخيف فنّ يبدع اليابانيون فيه كثيرا، لهذا أبدع الانمي في تصوير هذا المشهد. لم يستغرق استديو غيبلي في رسم التفاصيل كثيرا بالانمي كما نشاهده في انميّات أخرى مثل (قلعة هاول المتحرّكة) لكن بعض العناصر حيكت بتفاصيل إضافيّة خاصة القلعة والطائرة جمانة. تلك الطائرات كانت تشبه فراشة العثّة لكنها بلون معدنيّ قاتم ولها أجنحة ضخمة، حجم الجناح تقريبا بحجم حاملة طائرات، أي بحجم ملعب كرة قدم. ظهر هذا المشهد الذي وصفه الدكتور رامي للينا واصفا ذلك اليوم المشؤوم الذي انتهى فيه العالم "وغطّت السماء.." مرتين: الأولي بمقدمة المسلسل والثانية بفلاش باك سميرة وهي تتذكّر ذلك اليوم.



 

(سميرة تتذكّر)


لا وجود لهذه الطائرة بالرواية وهي عنصر مهمّ في المسلسل والانمي؛ يمكننا أن نخمّن بأنّ شكلها المخيف يعود الى طائرات سباق التسلّح المخيف بالحرب الباردة؛ فهي تشبه طائرات B-2 الأمريكيّة وطائرات أخرى صمّمت بأشكال مشابهة. ولا ننسى طائرات النقل العملاقة السوفيتية "أنتونوف" الكثير من فئاتها ذات حجم مخيف


(قاذفات أمريكيّة ابّان الحرب الباردة)


  ونتحدّث عن عنصر مهم آخر ورئيسيّ بالانمي ولا وجود له بالرواية، القلعة. أغلب الأحداث تدور في أندستريا وهي الأرض المحيطة بالقلعة، ولا وجود لاسم أندستريا بالمسلسل؛ إذ أن القلعة تعني المبنى المهيب الضخم والأرض المحيطة بها -عندما أقول انمي أعنيه كمنتج من غيبلي وأسميه مسلسل وأعني الانمي بالدبلجة-  صوّر ميازاكي تلك الأرض كأرض جرداء من أي علامات انسانيّة لكنها مليئة بالبشر، تشبه بيئة قائمة على دكتاتوريّة العمّال أو اليسار المتطرّف. مبنى القلعة، الشيء المفقود بالرواية لكنها علامة راسخة بالانمي، مبنى غريب وهائل ومخيف وفيها مقرّ استخلاص الطاقة الشمسيّة المرعبة، والأخيرة شيء أساسيّ بالانمي وهامشيّ بالرواية. لم تفصّل الرواية كثيرا بالمعدّات لكن ميازاكي الذي يحبّ التفاصيل فصّلها كثيرا. بعنصريّ: طائرة جمانة والقلعة. للقعلة مشاهد جماليّة، الليليّة منها بالذات، يمكن اعتبارها واحدة من أجمل صور استديو غيبلي الفنيّة.

  

(القلعة من الأعلى)

 

 (جمانة تخرج من أرض القلعة)

 

وما يجعلنا نعتقد أن المسلسل كدوبلاج كان بارعا جدّا تعامله مع الأسماء وطريقة التعريب: عدنان وهو بالرواية كونان احتفظ الاسم بالـ "نان" ولينا هي بالرواية لانا وجيمسي هو عبسي وهل يخفى القمر. أما الاسم الأجمل، نمرو وهو بالرواية أورلو، نمرو ذلك الفتى المتنمّر والمتمرّد. تعامل مؤلف الرواية مع الكارثة ككارثة جيولوجيّة. ذكرت القشرة الأرضيّة في المسلسل أكثر من الرواية، وكأنّ ميازاكي تشرّب الرواية كثيرا. وبالرواية ذكر الـ "تسونامي" ولا أدري هل كان هذا الاسم مشهورا كما هو اليوم بعد تسونامي اليابان الذي ضرب المفاعل النووي؟ أمّا القنبلة المغناطيسيّة! كيف هي شكلها وكيف تعمل؟ لا أذكر بكتب التاريخ العسكري ولا المخترعات ذكرا لمثلها، لكنها تتكرّر كثيرا كثيرا في انميّات الميكا، غزو الفضاء؛ الكثير من الرجال الآليين يمتلكون أسلحة سميت بالانمي والمسلسلات أسلحة كهرومغناطيسيّة. أتخيّل هذا السلاح كقنبلة تخلق ثقبا أسودا أو فراغا ذو كثافة -ولو أن في هذا الوصف تضارب- لنقل تخلق فراغا كبيرا تعمل كدوّامة فراغيّة تجذب بكلّ عنف ماحولها وتدمره. 

ظهر مشهد من البداية حذف من المسلسل! وهو مشهد الكرة الأرضيّة وهي تغرق ببحرها والدوّامات تملؤها حاول ميازاكي بكلّ وضوح توظيف ما أمكنه من عناصر الرواية؛ في مشهد لسميرة وهي عند مرفأ القلعة كانت تقود الدراجة الهوائيّة بملابس أنيقة، بالرواية ذكرت قيادة الدراجات الهوائيّة كإمتياز طبقيّ وكذلك ذكرت بالرواية النقاط التي تمنح للأشخاص للترقية بدرجة مواطنته وهي النقاط أو العلامات في المسلسل. الاسقاطات السياسيّة أو الأيدلوجيّة واضحة بالمسلسل مثل الرواية والمسلسل حاول تصويرها أكثر. مدينة العمّال الكئيبة وفي أرض الأمل - جنّة هذا الانمي- أكثر كلمة ملفتة فيها كانت "العمل/الى العمل"  وهو ماكان يكرهه عبسي الفتى البريّ كما صورته الرواية. عبسي شخصيّة رئيسيّة بالمسلسل وهامشيّة بالرواية. والتقسيم وفق الأعمار، كانت صورته واضحة كثيرا في المسلسل؛ أرض الأمل والتي تشبه الأراضي السويسريّة -بالرواية ذكرت باسم هاي هاربور كأرض فيها غابة ووادي وهضاب لا أكثر- المسلسل استغرق كثيرا في تصوير هذه الجزيرة كجنّة أبدع في ميازاكي وصفها. واستبدل مشهد الماعز المشوي بالرواية بخنزير برّي مشوي على طريقة "ليشون" الفلبينيّة، في المسلسل سمي هذا الحيوان بالثور لأسباب واضحة مشهد عبسي وهو يعدّه ويلتهمه واحد من أشهى المشاهد في عالم الانمي

 

(ثور عبسي وبالأصح خنزير عبسي D: )


وتوكيدا لروعة المسلسل بالدبلجة أصوات العضّ والمضغ كانت مغرية D: . "يا لرائحة السمك القذرة" كان هذا تعليق سميرة عندما دخلت كوخ عدنان لأوّل مرّة ولكنها بالرواية تصرفت عكس ذلك والتهمت بنهم السمك المدخّن الذي افتقدته بسبب ندرة الأخشاب في مكان إقامتها. بالرواية ملابسها كانت بنطالا فضفاضا وسترة غير منمّقة لكنها بالمسلسل عكس ذلك؛ ترتدي بزّة رسميّة وعمليّة.المقارنات كثيرة كثيرة لكنها تدل على استنبات ميازاكي للعديد من الأشياء التي وجد لها تربة خصبة بالرواية الأصليّة.



(مشاهد من أرض الأمل)

 

"ثم نزل مسرعا الى الشاطئ الضيّق، صارخا، باكيا وملوّحا على نحو بريّ بيديه"

هذا المقطع من الرواية، الوصف كان معبّرا و تذكّرت سريعا المشهد بالمعنيّ بالمسلسل ووجدته كما وُصف. 

"ظهر مخلوق صغير رثّ الثياب"

"كان قد ناهز العاشرة وكان يكبر بطريقة بريّة"

(عبسي)

ماهو إلا عبسي تماما بالمسلسل. تذكّرت ملحّنا سألوه عن سرّ نجاح أغنية قام بتلحينها، قال بأنها أتت له الكلمات جاهزة ولحنها معها، كذلك الرواية، أرى أنها أتت محمّلة بالصور والخيال وما على ميازاكي إلا أن يعمل عليها.

 لنتحدّث عن بداية الانمي أو المسلسل، بالبداية التقى عدنان بلينا وهي بالنسبة له كائن لم يسبق أن رأى مثله في حياته فقد ولد في الجزيرة المفقودة ولم يشاهد بشرا إلا واحدا وهو جدّه وهي شخصيّة رئيسيّة بالمسلسل كثيمةة لذاكرة عدنان ولا وجود لها بالرواية، من هنا ندرك كيف صنع ميازاكي بداية موفّقة. ردود أفعال عدنان الأولى مع لينا كانت ظريفة وتعلّقه بها وبرائحة ملابسها وهو يقوم بغسلها مع ضحكات بمشهد لا تخفي دلالة رسم الأسنان حقيقتها المشاغبة.

  


التخاطر:



في الرواية هو موضوع أساسيّ، التخاطر وقراءة الأفكار وكلّ ذلك مع تقمّص الأرواح عالم غيبيّ. كانت سمة واضحة بالرواية، أتحدث عن نفسي وعند مشاهدتي للمسلسل لأوّل مرّة ولأنه عالم غريب بالنسبة لي. لم أدرك كثيرا هذه الظواهر، لم يظهر المسلسل تلك القدرات كشيء إراديّ، بل على العكس ظهرت بالمسلسل بشكل أفضل من الرواية. حالات لا يمكن تفسيرها، اكتسبتها لينا بفضل طبيعتها وحديثها الدائم مع الطيور، كانت تلك الفكرة مقبولة كثيرا بهذا الأسلوب من التورية.

 

 

عودة إلى الرسم أكثر:

 المسلسل استغرق كثيرا كثيرا في الاتساع بأمور أخرى دون الابتعاد عن الرواية، لهذا بتصوّري لم يوري اهتماما كبيرا بتلك الظاهرة (التخاطر) الا بلحظات معيّنة. علينا أن نعي عندما يرسم الرسّام شكلا فهو وبلا وعي يكون عن كوّن فكرة ولو بسيطة عن أجزاء الشكل الداخلية وتكوينها. بالإضافة الى جمال الأشكال التي رسمها الانمي وتدل على تصوّر عميق للقصّة، الأجزاء الداخليّة من القلعة والرسم التخطيطيّ لها


القلعة وكذلك الطائرة "جمانه" والتي تظهر بالمخطط والتي تحدّثنا عن مثيلاتها سابقا رسمت أجزاؤها بعناية ملحوظة.


لماذا ضدّ الاعتراض بهذا الشكل على إعادة الدبلجة؟

   عندما شاهدت جنود القلعة والذين كانوا يرتدون بزاتا خضراء موحدة وخوذ تغطي الأعين اندهشت كثيرا عند نزعهم لأقنعتهم وكيف أنهم بدوا يشبهون كثيرا بقيّة الناس البسطاء في أرض الأمل. كنت أعلم يقينا أنهم بشر لكن مشاهدتهم بملامح مألوفة جعلني أستغرب كيف يكونون مثلهم ويقومون بأفعالهم المشينة اتّجاههم. كذلك لا أنسى العديد من العبارات خلقت فجوات من عدم الفهم مثل "عبثا تحاول" عندما قالتها سميرة لم أفهم بالبداية وعلى وجه الدقّة ماتعني، ليس عيبا بالدبلجة بل أمر رائع أن تواصل الدبلجة رتمها ويضطرّ المشاهد -ان كان صغيرا- للحاق بها. كل ذلك وأكثر العمر حينها سمح لي بالاندهاش ودفعني للتفكير أكثر، الأجزاء المبهمة لصغار الأعمار تحفّز الخيال كثيرا في حين الأجزاء الدقيقة والمفهومة للبالغين تحفّز على التأمّل وهنا الفرق بين مشاهدتك لمسلسلك بطفولتك وبعد بلوغك، باختصار تلك اللحظات ولّت فليس لنا حقّ في الاعتراض إلا على اختفاء تلك النسخ من اليوتيوب بسببها وحسافة أن ما عشناه -وكان جميلا بدليل عمقها في ذاكرتنا- لن يعيشه غيرنا إن اقتصر وجود المسلسل على النسخة الحديثة.

 

باختصار قليلة هي المسلسلات الكرتونيّة التي تميّزت كجمال بالدبلجة والأصوات و (عدنان ولينا) أجملها.  وفي المسلسل كوميديا لا تنسى وكم هو مؤسف لو فاتت أحدا منكم.

الخميس، 13 مايو 2021

جدار الزمن




* Hermann Josef Hack


على بعد ملايين السنوات الضوئية أو مايسمّيه هؤلاء خلف الجدار:

 

(وبعد أن استوعبت Q  أنها وصلت الى مكان لا تعلم أين، بعد تلك الرحلة الطويلة على متن المركبة التي اختفت بدأت تسمع من يخبرها بأنهم يرون الزمن!)

( .... عادت  Q  للحديث إليهم تقول) :

 ـ لا أدري حتّى إن كنت حاليّا أراكم ولكن يمكنني الشعور بكم والحديث الآن معكم، ماكان السؤال؟

 ـ أخبرينا من يعيش هناك -من حيث جئتي- وكيف يبدون؟ ذكرتي العديد لكن يبدو أنهم نسخ مكررة أو لا ندري حتى لم تقومين بعدّهم والتفريق بينهم وبينكم.

ـ حدثتكم كثيرا عنهم، عن الكائنات هناك لكن قلت لكم أن الأهم هم الذين يبدون مثلي تماما. ويمشون مثلما أمشي أنا بالضبط -إن مشيت أمامكم-.

ـ بماذا تختلفون عن باقي الكائنات هناك بالضبط مالسبب الذي يجعلهم خارجا عنكم  (خارج جنسكم) ؟ طالما هم كما قلتي: يأكلون مثلكم وأغلبهم يتنفس مثلكم والنصف يتكاثر بالطريقة التي تتكاثرون فيها.

ـ في كل شيء، ومن أول وهلة وعلى اختلاف ملامح جنسنا يمكنكم أن تدركوا الفرق بيننا وبينهم.

(وبعد أن أدركت Q  أن لا طائل من رسم الأشكال بالكلام وكأنّهم لا يرون فرقا بالأشكال والألوان قالت) :

ـ لو أمكن لي لقلت إننا أسياد تلك الأرض وهو أوضح فرق بيننا عن باقي السكان/الكائنات  ولو أن أحدا منهم أتى مكاني وحدثكم سيجد ذلك أقرب وصف لنا.

(لم تعد تستطيع الإكمال؛ انقطع صوتها وكأن غصّة متحجّرة تخنق أنفاسها، تلك الغصّة كانت حنينا الى المكان الذي جاءت منه. حتّى أنهم انتبهوا جيّدا الى أن شيئا يقف في حلقها ولهذا تبدلت

وباشروا الحديث قائلين) :

ـ  على أن جدران الزمن التي تفصل بين عالمنا وعالمكم وبقيّة العوالم  وهي تقف بعلوّ شاهق كنّا نشاهد علوّ ذلك الجدار من بعيد جدّا وندرك أن حدودنا تنتهي عنده ويستحيل اختراقها ولم يخطر على بالنا عبورك إلينا. لا ندري كيف قفزتي إلينا من أسفل ذلك الجدار؟!

(كانت قد انتبهت إلى أنهم يرون الزمن وفق حديثهم ولا يرون مايدلّ على المسافات)

ـ جدران الزمن؟ حدثتوني عنها مرارا وبالكاد أفهم ذلك، لماذا تسمّونها جدران الزمن؟

ـ لأنها بنيت من مادة الزمن.

ـ تتحدّثون وكأنه ماثل أمامكم. كما نرى نحن هذا وذاك هنا وهناك، أما الزمن وكلّ ما ندركه ولا نراه ماثلا أمامنا نخلق له أشكالا لا نهاية لها وأوصافا تصنع أثرا حيويّا يشبه استجابة العين لما يُرى.

ـ ألا ترين الجدار؟!

ـ لا أو لأقل أملك منكم تصوّر عنه كما أملك تصوّر عنكم ولكني أقول كيف يبدو ذلك الجدار من جزيرتنا أو كوكبنا، هذا الشيء الذي تسمونه لا يُرى في كوكبنا. حتّى أنتم قد لا نراكم.  

ـ يقال بأن هذه الجدران بنيت قبل وجودنا، كما ترين لو كنتي منّا هي مرتّبة وتحدّد كلّ شيء هنا ونعرف أشكالها والجدار العظيم الذي يحيط بنهاية عالمنا نلمسه ونتحسسه، يبدو أن الأشياء التي تسمينها المسافة، المكان ماهي إلا أجزاء من ذلك الجدار. حديثك عنها يشبه تماما حديثنا عن الجدار الذي تقولين بأنكم لا ترونه.

ـ كيف يبدو الزمن الذي ترونه؟

ـ بل رجاءً أجيبي كيف هي الحياة دون أن تري الزمن يوما؟ يبدو أنك ترين فعلا لكنك لا ترينه وحياتك مليئة مليئة بالأشكال والأشياء مقابل عدم رؤيتك للزمن. كأن الزمن جدار يخفي كل ذلك عن الأعين لهذا أعينكم تقفز أسفله. تتحدثين بوضوح وبشكل مجرّد وأنتي تقولين: أمامك، أمامي، جواري، هناك، كلها أشياء نتحدّث عنها بخواطرنا وأحلامنا ليس بذلك الوضوح المجرّد الذي تتحدثين عنه. لكن إطلاقا لا تتحدثين عن الزمن بالوضوح الذي نتحدّث عنه وكأنك تتحاشين لمسه. نعرف كيف جئتي إلينا (قفزتي إلينا) لكن لا ندري لم لا تعرفين كيف قفزتي.

(توقفوا عن الحديث؛ عادت تلك الغصّة من جديد وبشكل أقوى)

(لكنها بادرت تقول) :

ـ لا أدري كيف قطعت  كل هذه المسافة وأصبحت بعيدة.

ـ أصبحت خلف الجدار بعد كل تلك المسافة التي قضيتيها. هيئتك لازالت تشبه ذاك الجدار، يمكننا أن نلقي بك خلفه.

ـ هل يمكن أن تفعلوا لي شيئا؟ هل تبدو هيئتي مصنوعة تماما مثل ذلك الجدار؟

(غصّة الحنين أطبقت على أنفاسها بيأس محكم وبقدر ما أيقنت الآن بوجود من يحدّثها خشيت أن توقن بأنّها باتت على هيئة مصنوعة من الزمن؛ شيء لا يمكن -في عالمها الذي جاءت منه- لمسه وقالوا دون أن تكترث لهم) :

ـ أضعنا المسافة التي فاتت وأنتي لا تريننا والآن تقولين كأني أراكم وبدأنا بالحديث، مثل ما تأكدتي منّا بأنّنا هنا، نؤكد لك أننا كفيلون بحدوث ما تتمنينه .. فانتظري حدوث ذلك.



السبت، 17 أبريل 2021

-٣٠-

قبل يوم وفي كراسة ارسم عليها بأقلام الباستيل بعض الرسوم العشوائية ويمكنك أن تفترض بأنها محاولات لرسم باب للهرب. وضعت بضعة زهور للتجفيف. الهروب بالأشياء البسيطة لطالما كانت الملاذ الوحيد من المحيط الخانق، بالكاد يمكن العيش دون هذه الأشياء قبل فترة لم أعد أشعر بطعمها! كان ذلك مرعبا أن أفقد معناها. هذه الأشياء لا يراها ولا يشعر بها أحد غيرك. تلك الأشياء تشبه الزاوية المعتمة التي لا يصلها النور لسجن انفرادي أبعاده مترين في مترين، تلك الزاوية الصغيرة ستعني حتما كلّ شيء بالنسبة للمحبوس في داخل السجن ويمكن أن يحلم بوجود أي شيء وأي معنى في حيّز هذه الزاوية وإن كان مخرجا بهذا الصغر.  بعد أن اغلقت الكراسة على الزهور وضعت فوقها بعض الأثقال البسيطة، لم تكن إلا بضع دفاتر وكراسات رسمت عليها سكتشات وشخابيط وديوان شعر مخجل لأيام مراهقتي الحالمة وسلة وضعت فيها كبسولة لحلاو الليمون للتخفيف من آلام الحلق وبطاقة فيها اهداء من صديقي بمناسبة نقلي مع سلك وشاحن وقلامة أظافر وكرة للضغط والتنفيس وزجاجتي عطر وكلّ ماستطعت تكويمة للضعط على الزهور. ورق الكراس كفيل بامتصاص الرطوبة ولو قليلا وباليوم التالي سأحتاج لنشرها بالخارج ان كان الجوّ مشمسا لتيبس نهائيّا.

 استخدمت الكراس على أكمل وجه


قبل أيام وجدت عصى تشبه كثيرا عصى شخصيّة فيلم (ملك الخواتم) المهيبة مشيت بها عبر الطريق الذي لطالما مشيت فيه أيام طفولتي، مسعى سعيت فيه لملايين المرات وكم تخيّلت بأنّي سأمضي حياتي ساعيا جيئة وذهابا لآخر يوم من عمري كأن هذا الدرب هو أقصى مسافة يمكن لحياتي أن تصل اليه. كان شكلي مضحكا وأنا أمشي بها، لم أبالي، كنت سعيدا بالعثور عليها والعثور على هذا الدرب الذي هجرته لسنوات. "اليوم هاجر مشت أشواطها المليون" تذكرت هذه الكلمات لفهد عافت. 


في البيت بدأت في تشذيب لحائها بالمشرط، من أكثر المشاهد حميمية، مشاهد الاعتناء بالأخشاب ونحتها وسنّ أطرافها بالسكّين في أفلام الكرتون، لطالما شعرت بسكينة تدعو للتأمّل. بالمناسبة سنّ الأطراف ليس سهلا كما يبدو، حاولت بأقصى تركيز أن أجعل الطرف حادّا واختبار حدّتها بضغطها على راحة يدي. رائحة اللحاء أقرب للغبار ولا تشبه التربة، مزعجة ومنفرة، لكن رائحة اللبّ ألطف، أو لأقل بلا رائحة. تحسستها بتمرير راحة يدي بها بعد ازالة اللحاء، لأرى ان كانت ستترك في راحتي أي خدش، بدت جيّدة. 

باليوم التالي وضعتها بالخارج لأعرضها للشمس لكني لم أجدها بعد وقت في مكانها، رُمِيت! لكن أعدتها واعتنيت بها ورحت لأتفقّد الزهور التي قمت بضغطها البارحة ووضعتها على كرسيّ معرّض للشمس وفوقها حجارة صغيرة كي لا تحملها الرياح لكن أحدا في البيت حمل الكرسي وغيّر مكانه مسقطا دون أن ينتبه الى تلك الزهور ((هذه الأشياء لا يراها ولا يشعر بها أحد غيرك)) 

 

أعدت الزهور كانت سليمة وفي لونها الداكن أثر شرخ رخاميّ جميل والعصى أكملت تشذيبها في الفجر قبل النوم في غرفتي، بالآونة الأخيرة أصبحت أنام جيّدا رغم أثر الخدوش الحارقة قليلة والتي تتركها العصى على راحة يدي. 


في اليوم التالي وضعت العصى لأعرضها للشمس وبعد فترة لم أجدها! لم أسأل عنها؛ لم أعد أطيق السخرية كثيرا هذه الأيام. لكنّي وجدتها مركوزة قرب شجرة مئلة لتقويمها. لم يسأل أحد عن السبب الذي جعل هذه العصى نصف ملساء وأثر العناية بها واضح للغاية كل هذا لم يكن كافيا لتشير إلى أنها كانت تعني شيئا ولو تافها لأحدهم.

الأربعاء، 14 أبريل 2021

أن تعرف قبل أن تشعر بما هو جميل بالفعل

 من أين جاء "ايمانويل كنت" بالمعرفة؟ أو لنقل الرواد الأوائل الذين تحدثوا عن الجمالية؟ كان شيئا ملفتا أن يُعتبر الجمالية معرفة جمال شيء ما. كيف تعرف أنك تعرف قبليّا (تحكم قبليّا) على شيء ما بأنّه جميل وكأن هذه المعرفة نبعت خالية من الحواس. كما أقر "كَنت" بأنّ ليس كل معرفة هي نابعة وصادرة فقط من الحواس (التجربة) بل إن هنالك معرفة قبليّة (قبل أي تجربة) لكن كيف يمكن فصل تأثير الحواس على الحكم بالجمال؟ وهو أكثر شيء ارتبط وجدانيّا به؛ أحكامنا بأن هذا جميل نابعة كثيرا أو متأثرّة -كما نتصوّر- من تجربة سابقة لشيء اعتبرناه جميلا.  



أنا والقرية


لنرى الجمال بعين الفنّان/الرسام:

مالذي جعل شاغال يرسم الوجه  باللون الأخضر في لوحة "أنا والقرية" (1911) ؟ هل كان يعرف مسبقا أن شكله الأخضر سيكون أجمل؟ أم أنه شعر بأنّه سيكون كذلك؟ ان كان قد شعر، فهذا يعني أننا نتحدث عن معرفة بالحواس أو تجربة سابقة وإن كان لا هذا يعني أنه حكم نابع من معرفة قبليّة يبنى على معطيات عقليّة لا حسيّة. بعيدا عن الوجه الأخضر والذي لم يعتد الناس رؤيته ويصعب تصوّر اعجاب الناس به وفق معرفة قبليّة -الوجه المخضرّ مثل المزرق يشير الى الاختناق-. لنتذكّر (قسم الإخوة هوراس) (1784) لجاك لويس دافيد، ذلك الشكل المهيب من التضامن الأخويّ والذي يوحي بقسم الموت في سبيل مبادئ صارمة تشبه الملامح والخطوط في اللوحة نفسها. خمن دافيد أن ذلك سيعجب الجميع ولا شكّ. الموضوع مغري ومحفّز سبق وأن أُختبرت فيه مشاعر الناس لهذا كان سهلا أن يخمن ما سيعجب الجميع في صالون باريس وعندما لاقت اعجاب الجميع اشترى لويس السادس عشر ملك فرنسا اللوحة. 

 

 

التوفيق بين المهنة والفنّ:

 هل المصمّم الداخلي فنّان أم حرفيّ ماهر؟ هل يصمّم البيوت بناء على ما يعجبه أو على ما يعجب الآخرين؟ انه لا يرسم ولا يخرج شعوره/احساسه كليّا. فهو حتما يراعي رغبة/اعجاب الآخرين. بصورة أخرى هو حرفيّ ماهر، هل يذكّرنا بالرسامين الذين يرسمون البورتريهات بناء على الطلبات ويعدّلون في اللوحة حسب رغبة الزبون؟ متخلين عن فردانيتهم في صالح مهنتهم ونعرف كم اختصم فنان (فنان) مع زبون حول الطريقة التي يرسم فيها البورتريه، وأشهرهم جاك لويس دافيد مع مدام ريكاميه ونقيض ذلك نجد بورتريهات لا حصر لها ولاتنتهي منتشرة وكثيرة كأنها صور فوتوغرافية من استديو تجاري بلا توقيع فقط توثيق كان من عمل رسامين وحرفيين بالدرجة الأولى. مع ذلك يمكننا أن نجزم بأنّ مصمما داخليا قد يكون ذلك الفنان الذي يخاصم الزبون -فرضا- في سبيل رؤيته وانفراده بحكمه بأنّ هذا الأنسب، الأجمل الخ ونعود الى السؤال بصيغة أخرى: المصمم هل يصمم أو يبني حكمه بالتصميم بأنّ هذا هو الأصح -يجب أن يكون كذلك- أم هذا هو الأجمل؟ نتحدّث عن جوانب وان كانت جمالية لكن المصمّم يطرحها كأشياء نابعة من معرفة -معرفة مهنيّة غالبا- تقول بأنّ هذا يجب أن يكون على هذا النحو، مثل نوع وشكل الإضاءة والتحكم بالمساحات يتحدّث على أنه الأصحّ لا الأجمل فحسب. على كلّ حال هو يملك مساحة ضيقة لرؤيته بسبب مراعاة زبون ما خلافا للرسام.

بالعصور القديمة كان الفنان (الحرفيّ) يرسم ويلوّن الآلهة ويختار الألوان التي ترمز اليها طلبا لرضاها، بناء على رمزيّة لون ما. لم يكن يخرج شيئا (يعبّر) عن نفسه. هو رهين مهنته وتقاليدها.

 

الفنان ببساطة يطرح الأفكار كأشياء أجمل وتكون نابعة من معرفة، ويسهل إدراك أنها ليست معرفة مهنية بل معرفة أعمق من ذلك بكثير ويتخطى معطيات الحواس.

 

(قسم الإخوة هوراس)

 

 

إتخاذ القرار:

الى أي مدى امتدّ ذلك الفراغ الشاسع والمجهول والذي احتاج الى إدراك ومعرفة ما حتّى يصل شاغال لاختيار اللون الأخضر ويختار أو لنقل يرسم دافيد لوحته؟ هل كان نابعا من قدرة العقل على تخمين الجمال وأثره أم أن شاغال استخدم نفسه/احساسه أكثر من تخمينه بأنّ الأخضر سيعجب الآخرين أم سيكون الأجمل؟ لقد راعى دافيد جانبا واضحا من الآخرين والنمط المحبّب اليهم وفق التجربة لكنه وحتما ملأ لوحته بشيء من المعرفة القبليّة أشياء خالية من أثر التجارب الحسيّة لهذا تولّد شيء كامل من هذه اللوحة (ولدت الكلاسيكيّة الجديدة) وتجدر الإشارة الى أن الزمن كان قد ترك لشاغال مساحة تجربة عقليّة وحسية أكبر مما لدى دافيد؛ قرأ شاغال وعرف وسمع عن الحركات الفنية الحديثة وتجاربها وآثارها، عرف تبدلات الفن بالزمان أكثر من دافيد. لهذا منحه موقعه الزمني افضليّة في اجتراح شكل/لون جديد لتصوير الجمال بصورة خالصة. بعبارة أخرى يمكن اعتبار الفنّ الجميل عمليّة قرار واختيار، ولو توغّلنا بالتفكير أكثر يمكن أن نفهم السبب الذي يمنع صنع آلة (ذكاء صناعي) لإنتاج أعمال فنيّة جميلة، لو حصل لكان الاختيار نابع من بيانات مدخلة (تجربة حسيّة بالنسبة للذكاء الصناعي) أي أنّه سيظل يدور في حلقة مفرغة لا يمكن الخروج منها ولا تتعدى مساحتها مساحة تلك البيانات. ولنتخيل الإنسان آلة والبيانات المدخلة فيه تجارب حسيّة يعني أن الفن الذي ينتجه نتاج تلك البيانات سيكون محدودا (كالآلة) . أما آلة (ذكاء صناعي) للقيام بحرفة؟ ممكن وأكثر بل إن هنالك آلات تقوم بذلك فعلا.

 

 

في سبيل المعرفة، مالذي يحتاجه الفن؟

يفشل الفنّ أحيانا عندما يكون مؤسسيّا؛ فيصبح لا شعوريا حرفة بحتة لها تقاليدها وتعاليمها المنمطة (خطّ انتاج) أو يكون مؤدلجا ومؤطرا بالكامل (خطابات رسميّة) مما يدفع الفنانين كثيرا الى خلق حركات أو توجهات للصدام معها وقد يخلق ذلك فنا صداميّا اعتباطيّة، غرضه الاصطدام لا أكثر. اللوحة والمقطع الموسيقي لهم مساحة لا يمكن أن تخلو من كل الاحتمالات حتّى أشد اللوحات عنجهيّة (الأعمال الجريئة) لن تخرج من طور مراعاة شيء ما حول المتلقّي. حتى إفرازات الانسان  أصبحت عملا فنيّا!* ،عُرض بناء على تجربة وخبرة حب الناس وتطلعهم لكل ماهو ثائر ومستكشِف وجديد ومستعدون أن يعذروا أي أحد طالما أن غايته كذلك. لهذا كانت المدارس خيارا أفضل من الأكاديميات، فهي خلقت تقاليد مرنة وساهم إرثها في أثراء رؤيتها الخاصة أكثر ولأنها مدرسة، شبه افتراضيّة وليست أكاديمية (مقرات، وظائف، بيروقراطيّة الخ) أمكن الخروج منها بمرونة وبشكل بناء دون أي حاجة لكسر شيء ما.  

 


------------------------------

* الحديث لا ينتهي عن فصل العمل الفنّي عن الجمال؛ لو اعتبرنا أن الفنّ ينتج الجمال هل كلّ عمل فنّي جميل؟ وعندما نقول عمل فني جميل أيعني أنه عمل متفرّد؟ طالما أن العديد من الأعمال يمكن اعتبارها جميلة مثل مُنتجات الحرفيين وما تنتجه خطوط الانتاج الآلية من تحف إذ يمكن اعتبار ذلك الجمال جمالا عمليا لا فنيّا.

الأربعاء، 24 مارس 2021

أنهكني ما رأيت





 لم يعش أحد أو يرى أكثر مما عشته. كان صاحبي دوما يقول بعد ساعات العمل المجهدة "أراك بعد أن نصحى من النوم" وكنت استلقي على السرير تنفيذا لتوقعه. الجميع نائمون. لا شيء يتحرك الا تفكيري ، وحدي أراقب كل ذلك، في ساعات القيلولة التي تعني أي وقت فراغ بعد العمل. كنت أخرج بعد أن يصحى الجميع، وجوههم مرتاحة ولا أدري كيف بدا وجهي بينهم. وكأنهم سبقوني الى اللحظات ببضع ثواني؛ كانت ردات فعلي أبطأ بثواني من المعتاد لكني أحاول جاهدا اللحاق، اللحاق بزمانهم. كانوا يمتطون قطار النوم السريع الذي أتخلف كل يوم عنه. وكان الأرق يؤخرني أكثر. مع الأيام بدأت أفكاري تعيد تشكيل طريقتها لتواكب زمانهم وتعابيرهم المرتاحة. ذلك شكّل بداخلي عالما مختلفا أعيش فيه وحدي وعالما آخر أعيش بنصفي الثاني معهم. في حياتي التي لم يروها ويبدو أنها كانت حياةً بمعنى الكلمة، شاهدت مالم يستطيعوا مشاهدته وهم متكومين داخل ذلك القطار. من حسن حظهم لم يشاهدوا كائنات الأفكار المزعجة التي كنت أجابهها وحدي. لا أحد كان سيسمعني أو ينتبه أو يرى ما أشير إليه. كدت أن أخرج من حياتهم بالكامل الى الحياة في داخلي والتي عشتها ".." كل ماكان موجودا بعمق ورأيته رؤيا العين فيني لم يكن الا فكرة أو الشعور بشيء ما وعلامته الوحيدة حدث لا يذكر. 





———-

اللوحة:

Samuel Palmer

الثلاثاء، 16 مارس 2021

-٢٩-

 وكأني فراغ يمكن لأي شيء أن يملأ بي ويترك أثره فيني. ذاكرة لاتنتهي ولاتزول، كل تلك الآثار التي تراكمت على مدى عمري. أدنى شيء يترك أثره ولا شيء يمحى، يشبه الأثر الذي يتركه الهواء بالتفاح العاري الذي يتغير لونه. تراكمات لا تنتهي، أكداس مرهقة من كل أثر وبالكاد أشعر بأني ممتلئ بشيء، تغيرت كثيرا ولازلت ذلك الفراغ. كيف يمكن لبعض الأمكنة أن تنبش عميقا فيني وتجتث أثرا قديما بالأعماق وكأنه دفن حيّا؛ لا زلت أشعر بحرارته وطعم وجوده ذاك بكل حواسي. ما نحن إلا لا شيء ونجعل كل ماحولنا يقول كلمته من خلالنا. وما أنا إلا كل ما مرّ بي. 

أدرك جيدا أن لا معنى لكلامي 

وأن المعنى كله في الفراغ الذي تُرك لكلام لم أقله بعد 

الأحد، 28 فبراير 2021

إنتظار مؤبد

 





مالذي أحمله في يدي؟
في الممر كل النظرات عدوانية انهم يعرفوني جيدا ولا أعرف أي أحدهم منهم. عند الاستقبال تلوح تعابير الغضب في وجهه أخيرا وجد حوضا فارغا أمامه يصب فيه غضبه. ألتفت لا أحد انما أنا هذا الحوض. تغضبه التفاتتي أكثر.
مالذي يحملونه في أيديهم؟ كلهم يحملون أوراقا مختلفة عني ولا أحد ينظر اليهم وحدها النظرات تحدق بي وكأنها تدفعني بعيدا عنهم.
الهواء خانق وحده الحديث يمكنه أن يفتح ثقبا في هذه الأجواء لكن الأفواه التي أراها ملتصقة بقوة كأنها تحاول كتمان غضب جاثم تكاد تنتفخ منه الوجوه
الكرسي المعدني فارغ الا منّي وهو لثلاثة اشخاص يجلسون بجوار بعضهم، بارد للغاية. أمنع نفسي من الارتجاف
خلف جدار نصفه زجاجي مكاتب عدة مليئة بالأوراق ويجلس فيها شخص وحيد لم تتغير منذ ساعات وقع حركاته الروتينية وكأنه آلة وجزء من تجهيزات تلك المكاتب
شخص خرج من المكان عبر الممر الذي جئنا منه ولا أحد يلتفت إليه، شعور عميق بالضجر والترقب المزعج ألتفت الى الممر فيه حارس مدجج ببزته وتعابيره الرسمية انتبه الى وكأنه ينهرني عن التفكير حتى بالخروج من هذا المبنى الذي نسيت شكله بالخارج ولا أذكر إلا أن السماء كانت بلون اسمنتي والمبنى ملطخ ببقايا اسمنتية سقطت من سقف السماء الاسمنتية مع مواضع حالكة بالسواد
في الوقت الذي بدأت انتبه الى أن حديثا عابرا كان يدور في الجهة التي فيها الأشخاص يجلسون بانتظارهم. سمعت أحدهم يصب لعناته على مجموعة أشخاص في باله لا أدري لم شعرت بأنهم يعنون لي شيئا وآخر "ليتهم يُحرقون" وآخر بكل برود يتحدث عن العمر وهو يضيع أغلبه في مثل تلك الانتظارات التي لا تنتهي "تركت كل أعمالي وأهلي وهذا رابع يوم لي ولا فائدة" وصوت كان قد ألقي من بعيد -من جهة فيها مجموعة موحدي اللباس والمكاتب وهم من بيدهم إطلاق سراحنا- بالكاد رأينا وجوههم ولا ندري من أي فم كان قد ألقي منه ذلك الصوت وهو يقول "فلاااان" نهض فجأة أحد المنتظرين، كان في حالة إطفاء كاملة كان شعورا رهيبا أن صوتا يحمل اسمه ألقي به من تلك المجموعة بكل برود لكنه كان قادرا على احياء ما خلناه آلة مطفأة لينهض بكل نشاط ملبيا ذلك النداء -كيف سيكون وقع ذلك الصوت بأسمي؟- لايمكنك تخيل من هم هؤلاء الأشخاص وما مدى أهميتهم
مضت بضع ساعات منذ أن عادت الحياة الى هذا المكان بوقع ذلك الصوت، تفاجأنا بأن الآلة -الشخص الذي لبى النداء- كان مطفأً أمام أحد هؤلاء الموظفين، آلة ملقاة بالكرسي أمام الموظف الذي أظهر أخيرا اجزاء من بدلته الرسمية بفعل التفاتته الى زميله الذي يحادثه بود
-السقف يهبط والممر يحكم قبضته-
كم سنة وأنا على هذه الحال؟ مررت بكل سنواتي أتذكر. كان الزمان جالسا عندنا تخيلته أطول قليلا وتخيلته مرة كخط عابر يكاد يكون مستقيما وتخيلته أي شيء يأخذ البصر وامتداده بعيدا لكنه كان جاثما معنا وها أنا أراه وتحيط به عيني، شخص هزيل أكثر مني وشعرت بالشفقة كثيرا عندما تذكرت بأن كل مافيني جزء منه، كان أهزل من أن يحمل أحلامي - "لعنة" - وكان أهزل من أن يخرجني من هذا المكان

الاثنين، 8 فبراير 2021

صانع الآلة

*



بالبداية كان متلهفا لإنجاز العمل على آلته التي لم يرها أحد. كان قد أمضى سنوات وهو يبني آلته القابعة في قبو البيت من مختلف القطع والبراغي والأفكار. نسي متى بدأت فكرة صنع الآلة ونسي كذلك تصميمها الأولي. لكنه كان مذهولا من قدرته على إكمال عمله بها واستعادة صورتها الأولى وكأنه بمجرّد لمسها ومسح يده عليها تخبره أين وصل وإلى أين عليه أن يكمل. يعرف يقينا أنها ستعمل ولكن لا يدري كيف ومتى. مالهدف الأول من صنعها وماذا تعمل لا يذكر بدقّة. يقف بإعجاب لمظهرها، يدير ظهره يغلق الأنوار والباب منهيا عمله لهذا اليوم.

 

كان يشعر بالرضى كثيرا وهو يشدّ البراغي جيّدا ويده تختبر ثبات القطع الموصولة بهزّها. يشعر بالارتياح أكثر مع تأكده بأن يده لم تعد قادرة على هزهزة تلك الأجزاء التي باتت مثبتة بإحكام. كأن قلبه هو من أُحكم إثباته ولم يعد يضطرب بشعوره داخل صدره. كانت تسري في عضلات يده دغدغة تحثّه على شدّ البراغي بكل ما أوتي من قوّة ليحس بثبات الأجزاء أكثر ويشعر بالاحتكاك المريح وهو ويشدّ ويبرم آخر رمق من البراغي التي أكملت الدوران في المجرى بإحكام.


"أكمل غدا" نهض وهو يأخذ كوب الشاي الذي نسي -كعادته- شربه. يشعر بأنّ السكر قد ازداد مع برودته، لكنه يشرب الكوب على آخره بكل رضى. وكالعادة أعطى نظرة فخرة واعتزاز بآلته التي باتت أكمل. يغلق الباب خارجا ليكمل يومه كيفما كان فهو قد نال القسط الأوفر من هذا اليوم بإنجازه وعليه يمكن اعتبار ماتبقى من اليوم وقت فراغ يقضي فيه ما يشاء. 


لكن ودائما مع مضي الوقت وتركه لآلته مدة يبدأ الشك يسري في تفكيره. لم يكن على يقين بما يمكن لهذه الآلة أن تصنعه، لكنه واثق من أنها ستصنع معجزة تسعده. كان يعجبه أن أجزاءها موصولة بإحكام إلى بعضها البعض دون أن يشوّه أي مسمار مطرقة جسدها. كل شيء محكم بسلاسة. كان يعجبه التأمل الى الأجزاء الموصولة بمختلف الأشكال. وكان يرى في بعضها يد تلمّ اليها يد أخرى، هكذا يراها. وبكل ما أوتي من قوة كان يحاول منع الشكوك من دقّ أي مسمار في آلته بقوّة.


كان حريصا على إغلاق الباب لم يكن يحب أبدا أسئلة المتطفلين العقلانيين الذين يسألونه، كيف ستعمل؟ وأين المخطط؟ كيف يفهمهم بأن الآلة ستعمل في يوم موعود ينتظر قدومه. يوم قريب، من الصعب اقناعهم بأنه يبني آلته وخطة العمل في روحه وأن طريقة عملها موجودة لكنها في درج الأيام أو في درج ذاكرته وكل ما عليه هو إكمالها لينفتح ذلك الدرج. لم يكن يمنعه من الوصول لليقين بذلك إلا مشاغبة الأسئلة له. 

 

ومع مرور السنوات بدأ ينقطع عن العمل أحيانا. تمر أيام يفقد شغفه فيها لكنه يعود لاحقا بحماس وثقة متخيلا أنها أوفى ما تدّخره الأيام له ولمستقبله. 

 

 كان شكل الآلة عجيبا، أعين المتطفلين من أقربائه طالتها. بدؤوا يسألونه أكثر لكنه يجيب اجابات ابتعاديّة. (إنها أقرب الى العمل الفني منه إلى آلة ميكانيكية) مع أنها أعطت أشواطا من النجاح في مراحل التشغيل الأولى " ليتهم يرونها وهي تتحرك وكيف تسري الحركة بين دوائرها بانسياب ودقة" قالها وهو يشعر برعشة فرح في قلبه. 


"منذ متى وأنت تعمل عليها؟ ومتى اكتملت إلى هذا الحد؟" يسأل أحد أقرب أقربائه وهو يرى الآلة أول مرة. "منذ سنوات عملت عليها وفي بالي خطّة أشعر باكتمالها لكن لا أستطيع الإفصاح عنها"، "جميل، عملك يبدو متقنا لم أتخيل أن غيابك في هذه الغرفة سينجم عنه شيئا بهذا الإتقان" هذا أقصى ماستطاع قريبه قوله.

 

  أكمل حياته، وكل ما يمر على أقرانه من قرارات ومجالات مرت عليه. لم يكن يختلف عنهم خارج الغرفة. كان في نظرهم انسانا عاديّا. لكنه لم يشعر بالرضى على الإطلاق كانت الأيام تكدّس -خارج الغرفة- أثقالها على صدره. لم يعد يحتمل، بدأت أعراض مضايقته تزداد، روحه بدأت تنفلت من هدوئها وحدها الآلة كانت القادرة على امتصاص ما يحدث من همّ بالخارج . 


كان يضع آماله عليها، ومع السنوات كبرت آماله بها أكثر.

"حتما ستعمل، حتما ستعمل" 

لم يعد يطيق انسلال أي شكّ فيها، كانت أمله الوحيد والتشكيك فيها يعني القضاء عليه لم يعد يملك إلا أن يؤمن بها.


اكتملت الآلة، الجسد، العمل الفني، الكتلة، ولم تصنع شيئا "وماذا بعد؟" شعر بتوتر. بالإلهام الذي كان ينساب قد جفّ وبدأت الشكوك تجفّف خياله أكثر لم يعد يفهم ولم يعد يتذكر كيف ابتدأت أحلامه، الآلة باتت باهتة ووجهه أصبح باهتا. 

 

بدأت التعليقات تنساب على آلته. جن جنونه -من الداخل لا أكثر-. كأنهم يضعون الديناميت فيه ويطوقون بها روحه التي بدأت تشعر بأنها مكبلة أكثر.

 

بدأت مشاعر الكره 

" آلتي كانت خطأ" قالها لنفسه كثيرا ولم يسمعها أحدا من حوله. "بماذا تصلح؟" لم يدركوا مدى فداحة ماقترفوه. لم تكن آلة عادية كانت شيئا غرس فيها روحه وخياله وأحلامه أكثر عمل يقدسه وكرس فيه أمله ملطخا بالتعليقات الساخرة، لم تكن الكلمات ثقيلة لكن لا أحد شعر ببركانه. 

بقطعة حديدية وحادة دخل على آلته أو كومة الأجزاء لينهي كلّ شيء.



 

   *van gogh