الثلاثاء، 31 أكتوبر 2017

في محاولة لكتابة نفسي لاشكّ وأنّها محاولة لكتابة شخص آخر لا تعرفه





ممنوع من الحديث عن نفسي

 لكن أحدّثك 

في محاولة لكتابة نفسي، لاشكّ وأنّها محاولة لكتابة شخص آخر لا تعرفه

لو سألتني عن حياتي هي مثل يوم ولادتي  لم تكن بإرادتي. كلّ الأشياء التي اخترتها لاتبدو كذلك مع الأيّام. رغم هدوئي مالذي يجعلني أشعر برغبة عارمة بدفع هذا العالم وإلقاء أخطائي عليه ومن ثمّ أطلق رصاصة الصرخة في وجيههم. مرغم على الصمت، ليقيني أنّ أكثر مايجعلني حزينا هو شيء تافه في نظرهم، كيف أقنعوني بأنها كذلك في نظرهم دون أن أحكي شيئا. 

لاشيء أبسط من أغلى الأشياء التي أتذكّرها.

 وحده النظر بعيدا هو أكثر مايبعدني، وأكثر الأشياء التي لاأستطيع قولها هي أكثر ما أودّ قوله في حياتي.

ليست الكلمات إلا أيادي تحفر في سبيل كلمة في قلبي. كلمة قد لا أعثر عليها يوما، إلا أنّي أترك الأيادي تحدّث الناس عنها. ولازلت أحفر حتّى تآكلت أصابعي لاشيء لامس الكلمة التي في قلبي أكثر من قطرة دم سالت وجفّت قبل أن تصل في التربة.

تعوّدت أن لا أشير إلى من أريد. تعلّمت أن ما أريده ليس لي وكأنّ أحدهم نسي أن يضع كلمة "كلّ ما أريده" في ذهني. 

الأماني ليست إلا أشياء لاتتحقّق، مثل الزمن لايعود. مثل أشخاص تخيّلتهم لو أنّ الزمن .. لو أنّ المكان ..  لو أنّ الأسماء .. ولو أنّي .. لكانوا ولكن ما أكثر "لو" في حياتي.       

 أصدق مانقول هو مانقوله همسا، لك أن تتخيّل مقدار صدق مالم نقله بعد و كيف لي أن أقول أمنية في قاع روح حيث لاتستطيع الكلمات أن تراها.

 حتّى يجيء من يجعلني قادرا على قولها. 

أعذرني عزيزي وإن كان لدي ما أقوله لازلت ممنوعا من الحديث عن نفسي، ولو كان الحديث يمحى مثل الكتابة، لسرّني فعلها مرارا وتكرارا حتّى أشوّه بياض صمتي الذي يرهقني 

الأحد، 15 أكتوبر 2017

متى بدأ الإنسان يشعر بالوحدة؟








هل الإنسان قديما كان يشعر بالوحدة أو العزلة وهو بين الناس أمّ أنّها حالة من صنع العصر الحديث؟ 
حاليّا يمكنك أن ترى حالات الوحدة التي يعاني منها أصحابها بمواقع التواصل الاجتماعي. وبما أنّ السبيل الوحيد للوصول إلى مشاعر الأقدمين هي من خلال أشعارهم وآدابهم التي كتبوها. ففي الشعر الجاهليّ مثلا لانجد الكثير من ذلك، رغم وجود آلام ومشاعر مألوفة لدينا، مثل ألم الفراق والغربة. بل إن الوحدة والعزلة ارتبطت أحيانا بعزّة النفس والفخر بها أو بالتنسّك والتعبّد وعند الصعاليك مثل الشنفرى وغيره كانت مناسبة للفخر 

وانّي كفاني فَقد من ليس جازيا
بحسنى ولافي قربه متعلّل
ثلاثة أصحاب: فؤاد مشيّع
وأبيض إصليت وصفراء عيطل

هل يمكننا القول بأنّ الإنسان قديما لم يملك وقتا كافيا للفراغ ليشعر بالوحدة؟ بسبب سبل العيش والتي تأكل أوقاته وتحثّه على الاحتكاك بالناس. الى القرن التاسع عشر كانت ظروف العمل وساعاتها الطوال ومع ماتسبّبه من أضرار على الصعيد الجسدي والنفسي إلا أنّها على مايبدو كانت تبعدهم عن ذلك الشعور الأشبه بالعزلة المختارة، أو باختيار مفروض. كثيرا ماتزخر القصص والأفلام التي تحكي عن الرجال الذين يعودون من يوم عمل شاق وكيف أنّهم يفرغون كلّ ذلك بساعات قليلة من اللهو والشراب مع قليل من التذمّر وذلك يتمّ بأماكن عامة حيث يجتمع الكثير منهم، مايجعل التذمّر وقصص الشكاوي تأخذ طابعا مرحا. يمكننا أن نرصد طريقة الإنسان في الوقاية من الكآبة وغيرها من خلال النظر إلى طريقة مرحه. 


للأحيمر السعدي هذا البيت يصف الشعور بالوحشة وحيدا :

عوى الذئب فاستأنست بالذئب اذا عوى
وصـــــوّت انـســان فــكــدت أطـيــر


لاتختلف الأفكاره على مرّ العصور فحسب بل المشاعره كذلك. ومثلما الإنسان يدشّن باكتشافاته وانجازاته عصورا جديدة كذلك مشاكله التي تبرز تدشّن عصرها معه. بالنسبة للمشاكل النفسيّة ومايرتبط بالشعور، يشبه مايعانيه الإنسان منها بما يعانيه من أمراض. فكما أنّ الطاعون كان مرض القرون الوسطى وكذلك الكوليرا والجدري كانت أمراض القرن التاسع عشر وعندما انتهت بالقرن العشرين تقريبا بدأ عصر السرطان. ومع كلّ كانت هنالك مشاكل الإنسان النفسيّة، وعلى نفس الرتم، مشاكل نفسيّة كانت تندثر وأخرى تظهر، ويبدو أنّ زخم هذه المشاكل أصبح بارزا بعد أن حقّق الانسان تقدّما ملحوظا بمكافحته الأمراض العضويّة الفتّاكة. في عصر بات يحدّثنا العلماء عن الحبّ والكره والكآبة والحزن والميول الجنسيّ وفق دراسات وأبحاث مجهريّة، باتت هذه الأشياء المعنويّة أو المكنونة في داخل الإنسان عضويّة! ولعلّ ذلك سيجعلنا نحصر رؤيتنا لمشاكلنا في إطار مجهر العلماء والباحثين. بات تقدّم الإنسان محصورا بنجاحه في جعل أيّ مشكلة لها أساس عضويّ. 

الى أن يستطيع الانسان فعل ذلك تناولت مشاكلنا النفسيّة الأعمال الأدبيّة والأعمال السينمائّية بطريقة مختلفة وجذّابة، خارج الإطار العلميّ المحصور وكأنّ الإنسان بخياله قادر على رؤية حقائق لاتراها الأعين المجهريّة. 






بالفيلم الفرنسيّ The Fire Within 1963 تناول قصّة ألان ومعاناته النفسيّة التي أفرغت شيئا ما من داخله حتى شعر بفقدان معناه بالحياة يتحدّث الفيلم عن باريس الساحرة والتي كانت تغرق محبّيها بحكاياتها الرومنسيّة  ولذّة العيش بها. عندما يشعر الإنسان أنّه يكرّس حياته لذلك سيفقد لذّة تلك الأشياء - إمّا لإدراكه بأنّ العمر محدود أو أنّ روحه باتت تجد تلك المتعة مملة- وكم هي مرعبة فكرة أنّك لم تعد قادرا على الاستمتاع في مدينة هي رمز لمتعة الحياة، كما قال ألان: أنه لا يستطيع أن يلمس شيئا. باتت الأشياء لاتعترف بوجوده. هذا الشعور أو قبل الوصول لتلك الحالة نجدها بروايات اونوريه بلزاك التي تحكي عن مجتمعات باريس اللاهية.








  ومن أشياء تشعرك بفراغ روحك إلى الملايين من الناس التي تشعرك بذلك! في فيلم Taxi Driver 1976 كانت شخصيّة البطل التي قام بها روبرتو دي نيرو تعيش وحيدة في مدينة يسكنها الملايين، روتينه اليوميّ يفقده الشعور بوجود من حوله، حتّى بات يبحث عن شيء يمنحه معنى أو وجود ملموس. أشياء أو حماقات لا نألفها بالروايات القديمة ولا بالقصص القديمة، أعراض يبدو أنّنا نفهمها لأنّنا أبناء هذا العصر. إن مشهد دي نيرو وهو يشاهد التلفاز ومعه مسدّسه كان تعبيرا صادقا لسلوك قلّما يظهر أو يتحدّث عنه الناس عندما يفعلون شيئا مثل ذلك إمّا لأنّهم يخجلون من ذكر ذلك أو لأنّ ذلك شأنا يعني وحدتهم. 


الأفلام التي تحدّثت عن الوحدة والفراغ الروحي وسط جمع من الناس كثيرة، حيث يبحث الشخص عن وجوده أو يهرب من ذلك الشعور بالوحدة بينهم عبر الانعزال والبقاء وحيدا. نقول "الوحدة" ونعني بها أشياء كثيرة لانملك إسما لها إلا "الوحدة" وليست مثل أيّ مرض عضوي يمكننا معرفته عبر فحصه ورؤية الميكروب المسؤول عنه. 


  اخترقت الوحدة حاجز الجماعة فباتت تشعر الشخص بها وهو بينهم. بات الشعور بها منبعا للكثير التصرّفات وهو ما جعل منّا أناسا مختلفون عن ماكانوا عليه من قبلنا.






 لعلّ من أوائل الذين تحدّثوا عن ذلك فرانز كافكا في روايته (المسخ) لحظة استيقاظ جريجوري سامسا التي لاتُنسى. الجميل أنّه تناول ذلك بشكل غريب يرسخ بالأذهان وهو تحوّل الإنسان، كأنّه أدرك تحوّله من الداخل ولكنّه بالرواية أخذ شكلا خارجيّا وكأنّه شاهد رسومات أوديلون ريدون.  ألهذا أعجب الناس حاليّا بكافكا؟ يقول المخرج لويس بونويل عن فيلم 1971 A Clockwork Orange  "هو المفضّل حاليّا بالنسبة لي، كنت متهيّأ جدّا ضد هذا الفيلم. بعد مشاهدته أدركت أنّه الفيلم الوحيد حول المعنى الحقيقي للعالم الحديث" حيث يحاول هذا العالم بالفيلم صناعة سلوك الإنسان وتصرّفاته وإن بدا ذلك غريبا ولكن هذا مايحدث بالفعل. بالسابق كانت الظروف والأحداث التاريخيّة والتي فعلها الإنسان هي من تصنع تصرّفات الإنسان وسلوكيّاته ولكن حاليّا باتت أشياء وليست أفعالا صنعها الإنسان وبناها هي من تتحكّم في تصرّفاته. لننظر إلى "كاروشي" وهي حالة مميتة أحيانا تحدث باليابان تصيب الشخص بسبب الإفراط بالعمل. أهذا ما صنعه إنسان العصر الحديث؟




------------------

اللوحة الأولى لرينيه ماغريت 1937م Not To Be Reproduced
اللوحة الثانية لأوديلون ريدون 1883م The Crying Spider