الاثنين، 4 ديسمبر 2023

كيف يمكن عمل فيلم مثالي عن نابليون؟



شخصية تشبه الاسكندر المقدوني ويوليوس قيصر مجمع على عظمتها ويصعب الحكم عليها.لا نجد صعوبة في الحكم على هتلر وستالين أو جنكيزخان ورغم أن نابليون يشبه الدكتاتوريين والطغاة بجوانب كثيرة إلا أنه نادرا ما تطلق عليه هذه الصفات بصورة مطلقة. كأنّ التاريخ قام بعمل مونتاج لسيرته وتحاشى تشويه حكايته بالحقائق ليقتصر على الجانب المشرق من عظمته، سمة فعلها التاريخ لأشخاص نادرين.

 هل انتاج فيلم بسرديّة تعظيميّة مشابهة لفيلم أبيل غانس عام (١٩٢٧م) ومدته ٦ ساعات تقريبا عمل مثاليّ؟. بسيرته الكثير مما يمكن الحديث عنه وما يمكن كشفه والتركيز عليه كمّ هائل من العناصر التي نجدها في القصص والكتب واللوحات الفنيّة عنه. انتقاؤها في فيلم يحتاج الى انتقائيّة ابداعيّة، كان يمكن أن تكون بصورتها الأكمل بمشروع كوبريك الذي توفّي قبل اتمامه ويمكن فهم سبب بقاء المشروع في ظلّ المسودّات والأفكار والمفاوضات سنين طويلة. لدينا فيلم ريدلي سكوت بطولة خواكين فينيكس ولا أدري كيف سيكون.

الأمر أشبه بمحاولة رسام اختزال نابليون في لوحة، أي زمن سيختار؟، على أنّ اللوحة ليست إلا قطعة متوقّفة من الزمن إلا أنها قادرة على اعطاء صورة مجملة عنه ربما أكثر من فيلم يدوم لساعات؛ فالمدة ليست دائما في صالح الأفلام. هل تستطيع البوسترات تصوير ما تصوّره اللوحات؟ في أحد بوسترات فيلم سكوت نجد فينيكس جالسا بوضعيّة تشبه لوحة الرسام الفرنسي ديلاروش المرسومة عام (١٨٤٠م) بعنوان "نابليون في فونتينبلو في ٣١ مارس ١٨١٤" بعد هزيمته الأولى من الحلفاء. بالبوستر يرتدي قبّعة ويبدو أقلّ بدانة وتعابيره مختلفة؛ بدا جديّا ومتجهّما في حين كان اليأس والغضب واضحين عليه في اللوحة، وعلى الجدار نجد توقيع نابليون باللون الأحمر. 

وانتهي بتساؤل: كيف سيبدو الفيلم المثاليّ عن نابليون؟

 

لوحة ديلاروش

 


لوحة جاك لويس دافيدز "نابليون عابرا الألب" (١٨٠١م)، لعلها أشهر لوحة لنابليون. 


 

 

    


الاثنين، 16 أكتوبر 2023

طنين

 



 "ألا تسمع هذا الصراخ الرهيب الذي يحيط بك من كل جانب؟ هذا الصراخ يسميه البشر بالصمت"

العبارة لامست أعمق ما يمكن للكلمات حفره في ذاكرتي. كم بدا ذلك رهيبا؛ اعتبار الصمت صوتا نسمعه. يشبه الصمت التحديق بعيدا بالأفق، أو كما صوّر الرسام فريدريش كاسبر الأفق في لوحته "متجول فوق بحر الضباب، 1818م". لوحات كاسبر مليئة بالصمت، بعبارة أخرى مليئة -وللتوّ انتبه الى هذا الرابط- بالأفق. العبارة لجورج بوشنر، أخذتها من فيلم " لغز كاسبر هاوسر، 1974 " إخراج، فرنر هيرتزوغ. 

هل توقّعت أن تُحرم يوما من سماع ذلك الصوت بسبب عرض صحّي، أو علّة طفيفة تسبّب طنينا في أذنك؟

 كم أذهلتني معلومة أن جزءا من الناس بعد أن يفقد قوّة السمع ويبدؤ بالضعف يحلّ الطنين تدريجيّا على سمعه بدلا من الصمت! وكأن انعدام الصوت ليس إلا ذلك الطنين المُزعج الذي يدوي داخل الرأس ويملؤه فعلا بالفراغ، ذلك الفضاء الذي يخلقه الصمت على أذهاننا وداخل رؤوسنا ليس فراغا بل أفقا واسعا يجعلنا نتنفّس بعمق. ولم يقوى الضجيج يوما على اسكات الصمت؛ إذ أن صمت بضعة أجزاء من الثانية كافية لتجعلنا نتنفس. لكن الطنين يسكت الصمت، الطنين فراغ مُزعجّ. فراغ تؤكده محاولتي اليائسة لإغلاق أذني. وبالشعور بأنّ كل ما يلفت الانتباه باطمئنان حولي يتلاشى ويتشتت وجوده الذي كان يملؤ فراغا يمكن أن أسند رأسي أو تفكيري عليه. كل يوم منذ أيام وأنا أحاول سماع ذلك الصوت الذي أحنّ إليه، الصمت الذي لطالما أحببته الى حدّ أن عبارة عنه كانت كافية لترك أعمق حفرة لمست شيئا عزيزا في ذاكرتي.

 


الثلاثاء، 13 يونيو 2023

-٣٤-

 


ليتك تعرف مالذي تعنيه هذه الصورة بالنسبة لي؟ لن أكذب لو قلت بأنها واحدة من أهم  عشر أو خمس صور رئيتها في حياتي -موضوع صور أثّرت بحياتك يبدو شيّقا؛ له وقفة لاحقة- بعيدا عن الرومنسيّات واجترار الحديث عن الذكريات. هذه أوّل صورة رأيت بها زيّ برشلونة، في صغري بمجلة قديمة ومهملة قلبت الصفحات -لا أذكر أكنت حينها أعرف القراءة أم لا- لكن "يلعن" كم يبدو اللون الأحمر والأزرق فاتنا بشكل لا يصّدق! أحببته وحينها لا أذكر من سألت وقال لي: هذا هاجي والآخر ستويشكوف لاعبي برشلونة ومن بعدها وأنا برشلوني الى الأبد. 

 

منذ فترة كنت وددت الحديث عن كرة القدم كثيرا. بعيدا عن محبيها الصاخبين والمحللين الذين يتحدثون بلغة الأرقام الكسولة وهم يقولون هذا أفضل وهذا أعظم من هذا، عليك أن تعرف أن كلّ الأرقام عليها أن تخرس أمام مدرب نوتنغهام فورست الراحل براين كلوف الذي حقّق مع نادي صاعد من الدرجة الثانية دوري الأبطال مرتين متتاليتين وقبلها الدوري مع فريق صعد به. لكي لا أشعرك بالملل؛  قد لا تبدو محبّا لكرة القدم وأعدك أني سأتحدث عن ما سيحبه كل انسان في عالم كرة القدم، قصص الوفاء، الحزن والفرح وبعض اللقطات الغريبة. سأجرب أن أقول ما أرغب بالحديث عنه من أحداث دون سردها. لحظات غريبة مثل معانقة كاسانو للحكم الرهيب كولينا  وعن اللاعب الذي أصرّ بعناد على ارتداء الرقم "١٣" في فرقه متحديا المعتقد الذي يقول بأنه رقم مشؤوم ومع ذلك لا أذكر وجها حزينا مثل وجهه -قد يهمك أن تعرف اسمه- عن الفرق ذات اللعب الجميل والتي ياللحسرة لم تتجوّج لهذا قلّة من يتذكّرا روما سباليتي مثلا وغيره وأجمل فريق مرّ بالتاريخ برشلونة من قدوم رونالدينهو وصولا الى بيب حتّى رحيل ميسي، لن نحسد الأجيال السابقة على مارادونا. ماكنت أشعر به وأنا أتابع مباريات السيريا أ مثلا بين سيينا وأتلانتا وأسماء أشكّ بأنّ أحدا سيتذكّرها. 

أطلت الحديث؟ هذه ليست الطريقة الجيدة للحديث عن كرة القدم، هل يمكن أن يُكتب شيئا عنها أجمل مما ترويه المقاطع؟  يمكنك أن تقرأ تصريحات بيب غوارديولا وهو الأكثر واقعيّة وتصريحات زالاطان -الاسم الذي أطلقه على زلاتان ابراهيموفيتش- الأكثر جنونا من الجميع. أتذكّر منتدى اسمه "الهدف الرياضي" كان يجمع عشّاق الكالتشيو (الدوري الايطالي) وهم أجمل من يتحدّث عن كرة القدم. كانت المواضيع هناك بجمال المواضيع التي تتحدث عن الشعر والتي كنت أقرؤ الكثير منها ذلك الوقت. أؤكد أني قرأت ما يمكن منه اخراج أمتع وأجمل الكتب حتّى لمن لم يشاهد مباراة كاملة في حياته.

 

أعود الى الصورة أول مرة رأيتها كنت صغيرا وكنت ألحّ بحثا عن زيّ برشلونة بألوانه التي فتنتني، للأسف لم يكن هنالك أيّ لبس بهذه الألوان، وماوجد كانت درجات الأزرق والأحمر تعيسة.   


+

اضافة متأخرة، أحب النطق الحماسي لرؤوف خليف في مباراة بروسيا دورتموند وريال مدريد لاسم اللاعب ونجم بروسيا رومان ليفاندوفسكي، كان رؤوف ينطقه "ليفاندوسكي" ليتناغم مع رتم الحماس لتعليق رؤوف. كانت ليلة مميزة وسوبرهاتريك تاريخي لليفا. بروسيا دورتموند لعله أكثر أندية اوروبا حضورا بالجماهير، ظلت جماهيره تسجّل أرقاما قياسيّة بالحضور ومؤازرة الفريق. دورتموندالمدينة تقع بالاقليم الصناعي "الرور" أكثر اقليم الماني تعرّض للقصف والتدمير في الحرب العالميّة الثانية. تذكّر مقلب تلفزيونيّ عرضوا فيه على مشجعين اندية المانية تشجيع النادي الخصم، لا أنسى مشجّع دورتموند العجوز، أصلع بملامح حادّة وصارمة لكن ذلك كلّه لان بحزن وهو يقول أبدا لا يستطيع ولا يمكن هو شيء ليس كما يتصوّرون طلبه. رغم المبلغ الكبير الذي عُرض عليه وهو ولاشكّ مبلغ كبير جدّا ليمنح لشخص بنهاية عمره كم كانت حياته ستتغير فقط لو وافق على تغيير ميوله الكرويّ لكنّه أصرّ على الرفض وبدت ملامح الحزن على وجهه، كأنه يسأل نفسه مالضير من تغيير ميوله؟ بدا وكأن مجرّد السؤال انتهاك لحرمة عزيزة على قلبه. لكنه بالنهاية رفض، نعم رفض كلّ ذلك من أجل ناديه الحبيب.

مذهلة كرة القدم الى أيّ حدّ يمكن لها أن تكون شيئا ما وأي ما في داخلنا.

الأربعاء، 7 يونيو 2023

-٣٣-

 عن الانمي والذكريات أتحدث، كنت أفكر بالحديث عن كرة القدم والدوري الأوروبي. ربّما بمزاج آخر. 


هل استمتعت بالانمي بطفولتك؟ هل يمكن للانمي بعد الكبر أن تترك أثرها الناعم بذاكرتك كما تفعل بطفولتك؟ بالنسبة لي عالم الكرتون -أسمي الانمي بعد الدبلجة وماشاهدته بمرحلة الطفولة عملا كرتونيّا- ترك أكثر من ماريّة مميزة بذاكرتي، لا أنساها وأحب العودة اليها لأني بذلك لا أعيد المشهد بل أعيد المشهد وأنا أقف خلف ذلك الكائن الذي كنته طفلا. كيف ولماذا شعر بذلك؟ 


عن الاطالة ..

سأمرّ بأعمق ما أتذكره من مشاهد آتذكرها لحظة كتابتي هذه:

مشهد رامي في المسلسل الكرتوني "الهدّاف" وهو طفل منوّم بالمستشفى اثر حادث أدّى الى كسر ساقه، استيقظ ليلا، الغرفة مظلمة والجوّ راعد وماطر وبالنافذة رأى كرة ملقاة ومتّسخة تحت المطر. حمل رامي نفسه بعكّازه ومشى بصعوبة خارجا ليلتقط الكرة، تعثّر وسقط وابتلّ وتلطّخت ملابسه بانهاية ينتهي المشهد ورامي يمسح الكرة وعليه ابتسامة داخل غرفة المستشفى. المشهد خالي من أيّ كائن حيّ، وحده رامي والكرة والغرفة مظلمة ولامكان للنور. المشهد مليء باللون الأزرق القاتم. لم أفهم سبب المشهد ولا لماذا رامي حكى هذه القصة لحنين اخت علاء. لكنه كان كئيبا بدرجة ناعمة، كآبة لا تستدعي أن تطردها من ذهنك، تلامس حدّا رهيفا من القبول دون اختراقه.


من "الزهرة الجميلة سوسن" عمل فيه غرابة وحدّة ناعمة. احدى الشخصيات الشريرة مرعبة رغم أنها كوميديّة الاطار ومضحكة ويتمّ التنمّر عليها كثيرا لكن ملامحها كانت تمثّل لي كابوسا منفرا ولا أدري كيف! باحدى المشاهد كان هذا الشرير -نسيت اسمه- في الشارع يطارد سوسن لكنها وبوسط زحام المارة -هكذا اذكر- خرج ذيله الغليض؛ الشرير عبارة عن راكون بشريّ سمين ولونه قاتم وعند خروج ذيله وانتباه المارة اليه نفروا منه وبدؤوا بمطاردته لإيذاءه. شكله كان مؤذيا بالنسبة لي وكم كان المشهد مبهجا وغريبا في نظري. على فكرة أغنية المسلسل الكرتوني جميلة وصوت المغنّي عذب.

 

"مخلص صديق الحيوان" مشاهد كثيرة وغالبا ملامح لحيوانات حزينة. القفزة الانتحاريّة للحصان الأسود وروبو زعيم الذئاب ومشهد نهايته وأكثر حسرة مخلص على موته وندمه وكلماته ".. مهما كان السبب فقد قتلت حيوانا وأنا حزين" ولا أنسى الأغنية الحزينة بنفس الحلقة في مشهد فيدباك روبو.


من "الكابتن ماجد" عمل لا أحبه لكن مشهد الغروب والجرف الصخري واجتماع أعضاء الفريقين لمواساة وليد كان مؤثرا. حتّى موسيقى نهاية المشهد كانت مبهجة. حدث ذلك بعد الهدف الذي أحرزه بسام على وليد لأول مرة، في مباراة تدريبية اقتحمها بسّام بمشهد دراماتيكي. 


لا أدري لم كنت أحب الاعمال الكرتونيّة التي تصوّر الأصحاب والرفاق، المقاتلين وأعضاء الفريق كنت ألمس ذلك الخيط الحميميّ الذي يطوّقهم وكم كان مشهد اختفاء أحدهم موجعا بالنسبة لي. أعمال كثيرة ومنها "سنجوب" عندما غادرت السناجب الغابة التي دمرها البشر لمشروع صناعيّ يهدف الى قطع الأشجار، هاجروا بحثا عن غابة بديلة. مشاه كثيرا من هذا القبيل مكوّمة في حجرة ذاكرتي، تشبه الى حدّ ما المستودع المظلم تحت الدرج (بالعامي دِرِجة) لبيت عمّي كان مليئا مليئا بالألعاب المدمّرة كنت أغطس فيها بحثا عن أي لعبة جديدة وأنا أتلمّس بالظلام معالم اللعبة البلاستيكية "الخربانة" أحيانا كنت أمرّ على ملمس قماشيّ لدمية أو شعر أو شيء غريب. تذكرت، باي ذا وي تذكرت؛ زحدهم قال لي عندما انطفأ كهرباء المنزل وبات مظلما فجأة اندفعنا الى السطح عبر الدرج بسرعة يقول: كان ابن أخي يجري صاعدا ويده على -حديدة الدرج ما أعرف اسمها- وبينما يده تمسح المعدن وهي تصعد مرّت على ملمس غريب! كان فروا غالقا!! يقول من بعدها لم يعد ابن أخي كما كان. كيف أبحث بذاكرتي عن الاعمال الكرتونيّة وما فعلت بي، بالضبط أغطس فيها كما كنت أفعل بدرجة عمّي. أتمنّي أن تكون الصورة واضحا يا عزيزي القارئ. (": 


يوجد الكثير لكن وباختصار، أعظم عمل تحدّث عن ذاكرة الأعمال الكرتونيّة كان "مونستر" عبر شخصيّة شتاينر وجريمر. مشهد يطول ويطول الحديث عنه. أما حاليا فهجوم العمالقة يتسيّد كلّ اللحظات المرسومة في ذاكرتي. 


ويومكم سعيد.

 

 

الجمعة، 2 يونيو 2023

-٣٢-

 كانت أول تدوينة لي هنا عن فيلم Julie&Julia (2009) الفيلم جعلني أحب التدوين والمدونات، لا زلت أتعجب من قدرة الفيلم على جعلي أرى ذلك الجانب اللذيذ من كتابة اليوميّات. كغيري فتحت عددا منها وهجرتها الآن لا أدري أين رميتها، أحنّ اليها مثل دفاتري "الكشاكيل" أحب فوضويتها وشخابيطها ورسوماتها، تمنيت تمنيت لو أني احتفظت بكلّ دفاتري تلك. المدونة جميلة كيوميات وفوضويات بلارتابة مع غياب شبه تام عن فكرة جذب ولفت الانتباه. كنت سأتمنى الاطلاع على دفتر الكشكول أكثر من مذكرات الشخص الذي أرغب بمعرفته. على كل حال الكشكول مخبأ داخل أدراج الغرف أحيانا بلا أقفال والمدونات مكشوفة بعالم النت فكرة أنها يمكن أن تُكشف خلسة هو ما يمنحها قيمتها لهذا لا نجد الدفاتر السريّة مخبأة داخل الأقفال ولا المدونات الخاصة محجوبة بمواقع مغلقة، لابد من خيط رفيع يمكن منه الوصول اليها. الأمر يشبه لعبة نلعبها بالهرب من القرّاء والافتراض بأن أحدا ما يلحق بنا.

طولت. أعود للفيلم جولي معجبة بالشيف الأمريكيّة جوليا، تحاول تقتدي فيها وتفتح مدونة فيها تفاصيل مقادير وطبخات "الشيفة" جوليا. كتابة كلّ شيء بلا مواربة هو ملح المدونة، كيف أنها بصعوبة استطاعت قتل الكركند[١] وصار القرّاء يسمونها "قاتلة الكركند" D: وشيء من وصف المقادير وعنّي أحب أحب أقرأ وصف الوجبات بمنيو المطاعم، أحيانا تكتب بطريقة شاعريّة وتشهّي عبارات مثل: مع صلصلة الـ ... الشهيّة ، المقرمشة، بنكهة الـ ... المنعشة، إلخ. طبعا كلمة المنعشة تعني شيئا حامضا أو مالحا مثل "الأومامي" الفيلم خالي من الأحداث لكنه حليو وحتّى البطلة جولي "وش ملحها" بالفيلم. 

أحاول أشرح معنى عبارة "وش ملحها" لا أعني جمال الملامح التعبير يوحي بأنّ تصرّفات الشخص "راكبة ولايقة" على الملامح. لهذا يسهل وصف أحدهم بأنه "جميل" من الصور لكن يصعب وصف أحدهم "المملوح" فقط من خلال الصور دون رؤية شيء من التصرفات. "الملح" وصف لملامح الشخصيّة لا الوجه كجزء علويّ يحتوي على أعضاء من جسد الانسان. ألهذا نسمع كثيرا احداهنّ تصف ابنها أو ابن قريب محبّب اليها بـ "ياملحه" وما رأيكم بعبارة "كله ملح وقبله" كلها توحي بالقبول وحلاوة الشخصيّة أكثر من الملامح. كثيرا مانعنيها بجمال الروح ولكن بسياق عامي عندما نحاول تحاشي وصف الملامح. بكل صراحة هذا ما أفهمه من العبارة وفق السياقات التي مرّت عليّ. ولأن نظريّة الانتخاب الطبيعي يمكن أن تكون صحيحة أكثر شيء في عالم المصطلحات والعبارات، أجد أن لهذه العبارة جذر عميق. الأكلة والطبخة مهما كانت متقنة راح تكون ناقصة لو خلت من الملح والأمر ينطبق كذلك على الملامح. 

 

--------------

[١] الكركند: دائما عند قراءتي لهذا الاسم احتمال يكون المقصود لوبستر أو كابوريا أو استاكوزا أو أم الربيان. المقصود بالفيلم الكائن المفصليّ الطويل صاحب الكلابات. بالطبخ أحيانا يتم قتله بغرس سكين حادة وقوية خلف عنقه أو يلقى حيّا بماء مغليّ حتّى يتحول لونه بعد الموت للون البرتقالي. جولي لم تستطع قتله وعلى ماذكر اضطرّت للإلقاء به حيّا في قدر مغليّ، لهذا سميت بقاتلة "الكركند"

الاثنين، 29 مايو 2023

-٣١-

كيف فقدت ذلك الحبل الرفيع الذي كان يربطني بمدونتي؟ لم أعد أكتب منذ مدة كما تُكتب المدونات، أفكار غير مرتبة وآمال وتطلعات مبعثرة أقوم باختطافها برفق كما تُخطف الفراشات قبل الطيران. 


by the way تذكرت معلومة لا أذكر أين حصلت عليها، غالبا من فيلم وثائقي قديم. المهم، في الكولوسيوم كان المصارعون يتقاتلون حتّى الموت تحت هتاف الجماهير، كانوا عبيدا وأسرى حرب بالغالب وبعضهم عومل بالنهاية كالأبطال. إن أراد أحد المصارعين الاستسلام كان يجثوا على احدى ركبتيه ويرفع يده اليسرا، عندها يقترب الخصم بهدوء ويغرس السيف في عنقه من الخلف بكلّ رحمة! مالذي يدفع أحدهم لهكذا استسلام؟ هل تعب من القتال، هل ضجر من كل ذلك العبث ليقول كفى أروني كيف نبدو بعد الموت؟ لا أظنّها شيئا من ذلك، كلها افتراضات تشبه بنات أفكار عصرنا؛ السلم جعلنا نفرغ للتفكير. ما يحزنني أنني لم أجد ذلك المنظر في لوحة، لا لأن ذلك قد يعني أن المعلومة خاطئة وأني أتمسّك بها لرومنسيتها -أيشبه تفكيري هذا شيئا من تفكير شيطان الجرة في انمي "قاتل الشياطين" الذي يتأمل سكرات الموت كصورة فنيّة- أكرهه، على كلّ حال كم أتمنّى أن أسمع كلمات المستسلم الأخيرة، كم كان عددهم؟ هل كان غاضبا وهو يسمع صوت هتافات الجماهير؟ ربما منها صافرات استهجان وجهت نحوه. كلهم الآن ميتيون وبعد أكثر من ألفي عام ما رأيك أنت بما حدث؟ هل يمكنك تفسير ذلك الحشد من الجماهير؟ لعلهم كانوا أعلى  صخبا من جماهير شالكه أو بروسيا دورتموند أو لاتسيو روما في أوج حماسهم بعد احراز فريقهم لهدف في المرمى، أريد منك أن تُسكت من يسخر من هتاف البشر على دخول كرة مطاطيّة داخل المرمى وتجعله يخبرك لم كانت جماهير الكولوسيوم تهتف بجنون؟ لا أحاول عَصر معنى مأساوي من كل ذلك، لكن الانسان لئيم لا يبالي غالبا بالآخرين، إنه لا يبدي أي اهتمام ببوح أحدهم طالما أن ذلك البوح لم يُخرج بصورة جمالية تثير اعجابه؛ لهذا يحتفي بحزن الشاعر ولا يأبه لغيره، لمن لا يحكي شيئا بل إنه وعلى علم منّا يعيش مأساته بصمت لكن الشاعر ومن مثله يُحتفى به حتّى يجد في حزنه لذّة وقيمة. الواقع أن فينا شيئا يشبه شيطان الجرّة الكريه في انمي "قاتل الشياطين". 

 

انتهيت، لو كنت رساما لرسمت كلّ محارب استسلم في تلك الحلبة. لوحة أجمل من لوحة الرسام الفرنسي جيروم "التصويت بالابهام" 

 

 

 - شكرا على ما قرأت ووصولك لآخر سطر D: -

لو كنتَ أنت  رسام، ماذا كنت سترسم عزيزي القارئ؟


     

الخميس، 27 أبريل 2023

حنيني الى كتاب عن الفضاء الخارجيّ




أجمل ما يمكن أن تقرؤه بعزلة كتب الكون والفضاء. أثناء القراءة يقودك حنين غابر للتحليق أبعد عن عالمك. للأرقام الفلكيّة، والأبعاد السحيقة جاذبيّة غريبة؛ اللحظة التي تبدأ فيها بتخيّل المكان والزمان هناك تمنحك سكينة تكاد تجعلك تشعر بغتة بنبضات جوفك. إن التعجّب من كلّ تلك المعلومات تجعلك وياللمفارقة تدرك الكون الذي أنت تمثّله بالنسبة لملايين الخلايا والمكوّنات الحيّة التي تعيش في داخلك.


الكتاب الموجود بالصورة كان الوحيد عن الفضاء الخارجي في المكتبة، كان بعبارة أخرى مكوكي الفضائي الوحيد والذي يمكن من خلاله الانطلاق نحو عالم يتمنّى البشر جميعا معرفة كلّ شيء عنه. 


كنت أتخيّل عند كلّ جملة تصف تضاريس وأجواء كوكب ما كيف سيبدو العيش هناك؟ وكيف ستبدو الحجارة هناك؟ وكثر الخيال الى حدّ أني كنت أشعر ببرد الكواكب البعيدة وبالحرارة اللاهبة للكواكب القريبة ومن الشمس وكم شعرت بالاختناق بعد أن قرأت بأنّ الزهرة كوكب يفوح بالأدخنة الملتهبة وتحسست تلك الحرارة وهي تلهب قصبتي الهوائيّة. وبعيدا الى المريخ أعتقد أن نبضات قلبي تغيّرت قليلا عند القراءة بأن القطب الشمالي منه هو المكان الوحيد الذي يمكن العيش فيه، بضعة عشر درجة تحت الصفر. المريخ كوكب عجيب؛ تقرؤ فجأة بأن أعلى قمة جبل فيه ارتفاعها أكثر من ٢٥ كيلو مترا! قمة افرست تقريبا ٨ كيلومترات؟ كيف يبدو المشهد على القمة هناك؟ هل تخيّلت ذلك؟ لو قرأت الكتاب وحيدا لتخيلت بالفعل. بعد المريخ وبمسافة سحييقة يطلّ المشترى وتبدأ الكواكب بعدها بالتباعد أكثر وأكثر عن الشمس، بل عن الأرض حيث نحن. الكواكب أكبر وأبعد للغاية ولم أستوعب إلا متأخرا أن المشترى وزحل كواكب غازيّة يمكن أن تغوص فيهما على حدّ فهمي! كأنه كوكب من طين. وكنت أدهش لأن وصف كوكب زحل مرّ بالكتاب الخالي من شاعريّة التعابير بسلام؛ دون التغزّل بحلقته الفريدة. حجارة وقطع من الجليد هذا كل ما في الأمر! الواقع أن الكتاب ليس بحاجة إلى تعابير شاعريّة؛ الأرقام الفلكيّة تُغني. بالكتاب مرّ عليّ أكثر من مرة الفلكي الالماني هيرشل، والفلكي الفرنسي الذي خمّن بذكاء بسبب انحراف كوكب أورانوس بأنه يوجد كوكب مجهول خلفه وبالفعل كان نبتون وعن الفلكيّ الانجليزي تعيس الحظّ الذي استنتجع مثله وجود نيبتون لكن المرصد الحكومي تجاهله في حينها.

 

بقيّة أجزاء الكتاب، عن البيئة وغيرها لم أقرأها بعد. كنت أكتفي بصفحات الفضاء وأعيد الأسطر علّي أجده يتحدّث بأسطر نسيتها -أو لا أدري تظهر فجأة!- عن الحياة في الكون لكن للأسف لم يكن من ذلك النوع الذي أحب ومع ذلك، أحببت محاولتي الاحتكاك بهذا الموضوع ولو عن بعد.


لا زلت ومع مرور السنوات أقلب صفحات هذا الكتاب سريعا في كلّ مرة. حنين الى تلك الأحلام.

السبت، 15 أبريل 2023

(كل شيء هادئ على الجبهة الغربيّة)


 

 All Quiet on the Western Front

كل شيء هادئ على الجبهة الغربيّة:

عبارة شهيرة وعنوان لأفلام سينمائيّة عدّة وهي بالأصل عنوان رواية الألماني إريش ماريا ريمارك (لا جديد في الجبهة الغربيّة)، الذي شارك في الحرب العالميّة الأولى بالجبهة الغربيّة (١٩١٤-١٩١٨). من بين مئات الروايات ومئات القصص التي روت حكايات مختلف الحروب نجد لهذه الرواية وللحرب نفسها طابعها الخاص بالذاكرة البشريّة. لمَ يبدو الحديث مختلفا عن هذه الحرب بجبهتها الغربيّة؟ 

 

قبل عام ١٩١٤م:

بعد حرب ١٨٧١ وانتصار بروسيا انتزعت مقاطعتي الإلزاس واللورين من فرنسا، أغنى مناطقها بالحديد والفحم الحجريّ الضروريين لاقتصاد الثورة الصناعية. بعدها بدأ سباق التسلّح وما يشبه الحرب الباردة بين الدولتين وبقية الدول الأوروبية استمرت الى أن وصل عام ١٩١٤ ووصلت الحرب أخيرا. الجيوش أصبحت متخمة من سباق التسلّح وعلى الجبهات أعداد مليونيّة. لم يحشد البشر من قبل مثل ذلك العدد إستعدادا للمذبحة. الأسلحة أصبحت أشدّ فتكا للبشر ويمكن رؤية ذلك من خلال انتصارات الاوروبيين السهلة بعدد قليل من الجنود على مختلف الشعوب المُستعمرة. واستخدمت الأسلحة الكيميائيّة المخيفة والغريبة بذاكرة الجنود حيث قال أحدهم "أتذكّر المشاهد الفظيعة في المستشفى العسكري حيث يرقد ضحايا الغاز مختنقين أياما بطولها وهم يتقيؤون قطعا من رئاتهم المحروقة"[١] لم يخترع البشر بعد وسائل وقاية فعالة ومناورات تقي من أغلب الأسلحة تلك فهو لم يجربها إلا على جيوش بدائيّة خارج القارة الأوروبيّة، لهذا كانت هذه الأسلحة على استعداد تام لحصد أكبر عدد ممكن من البشر.     

 

الفيلم الألماني

 

مالذي حدث بالجبهة الغربيّة؟:

تحدّث الفيلم الألماني  All Quiet on the Western Front (٢٠٢٢)  -المشتق من رواية ريمارك - وقبله فيلم كوبريك Path of Glory (١٩٥٧) عن هذه الجبهة بالذات. الأوضاع كانت مختلفة على تلك الجبهة. فبعد اندفاع الجيوش الألمانيّة وتصدّي الجيش الفرنسي له "بالمارن" تجمّدت الجبهة وبدأت الجيوش بحفر الخنادق وإنشاء التحصينات التي كبرت مع الحرب وأصبحت جيوش بأكملها مختبئة في جيوبها. من بعدها أصبح الوقت لا يمضي وبدأ الرعب والخوف والترقّب. هناك شاهد الجنود الموت بالحركة البطيئة شيء لا يشبه ما يصوّر بالأفلام السريعة والتي تصوّر انفجارا مفاجئا لعشرات القذائف مسببة تطاير أشلاء البشر، في المشهد ترى الأجساد بعد تطايرها ساكنة، جامدة، لكن الجنود المرعوبين والذين يشهدون تساقط الموت من فوقهم يرون تلك الأشلاء من البشر وهي تتحرك وتصرخ ملطخة بالدماء والوحل، لا يستطيع المخرجون ولا الكتّاب تصوير كلّ ذلك الصراخ والدماء وقبل ذلك رائحة الموت المخيفة  "الرجل الذي لم يفهم بلحمه ودمه لا يستطيع أن يتكلم عنها"[٢]. كانت الخنادق حصينة للغاية، وبات اندفاع عشرات الآلاف من الجنود في سبيل اكتساب عشرات الأمتار صعبا بسبب الأسلاك الشائكة والرشاشات. حُصدت آلاف الأرواح بسهولة بسبب عناد الجنرالات خلف الجبهة وهم يحاولون مدّ سيطرتهم لبضعة كيلو مترات على الخريطة، على الخريطة بدت تلك الكيلو مترات سهلة لكنها بالواقع تتطلب فرش الدرب بجثث الجنود، مايخلق مشهدا أشبه بالكوميديا السوداء؛ جنرالات متعطشين للأوسمة والنصر يستنفذون برعونة أرواح المجنّدين -وقد ركّز فيلم كوبريك على هذا الجانب كثيرا لدرجة أنه أحدث ضجّة في فرنسا- كانوا بالغالب مواطنين مدنيين والكثير منهم يحمل السلاح لأوّل مرّة، لم تكن الحرب بين جيوش مدرّبة بالضرورة، بل الكثير منهم أتوا من قراهم النائية من افريقيا والهند ببدلات فرنسيّة وانجليزية. 


صوت المدافع المتكرّر والمرعب والذي نجم عنه كثيرا تطاير الأشلاء كان سببا بتسجيل حالات كثيرا من الصرع والأمراض النفسيّة؛ كان العلماء قد بدؤوا لتوّهم بدراسات مثل تلك الحالات قبل الحرب وما إن بدأت حتّى ألقت الحرب عليهم سيلا لا ينتهي من هؤلاء الجنود الذين بدت الأعراض الغريبة تنتابهم وسجّلت علاجات بالصعق الكهربائي لمثل تلك الحالات "كانت الحرب قد أنمت بالفعل في المانيا كما في بلدان الغرب الأوروبي الاهتمام بالتحليل النفسي فمعاينة أعصبة الحرب فتحت عيون الأطباء أخيرا على أهمية المنشأ النفسي للاضطرابات العصابية"[٣]


بسبب طبيعة الحرب المختنقة بالخنادق شاهد الجنود موت رفقائهم دون مواجهة مباشرة مع العدو، أكثر من أيّ مرة مرت على تاريخ البشريّة. تأمّل الجنود مثل تلك المناظر دون صخب المواجهة ما شكّل حملا ثقيلا على ذاكرتهم. معالم مسرح الحرب التي شوّهت أرضها حفر الخنادق والمدافع كافيا لترك انطباع لا يُنسى "مازلت عاجزا عن العثور على الكلمة أو الصورة التي تعبر عن فظاعة هذا الخراب ، لا شيء يشبهه على وجه الأرض، ولا يمكن أن يوجد مثيل له تبقى الصحراء صحراء دائما، ولكن الصحراء التي تخبرك طوال الوقت أنها لم تكن صحراء من قبل أمر مقرف، تلك هي الحكاية التي ترويها جذوع الأشجار السوداء المبتورة التي لا تزال قائمة حيث كانت القرى من قبل"[٤] يمكن تخيّل البشر وهم يحصدون بعضهم في المعارك الالتحاميّة وهم مشغولوا البال بالمقاومة والقتال وكيف أن ذلك سيخفّف - وياللغرابة من مراقبة ما يحدث لزملائهم- لهذا كان الجنود شهود عيان بمعنى الكلمة. ناهيك عن المهام المستحيلة بمحاولة اختراق مستميتة لمختلف الخنادق. برع المخرجون بتصوير مشاهد الاندفاع اليائسة للجنود وهم يتلقّون بصدورهم أعيرة الرشاشات التي لا ترحم، وكل ذلك الوحل والمسالك الطينيّة الوعرة والأسلاك الشائكة ما تشاهده بكاميرا الفيلم شاهده الجنود بصورة أشد رعبا. مع الأشهر أصبح اليأس قاتلا مع حقيقة أن كلّ ذلك لا فائدة منه. بضعة كيلو مترات بعد كلّ ذلك العناء والقتال ويتمّ استعادتها من قبل العدو كثيرا. الشعور باليأس شكّل حملا آخر يصعب على الكاميرا تصويره لكنه صوّر بكتابات الجنود  ولمس من خلال تصرفات القادة العسكريين وهم يحاولون دون جدوى فتح الجبهات والنتيجة لا شيء ولا حتّى تلك البضع كيلوا مترات. دخلت الحرب إذا مرحلة "كسر العظام".

 

عبثيّة الحرب:

شكّل سلاح الفرسان طبقة عليا بالجيش، هذا السلاح العريق والذي انتسب اليه العديد من أبناء الأسر المرموقة والعسكريّة أصبح بلا فائدة بحرب الخنادق، أوقفت محاولات الزجّ بوحدات الفرسان العبثيّة بوجه الخنادق والرشاشات. " لقد عدونا بخيولنا هنا وهناك مثل الأرانب أمام خط من المدافع وكان الرجال والخيول يتساقطون في كل الاتجاهات، أنفقنا معظم الوقت في تفادي الخيول" هذا ماقاله فرانسيس غرانفيل[٥] بالواقع بدا غريبا وأقرب للكوميديا السوداء وجود وحدات الفرسان ببداية الحرب العالميّة الثانيّة بعد كلّ ماحدث. كان تحطّم رمزيّة هذا السلاح بهذه الصورة محبطا. طبيعة الحرب قلّلت من دور الشجاعة في المعارك، الشجعان خامدون بالخنادق وكانوا ضمن طوابير لا تفرّق الرشاشات بينهم. وكذلك المهارة ، هذه الحرب لم تكتمل تقنيّا ولا تكتيكيّا، لهذا لم يكن هنالك وزن ملموس للإتقان في هذه الحرب كل ماكانت تحتاجه أشخاص يرتدون بدلة عسكريّة وينفذون الأوامر، بلا مهارة وإتقان بخلاف الحرب العالميّة الثانية وغيرها -في الحرب العالميّة الثانية مُنح الطيار هانز أولريش رودل  "وسام فارس الصليب الحديدي مع أوراق البلوط الذهبيّة والسيوف والماس" لتدميره أكثر من ٥٠٠ دبابة وعشرات السفن والقوارب والمعدات-  قلبت الحرب العالميّة الأولى كلّ الموازين ببساطة وسخرت من كل القيم، مشهد بداية الفيلم الألماني وهم يجردون الجثث من الملابس العسكريّة ليتم غسلها وخياطة ما تمزّق منها من أجل إلباسها لأفواج المجنّدين الجدد دون الحصول على وقت كافي لانتزاع أسماء الجنود القتلى الذين كانوا يرتدونها بالسابق كان معبّرا وصلت الحرب حينها لأعلى درجة من اللامبالاة. في شهر يوليو ١٩١٦م بدأت "معركة السوم" واستمر لأشهر وبلغت خسائرها أكثر من مليون جندي مابين قتيل وجريح ومفقود، والنتيجة بضعة أميال لا أكثر ربحها الجيش الفرنسي والبريطاني بقيادة الفرنسي جوفر والانجليزي هيغ. وقبلها في فبراير ١٩١٦م هاجم الألمان الفرنسيين  "بمعركة فردان" للسيطرة على المدينة استمرت لمدة أطول حاصدة هذه المرة أكثر من ٧٠٠ ألف جندي من الطرفين.  


بدأ حمل هذه الحرب يظهر أكثر مع ابادة عدد من الوحدات بأكملها -وحدات تحمل رقما معينا- وما زاد الطين بلّة أنها كانت مكونة من مجندين ينتمون لمناطق محدّدة ومدنيين من الطبقة الوسطى نسبة كبيرة من الجنود المحترفين - الرسميين- قتلوا أو شوّهوا وأصيبوا وأصبحت الجيوش بالغالب مكوّنة من سيل من أجيال المتطوّعين للحرب. ومعدّل أعمار الجنود بدأ ينخفض. ما شكّل عبئا على الدول، وبصورة خاصة على الألمان الذين لم تكن لهم مستعمرات متاحة لجلب المتطوعين والمرتزقة كما يفعل الفرنسيون والانجليز. لم تكن على الجبهات أسلحة سريعة تحسم الموقف ولا قادة عباقرة يسجلون اختراقات وانتصارات تنهي كلّ ذلك بوقت أسرع بعمليّة قتل رحيم. 

يجعلك الفيلم الألماني تتعلّق بحكاية أحد الجنود وتتعرّف عليه أكثر لكن هذا الجندي يموت سدى في معركة عبثيّة، بعد ادراك الجميع بأن الحرب انتهت وبأن المانيا استسلمت وأرسلت فعلا مندوبين من حكومتها لتوقيع الهدنة، أحد الجنرالات وبسبب حنقه العبثي يرسل ما تبقّى من حطام الجنود الى الجبهة، لا لشيء إلا ليرضي فكرة تأزّ في رأسه المليء بتأثير الكحول. يساق الجنود اليائسون الى المعركة، يدركون أن بلدهم أعلن استسلامه ولم يتبقّى على وقف اطلاق النار (الساعة الحادية عشر) إلا أقل من ساعة لكن الجنرال من مقره المريح يصرّ على ارسالهم. يهجمون بيأس، فيموت الكثير، بالنسبة لك ليسوا إلا كومبارس لكن أحد الشخصيّات الأساسيّة يموت بهذه الصورة العبثيّة، تشعر بحسرة، بمقدار ما نالته الشخصيّة من اهتمامك وتعاطفك خلال مشاهدتك، لتدرك أن من مات بهذه الطريقة كان يعني الكثير لعائلته أكثر منك ياعزيزي المشاهد. هكذا مات الكثيرون في هذه الحرب بالذات. أيضا لم ينسى كلا المخرجين أن يصوّروا حياة المترفين بالحرب، القادة العسكريون وهم ينعمون بأفخم الأطعمة وأنظف الأماكن، في حين كوبريك كان أكثر قسوة، فهو صوّر حفلات العبث التي أقيمت بمشاركة الجنرالات والرجال الصحافة والسياسيين، لهذا يمكن أن نفهم سبب غضب الحكومة الفرنسيّة من الفيلم والسبب الذي جعل هتلر -بزعمه- يكره اليهود الذين كما يقول الأوروبيون بأنه أحرق ٦ ملايين يهودي؛ كان ذلك بسبب رؤية هتلر لليهود وهم يعيشون بترف في داخل المانيا بخلاف الألمان بالجبهة.


بعد الحرب حكى الجنود عن تجربتهم لعائلاتهم والأدباء منهم لقرّائهم والرسامون منهم لمعجبيهم. كانت حالة فريدة، من عاد كانوا بالغالب مدنيين جنّدوا بالحرب "لم تخرج حكاية الحرب العظمى من بين صفوف الجنود العاديين، لقد جاءت من متطوّعي الطبقة الوسطى الذين أصبحوا ضباط الحرب الصغار وهو أمر مفهوم ؛ الطبقة الوسطى هي الطبقة العظمى في مجال تسجيل الذات" [٦] وهذا ماجعل وقع حكاياتهم مختلفا ناهيك عن طبيعة الحرب العالميّة الأولى، الحرب البطيئة، المملة والمضجرة والخالية من نشوة الحركة والانتصارات ليس فيها إلا جمود وترقّب الخنادق وكلها تجعل من وجه الموت المرعب يقترب ببطء، لهذا يمكن أن نقول بأن جنود الجبهة الغربيّة شاهدوا الموت وهو يقترب ببطء، ذلك أتاح لهم رؤية جانب لا يكاد يرى على مرّ التاريخ من وجه الموت والحرب "الجبهة قفص ينتظر المرء ما يحدث فيه بتوتّر". [٧] والغريب أن الإصابات قد لحقت بذاكرة الجنود كذلك؛ عندما شرع الأديب روديارد كبلنغ بكتابة تاريخ عسكري عن الحرس الايرلندي بالحرب حاول تقصّي الأحداث والقصص من ذاكرة الجنود ومروياتهم لكنه لاحظ الاختلاط الكبير في حكايتهم وامتلائها بالأخطاء "يصاب الرجال بالشك أو بالثقة الزائدة بالنفس، ويقدمون بنية حسنة تماما نسخا متناقضة عن ما حدث، المشهد المؤثر لرفيق شوّه الى حد بدا معه ميتا ينطبع على عقل المرء، ويطرد كل حدث عداه في ذلك اليوم، صدمة مستودع عتاد يُفجّر ويقلب السماء على الأرض الخالية يشوّش الذاكرة طوال نصف المعركة"[٨] كما أن الجنود أصيبوا حتما في انسانيّتهم حيث حضرت السخرية في أكثر المواقف رعبا، مثل استهزاء جنود انجليز بجثة جندي فرنسي محترق [٩] أو عندما يقول أحدهم بكلّ بساطة " من الأفضل أن نضرب الحربة في البطن؛ لأنها لن تعلق هناك كما يحصل عندما ندفعها بالأضلاع" [١٠]

 

 مفارقة الجندي الطيّب شفيك:

بالجانب الآخر وعلى الجبهة الشرقيّة كان ياروسلاف هاشيك يروي حكاية (الجندي الطيّب: شفيك) واحدة من أكثر الروايات الكوميديّة شهرة، يمكنها أن تأخذك الى أقصى اتجاه مخالف لما ستشعر به من حزن برواية (لا جديد على الجبهة الغربيّة) لريمارك، ستضحك كثيرا بالرواية من دعابات شفيك ومواقفه الساخرة، وماهي إلا انعكاس حيّ لما يكنّه هاشيك التشيكي/السلافي للتاريخ و لامبراطوريّة الهابسبورغ -البلد الذي كان يحمل على مضض جنسيّته ويرتدي بزّته العسكرية- "لاشيء قد تغير منذ ذلك الحين، الذي ظهر فيه اللص فويتخ [القديس أدالبرت شفيع التشيكيين] الذي لقب بالقديس وراح يعمل قتلا وإبادة في السلاف البلطيقيين وهو يحمل السيف بيد والصليب بيد أخرى" [١١]. لم تخلوا الجبهة الشرقيّة من الكوارث والمصائب، ذكرت قليلا بالرواية ورأى هاشيك شيئا منها؛ كان قد شارك في تلك الجبهة. لكن هل كان بالإمكان تأليف رواية (الجندي الطيّب: شفيك) وهو يقاتل بخنادق الجبهة الغربيّة؟ لم تخلوا الجبهة الغربيّة من توصيف كوميديّ وساخر والمسألة لا تدور حول شرط وجود الموت والخوف والمآسي؛ فهي موجودة في كلّ الجبهات، لكن للجبهة الغربيّة طبيعتها، التي كانت تشكّل ثقلا رهيبا على الجنود. تحرك جنود الجبهة الشرقيّة لمسافات طويلة في حين تعفّن الجنود بخنادق الجبهة الغربيّة. أيضا المساحة والمجال الذي تحدثت عنه رواية هاشيك كانت خلف خطوط القتال بالغالب وبحكم توجه هاشيك الناقد نجد حكاياته من خلف جبهات القتال تشي بخلفيات إداريّة واجتماعيّة وتاريخيّة، بعضها حقائق عرفها وبعضها تعكس وجهة نظره " كان العقيد فريدريش كراوس الذي يحمل لقبا إضافيّا هو "فون تسيلرغورت" وتسيلرغورت هذه قرية في سالزبورغ سبق لأسلافه أن سلبوها من كل شيء في القرن الثامن عشر".[١٢]  

 

فرانز مارك، لودفيغ كيرشنر، ماكس بيكمان، ماكس أرنست، أوتو ديكس، جورج غروس, أوغست ماك:

فرديناند سيلين روائي فرنسي ألف رواية (سفر الى آخر الليل) وهي تصف الحرب على الجبهة الغربيّة من الجانب الفرنسي ، في حين رواية ريمارك ( لا جديد عل الجبهة الغربيّة) تحكي عن الحرب من الجانب الالماني. الأسماء التي ذكرناها قبل الروائيين هي لرسامين مشهورين ألمان صادفت الأقدار أنهم شاركوا بنفس الحرب بالجبهة الغربيّة. مات اثنين منهم، فرانز مارك و أوغست ماك. رسم مارك قبل بداية الحرب بعام ١٩١٣م  لوحة تشبه ما ستراه البشريّة لاحقا في فوضى الحرب "مصير الحيوانات" وصوّر أوغست ماك  في لوحته "الوداع" ١٩١٤م مشاعر الكآبة المحيطة بالجميع من الحرب ببدايتها. أما بقيّة من نجى فقد تركت تلك الحرب أثرا بليغا بأعمالهم، ولعلّ أشدّ من رسم أهوالها أوتو ديكس، كما عكست لوحة جورج غروس "تحيّة الى أوسكار بانيتزا" ١٩١٧م -وهي تصوّر مشهد تأبين الكاتب الالماني بانيتزا- الفوضى والأجواء المشحونة في الداخل الألماني أثناء الحرب. ويمكن رؤية الأشكال المشوّهة في لوحات بيكمان وماكس أرنست بعد الحرب. وكان كيرشنر الوحيد الذي رسم نفسه ببدلته العسكرية. أيضا اشتهرت مشاركة رسامين آخرين خارج المانيا. وكان الرسام الأمريكي جون سارجنت قد زار الجبهة الغربيّة ورسم لوحته المشهورة "بالغاز" ١٩١٩م وهي تصوّر كومة من المصابين من بينهم صفّ من الواقفين والمصابين بهجوم غازيّ. على كلّ حال يمكنك مشاهدة الفرق بين لوحة الجندي ديكس والزائر للجبهة سارجنت.

"جندي جريح" ١٩٢٤ لأوتو ديكس


                                                    "بالغاز" ١٩١٩ لجون سارجينت



 

بماذا اختلفت عن الحرب العالميّة الثانية:

كانت الحرب العالميّة الثانية نتيجة لشروط الصلح بمعاهدة فرساي ١٩١٩  "رأى الاقتصادي الشهير كينز، الذي اشترك في المؤتمر كعضو في الوفد الانجليزي أن معاهدة الصلح غير أخلاقيّة وعقيمة واستقال تعبيرا عن الاحتجاج" [١٣]الحرب العالمية الثانية كانت "حرب الصاعقة" وطائرات "الشتوكا" والقاذفات "كاتيوشا" والقادة "جودريان، فون مانشتاين، رومل" والدبابات " t-34 و تايغر" واختراع "الرادار" وبروز "الغواصات وحاملات الطائرات" حرب الآلات والابداع والسرعة والابتكار بامتياز، لم تكن حرب الجمود والانتظار الخانق في خنادق الجبهة الغربيّة. الدبابات التي ظهرت بمشهد جانبيّ بالفيلم الألماني أصبحت لاعبا رئيسيّا. وتيرة الحرب المتسارعة والمتنقّلة خفّفت من أثر التفكير والكآبة لكنها لم تخفف من الدماء والآلام بطبيعة الحال. كلّ شيء حدث بسرعة مفاجئة بما فيها سقوط فرنسا " إنه ليصعب على المرء أن يحكم بموضوعيّة ووضوح على مجرى الحرب في الجبهة الغربية خلال شهر أيار وحزيران سنة ١٩٤٠؛ فإن تواتر الهزائم السريعة وعدد الأسرى الضخم والمدن المفتوحة وما إليها قد أوحت إلى العالم المشدوه بأن فرنسا لم تقاوم قطّ. هناك حقيقة لا مجال للشك فيها هي أن الجيش والأمة لم يبديا من ضروب البسالة في هذه الحرب التي لم يستعدا لها ما أبدياه في حرب ١٩١٤ ولكن هنالك حقيقة أخرى حرص هذا الكتاب [التاريخ الكامل للحرب العالميّة الثانية لريمون كارتييه] على إثباتها وهي أن هذه الحرب لم تعدم معارك بطوليّة دامية تخللتها أيام الهدنة".[١٤].  معدل الوفيات باليوم كان أكبر لكن المعارك كانت أقصر والموت أسرع بفعل الآلات. قطعت الوحدات والجنود مسافات أطول بكثير مما قطعوه في الحرب الأولى. الموت كان يسير بسرعة جنونيّة بخلاف الحرب الأولى الذي كان يسير فيها ببطء رهيب. أبرز من حكى عن هذه الحرب وشهد فظائعها هم المدنيّون! هذه الحرب فتكت بالمدنيين أكثر من الأولى، في: درسدن، هيروشيما، ناغازاكي، لينينغراد. وجه الموت واحد لكنه هنا ظهر بأقنعة مختلفة، أكثر تنوّعا بحكم تواجد الآلات الحربيّة المختلفة ومن أبرز معالمها ما يمكن أن نراه من اقتراب الموت والخوف في قعر أعماق المحيط داخل غوّاصة بالكاد تتسه لطاقمها الذي تخنقه المعدّات في الفيلم الألماني Das Boot (١٩٨١).


مالذي تمنحه المشاهد الجانبيّة:

عودة الى الفيلم وللأفلام عامة. كومة الملابس التي صورها الفيلم الألماني ولوحة الأسماء المنزوعة منها والملقاة وهو حدث ثانوي بالحرب أعطى للمشاهد رؤية أعمق للأحداث، حتّى مظاهر الترف، يمكن لمثل هذه المشاهد الجانبيّة بمفارقتها الصارخة أن تمنحك زاوية وعمقا أفضل للرؤيا، كون مشاهد الدماء والقتل مكرّرة ومعتادة في التصوير والأفلام مشاهد ينطبق عليها ماقاله جندي الماني شارك بالحرب العالميّة الأولى  " قد يتعاطف أولئك الذين لم يعيشوا التجربة وهم يقرأون كما يتعاطف شخص مع بطل رواية أو مسرحية  لكنهم لن يفهموا بالتأكيد كما أن المرء لا يستطيع أن يفهم ما يتعذر تفسيره" وآخر انجليزي قال " يجب عليك أن ترى الأشياء بأم عينيك قبل أن تصدقها بأي قدر من الحميمية"[١٥] . إذا لا مجال لقول كلّ شيء وكل ما يمكن فعله اقتناص اللحظات التي لم تروى من قبل لعلّها تكشف الغطاء عن معاني فاتت من ذاكرة الحرب.


------------------------------

الهوامش:

[١] إريش ماريا ريمارك ، لا جديد على الجبهة الغربيّة، ترجمة ليندا حسين، دار أثر للنشر والتوزيع.

[٢] صموئيل هاينز، حكاية الجند: الحرب والذاكرة والمذكرات في القرن العشرين، ترجمة فلاح رحيم، دار التنوير للطباعة والنشر.

[٣] سيغموند فرويد، محاضرات تمهيديّة جديدة: حياتي - خمسة دروس - مساهمة في تاريخ التحليل النفسي، ترجمة جورج طرابيشي، دار مدارك للنشر. 

 [٤] مصدر رقم (٢). 

[٥] مصدر رقم (٢).

[٦] المصدر رقم (٢). 

[٧] مصدر رقم(١)

 [٨] مصدر رقم (٢).

[٩] مصدررقم (٢).

[١٠] مصدر رقم(١).

[١١] ياروسلاف هاشيك، الجندي الطيب: شفيك، ترجمة توفيق الأسدي، دار الخيال للطباعة والنشر والتوزيع.

[١٢] مصدر رقم(١١).

[١٣] ج.ه.ج اندريشين، موسوعة الحرب العالميّة الأولى، ترجمة نسيم واكيم يازجي، دار مؤسسة رسلان للطباعة والنشر والتوزيع.

[١٤] ريمون كارتييه، التاريخ الكامل للحرب العالميّة الثانية، سهيل سماحة و أنطوان مسعود وإشرف جبران مسعود، نشر مؤسسة نوفل ش.م.م.

[١٥] مصدر رقم (٢).

 


 





السبت، 18 مارس 2023

عن الضحك والنكت والكوميديا

 

Children in a movie theater. 1958. Wayne Miller

 

"الأرض تضحك وردا" 

رالف أميرسون

 

الكوميديا، النكتة، الضحك. قد يحصرنا الحديث عن الكوميديا كعمل ابداعي بالكلام عن الأعمال الكوميدية، نشأتها، تاريخها، أهم مؤلفيها وأهم الأعمال، إلخ. لكن الحديث عنها وما يتبعها من أشياء أخرى مثل النكتة وصورها المختلفة وصولا الى الـ meems والضحك بما يعبّره  سيخرجنا من ذلك الإطار لنرى الكوميديا بشكل أوسع.

 

 عند كل بداية لمختلف المواضيع والأشياء أفضل بداية البحث عن مفهومه وما يعنيه. غالبا ما يبدأ البحث بأقوال اليونانيين الذين على مايبدو لم يتركوا شيئا إلا وأفردوا له تعريفا لمفهومه ليكون منطلقا للتفلسف حوله؛ فليس غريبا حينها أن تكون بداية الحديث عن الاصطلاحات اليونانية.

 

معنى الكوميديا؟ 

بالرجوع الى مختلف القواميس نجد أنها كلمة يونانية مركبة وبأخذها على حدة هي مكونة من komos يقابلها بالانجليزية revel: عربد،استمتع، [وتأتي الكلمة الانجليزية revel كذلك بمعنى قصف]. و ōidē بالانجليزية to sing ما يعني غناء أو لنقل تغنّي ويذكر أرسطو في كتابه (فن الشعر) : أن الكوميديا نشأت من الأغاني المتصلة بالعضو الذكري وكانت تغنّى بالاحتفالات والطقوس التي تخصّ الخصوبة. وبشكل أوسع "على الرغم من أن أصل الملهاة [الكوميديا] القديمة غامض، فإن الدور الذي لعبه الكورس [جوقة الإنشاد] يعتقد أنه جاء من أداء المطربين الأثينيين.. مجموعة من المغنين كانوا يرقصون ويغنون ويمتعون الحضور بهزل فاحش ونقد شخصي لما يبدو أنه كان من طقوس الخصوبة ويحتمل أنه متصل ببداية عبادة ديونيسيس.. يُعتقد أن مساهمة الممثلين في الكوميديا القديمة انبثقت عن الحكايات الهزلية التي تختلف عن حكايات المغنين بحبكتها. كانت تقدم مواقف مسلية في مشاهد قصيرة تؤديها شخصيات جماعيّة من نموذج واحد. كان أداؤهم غير محتشم لأن هذه الحكايات كانت لها علاقة بطقوس العضو الذكريّ"[1] وما أغرب أن يحمل المعنى بإحدى تشعباته وصدفه عبارة "قصف" الكلمة التي نقولها بتعبيرنا العاميّ "قصف الجبهة" وأن يوحي أرسطو الى الأصل الجريء للكوميديا. للكوميديا صور متعددة بالمسرح اليوناني القديم عُرف أرسطوفانيس ونجده بالحكايات القديمة والفلكلورية مثل ما دوّنه الإغريقي إيسوب وما جمعه وترجمه عبدالله بن المقفع من قصص (كليلة ودمنة) وبالروايات الأدبيّة مثل (غرغانتوا وبانتاغرويل) لرابله لا يوجد شعب لا يحمل إرثا كوميديا سواء كان فلكلوريا أم أدبيا. وأكثر الأشكال الكوميدية شهرة ماجسّد بطريقة تفاعليّة وحركيّة.

 

فسيفساء تصوّر الأقنعة التي كانت تستخدم بالمسرحيّات قديما

 

قوة الكوميديا ومكانتها:

 الكوميديا وحكايات الضحك حاضرة كثيرا بحكايات الملوك والحكّام حيث بدوا مع تلك الحكايات أقرب الى طباع سائر الناس كأنهم خلالها يقتربون أكثر من الناس ويلمسون حياتهم بعيدا عن طقوس القصور الرسميّة وتزخر كتب التراث العربي مثلا بقصص الظرفاء من أدباء وشعراء وأناس من عامة الناس. ورُوي بالأثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم متى وكيف ضحك وتناولت الشريعة الإسلاميّة الضحك كموضوع ونهي فقهيّا عن الكذب في سبيل إضحاك الآخرين وبحديث رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- :"كثرة الضحك تميت القلب" ذلك يعني أن الضحك ومايجلبه بالكوميديا والنكت لا يخلو من الذمّ بظروف. بعيدا عن التراث العربيّ تواجد المهرجون في قصور الحكّام الأوروبيين ولعلّ أشهر صورة تحكي لنا تواجد مهرّج في حضرة أحد الحكّام ماصورته لوحة (ستانزيك، ١٨٦٢م)  للرسام البولندي يان ماتيكو وهي تحكي قصة المهرج ستانزيك الذي شاهد بالصدفة خريطة تصف الوضع العسكريّ لبولندا نرى المهرج يجلس بعيدا عن ضحكات النبلاء واحتفالاتهم بوجه متجّهم خائف على مصير بلاده بعد أن هاله ماتعكسه الخريطة من كارثة تنتظر بلده الأم. لعل هذا يظهر لنا إلى أي مدى يمكن أن تكون الكوميديا حاضرة في كلّ المستويات والأزمنة وبمختلف الظروف بما في ذلك أحلكها وإلى أي مدي يمكن أن يكون تواجدها معبّر وبقسوة. كوسيلة من خلالها حاول الملوك العودة لطبيعتهم البسيطة والاطلاع على البسطاء وحاول العامة تسلية حكامهم لنيل الحضوة والمكافآت وبها نصح الحكماء ملوكهم، ومثل هذه الحالات رويت في كتب التراث مثل (الأغاني) للأصفهاني  و (العقد) لابن عبدربّه. وظلّت الكوميديا قناة فعّالة ومرنة وإن كانت غير رسميّة للاتصال والتواصل بين مختلف الطبقات البشريّة من ملوك وحكام ورعيّة، قوّة ناعمة يفرض هيمنتها ميل البشر الطبيعيّ للكوميديا بدونها كان يمكن أن يغدو الانسان أكثر انفصالا عن غيره ولأصبحت الحواجز بين الطبقات الاجتماعيّة أكثر إحكاما ومن خلالها تأمل الانسان كثيرا سلوك الحيوانات والطبيعة ونرى كيف أسقط الانسان سلوك الحيوانات في قصصه الفلكلوريّة والطريفة؛ نجد الأسد بجبروته والثعلب بمكره والذئب بدهائه ولعل أكثر الانطباعات رسوخا عن سلوك الحيوانات في الأذهان نابعة من تلك القصص. 


Stańczyk by jan matejko 1862

 

عن النكتة وفي أي سياق نجدها؟

  وعادة يتبع الحديث عن الكوميديا الحديث عن النكتة ويمكن اعتبارها فنّ شعبيّ تتكوّن عادة من قصة قصيرة هدفها إضحاك الآخرين لأسباب عديدة كإدخال البهجة والسرور على المستمعين أو السخرية والتشفّي أو لإيصال حكمة ورسالة مبطّنة ومن معاني النكتة باللغة العربيّة: الأثر أو العلامة سواء كانت خفيّة أم ظاهرة، وهي فعلا تترك مثل ذلك أثرا في حالة المستمتع. يقال بأنها تكثر عند الشعوب الأكثر فقرا وأنهم ينفّسون عن أنفسهم بممارستها فتُصدر الكثير من النكت محملة بالمواضيع التي تقلقهم: اقتصادية، سياسية، ما يخلق حالة أشبه بالكوميديا السوداء. وبالأعمال الأدبية من أشهر صور النكت شعر الهجاء، يندر أن تجد بيتا هجائيّا لا يحمل في طيّاته غاية لإضحاك الآخرين ما يضع الشخص المهجوّ في حالة من الكوميديا السوداء ويظهر كنكتة مؤلمة. نجده بالشعر العربي (الجاهليّ والإسلامي) إلا أنه يبدو أكثر وضوحا وإلحاحا بالأخير من خلال أبيات الأخطل وجرير والفرزدق وصولا إلى أقذع حالاته مع شعراء العصر العبّاسي ومابعدهم. ومن أشهر أشعار الهجاء المُضحكة شطر بيت شهير لحسان بن ثابت -رضي الله عنه- "جسم البغال وأحلام العصافير" كأن الشطر بتناقله على الألسن احدى صور الـ meems الشهيرة. ووجدت النكات كثيرا من خلال الشخصيات الأدبيّة خياليّة وواقعيّة لها نكات وتعابير مشهورة مثل "جحا وشعيب" بالتراث العربيّ.


خروج عن السياق؟

تصرفات البشر مع بعضهم محكومة بأدبيات وقواعد سلوكيّة ما يخلق سياقا يسير فيه البشر معا والضحك غالبا ما يكون خروجا لحظيّا من هذا السياق أشبه بانحراف طفيف عن مسار مستقيم يخلق ترويحا لعضلات القدم وبالمثل ترويحا عن النفس والأفكار. وبعبارة أخرى كأن أحدهم يرخي قليلا ربطة عنق الرسميّات عن أنفاسه. لذلك له طابع متمّرد على كل السياقات ومن خلاله يمكن تمرير أكثر الرسائل جرأة وبذاءة حتّى في الأعمال الكرتونيّة اليابانية (الانمي) كثيرا ما خالطت لقطات الإيروتيك تعابير كوميدية تنعكس برسومات الأوجه الشاخصة بنهم بعينيها أحيانا مرسومة بالقلوب ورعاف الأنف وفوران الأنفاس فيه وكثيرا ما رويت النكات السياسيّة في ظلّ أكثر الأنظمة السياسيّة قسوة وتكمن براعة النكتة في الخروج من المسار والسياق بطريقة بهلوانيّة تجلب الرضى رغم النقد إلا أنها بالمبالغة قد تدفع الثمن غاليا.

 مشهد اعتيادي لسانجي من "One Piece" يمكن فهم الإشارات الكوميدية ومدى جرأتها من خلال العناصر الموجودة بالصورة.

والنكتة أو الكوميديا واحدة من أكثر وسائل الخروج عن السياق أمانا مرّرت من خلالها أقسى تعابير النقد على المجتمعات والشعوب والأعراق. عبارة nigga وهي غير مقبولة بتاتا إلا من باب النكتة والأعمال الكوميدية وعلى نطاق ضيق بالتعامل بين الناس مباشرة بحكم أن الأعمال الكوميديّة يظنّ أنها تحمل رسالة هادفة في حين لا يحمل التعامل المباشر رسائل هادفة دائما. وكما بالتعبير الذي نقوله عاميّا "مزحة برزحة" مالذي يجعل الخروج على ظهر الكوميديا والنكتة مقبولا أكثر من غيره؟ "لقد كان أرسطوفانيس معلما وشاعرا كوميديا. نقده الذي لا رحمة فيه للحركات الفكريّة والسياسية وقادتها قد أراد منه أن يقنع الأثينيين بتعديل سياساتهم العامة. كتب كل مسرحيّاته تقريبا حول مشاكل وأشخاص محليين. في مسرحياته بذاءة كبيرة. بتحويل أفكاره الأساسيّة الى مسرحيات، فإنه يستفيد من كلّ وسيلة ليدفع الناس الى الضحك. بتفوقه بالكوميديا الساخرة والحكايات الهزليّة إنه سيد الكلمة المسرحيّة، يعرف القيمة الكوميدية للقول المناسب والنهاية غير المتوقعة. كثير من نوادره لا تحكى بل تمثّل."[1] حتّى أنه بالضحك أو التعابير الكوميدية يمكن للأشخاص القفز للوصول الى الآخرين والتفاعل معهم وهو مانسمّيه كسر الحواجز.

 يحبّ الانسان أحيانا الخروج عن المألوف تتميّز الكوميديا أنها خروج مقبول عن المألوف ولكونه غالبا ما يكون أداء تفاعليّا حتّى النكتة لا تكون كذلك الا بتفاعل المتلقّين وتقبلهم لها وإلا فإنها ستسمّى وقاحة أو غير ذلك من التعابير مثل لغة لا تكتمل وتعتبر لغة مفهومة إلا بوجود متلقّين يقبلون بها.

لو طلبنا منك أن تتذكّر النكت التي مرت عليك ماهي نسبة النكات البذيئة في ذاكرتك؟ لماذا تكثر النكات البذيئة؟ وكيف لها أن تكون في أقرب الصور تقبّلا بالنكتة؟ وكما أن الكوميديا خروج محترف ومرن من السياق أمكن تمرير كلّ ذلك وسط قبول كامل. يصعب عليك أن تحكي حكاية بذيئة إلا بمناسبة مرصودة لكنها بالنكتة يسهل تناولها والتفاعل معها لأنها لا تبدو جديّة ولو أنّها في الواقع مسألة جديّة كونها تمثّل الطبيعة البشريّة المحبة للضحك والترويح عن النفس والحاجة للنكات والضحك والكوميديا مثل الحاجة الى اللغة للتواصل وهو ربمّا أعمق ما سيفرّق بين الانسان والذكاء الصناعي الذي يُنتج بمشاريع جديّة.

 

المجون والبذاءة بالأعمال:

في رواية (أيام سدوم المائة والعشرون) حاول ماركيز دو ساد الوصول لأقصى حالات اللغة تعبيرا للمجون وحاول ملامسة أعلى سقف للرغبات بالخيال وصل بعيدا بذلك، ربّما أبعد مما وصل اليه بازوليني في فيلمه Salo وفي الأعمال الفنيّة حاول الكثير من الرسامين التفنّن برسم الإيروتيك واتخام المشاهد بالرغبات الطافحة وبطبيعة الحال واجهها النقّاد بعنف، خصوصا إن قُدمت كعمل ابداعيّ ولنا أن نتخيّل لو أن نتفا من تلك المشاهد المكتوبة والمصوّرة تم تناولها بإطار مضحك وكوميدي وان لم تكن الكوميديا الهدف كما نجد بالأعمال الفنيّة للياباني تاكاشي موراكامي، أجساد لشخصيات كرتونيّة منفوخة الأعضاء كأنها أخذت من انميّات hentai ولكن بوضعيّات مضحكة كانت المبالغة في الوضعيات المضحكة لا المثيرة. قد يبدو المجون حادّا ومنفّرا وسيبدو أقلّ حدّة وأنعم لو تم تناوله بإطار كوميدي وساخر، في كلا الحالتين يمثّل ذلك انفلاتا ولكون انفلات الرغبات غير محبّب سيغدو أكثر تقبلا بالحالات الكوميديّة كما يمكن إستخدام صورة إباحّية لممثل أو ممثلة اباحيّة بإطار كوميدي أو meem ساخر كما هو مشهور في meem ممثلة مشهورة برداء محتشم استخدمت كثيرا للتعبير في حالة الحديث عن الشرف وما يماثله بسياق لا يعني الشرف بأي حال بالواقع.  


Meems:

 كما أن اللغة بالكلام عبارة عن أصوات منبرة كإشارة تحمل دلالة بين المستمعين والأحرف تمثّل رسما يشير لتلك الأصوات ويمكن تركيبها لتغدو كلمة ومثل ذلك إشارات الضوء والتلغراف بنمط معيّن يمنحها دلالة للتواصل بين متلقين. أيضا الـ  meems صورة وإشارة لها دلالة بين المتلقّين بوسائل التواصل الاجتماعيّ وكأي وسيلة تواصل وُجدت وليدة ظرف معيّن فإن الـ meems اختلقت لتختصر الكثير من العبارات على متلقّي يقلّب صفحات الانترنت سريعا بحيث لا يغدو له وقت للقراءة والتمعّن بعمق وجديّة وبطبيعة الحال الظروف تساهم في تجسيد طرق ولغات التواصل بين البشر وفق الاحتياج مثل لغة الاشارة والتلغراف وحتّى طريقة التواصل بين المساجين بقرع القضبان وغيرها واستخدام أدخنة النيران قديما للإشارة بين الناس من مسافات بعيدة والـ meems في عصر ازدهار وسائل التواصل الاجتماعيّ وما يلفت النظر أنها أخذت كثيرا طابع النكت والكوميديا وهو ما يُفهم أن ذلك ما يتطلبه الظرف وحاجة المتلقّين لتلك اللغة في وقت فراغهم، صورة لكن بدلالة مستحدثة خارج دلالة الصورة الأصليّة فهي لغة محكيّة مثل أي لغة تبدأ بإشارة اعتباطيّة يفهمها سكّان وسائل التواصل الاجتماعيّ ويصعب قليلا أن يفهمها أشخاص منقطعون عن وسائل التواصل تلك ومالذي تعنيه حقيقة كون الـ meems لها طابع كوميدي بفهم مشترك ولماذا اختار الناس في حساباتهم الافتراضية تعابير كوميدية للتواصل؟ ما قد يدلّ على أن الكوميديا والنكتة طبيعة بشريّة ذات فهم مشترك قد تشبه بجوانب في وجودها وجود اللغة نفسها.

وبتعريف آخر الـ meems عبارة عن صورة نمطيّة مبدئيا وتخرج من السياق ولعلّ واحدة من أقدم أشكال meems الرسومات الزخرفيّة والموجودة تارة بالنقوش القديمة والرسومات القروسطية التي تصوّر الوحوش الخرافيّة كائنات بجسد مركب من عدة حيوانات وفي المنمنمات ورسومات الفنانين اليابانيين لمختلف المخلوقات الأسطوريّة أحيانا بأعين جاحضة مخيفة لكنها تخفي شيئا من الطرافة والسخرية الى درجة أنها رغم رعبها فهي قد تسرق ضحكة ساخرة من فمك وبكتب القرون الوسطى الأوروبيّة وبعضها تحمل تعابير مضحكة وطريفة ولو وجدت في أكثر الكتب تعنّتا والعصور تشدّدا تصوّر الشياطين والوحوش بأشكال غريبة وبوضعيات مضحكة ومشينة بعضها حيوانات ترتدي ملابس بشريّة ونستذكر لوحات هيرومينوس بوش (١٤٥٠-١٥١٦م) ولوحات الرسام بيتر بروغل (١٥٢٥-١٥٦٩م) وما تحمله رسوماتهم من صور طريفة ومضحكة وإن كانت تصوّر الجحيم والعذاب. 

لنقل إن حاولنا إعادة الصياغة بصورة أخرى أو وصف تلك الأشكال قد نقول بأنها كائنات مركبة أو مشوّهة ولاننسى أن خيطا رفيعا يفصل بين الأشكال المرعبة والمضحكة والأشكال المشوّهة قد تحمل تعابير فنيّة بعيدة عن الهزل مثل لوحات بيكاسو وفرانسيس بيكون. وقد نجد الأطفال يرتعبون من بعض وجوه الشخصيّات الكرتونيّة الطريفة بالشاشة، نعم بالشاشة -وهي بالأساس أشكال فيها غرابة تلك الرسومات- لكنها أصبحت طريفة بفضل السياق والإطار المحصور بالشاشة ولعلّ هذا ما يصنع الطرافة بالأشكال الغريبة، السياق والإطار المحصور بفكرة طريفة. والسياق مع الإطار المحصور يشكّل الفهم الذي ينبغي أن يبنى بالأذهان بمعنى طريف وفكاهيّ ومثل هذا البناء لا يكون إلا بفهم جمعيّ يتشكّل بصورة قريبة -ربّما- من تشكّل المفردات والمصطلحات ولعلّ أشهر ما يمكننا الاستشهاد به الـ meem الشهير لمعركة غودزيلا وكونج. وماذا لو كانت الأشكال في meems لكائنات طبيعيّة وصور بشريّة مثل meem القط الأبيض الشهير على طاولة الطعام، هنا التركيب ليس بالشكل بل في هيئة المشهد، قطّ يجلس على مائدة طعام مثل قطّ يرتدي ملابس بشريّة بمشهد كرتوني أو حيوان طبيعي رُسم بملابس بشريّة في لوحة أو رسم قروسطي. المعنى إذا ليس فقط بالخروج عن المألوف.

 
احدى الرسوم القروسطيّة بأحد الكتب


meem مشهد المعركة في فيلم Godzilla Vs Kong


صورة من مسلسل The Real Housewives of Beverly Hills أصبحت باستخدام العبارات الملصقة من أشهر الـ meems

 

مالذي يعنيه الشخص الضاحك في أذهاننا؟

خارج عن المألوف؟ كما يفهم أن الكوميديا والنكت خروجا عن السياق سيعني أن الضاحك  خارج عن سياق التصرفات والمألوف وكم سيبدو ملفتا لو طال خروجه. تزخر الأدبيّات البشريّة بذمّ ذلك مثل القول الدارج "الضحك من غير سبب  قلة الأدب" ولا تحبّذ بعض الشعوب -الشعب الروسي مثلا- الابتسامة من غير سبب واضح. أيعني أن الابتسامة من غير سبب تعني مبالغة في الابتسام؟ أم هل السبب في عدم الفهم؟ كما أن الكوميديا والنكتة أداء تفاعليّ فإنها تفقد ذلك بغياب الفهم ولا تعدّ النكتة والكوميديا فعليا كوميديا بغياب الفهم. قد يكثر مطلقوا النكت من الضحك أكثر من المتلقّين لزيادة التفاعل أو لتحفيزه وأبلغ النكت كما قد نشعر ما تخلق تفاعلا من المتلقّي (ضحك ، ابتهاج) دون أي تفاعل من راوي النكتة كما يصعب إطلاق النكات كتابيّا وتكون أكثر فاعليّة عندما تحكى من قبل شخص يجيد الأداء بنبرات الكلام والتفاعل حركيّا وكأن لها جذورا متشعبة في داخل النفس البشريّة وإن كنا نفهم بأن الضحك والنكت عمل تفاعليّ له جانب أدائيّ فقدرة إخراجها في إطار معيّن ومحدود ككلام مكتوب بلا تفاعل عمل في غاية الصعوبة سواء في الروايات أو بعبارات ضمنيّة مكتوبة مثل عبارات مارك توين وكم تبدو العبارات المضحكة والطريفة عميقة بلسان الفلاسفة الذين يقلّ عندهم الطابع الكوميدي إلا من باب النقد و تكون لاذعة وبليغة بامتياز مثل عبارات نيتشه الناقدة للألمان والعبارات السياسيّة اللاذعة للأديب والفيلسوف الفرنسي فولتير ولفهم الغاية لمثل تلك العبارات "يمكن وضع حدّ فاصل بين النقد والإهانة المباشرة، يكمن الاختلاف في ذكاء التقديم الذي يعتبر سمة هامة للنقد إن هذه حقيقة نفسية و ليست تقليدا أدبيا. نستطيع أن نتحدّى أو نشتم الأشياء التي نخافها لكننا لا نضحك عليها. أن تضحك على شيء دليل على إحساس الضاحك بالتفوّق" [2]

 

الابداع بالكوميديا:

 لهذا ما أصعب الإبداع بالكوميديا خارج الأعمال التفاعليّة والحركيّة؛ لطالما ازدهرت الكوميديا بالإبداع من خلال هذه الأعمال: بالتمثيل والمسرح والأغاني الشعبيّة بما فيها من أشعار هزليّة ورقصات ولكن مع جنس أدبيّ يفتقد للتفاعل المباشر والأداء مثل الرواية تصعب الكوميديا. يسهل تأليف الروايات المأساويّة لكنها أصعب بالكوميديا والخروج من السياق يتطلّب رشاقة وخفّة ما يسمّى بالحسّ الفكاهي يصعب تصوّره بلا حركة وتفاعل -ويبدو أن هذا التعريف العربي موفّق للغاية لرهافة عبارة "حِسّ" - وإن كان صعبا فإنه ليس مستحيلا لنرى مثلا رواية (الجندي الطيّب: شفيك) تعتمد الفكاهة كثيرا على المفاجأة كطبيعة الخروج من السياق برفق لهذا لا تكفّ ابتسامتك عن الارتسام وانت تقرأ عن الطيّب شفيك الذي يفاجئك في كل صفحة دون أن يستهلك ابتسامتك. 

 

هل سمعت أحدهم يقول -دون أن يضحك فعلا- أضحكني قول فلان أو ضحكت من تصرف ذاك؟ 

ولو أنه فعليّا لم يضحك، أي لم يصدر ذلك الانفعال والذي نسمّيه الضحك. هل يصحّ أن نقول بأن الإنسان يضحك في قلبه (من داخله؟) عدا عن حالة الرغبة بالتعبير عن الفرح والابتهاج التي يريد القائل بقوله أنه ضحك دون أن يصدر منه ذلك التفاعل إثبات وجود الفرح والابتهاج بضحكة افتراضيّة كثيرا ما تكون حالة الضحك الافتراضية من باب التندّر كأنه خروج من سياق الحالة التي يجب أن تكون عليها ردة الفعل أو ضحك يحمل طابع التفاعل مع الكوميديا السوداء "ضحكت في داخلي" و "أنا من داخلي أضحك" هل هذا النوع من الضحك حقيقيّ ويخلق حالة كوميدية تحت صنف الكوميديا السوداء في القلب؟  وهل خلق تفاعلا كيميائيا داخل النفس بما يجسّده من شعور خافي كما يفعل الحزن ولكن الضحك بما تتصل كوميديته من تفاعل وانفعال يحمل طابعا أكثر تعقيدا وفجائيّة. ويبدو الحزن وما يتصل به من صفات وتعابير أعمق وأحب كثيمة يتم تناولها بالابداعات البشريّة من قصص وأشعار وحتّى خرافات لعل هذا لسهولة الإمساك بهذه الحالة بالوصف والعبارات تأملا وتشريحا لعلّها لاتصالها أكثر في أعماقنا في حين قد يصعب الإمساك والتمعّن بموضوع الكوميديا والضحك والنكت بما يمكن تأمله. كأن الحزن صورة ساكنة في حين يبدو الضحك صورة متحرّكة. 

 

 "إذا ضحك المرء فعلى الآخرين، وإذا بكى فعلى نفسه."

مثل هنديّ [3]


ماهي الكوميديا السوداء؟

 بعيدا عن التعاريف إنها تشبه ما نعبّر عنه بأنه "المضحك المبكي" خروج حاد ولكنه خاطف عن سياق الواقع. ليست المسألة في جمع الأضداد؛ فالضحك ليس نقيضا للبكاء وإن بدا كذلك وإلا لكانت الكوميديا السوداء أسهل فجمع الأضداد ينتج غالبا حالة بروز ملفتة لجمع النقيضين كما قال شاعر قصيدة (اليتيمة)

فالوجه مثل الصبح مبيضّ

والشعر مثل الليل مسودّ

ضدان لما استجمعا حسنا

والضدّ يظهر حسنه للضدّ

ولو عومل الضحك كنقيض للبكاء وأنتج من خلال هذا المفهوم عمل كوميدي سيبدو مبتذلا ولن يصحّ القول عنه بأنه عمل ينتمي للكوميديا السوداء. ولكونهما غير نقيضين إبراز حدّيتهما تشبه ما يفعله الطباخون بإضافة الملح إلى الأطعمة الحلوة بمقدار قليل يساهم في ابراز حلاوة النكهة (salted caramel) بل المسألة أعمق من ذلك فهي عمليّة جمع لطبيعتين مستقلتين من تفاعلات النفس البشريّة والجمع بينهما بقالب واحد بمقياس محكم صعب لكنه ينتج عملا عميقا وفي غاية الذكاء يشبه مشهد فيلم A Cloclwork Orange عندما اقتحم أليكس منزل امرأة كبيرة بالسنّ كانت تمارس الرياضة في غرفة مليئة بالقطع الفنيّة الحديثة وأغلبها خليعة وإيروتيكيّة حاولت المرأة ضرب أليكس بتمثال نصفي لبيتهوفن في حين أمسك أليكس بقطعة فنيّة حديثة وبدأ الشجار بينهما بالقطعتين وذلك على وقع سيمفونيّة بيتهوفن التاسعة، الفنّ الحديث ضدّ الفن الكلاسيكي. الكوميديا السوداء تشبه الضحك بإيلام أو سخرية لاذعة أكثر من كونها الضحك على المشاهد المؤلمة. 


 لقطة فيلم A Clockwork Orange




هل الكوميديا بحدّ ذاتها فنّ؟

 تبدو أقرب إلى ذلك لنقل أن الحسّ الفكاهيّ موهبة أكثر من كونها إبداع وفن لكن ما إن يكتسب إطارا فنيّا إلا ويغدو عملا فنيّا (كوميديا). والمبدعين والأذكياء على ندرتهم حين يمتلكون حسّا فكاهيّا يحوزون على سحر خاص مثل فولتير كفيلسوف وشفيك كروائي. يمكن تعلّم الكتابة الابداعيّة ، الإخراج، التمثيل لكن الحسّ الفكاهيّ يصعب تعلمه والتعلّم يحتاج الى قدر من الذكاء والالتزام وهو ما لا يشترط مع الأشخاص الذين يمتلكون حسّا فكاهيّا لهذا -ربما- لم يدرج في الأذهان وصف المضحكين والكوميديين بالذكاء ولو أن للذكاء صبغة كوميديّة عندما يقترن بالغدر والخداع مثلما يرويه الانسان بفلكلوره القصصي من حكايات و تصرّفات الثعلب الذكيّة الذي يبدو أن لديه ذكاءً يخرجه قليلا من سياق طبيعة الحيوانات وسلوكياتها الاعتيادية لهذا ربط الثعلب كثيرا بالشياطين بمعتقدات عدد من الشعوب[4]. ولو كان لنا أن نتساءل فسنقول هل يمكن للروبوت (الذكاء الصناعيّ) المتّقن الصنع أن يكون مضحكا وذا حسّ فكاهيّ؟ قد نتخيّل أي ابداع للذكاء الصناعيّ إلا الإضحاك والكوميديا يصعب تصوّر أن شيئا في غاية الإتقان والدقّة قد يخرج عن السياق المصمّم له ولو تخيّلت وسيلة لاختبار وفحص انسان آلي ما إذا كان روبوتا \ ذكاءً صناعي أم لا لاخترت الضحك والإضحاك بدلا من سلسلة الأسئلة المنطقيّة التي يتم عملها للكشف عن البشر الآليين مثل كما نشاهده في فيلم Blade Runner (1982).

لو أردنا فعل ذلك، كيف يمكننا إنتاج الكوميديا بنكتها المضحكة بالذكاء الصناعيّ؟ ما ينتج عن المسائل المنطقية يمكن تضمينها ضمن خوارزميات الذكاء الصناعيّ بسهولة والشكل الأسهل منه المسائل الحسابيّة إذ أنها قد تبدو لوهلة أوليّة ذكاء صناعيّا بسبب سرعة النتائج، أيضا ما يتعلق بمنطق النحو والصرف وما يرتبط بالقواعد اللغوية والكتابيّة وأبسط صورها المصحّح الإملائي كل بيانات يمكن أن ينتج تحليلها نتائج منطقيّة وتوقعات يستطيع الذكاء الصناعي إنتاجها بما في ذلك شيء من نطاق المشاعر والأحاسيس الداخليّة مثل الحزن ولكن بدرجات معيّنة فالحزن يمكن توقعه ويمكن فهمه أسبابه وبناء أحداثه في حين نفتقد إلى فهم دقيق للحسّ الفكاهي بالكوميديا فهو عنصر مفاجئ ولا يمكن توقعه وردود الأفعال الناجمة عنه كذلك (الضحك) لا يمكن بناء قصة كوميديّة مبنيّة على حدث واحد يكبر ككرة ثلج بخلاف الحزن. وتعتمد القصص الكوميديّة على سلسلة من الأحداث المضحكة والنكت إذ أن توقّفها يعني انتهاء حالة الكوميديا كون مفعول الأثر منها يمحى بسرعة بخلاف الحزن الذي يبقى ويسود وله مدى وعمق وزمن. للكوميديا طابع أكثر ابتكاريّة من الحزن ما هو محزن عند شعب معيّن هو حتما محزن عند باقي الشعوب لكن ماهو مضحك عند شعب ما قد لا يُضحك شعوبا أخرى  بنفس الدرجة، بل إن المجال يزداد ضيقا كون النكتة يتفاوت مفعولها من راوي الى آخر ان كانت كرواية أو أداء. يمكن أن نفترض مقياسا للحزن وللأشياء المحزنة وإعطائها قيمة أو بناء أحداث قصة ما بأحداث تجعل من الحزن يزداد أكثر وأكثر. بالأساس مفهوم ماهو مضحك أوسع بكثير من ماهو محزن. ماهو محزن يُبنى ويكون ضمن قصّة أو حكاية في حين أن ماهو مضحك يمكن أن يكون تصرّفا أو تجسيدا أي شيء لحظيّ ليس له امتداد منطقيّ كقصة أو حدث ضمن سلسلة وفقط من خلال ذلك قد نتخيّل الذكاء الصناعي بخوارزمياته يبني حكاية أو حدثا كوميديّا لكنه لن يكون إلا اجترار أو استنساخ لصيغ فكاهيّة سابقة. الشخص الذي يملك حسّا فكاهيّا لا يمكنه نقل معرفته لها بل إنه لا يملك لها معرفة ولا نتخيّل أن ينتهي حسّه الفكاهيّ، يمكن فقط أن نتخيّل روبوتا ذو حسّ فكاهيّ -وإن بدا غريبا اطلاق الوصف على روبوت- في حالة استقباله للبيانات مثل الانسان بحواسه وانتباهه لردود الأفعال وتلميح الملامح والنبرات. 

 

متى ضحك الإنسان أو مرة؟

 هل تعلّم الانسان الضحك؟ ومنها تعلّم ما هو مضحك (الكوميديا)؟ يسهل إضحاك الأطفال أكثر من غيرهم وبنفس الدرجة يسهل إبهارهم وخداعهم وكأنّ كل ذلك ناجم عن روابط معيّنة بين عقل الانسان وعمره. هل يملّ الانسان من الأشياء التي كانت تضحكه؟ لهذا تزداد صعوبة الأشياء المضحكة وتقلّ  بتقدّم الانسان بالعمر؟ كأن في الأمر خدعة! كأن ما يضحك الانسان ليس إلا شيئا قام بخداع تركيز الانسان وردة فعله شيء قد لا ينطلي على آخرين لهذا ما يضحك أحدهم قد لا يضحك الآخر. يمكننا القول بأنّ الضحك يحمل شيئا من آثار طفولتنا. ولنا أن نسأل باعتباطيّة: متى سيضحك الروبوت أوّل مرة وهو لم يكن طفلا ليوم ما؟

 

هل يمكن اعتبار الحسّ الفكاهي ملكة من الملكات؟

كيف يعرف من يملك الحسّ الفكاهي ما يضحك الناس؟ قد يبدو الأمر كأنه معرفة أو فهما لنفسيّات البشر وتفكيرهم ولكونها ان افترضنا ملكة فهي ليست قائمة على سلسلة من العمليّات التحليليّة والذي ينتهي باستنباط دقيق بل هي أقرب إلى الحدس لهذا يصعب فعلا حصر نمط الابتكار لأنها إن حصرت ولو من خلال فكاهات أحدهم لبدت أقرب إلى السماجة بالنهاية لهذا من يملك حسّا فكاهيّا سيصح لو قلنا بأن الحدس الكوميديّ لديه دقيق أكثر من غيره. 

يظل ما هو مضحك (الكوميديا) موضوع يصعب فهمه وتناوله. يمكن اسقاط أوصاف كثيرة لوصفه ومن ثم دراسته كأن نتخيّل أن الكوميديا عمل يحاكي الجانب الخلفيّ لتفكيرنا والجانب الذي لانرغب أن يمثلنا ونُعرف به ونختزل في داخله. ولكنه سيظل جانبا نحبّ من وقت لآخر الهرب إليه كمساحة مريحة من ثقل وعبء الحياة وجديتها.

 

---------------------------

الهوامش:

[1] ليليان هيرلاندز، ج. د. بيرسي، ستيرلنج أ. براون، ترجمة محمد الجورا، دار الحقائق للطباعة والنشر والتوزيع.

[2] نفس المصدر السابق.

[3] روحي البعلبكي، موسوعة روائع الحكمة والأقوال الخالدة، بيروت: دار العلم للملايين.

[4] مارتن والن، (٢٠١٠)، الثعلب التاريخ الطبيعي والثقافي، ترجمة ريم الذوادي، أبوظبي: كلمة للنشر والتوزيع.

 

 

 

 

السبت، 7 يناير 2023

الأعمال الكلاسيكية بعيدا عن الذكريات (بعد التعديل)

 أحيانا أتساءل هل من عاش الانميات "الكلاسيكية" على الفيديو والتلفزيون وبقت كذكريات قادر على لمس مواطن الجمال فيها بعيدا عن الاعتبارات التذكاريّة؟ مقارنة بمن بدأ مشاهدته لها متأخرا وعلى الانترنت ويرى فيها انميّات قديمة ومع ذلك يحبّها فهو لا يحمل تلك الذكريات التي قد يطغى وجودها على الحكم بجماليّة الانمي. 


كل شيّء يتغيّر:




بدءا بالكوميديا التي كانت بالسابق تعتمد كثيرا على الوجيه المطاطيّة كماهي في  (نينجا: كابامارو) وصولا الى التعابير التي وجدتها مختلفة ولم أفهمها إلا مع الوقت بمسلسل (ماروكو الصغيرة) مثل ظهور الخطوط على الوجه في حال الاستغراب والاستنكار بالإضافة الى قطرة العرق الفريدة والتي يعرفها حتما مشاهدي الانمي. هل هذا التغيّر يعني اندثار التعابير القديمة أو الاسلوب االقديم في التعبير؟ 

 


أغلب المسلسلات الكرتونيّة التي شوهدت بالتلفزيون والفيديو عربيّا كانت قديمة في موطنها ربما أقدم بعشر سنوات أو أكثر. لهذا لا يمكننا الحكم على العمل بإعادته للفترة الزمنيّة وفق سنة الانتاج إلا عندما نتحدّث عن صناعة الانمي كصناعة ولكن  بالحديث عن تشكّل الأذواق والآراء عندنا، يهمنا بالدرجة الأولى سنة عرضها ودبلجتها، ما يعني ميلاد تشكّلها في ذائقة المشاهدين. 

 

الأسلوب يتغيّر تبع الأذواق -وأشياء أخرى الحديث عنها قد يكون مملا- والتقنية تتطوّر تبع الزمن. بفضل التقنية بالإمكان تصوير المشاهد البهلوانّية لتروس التحكّم في (هجوم العمالقة) بحركات أكثر مرونة من مقاتلي النينجا بالانميّات القديمة. (ون بيس) المسلسل الذي لا ينتهي لا تشبه حلقاته الأولى حلقاته الأخيرة لا أسلوبا ولا تقنيّا وهذه أكبر نقطة ضعف في الانمي من وجهة نظري فهو لم يعد قطعة واحدة أو one piece بل بات يشبه مسخ فرانكنشتاين. 

 

هل تتابع الأعمال مواكبة لأسلوبها أم لتقنيتها؟

 لأسلوبها يعني أنك تتذوّقها، ولتقنيتها يعني أنك تستخدمها وتستمتع بها، وغالبا وبنسب مختلفة لكلا السببين معا نتابع الأعمال. التقنية بعد أن تصبح قديمة قد تصل الى حدّ انتهاء صلاحيّتها ويفقد العمل بسببه مقدارا كبيرا من بريقه. لكن الأسلوب بعد قدمه هل تنتهي صلاحيّته؟ ومتى تنتهي صلاحيّة العمل أسلوبا أو تقنيّا؟ تقنيّا الإجابة أسهل جرّب نفسك هل تستطيع متابعة فيلم سينمائي صامت؟ (قديم) أما الأسلوب يمكن أحيانا في ظروف معيّنة يتم استعادته وإعادة إحيائه. 

 

هل للانميّات صلاحيّة؟




كثيرا ما ينظر لتلك الأعمال باعتبارها قديمة ولا تصلح بوجود الانميات الحديثة وباعتبار أن مافيها من رسوم وحركات وتعابير وأساليب لا تمتّ للوقت الحالي بصلة إلا كذكريات. حسنا عرضت تلك الأعمال بعد انتاجها بسنوات عديدة، أي أنها عرضت بعد أن أصبحت قديمة فعليّا دون أن ندرك ذلك ولكن حينما نتحدث كمستهلكين أو مستخدمين لا كمحبين سننظر للعمر الحقيقي للمنتج على أنه عمر استخدامه الفعليّ، وبسبب طبيعتنا الاستهلاكيّة ننظر للأشياء بتعاقبيّة مستمرّة. الانمي في نظر من يراه كمنتج استهلاكيّ يكون قديما ومنتهي الصلاحيّة حال الانتهاء منه ليس لكونه فقط أصبح قديما أسلوبا وتقنيّا. وفي نظر من يراه كعمل ابداعي ومحبّ يمكن أن يكون قديما ولم تنتهي صلاحيّته. يراه الأوّل كمادة مستهكلة -لها عمر استخدام- أو علكة لذيذة ينتهي طعمها سريعا ويُلقى في سلّة الذكريات وعندما يتحدّث عنها بحبّ يحكي عنها كذكريات جميلة لعلّ هذا ما جعلنا نرى العبارة المغلوطة "الزمن الجميل"؛ جميلة لأنها أصبحت ذكريات. يصعب الخلاص من شرك الذكريات حتّى لمن نظر اليها كعمل ابداعيّ لن يخلوا حديثه من لذة الذكريات لهذا قد يكون أقلّ تمييزا لروعة الأعمال من الذي شاهدها بعيدا عن اعتبارها شيئا جميلا يتذكره.  

 

بالنهاية هي أعمال جميلة أكثر من كونها ذكريات والأعمال الابداعيّة ليست سلع مستهلكة تنتهي بعد الاستخدام. توجد عبارة ولو أنها تستخدم أحيانًا بابتذال الا أنها تصف هذه الأعمال بدقة وهي "تحفة" أي عمل يبقى رغما عن أنف الأسلوب والتقنية. صحيح التقنية أحدثت فرقا واضحا بات بالإمكان انتاج عمل بقصة عادية ومع جودة الإخراج يصبح عملا مبهرا الأمر الذي لم يتوفر كثيرا بالانميات القديمة لهذا نجد ثقلها في القصة أكثر.


الى هنا انتهي وأجمل مافي النقاشات عن الانمي وعالمه بروز مصطلحات خاصة تدور في فلكها وان شابها لبس إلا أنها مفهومة مثل "كلاسيكية" و "الزمن الجميل" و الكلمة التي يستخدمها كثيرا محبوا الأفلام السينمائية "تحفة".