الثلاثاء، 28 مارس 2017

جميل بشهادة الفنّان لا بشهادة الجميع.



لو كنت أنت من رسم لوحة ماليفيتش هذه هل تتوقّع أن يعرفها أحد؟ في الواقع إنّ هذه اللوحة بيعت بمبلغ عالي، أكثر من عشرة ملايين دولار. ولا داعي للسؤال بكم كانت ستباع لو كنت أنت من رسمها.







هل في اللوحة شيء يدعو للتأمّل؟ أم أنّنا نتأمّل ماليفيتش باللوحة؟


مجموعة من أعمال ماليفيتش الرائعة. بصراحة كازيمير ماليفيتش من الفنّانين الذين أحبّ التأمّل في لوحاتهم والنظر إليها، وبالنسبة لي هذا الجدار مبهج وبديع. الجواب على السؤال هو أنّ الرسم بالذات لاينفصل إطلاقا عن إسم صاحبه. بإمكانك أن تشعر بجمال وروعة أبيات شعر لشاعر لاتحبّ قصائده في العادة ولكنّه في هذه الأبيات بدا مختلفا. توجد الكثير من القصائد المجهولة المشهورة والتي احتفى الكثيرون بها في حين لايوجد مثل ذلك كثيرا في عالم اللوحات، لأنّ إسم الفنّان مهمّ للغاية لكلّ لوحة أكثر مما يعنيه إسم الشاعر والكاتب في القصيدة والرواية. 


لا أعتقد أن شهرة ماليفيتش كانت عبثيّة وأنّ الأشكال في لوحاته كان يمكن لأيّ واحد منّا ابتكارها. إنّنا نولد ونحن نعرف -بطريقة ما- أن هذا الشيء جميل وهذا غير جميل. لا إثبات علميّ لديّ، ليس إلا حدسا، فعندما تقرأ عن إمرأة توصف بأنّها جميلة في كتاب ما عمره ٥٠٠ سنة فإنّ احتمال أن تكون هذه الإمرأة قبيحة في نظرك  قليل جدّا. الأوصاف التي تتصف بها الجميلات بالمجمل نفسها منذ آلاف الأعوام باختلاف بعض التفاصيل القليلة. وهنالك حالات أخرى خارج نطاق هذا الحكم، ولا أتكلّم عن الحبّ، أن يحبّ رجلا إمرأة ليست جميلة في نظرنا ولكنّها بالضرورة جميلة في نظره، فالحبّ شيء مختلف. وبعيدا عن المرأة أو الرجل حتّى. هل الأمر ينطبق كذلك على الأشياء والأشكال من حولنا؟ 







(الموجة العظيمة) لهوكوساي
ترى كم واحدا من ١٠٠ سيقول عن هذه اللوحة جميلة وكم واحدا سيقول العكس؟
إنّنا نعرف بالغالب ماهي المرأة الجميلة ونتّفق حول ذلك في الغالب ولكن عند الحديث عن: متى تكون المرأة جميلة أو الرجل جميل وكيف يكون شكلهما فإنّنا عندئذ سنختلف كثيرا وستبرز مسألة التفضيلات بيننا. أيضا ينطبق ذلك ربّما على الأشكال والأشياء، شيء ما يجعلنا نقرّ بأنّ هذا الشيء جميل وليس ضروريّا أن نصف كيف بالغالب، لذلك الكثير من اللوحات التي قد لانفهم كيف أشتهرت وكيف أصبح رسّاموها عظاما إلا عن طريق معرفة رأي الكثيرين من الناس حولها أو رأي المهتمّين بالفنّ. قد نعرّف أو نَعرف الجمال بأنّه شيء نحبّ أن نراه مرة ومرّتين وأن نفكّر ونحن نحدّق فيه ونتأمّله. متى يكون ذلك؟ هذا مالانعلمه أو مالم نتمكّن من معرفته بالضبط، ولو أنّي أميل الى كون ذلك موجود من فطرتنا لذلك لايمكن حصره. 

يوجد أشخاص قادرون على معرفة الأشياء الجميلة أكثر من غيرهم. وكلّ ماعليهم فعله أو أن يجعلونا ننتبه لتلك الأشياء أكثر ومن بين هؤلاء الرسّامون. وبطبيعة الحال وذلك مبنيّ على قدرتهم على رؤية الجمال ووصفه قدر الإمكان بالرسم، وتختلف إمكاناتهم وأدواتهم بطبيعة الحال. فخطوط رفاييل وبوتشيللي الأنيقة والناعمة تساعدهم على رسم الجمال وجعله واضحا لنا أكثر وكذلك الحال مع إضاءات رامبرانت والخطوط المتعرّجة والتي تبدو متحرّكة لروبنز.



(مقبرة اليهود) لرويسدال
في هذه اللوحة الكثير من التفاصيل والتي لم تخفي وتطمس معالم الجمال، فكثرة التفاصيل سلاح ذوحدّين قد تجعل الرسّام يذهب بتلك الزخارف بعيدا فيضيع الجمال في كومة التفاصيل. إلا أنّ رويسدال عنده قدرة عجيبة على جعل الجمال شاخصا رغم التفاصيل الكثيرة. يوجد رسّامون غيره كثر يرسمون مثله ولكنّهم لم يشتهروا مثله. فهو استطاع أن يصف الجمال بإسهاب وتوصيف دون أن يشعرنا بالملل والضياع.



وفي لوحة ويستلر هذه. يبدو الجمال في التفاصيل المرتّبة والأنيقة، كأنّها قطعة قماش حيكت برفق. الرسّام الأمريكي من  أكثر الرسّامين الغربيين الذين تأثّروا بشكل واضح بالفنّ الياباني المعتمد على تنسيق الأشكال البسيطة بطريقة أنيقة ومرّتبة مريحة للعين، ورغم أنّه قد تنقص الأدوات والأشياء لإبراز الجمال لكنّ قدرة الرسّام هي ما تجعله قادرا على إبرازه بأبسط التفاصيل. فهو استطاع أن يصف الجمال بإيجاز دون أن نشعر بأنّ شيئا ينقص وصفه. 



أحب هذا الاسكيتش لمونيه وبالنسبة لي هو أجمل اسكيتش لرسّام مشهور. ليست صدفة أن توجد هذه الرسمة في الكثير من الكتب التي تتحدّث عن مونيه رغم أنّه رسم الكثيييير من الاسكيتشات غيرها ولكن لهذه بالذات حضورها المميّز. إنّ الجمال فيها عفويّ وكأنّها كلمة خرجت من فم قائلها بشكل عفويّ. فهو استطاع أن يصف الجمال بشكل غير كافي ولكنه كافي بالنسبة الى كلمة عفويّة أو وصف جزئيّ.


الكثير يستطيع أنّ يعبّر عن الجمال بطريقته، من وجيه مودلياني القوطيّة إلى خربشات جاكسون بولوك وصولا للوحات فونتانا الممزقة بالمشرط. إن الفنّ لازال نفسه يبحث عن الجمال ولكن العالم الآن بات يعترف بوجوده بطرق شتّى. صحيح توجد الكثير من الأعمال القبيحة والمثيرة للإشمئزاز والتي تسمّى عند البعض فنّا ولا ندري كيف يحدث ذلك إلا أنّ الفارق بينها وبين الأعمال الأخرى الفنّان نفسه، فمثلا يستاء الكثير من أعمال داميان هيرست التي أخذت طابعا تجاريّا ولاتزال قائمة جائزة تيرنر للفائزين تثير السخرية مثل سرير تريسي إمين  لذلك حتما لايمكننا فصل الأعمال عن الفنّان نفسه، فبقد ما نحن بحاجة للحكم على هذا العمل هل هو جميل أم لا، نحتاج للحكم على الفنآن هل هو فنّان حقّا أم لا.    


بناءًا على ثقتنا بالرسّامين نحن نستطيع أنّ نخمّن بأنّ هذا الشكل الذي رسمه جميل، وهو ذاته الذي قد لانقول عنه كذلك لو رسمه غيره. لاننسى أنّ قيمة اللوحة تدخل فيها عدّة أمور: سيرة الفنّان، سيرة اللوحة، موضوعها، سعرها -وهو أمر يخصّ عالم الأعمال بعيدا عن الفنّ-. لاشكّ أنّ العالم سينظر بإعجاب إلى لوحة أصرّ رسّامها على مواجهة العالم الرافض بها. وقد يكون من باب ردّ الجميل منح قيمة إضافيّة للوحات جميلة لم تنل نصيبها من الإعجاب بل نالت الكثير من الإنكار.

أتذكّر قولا اعتياديّا أُطلق كثيرا وهو: أن أعظم الفنّانين ماتوا فقراء! وهذا القول إطلاقا غير صحيح. الكثير منهم ماتوا عظاما وأغنياء ولكنّ للفنّان الفقير قيمته الخاصة، فهو ضحّى بالكثير من الأمور في سبيل أن يري العالم الجمال بطريقته رغم كلّ الصعاب. ولعلّ أشهر من مات بالفقر وهو رسّام فان غوخ وصديقه بول غوغان . على الأقل أدرك بول سيزان شيئا من اعجاب الناس أواخر عمره. لكن فان غوخ وغوغان بالكاد نالوا أيّ شيء يذكر إلا الإعجاب الذي يبديانه لبعضهما.

كم واحدا مثل فان غوخ مات فقيرا؟
الكثير ولكن لماذا اتّفق العالم على جمال فان غوخ، هل الأمر جاء مصادفةً؟ بالطبع لا. بالنسبة لي فان غوخ يمتلك ميزة لايمتلكها إلا غوغان صديقه. وهو جعل الأشكال مدموجة في قالب هندسيّ فريد بحيث يخلق فراغا متناسقا وبشكل أنيق. حتّى الفراغ في لوحات فان غوخ يبدو جميلا.










بورتريهات لأرماند رولين. وهي من النماذج المثاليّة لفنّ فان غوخ. لاحظوا شكل الفراغ خلف الجسد، لو افترضنا أن اللوحة عبارة عن لونين: أسود للفراغ وأبيض للجسد أتخيّل أنّ الشكل العام سيكون جميلا. يوجد الكثير من الرسّامين اللذين قلّدوا فان غوخ ولكن لايوجد ذكر بارز لهم. الخطوط السوداء العريضة التي تحدّد الجسد منحته بروزا ونتوءا بديعا. أتذكّر في المراحل المتوسّطة كيف أن الأشكال التي رسمتها تبدو أجمل عندما أحدّدها باللون الأسود لتبدو أكثر بروزا -مع فارق التشبيه طبعا-


ماهذه إلا أداة من أدوات فان غوخ الكثيرة جدّا  والتي عن طريقها كأيّ رسّام يحاول أن يبرز أو يرسم الجمال. وله جانب آخر ملفت بنظري بالإضافة إلى هندسة الفراغ فلايوجد من هو مثله في رسم الأشكال الهندسيّة كالمباني والغرف والأثاث بشكل لطيف.





المعالم العمرانيّة والأشكال الهندسيّة في لوحان فان غوخ رائعة، يبدو أنّه كان مؤهلا ليكون مهندسا معماريّا!

هل نعود إلى أوّل كلامنا، حيث أنّه لو قرأنا عن إمرأة جميلة في كتاب عمره ٥٠٠ سنة فإنّها بالغالب تعتبر جميلة بنظرنا كون الجمال لم يختلف في عين البشر منذ القدم؟ مالذي جعل لوحات فان غوخ التي كانت غير جميلة في زمنه جميلة في زمننا؟ أليس مفترضا أن نكون قادرين على معرفة الجمال بحكم فطرتنا؟ مالذي اختلف؟ بتصوّري أنّ الجمال الطبيعي كوجه الإنسان والمناظر الطبيعيّة نكون قادرين أكثر على تحديده وفهمه. في حين الجمال الإبداعيّ من قبل البشر غير ذلك، لأنّ البشر لايمتلكون وصفا دقيقا عن الجمال بشكل كامل، لهذا قد يبدو الأمر أكثر تعقيدا من هذه الناحية.


في عالم الرسم بفضل أدوات الفنّانين نستطيع رؤية الجمال، كلّ بحسب أدواته وقدرته، الأمر أشبه بكاميرا قادرة على منحنا صورة واضحة لمنظر جميل وكاميرا قدراتها أفضل قادره على منحنا صورة أوضح وأخرى قادرة على إبراز لون معيّن وأخرى قادرة على التقريب أكثر وهكذا.

علينا أن ندرك بأنّ شهرة وعظمة اللوحات لا تبنى على الجمال وحده، بل على كلّ شيء يتعلّق بها. ومنها أمور لايمكن أن نفهمها إلا كونها أشياء حدثت هكذا بشكل اعتباطيّ في زمننا ولانفهم السبب مثل شهرة الكثير من نجوم السوشيال ميديا. وكذلك قد يكون الأمر غير ذلك. فأعمال أندي وارهول الجميلة نالت أكثر من نصيبها بفضل رجال الأعمال الأمريكيين. كان أحدهم بشتري لوحة وارهول بالملايين مرة ومرّتين وهو يمتلك العشرات منها، على زمل أن ذلك سيجعل سعرها يرتفع تباعا خاصة وأنّ المشتري مجهول الهويّة!

لكن على مرّ التاريخ والسؤال الذي لا إجابة له: من هو أعظم فنّان؟
كلّ ما أستطيع قوله أنّني في هذه الفترة أشعر بأنّ أكثر من فنّان استطاع أن يقترب من الكمال والمثاليّة لوصف الجمال ولأنّ النفس البشريّة متقلّبة لا يمكن أن تجزم بحكم مطلق حول أفضليّة عمل انسان ما. لكنّ يبدو أنّ رافاييل وفيرمير قد وصلا إلى مستوى عالي من التطلّعات. 











إن أكثر لوحات رافاييل شهرة هي لوحاته الدينيّة وبالذات التي تصوّر العذراء، لو للطف لوحة  لكانت لوحة لرافاييل. لايمكن أن يصوّر أحدهم حنان الأمّ كما يفعل رافاييل، حتّى لوحاته التي تصوّر سانت جورج وهو يقتل التنّين تبدو في غاية اللطف! لوحاته تبعث على السكينة مما يساعد على التأمّل فلاعجب إن أحبّوا لوحاته الدينيّة. في لوحته كلّ الخطوط ناعمة ولايكاد يوجد خطّ يخدش أناقة لوحاته. في لوحاته شيء حيّ لا أجده في لوحات الآخرين. 
كلّ ماعليك هو أن تبحث عن لوحاته التي في عناوينها Madonna


 



يوهانس فيرمير، هذا الفنّان رغم قلّة لوحاته إلا أنّها نالت إعجابا منقطع النظير. لعلّه أكثر فنّان يعرف هواة الفنّ لوحاته بالتفصيل لا لقلّتها بل لأنّها من أكثر اللوحات التي تدعوك للتأمّل. إن لوحاته غريبة التفاصيل! كيف؟ لايوجد جزء باللوحة تحسّ بأنّه بلامعنى. قد تحبطك لوحة بحثت في تفاصيلها لأنّك وجدت أو شعرت بأنّ هنالك سنتمرات بلا معنى، الأمر الذي لايمكن أن يكون مع فيرمير. اللوحة الأولى بالصورة توصف بأنّها أروع أعماله والثانية قيل بأنّها أجمل لوحة طبيعيّة وله لوحة رسم فيها وجه فتاة شابة يعتبرونها موناليزا هولندا. بلوحاته القليلة حاز فيرمير كلّ ذلك.


مع ذلك إن مافعله رافاييل وفيرميير ماهي إلا محاولة أو طريقة أو لغة في وصف الجمال. ذلك لأنّ الجمال أوسع من أن يوصف أو يصوّر كاملا بإبداع بشريّ، لذلك يعتبر الفنّانون الذين يمتلكون مراحل مختلفة ورائعة في مسيرتهم الفنيّة  عظماء، مثل فان غوخ وبيكاسو. 

على كلّ حال، سيظلّ الجمال لغزا، لانعرفه أهو شكل أم علامة أم شعور داخليّ فينا؟ إنّنا نحاول الإجابة عن طريق اقتفاء أثره والذي يبدو واضحا في أعمال وأكثر وضوحا في أعمال أخرى أو أنّه غير واضح ولكنّنا نكون واثقين وقتها من الفنّان الذي يشهد على ذلك.
 

الجمعة، 17 مارس 2017

سينماء عظيمة وفقيرة وسينما رائعة وغنيّة .



أحيانا يخيّل إلي إنّ أرقام بيع التذاكر السينيمائيّة لاتعكس مدى حبّ الأمريكيين للأفلام بقدر ماتعكس هوسهم بتناول "البوب كورن" والمشروبات الغازيّة. الأرقام كبيرة للغاية، تماما مثل كلّ الأرقام الأمريكيّة والتي تتعلّق بالمال التي لولا الأمريكان ربّما ماسمعناها. فحتّى الكلمة الأمريكيّة الأشهر على مستوى العالم  Google تشير الى رقم خرافيّ. 
 






لو اطّلعت لوجدت أن ميزانيّة الفيلم الأمريكي -رغما عن مخرجه الكندي- (Avatar) تساوي ربّما ميزانيّة آخر عشرة أفلام أوروبيّة فازت بجائزة "السعفة الذهبيّة" بل ربّما آخر عشرة أفلام أوروبيّة وغيرها فائزة بجائزة: الدبّ الذهبي، الأسد الذهبي، والسعفة الذهبيّة! أمّا على صعيد المبيعات فقد نقول آخر خمسين فيلما فائزا.

أعلى الأفلام دخلا والأكثر بيعا والأعلى ميزانيّة كلّها تصنيفات رقميّة اللغة المفضلة للأمريكيين. يتكلّمون عنها كثيرا ويتباهون بأفلامهم من خلالها بخلاف غيرهم. وإن الإخذ بهذا التصنيف سيجعل الأفلام الأمريكيّة بالمقدّمة لمئة سنة أخرى.

وعندما تشاهد الأرقام الخاصة بالأفلام الأوروبيّة الرائعة ستتفاجأ بمكانة الأفلام الكبيرة مقارنة بأرقامها الصغيرة. وستتساءل عن مدى الشغف الذي يجعل الأوربيّون يواصلون انتاج أفلامهم رغم هذه الأرقام التي لاتسمن ولاتغني من جوع. وهذا هو الفرق بين أن يكون عملك (مصدر رزقك) هو هوايتك المفضلة وبين أن يكون عملك (مصدر ثرائك) هو هوايتك المفضّلة. الأفلام الأمريكيّة رائعة والأفلام الأوروبيّة عظيمة. بالنسبة لي أجد أن "رائعة" تناسب الأفلام الأمريكيّة الممتعة والمدهشة والمبهرة وكلمة "عظيمة" تناسب الأفلام الأوروبيّة التي تستحقّ الإعجاب والتقدير والإشادة معا. الكثير من الأفلام الأوروبيّة أو لنقل المليئة بالأوروبيين أنتجت أو لنقل جعلت أمريكيّة وناطقة بلغتها، الأمر الذي  أكسبها أرقاما أمريكيّة. إنّها جنّة السينما فعلا، وأربابها يقومون بعملهم بجنون وشغف ولكنّه حتما لايشبه الشغف الهادئ المثابر التي تنتجه أفلام مثل الفيلم الروماني الجميل 









 4Months, 3 Weeks and 2 Days  وهو فيلم ميزانيّة لاتعادل -ربّما- ميزانيّة فيلم أمريكي قد لاتساوي عدد مشاهداته عدد المرّات التي عرض فيها! 

  لكن هل لنا أن ننتقد كلّ ذلك؟ كثيرا مايكون انتقاد الأمريكيين نابع من غبطة أو حسد. إنّنا ننتقد بشدّة المشروبات الغازيّة الأمريكيّة الغازِيَة. وننتقد الوجبات السريعة التي تنتجها لنا ونتّهمها مستندين -رغم كلّ ذلك- إلى دراسات أمريكيّــة أيضا حول خطرها! أعتقد أنّ المسألة ليست مسألة خطأ وصواب بقدر ماهي طريقة وأسلوب، قد تكون كريهة وقد تكون محبّبة. بل إنها هي، هذه هي أمريكا منذ بدأت. فقد كان رجال الأعمال الأمريكيين بعد الاستقلال يملكون أراضي واسعة تعادل مساحتها مساحة دول أوروبيّة! ومع الأيّام بدأت الأرقام تكبر أكثر وأكثر وبدأت جيوب رجال أعمالهم تبدو أكبر بكثير من جيوب رجال أعمال أوروبيين أسرهم أرباب مهن عريقة. ذلك البلد الذي كان ولازال حلمه "الحلم الأمريكي" حلما للكثيرين قد فتح عالما آخر جديدا للعالم. حدث ذلك بعد أن تمّ إبادة ٤٠ مليون هندي تقريبا، لم ينتبه الكثيرين لهم إلى الآن حتّى أنّهم عندما أرادوا أن ينتخبوا رئيسا ليكون تتويجه لحظة تاريخيّة بحكم لونه وعرقه اختاروا أمريكيّا أسمرا ولم يختاروا هنديّا! بالرغم من كثرة الأسماء الهنديّة بهذا البلد وبالرغم من أن الحديث عن الأدب الأمريكي وتاريخه عادة مايقود إلى خطب هنود مثل : لوغان وسياتل. لكن على كلّ حال أمريكا تشبه كثيرا "جون سيلفر" الكثير معجب به بالرغم من أنّه شرّير وقرصان. 

 




من فيلم Chinatown هكذا قام بالتعريف بنفسه.

 للمال معنى آخر هناك، فحتّى الفقير قد لايعتبر فقيرا لسوء حظّه بنظرهم بقدر مايعتبر فاشلا أو كسولا. هذا البلد مليء بقصص النجاح الرائعة. وعلى صعيد السينما، إن افترضنا بأنّ الأرقام هي ماتعني النجاح بالنسبة لها فلا يمكن أن تكون "هوليوود" خارج أمريكا مثلما لايمكن أن يكون "وادي السيليكون" خارجها.  

 


الجمعة، 10 مارس 2017

كم تستغرق الكتب؟






لايمكن أن يضيق المكان بالكتب. ولاتوجد على الجدران أي نافذة قادرة على منح أي غرفة رؤية أفضل مما تمنحه الكتب التي تستند على جدران الغرف.


أتذكّر مواضيع بالمنتديات تحكي عن أسوأ كتاب اقتنيته، وردود تقول: لايوجد كتاب سيّء! وأخرى تقول: أنّ كلّ قراءة مفيدة. كلّ ذلك لم أستسغه، إذ أن الكلام لايمكن أن يكون صحيحا، ومثل هذا الكلام قادر على طمر الكتب الجيّدة بالكتب التي لاينبغي لها أن تكون إلا في "تويتات" أو "مقالات بالجرايد" أو في "السوالف". تذكّرت كلام ميلان كونديرا في كتابه (الستارة) عندما أورد قول أحدهم بأنّ الحياة قصيرة ولاوقت لقراءة الكتب السيّئة، تذكّرت ذلك عندما قال أحدهم لشخص اشترى كتبا كثيرة:إنّك لن تكون قادرا على إكمال قراءة كلّ الكتب في مكتبكم قبل موتك! قال ذلك لأنّ عدد عناوين كتبهم أكثر من ١٠٠٠ عنوان، أي أنّه بحاجة لقراءة ١٠٠ عنوان كلّ سنة وهذا أمر صعب. لكن المعلوم أنّ اقتناء الكتب أحيانا يكون للاطلاع أو اثراء المكتبات، بل لمجرّد إراحة الضمير تحاشيا للندم لاحقا على عدم شراء هذا الكتاب ولو لم يُقرأ!. لكن فلنتّفق بأنّ الحقيقة التي ذكرها صاحبنا ينبغي لها أن تجعلنا أكثر حرصا على اختيار كتبنا. توجد كتب يستطيع مقال واحد أو مجموعة سنابات أن تغنينا عنها وعن اقتنائها بالرغم من أنّ رقم طبعتها كبير، وكثيرا ماتكون هذه الأرقام مضلّلة فهي حيلة تلجأ إليها العديد من دور النشر لرفع رقم الطبعة للتستّر على أرقام المبيعات.    

ليس المطلوب على كلّ حال أن يبذل بالكتب جهد جدّي و جبّار يفوق تصوّر منتقدي البخاري ومسلم، فجهدهما كافي لجعل أي منتقد يبذل في سبيل الإنصاف جهدا يستحقّ أن يقدّم أمامهما ولو على استحياء.بل نحن بحاجة إلى كتب تأخذنا على محمل الجدّ.  






(الغريزة اللغويّة: كيف يبدع الإنسان اللغة) ترجمة الدكتور: حمزة قبلان المزيني.
 يمكنك أن توصي  باقتناء الكتب التي يترجمها، فهو بحقّ - وإن لم أكن أحبّ مقالاته و آرائه- إلا آنّه قدّم لمكتبنا العربيّة كتبا يستحقّ أن يشكر عليها وبترجمة ممتازة. ومن بينها هذا الكتاب الذي سيجعلك تفهم كثيرا علم "اللسانيّات" وتفهم وبشكل واضح على الأقل الجدال الحاصل بين مؤيّدي ومعارضي نظريّة تشومسكي حول اللغة (التوليديّة) خاصة عند من يناقش ذلك حول العربيّة.

في هذا الكتاب قام بنكر بشكر ٥٣ شخصا في مقدمته تقريبا. ذكرهم جميعا وماقاموا به من أجله، بمافي ذلك معلّمة للغة اللاتينيّة بالمدرسة الثانويّة. إن تقديمه للشكر بهذه الطريقة يوحي بالخدمة الكبيرة التي قدّموها له يوحي -بحقّ- وبدرجة أكبر إلى الخدمة الكبيرة التي قدّمها لنا في هذا الكتاب الممتع. هو ذلك النوع من الكتب التي تجعلك تشعر بالإمتنان لمؤلّفه وكذلك بالإمتنان لمترجمه. 



في كتاب من إصدار مشروع" كلمة" حول تاريخ الطعام خاصة بمنطقة البحر المتوسّط بالعصور القديمة، كنت أتلمّس كثيرا جهد المؤلّف في محاولاته الدؤوبة لجمع المعلومات عن طريق المصادر وبالاستقراء المجهد. وكثيرا ماكان يشكوا من قلّة المصادر حول الموضوع الذي لم يدرك الإنسان أبعاده وتأثيره التاريخيّ إلا في وقت متأخّر. عندما تلمس جهد المؤلّف يزداد حبّك للكتاب. 




أمبرتو إيكو وهو أديب إيطالي معروف، أعتقد بأنّ كتبه من أكثر الكتب التي تستحقّ الإعجاب. فأنت لن تملّ من القراءة له، كونه يحدّثك كثيرا كثيرا عن اطّلاعاته وقراءاته الواسعة. باختصار هو يأخذك في جولة دحال حديقة قراءاته. لايملك الكثير ذلك الأسلوب الشيّق في الحديث عن ماقرأوه واكتشفوه في كتبهم. إيكو يملك أكثر من ذلك.عند قراءتك لكتابه ستشعر بأنّك قرأت مجموعة من الكتب. 



 أحد أهم الأمور التي تجعل من الكتاب ذا قيمة، هو تخيّل الجهد المبذول فيها. والتطرّق إلى مواضيع تدرك فعلا بأنّ الخوض فيها مرهق. الكثير من المعلومات مكشوفة ولكنّ جمعها وترتيبها ينتج معلومات جديدة كليّا. ففي لقاء مع رئيس للمخابرات الأردنيّة على قناة الجزيرة برنامج (شاهد على العصر) قال بأنّ ٩٠٪ من المعلومات الاستخباريّة منشورة بالوسائل العامة بالفعل! وهو مايتحدّث عنه بالأساس أغلب من عمل في هذا المجال من الغرب وغيرهم. فالمعلومات موجودة وبإمكانك أن تحصل على جديدها بعد بذل الجهد فيها. وإلا فإنّ ماستقدمه لن يكون إلا "قصّا ولصقا" لا أكثر. لو أخذت شخصيّة تاريخيّة وطلبت من عشرة أشخاص أن يكتبوا عنها كتابا. هل سنتوقّع معلومة جديدة؟ هم بالنهاية سيرجعون إلى نفس المصادر ونفس المعلومات ستعاد كتابتها ولكن، توجد معلومات تولّد معلومات أخرى وماكلّ واحد من بين هؤلاء قادر على فعلها. 
في كتاب الدكتور عبداللطيف حمزة (شخصيّات من التاريخ: عبدالله بن المقفّع، صلاح الدين الأيوبي، قراقوش) يقال بأنّ هذا الكتاب خاصة عن ابن المقفّع عبارة عن رسالة بالماجستير، وقد قيل له بأنّ ماقدّمه يستحقّ عليه الدكتوراه لا الماجستير! لا يمكن حصر الكتب التي تحدّثت عن ابن المقفّع، ولكن الكثير منها تحدّثت عنه وعن ماحصل له من أمر مؤسف، لكن الكثير كانوا يتحدّثون عن أفكارهم وآرائهم من خلال كتابتهم عنه. كلام اعتيادي، وتكرار عاطفيّ وهو مالن تجده في ماكتبه عبداللطيف حمزة عنه. فبعد القراءة له ستشعر فعلا بأنّه أحاط بحكايته بشكل أوسع مما تبدو حدود ماوصلنا عنه ولكن داخل تلك الحدود بمنطقيّة وليس خارجها بالخيال والافتراضات الكثيرة. 


عندما نوصي، هل نوصي بما يستحقّ القراءة أم بما يعجبنا في الغالب؟ المسألة هنا مسألة ذوق في الكتب إذا. فنحن نقرأ مايعجبنا ويمتعنا قبل أن يفيدنا، لذلك نتعامل بتوصياتنا للكتب وكأنّنا نوصي بأغنية أو ماشابه. وأحيانا فقط نوصي وننصح بالكتب فقط لأنّ فيها أشياء تستحقّ ومابذل فيها من جهد يستحقّ التقدير فعلا.


 تخيّل بأنّ كتبا أكلت أعمار مؤلفّيها مثل (الأغاني) و (القد الفريد) لأنّ مسألة البحث والجمع لم تكن بتلك السهولة في ذلك الزمان. ماكان يستغرق منهم شهورا بات لايستغرق إلا يوما مع Google وغيره. لكن بصراحة مامدى استفادتنا من كلّ ذلك؟ 


الكتب التي استغرقت الكثير من جهود أو أذهان مؤلّفيها حتما ستسغرق الكثير من الوقت وهي في أذهاننا وذاكرتنا. إذ أنّها ليست مقالة في جريدة يتمّ طيّها بعد أن يحلّ الوقت لشيء آخر كنت تنتظره في وقت فراغك.