الجمعة، 10 مارس 2017

كم تستغرق الكتب؟






لايمكن أن يضيق المكان بالكتب. ولاتوجد على الجدران أي نافذة قادرة على منح أي غرفة رؤية أفضل مما تمنحه الكتب التي تستند على جدران الغرف.


أتذكّر مواضيع بالمنتديات تحكي عن أسوأ كتاب اقتنيته، وردود تقول: لايوجد كتاب سيّء! وأخرى تقول: أنّ كلّ قراءة مفيدة. كلّ ذلك لم أستسغه، إذ أن الكلام لايمكن أن يكون صحيحا، ومثل هذا الكلام قادر على طمر الكتب الجيّدة بالكتب التي لاينبغي لها أن تكون إلا في "تويتات" أو "مقالات بالجرايد" أو في "السوالف". تذكّرت كلام ميلان كونديرا في كتابه (الستارة) عندما أورد قول أحدهم بأنّ الحياة قصيرة ولاوقت لقراءة الكتب السيّئة، تذكّرت ذلك عندما قال أحدهم لشخص اشترى كتبا كثيرة:إنّك لن تكون قادرا على إكمال قراءة كلّ الكتب في مكتبكم قبل موتك! قال ذلك لأنّ عدد عناوين كتبهم أكثر من ١٠٠٠ عنوان، أي أنّه بحاجة لقراءة ١٠٠ عنوان كلّ سنة وهذا أمر صعب. لكن المعلوم أنّ اقتناء الكتب أحيانا يكون للاطلاع أو اثراء المكتبات، بل لمجرّد إراحة الضمير تحاشيا للندم لاحقا على عدم شراء هذا الكتاب ولو لم يُقرأ!. لكن فلنتّفق بأنّ الحقيقة التي ذكرها صاحبنا ينبغي لها أن تجعلنا أكثر حرصا على اختيار كتبنا. توجد كتب يستطيع مقال واحد أو مجموعة سنابات أن تغنينا عنها وعن اقتنائها بالرغم من أنّ رقم طبعتها كبير، وكثيرا ماتكون هذه الأرقام مضلّلة فهي حيلة تلجأ إليها العديد من دور النشر لرفع رقم الطبعة للتستّر على أرقام المبيعات.    

ليس المطلوب على كلّ حال أن يبذل بالكتب جهد جدّي و جبّار يفوق تصوّر منتقدي البخاري ومسلم، فجهدهما كافي لجعل أي منتقد يبذل في سبيل الإنصاف جهدا يستحقّ أن يقدّم أمامهما ولو على استحياء.بل نحن بحاجة إلى كتب تأخذنا على محمل الجدّ.  






(الغريزة اللغويّة: كيف يبدع الإنسان اللغة) ترجمة الدكتور: حمزة قبلان المزيني.
 يمكنك أن توصي  باقتناء الكتب التي يترجمها، فهو بحقّ - وإن لم أكن أحبّ مقالاته و آرائه- إلا آنّه قدّم لمكتبنا العربيّة كتبا يستحقّ أن يشكر عليها وبترجمة ممتازة. ومن بينها هذا الكتاب الذي سيجعلك تفهم كثيرا علم "اللسانيّات" وتفهم وبشكل واضح على الأقل الجدال الحاصل بين مؤيّدي ومعارضي نظريّة تشومسكي حول اللغة (التوليديّة) خاصة عند من يناقش ذلك حول العربيّة.

في هذا الكتاب قام بنكر بشكر ٥٣ شخصا في مقدمته تقريبا. ذكرهم جميعا وماقاموا به من أجله، بمافي ذلك معلّمة للغة اللاتينيّة بالمدرسة الثانويّة. إن تقديمه للشكر بهذه الطريقة يوحي بالخدمة الكبيرة التي قدّموها له يوحي -بحقّ- وبدرجة أكبر إلى الخدمة الكبيرة التي قدّمها لنا في هذا الكتاب الممتع. هو ذلك النوع من الكتب التي تجعلك تشعر بالإمتنان لمؤلّفه وكذلك بالإمتنان لمترجمه. 



في كتاب من إصدار مشروع" كلمة" حول تاريخ الطعام خاصة بمنطقة البحر المتوسّط بالعصور القديمة، كنت أتلمّس كثيرا جهد المؤلّف في محاولاته الدؤوبة لجمع المعلومات عن طريق المصادر وبالاستقراء المجهد. وكثيرا ماكان يشكوا من قلّة المصادر حول الموضوع الذي لم يدرك الإنسان أبعاده وتأثيره التاريخيّ إلا في وقت متأخّر. عندما تلمس جهد المؤلّف يزداد حبّك للكتاب. 




أمبرتو إيكو وهو أديب إيطالي معروف، أعتقد بأنّ كتبه من أكثر الكتب التي تستحقّ الإعجاب. فأنت لن تملّ من القراءة له، كونه يحدّثك كثيرا كثيرا عن اطّلاعاته وقراءاته الواسعة. باختصار هو يأخذك في جولة دحال حديقة قراءاته. لايملك الكثير ذلك الأسلوب الشيّق في الحديث عن ماقرأوه واكتشفوه في كتبهم. إيكو يملك أكثر من ذلك.عند قراءتك لكتابه ستشعر بأنّك قرأت مجموعة من الكتب. 



 أحد أهم الأمور التي تجعل من الكتاب ذا قيمة، هو تخيّل الجهد المبذول فيها. والتطرّق إلى مواضيع تدرك فعلا بأنّ الخوض فيها مرهق. الكثير من المعلومات مكشوفة ولكنّ جمعها وترتيبها ينتج معلومات جديدة كليّا. ففي لقاء مع رئيس للمخابرات الأردنيّة على قناة الجزيرة برنامج (شاهد على العصر) قال بأنّ ٩٠٪ من المعلومات الاستخباريّة منشورة بالوسائل العامة بالفعل! وهو مايتحدّث عنه بالأساس أغلب من عمل في هذا المجال من الغرب وغيرهم. فالمعلومات موجودة وبإمكانك أن تحصل على جديدها بعد بذل الجهد فيها. وإلا فإنّ ماستقدمه لن يكون إلا "قصّا ولصقا" لا أكثر. لو أخذت شخصيّة تاريخيّة وطلبت من عشرة أشخاص أن يكتبوا عنها كتابا. هل سنتوقّع معلومة جديدة؟ هم بالنهاية سيرجعون إلى نفس المصادر ونفس المعلومات ستعاد كتابتها ولكن، توجد معلومات تولّد معلومات أخرى وماكلّ واحد من بين هؤلاء قادر على فعلها. 
في كتاب الدكتور عبداللطيف حمزة (شخصيّات من التاريخ: عبدالله بن المقفّع، صلاح الدين الأيوبي، قراقوش) يقال بأنّ هذا الكتاب خاصة عن ابن المقفّع عبارة عن رسالة بالماجستير، وقد قيل له بأنّ ماقدّمه يستحقّ عليه الدكتوراه لا الماجستير! لا يمكن حصر الكتب التي تحدّثت عن ابن المقفّع، ولكن الكثير منها تحدّثت عنه وعن ماحصل له من أمر مؤسف، لكن الكثير كانوا يتحدّثون عن أفكارهم وآرائهم من خلال كتابتهم عنه. كلام اعتيادي، وتكرار عاطفيّ وهو مالن تجده في ماكتبه عبداللطيف حمزة عنه. فبعد القراءة له ستشعر فعلا بأنّه أحاط بحكايته بشكل أوسع مما تبدو حدود ماوصلنا عنه ولكن داخل تلك الحدود بمنطقيّة وليس خارجها بالخيال والافتراضات الكثيرة. 


عندما نوصي، هل نوصي بما يستحقّ القراءة أم بما يعجبنا في الغالب؟ المسألة هنا مسألة ذوق في الكتب إذا. فنحن نقرأ مايعجبنا ويمتعنا قبل أن يفيدنا، لذلك نتعامل بتوصياتنا للكتب وكأنّنا نوصي بأغنية أو ماشابه. وأحيانا فقط نوصي وننصح بالكتب فقط لأنّ فيها أشياء تستحقّ ومابذل فيها من جهد يستحقّ التقدير فعلا.


 تخيّل بأنّ كتبا أكلت أعمار مؤلفّيها مثل (الأغاني) و (القد الفريد) لأنّ مسألة البحث والجمع لم تكن بتلك السهولة في ذلك الزمان. ماكان يستغرق منهم شهورا بات لايستغرق إلا يوما مع Google وغيره. لكن بصراحة مامدى استفادتنا من كلّ ذلك؟ 


الكتب التي استغرقت الكثير من جهود أو أذهان مؤلّفيها حتما ستسغرق الكثير من الوقت وهي في أذهاننا وذاكرتنا. إذ أنّها ليست مقالة في جريدة يتمّ طيّها بعد أن يحلّ الوقت لشيء آخر كنت تنتظره في وقت فراغك. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق