الثلاثاء، 27 أكتوبر 2020

لا أحد يحكي عن ليلة البارحة

 



استيقظ ورأسه مُثقل بحمل لا يعرفه. شعر بأنه مدين لاستعداده بالليلة السابقة، حيث قام بتجهيز ملابسه اللازمة لخروجه إلى عمله. لهذا لم يكن عليه إلا أن يسلك دربه باتجاه الباب خارجا وكلّ شيء في طريقه. 


شعر بالفزع قليلا، حال رؤيته وجه جاره. ولا يعلم مالسبب. حتّى جاره بدت من ملامحه عصفة ذهنيّة ارتطمت بسكونه من الداخل. بالكاد أظهرت أثرها لكن ** انتبه إليها لأنّ شعورا مصاحبا ساعده على ذلك. 

"صباح الخير" يحيي جاره الذي يجيب " أهلا صباح الخير" وبعد سكوت طويل وعلى غير العادة راد جاره حديثه وسأله " كيف كانت ليلتك؟" تنفّس بصوت واضح قليلا قبل أن يردّ "بصراحة كانت صعبة قليلا .. لا أدري لكنّها عدّت" " هذا حسن حسن بالفعل" أجاب جاره وكأنه يتحدث عن شيء مرّ بهم معا. 

افترقا عبر الطريق وشعر كلّ شخص بأنّ كل أحد يخبئ أمرا عن الآخر.

 

بالطريق أحس ** برعشة خوف لا يفهمها، أصبح غير راغب على إكمال طريقه للعمل. شعر بأن عليه أن يقدم على شيء قبل ذلك. أو أن ذلك الحمل الذي يثقل رأسه بدأ يتّضح أكثر ولكن بدرجة لا يزال معها في حاجة إلى التفكير طويلا بمفردة ليتضح أكثر.

 

ذهب إلى مقهى يحبّ كثيرا ترتيب أثاثه ومستوى فخامته الذي يميل الى تقديم أكثر مما يؤدي الغرض، كأن يكون مريحا ويدعو للتأمّل. جلس على مقعد جلديّ قرب الزجاج الخارجي. كان يحب المشاهد المنعكسة من خلاله. ويشعر أن قربه من الزجاج يمنحه القدرة على الهرب خارجا اذا لزم الأمر ولو بنظراته. التواجد في العمق يخنقه. شعر بأن الرعشة تزداد سوءا. المقعد بارد حتى بعد مدة من جلوسه، لم ظلّ باردا كأن لا أحد يجلس عليه. بدأت قبضته ترتعش، شعر برغبته أن يلكم شيئا لكنه أطفأ هذه الرغبة مع كوب القهوة التي حضرت ساخنة لتنقذ الموقف. تنهّد على وجه الكوب قبل أن يشرب. إن عادة النفث في الكوب باتت عادة لتسلية وليست غرضا بالنسبة له. لم يكن بالمقهى إلا القلة، عادة أناس مستعدون لأخذ طلباتهم ليكملوا طريقهم وآخرون لم يجدوا لوقت فراغهم إلا هذا المكان. وكان أحد الجيران جالسا بمكان بعيد نسبيّا عنه. 

 

     شعر بأن بالأمر شيئا. كلّهم أتوا وقطعوا طريقهم الى عملهم بصورة استثنائية وجلسوا في هذا الوقت بالمقهى على غير عادتهم. شيء ما دفعهم للاستراحة قليلا. 

 

لا يتذكّر أي شيء عن ليلة البارحة. بدأ جسده يخبره، كأن جسده أفاق لتوّه. كل ذلك السيل من الشعور والأحاسيس بدأت تندفع الى دماغه عبر مجرى الدماء التي باتت - كما يشعر أيضا فوق ذلك- بأنها مزدحمة بآثار ليلة البارحة. خدش بسيط، سريره أملس بكل جوانبه. كدمة بسيطة بساعده، وخدش داخل لثته للتو شعر به، وأشياء كثيرة بعضها يُرى وبعضها يشعر بها. لكنه شعر جيّدا بنقاطها من خلال السيل المندفع منها الى دماغه.

استيقظ ضميره! الشعور بالذنب حالة تشبه الندم لكنها تختلف لأن بها نقطة وجود في العين تشدّ كلّ تقاسيم الوجه اليها استعدادا للدموع بعكس الندم الذي تكاد تشعر بلمساته في أصابعك وقبضتك وحنجرتك. كان ** يشعر بذنب لا يعلمه. 

 

لم يدري ** لم شعر بأنه بهذه الأفكار يستجوب جسده بحثا عن الإجابة وكأنه يائس من عصر ذاكرة عن ليلة البارحة.

 

الشعور بالذنب بات يتدفق أكثر، والخوف يرافق هذا الشعور وبدأ يرتعش أكثر ويتلفّت كثيرا؛ شعر بأنه بحاجة الى تحريك عنقه ليدخل الهواء الى رئته. كأنه بدأ يختنق. قام بثني رأسه للأسفل جاعلا من بقايا حرارة الكوب تلامس وجهه بهدوء. ذلك الـ ما تبقّى من حرارة كوبه كان الشيء الوحيد القادر على لمسه. لأن الكرسي ظلّ باردا كأنه مبلل بالبرد. الآن بدأ يشعر بغضب كل من حوله، ذلك الغضب الذي لم يأتي بعد. هل تذكّر ** كلّ شيء قبل الجميع؟ وبعد برهة بدأ الشعور بغضبهم يخف أكثر. شعر بأن حمل ذلك الغضب لن يكن على عاتقه وحده. 

" فقط لو تذكّر الجميع لكنّا سواسية ولكن ماذا لو بقي الجميع لا يتذكّرون إلا ما فعلت أن ليلة البارحة" بدأ يتمتم كأنه يخاف مما قد يتذكّره 

 

الساعة تشير إلى أنه لا زال هناك متسعا من الوقت. فهو مدين الى تجهيزات ما قبل النوم لأن رحلة البحث عن لبس ملائم تستغرق منه بعد الاستيقاظ أضعاف ما يحتاجه من وقت قبل نومه. فهو إذا خرج بالهيئة التي رسمت بالأمس. ولأنه صاحب مزاج يسهل اضطرابه يمكنك أن ترى هيئته من الداخل وفق اختياراته؛ شخص يسهل الاطلاع على الإشارات التي تتركها اختياراته وإن بقيت معانيها غامضة. 

 

ومع عودة الشعور بالذنب عاد الخوف أكثر شعر بأنّ أحشاؤه تتحرك. وأن نظرات الجميع انتبهت الى ذلك. حاول رؤية جاره واسترق النظر اليه، بدا مثله يعيش حالة مماثلة. " مالذي فعلناه ليلة البارحة؟" عاد يسأل نفسه. 

 

حشد من أحشائه يحاول الخروج اندفاعا للأعلى. يشعر بألم يضغط رئته على ثنية من ضلعة. "هذا ليس وهما الأحلام لن تحرك جسدي الى هذا الحدّ" بدأ يسأل نفسه عن مافعله لم يكن حلما. وضع رأسه المنحني قليلا بين يديه جامعا أطراف شعره بقبضة يده. وكأنّ لا شيء سيوقفه إلا صوت انتزاع شعرات رأسه من جذورها. لم يخفّف قوة الشدّ بيده؛ شعر بأنّ الصداع بدأ ينساب من خلال مسامات جلد رأسه التي اتسعت قليلا وهو يشدّ شعره بقوّة. 

 

أرخى يده، بدأ شعره يتنفس. وبدأت عينه تدمع. جاره رحل. لم يكن سبب وجوده وقلقه إلا شيئا عابرا. كما بدا من طريقة خروجه. شعر فجأة بوحدة موحشة عندما خرج جاره وأدرك أنه لا علاقة لجاره بما حدث ليلة البارحة. 

 

الشعور بالوحدة كان حادّا كأن كل شيء إلقي عليه فجأة. بدأ وجهه يؤلمه جرّاء اندفاع الدماء الى وجهه. وعينه تؤلمه، خاصة مخارج الدمع. كلّ شيء يندفع للخارج في محاولة للخروج منه، من المأزق وكأنه كان المأزق الذي وقعت فيه أعضاؤه، كما شعر بأنه مأزق لكلّ أحد حوله. 

 

شعور مرير بالذنب. وبعد أن كسر حاجز عزلته انتباه الناس إليه بعد أن ألصق وجهه بفوّهة الكوب أكثر بوضع سدعو للاستغراب. كان يريد من بخار قهوته أن تحاول تهدئة وجهه. 

 

   اعتدل ورفع رأسه وبدأ يتنهد. وأدرك أن من حوله بنظراتهم انتبهوا إليه سأله النادل مع انحناءة مهذبة إليه " هل تحتاج شيئا سيدي أكل شيء على ما يرام؟" أجاب بعد أن تنفس بوضوح وشعر أن مجرى الهواء في داخله بارد بطريقة منعشة بأنه "بخير.. بخير حتما" كان يشعر برغبة بالبكاء كأنه للتوّ خرج من النفق العميق في داخله بمساعدتهم. 

خرج وأكمل طريقه هربا من ليلة البارحة التي اعتادت العودة إليه بعد كل ليلة ككل ليلة بارحة 

 

       


 

الخميس، 15 أكتوبر 2020

هربا من الأوراق الثبوتية

 





أصبح شابا يعرفه الجميع لكن لا أثر له في الأوراق الرسمية. كانت يسمع في صغره دائما من والده أن الاجراءات الحكومية شاقة ومتعبة وكان يرى تقاسيم وجهه في كلّ مرّة وهو يكفهرّ عندما يُسأل عن السبب الذي دعاه للتأخير بتسجيل ابنه منذ ولادته والتي كانت سببا بوفاة والدته. يعيشون في بلدة صغيرة لكنها قريبة من أذهان الدوائر الحكومية جيّدا. كان حديثه وأعذاره تشبه كرة الثلج التي كانت تتكبر وتتعاظم مع السنين. أدرك الابن أن كرة الثلج هذه ستبتلعه ولن يكون قادرا على فعل أي شيء إلا الهرب والهرب من الإجراءات الحكومية والتي بات يراها مطاردة خفيّة تتبعه أينما حلّ.


أصبح دون أن يدري أجنبيّا أو متسلّلا أو خارجا عن القانون، أو أي صفة تستدعي القلق من البزّات الرسمية. لا أحد يدري كيف استطاع الشاب ** تدبّر أموره والعيش على هذا المنوال خارج أسوار القانون أكثر من عشرين عام. حتّى عندما مات أبوه ودفن شعر بأنّه داخل نطاق صغير هي حدود معارفه لا يستطيع تجاوزه وكأنه لا يستطيع الابتعاد أكثر من بضعة أمتار عن أقرب شخص يعرفه جيّدا، يمثّل هوية له. أحس بالغرابة. شعر كليّا أنه غير موجود بالنسبة للأشخاص القابعين خارج دائرة معارفه. مالذي دفع والده لعدم تسجيله؟ لاشكّ أن أمرا خطيرا منعه من ذلك. فقد اعتاد رؤية جبين والده يتصبّب عرقا عند سؤاله عن السبب وراء إهمال تسجيله وكيف كان يدافع عن نفسه بأنّه لم يستطع ولم يجد الوقت الكافي لذلك. كان يفكّر بأنّ شيئا مهمّا منعه عن ذلك. 

 

أصبح ** ماهرا في الاختباء عن القانون وأعين الأوراق الحكوميّة وإجراءاتها وتكيّف كليّا مع الحياة بمراوغة كلّ ذلك. تلقّى تعليما مبدئيا في بلدته الجبلية وجل اثباتاته وعود والده ومعارفه لهذا كان تعليمه متواضعا. ولكنه عمل في أكثر المجالات الحرّة ، تنقل كثيرا بالأنشطة، زملاء والده كانوا يساعدونه ويملكون محلات تبيع مختلف المستلزمات والأنشطة وكان بارعا في كلّ شيء طالما وجدت التعليمات. حقيقة أن هذا هو أقصى مدى يمكن عمله جعله يتقن كل تلك الأعمال. وأن يصنع لنفسه إسما محببا لدى الجميع.

 

استطاع كسب رزقه ولكنّه يكبر أكثر مما ينبغي. لم يصدق أحد حقيقة عدم امتلاكه أوراقا ثبوتيّة؛ كان ذلك كافيا لإقناع أي مسؤول أو موظف حكومي بأنّ لديه أوراقا ثبوتيّة بالفعل. وعوضا عن الإصرار بطلبها كانوا يمرّرونه وكأنهم يلمسون وجودها بنفيه اللامعقول بوجودها ويتركونه بسلام. 

 

جيرانه وأصحاب والده وأصحابه يدركون أنه يعيش هاربا بهذه الصوة. وأن مسألة الأوراق الثبوتيّة مسألة تافهة يمكن حلّها مقارنة بما هو عليه من هروب، وأنها ستكون موضوعا مثيرا يتسلّى به الموظفون الحكوميون كثيرا. وحتما سيساعدونه تعاطفا معه. لكنهم لم يشاؤوا أن يخبروه بأن والده لم يكمل الإجراءات كسلا أو تسويفا وكان من المحتمل أن يحاول أحد الأصحاب أن يشرح كيف أنه سكت كل هذه السنوات على أمر مهم كهذا. لم يكن في بالهم احتمال التأنيب اللفظي الذي لن يدوم وقعه على قلوبهم طويلا. وفضّلوا عوضا عن ذلك أن يستمرّ ** بالهرب والنجاح بذلك حماية لسكوتهم. كان يرى أنهم يعاملونه بجدّية بالغة لهذا يتخيّل أن الأمر في غاية الصعوبة ومثير للقلق. لم يعمّر طويلا فقد توفّي ** في عام ٠٨ ** جرّاء حادث مؤسف في احدى الأودية ولم يعثر عليه ولم يكن له وجود في التعداد السكاني للبلدة كأنه كان رقما زائدا أو هامشا أزيل ليحافظ الرقم على صورته العشريّة بلا شوائب. ظل موجودا حتّى مات آخر شخص يعرفه واختفى للأبد؛ لأن أحدا لم يصدّق وجود شخص عاش في هذا الزمن وهذه البلدة دون أن يدوّن اسمه في أي ورقة رسميّة، آخر فرصة له كانت بوفاته داخل البلدة لكنه استمرّ بالهروب -حتّى بعد مماته- من تلك الأوراق.