الخميس، 30 يوليو 2020

بحثا عن ذاكرة فقدت عند أحدهم



استيقظ وهو في صحة جيّدة. أو كما يبدو عدا عن استغرابه بأن العديد من الأشخاص اجتمعواحوله، أمر غير معتاد وجودهم في مثل هذا الوقت والمكان. شيء ما أتى بهم. بدأ يشعر بحمل ثقيل يثقل على صدره، يشبه حمل الضمير، لكن هذه المرة هو لا يعرف شيئا ولا يدري إن كانوا قد انتبهوا له.
"قالوا بأنّك ستكون أحسن وبأنّ كلّ شيء سيعود في وقته" بهذا وبابتسامة مطمئنة قال له أقرب شخص يجلس قربه ويبدو أنه أكبرهم سنّا. كان الكلّ يترقّبه لهذا لم يستطع أنّ يلفّ بجسده ويتكوّم بغطائه أو بالفراغ ليرتاح. تحديقهم مربك، مثل عدد كبيرة من الأباجورات المضيئة لكن بإنارة هادئة. "قبل كلّ شيء عليك أن ترتاح وأن لا تهتمّ كثيرا، كل شيء سيكون كما يجب" قالها من لم يتصوّر أن يقول شيئا بسبب سكونه الذي بدا بأنّ لا شيء عنده.

كان السرير بالزاوية. بحيث يمكنه أن يسند ظهره على الجدار ويشعر بالجوّ في الخارج من خلاله، أحيانا كانت هذه طريقته الوحيدة للخروج من غرفته. كانوا متجمعين حوله بتوزيع مريح، جلس نصفهم والنصف الآخر يقف بارتياح مستندين بأيديهم على كراسي الجالسين مائلين قليلا نحوه. التعب الذي يشعر به جعله يحسّ بأنّهم كانوا يلحقون به حتّى وصل بالنهاية محشورا في هذه الزاوية. لكن عوضا من أن ينالوا منه يراهم وهم يحاولون الإطمئنان عليه. كان يهرب منهم! ولم يعد بحاجة للهرب منهم أكثر.  

بدأ بالاستقامة على سريره، لا يُبدوا اعتراضا على ذلك رغم أنهم كانوا يرغبون في جعله ينال قسطه من الراحة. لكن وكأنهم يقدّرون جهده لم يحاولوا الإلحاح عليه. هو الآن في مأزق؛ استقام كأنهم ينتظرون منه الكثير مما يمكن قوله.

أنزل رأسه، بدا ثقيلا محمّلا بالأفكار التي لم تستيقظ بعد. وذلك الشعور بالحمل الثقيل على صدره لا زال قابعا. أخافه أنه لم يهدأ ولم يخف حمله رغم نظرات الهدوء التي تحيط به.

بدأ يشعر بالدوار حتّى أنه لم يسمع جيّدامالذي قاله أحدهم ويبدو أنه لم يكن شيئا مهمّا للغاية؛ كلهم أومؤوا بهدوء.

خلف أكتاف الجالسين أمامه كان يشاهد طاولته وكرسيّه الذي كان يجلس فيه كثيرا وهو يكتب. ومزهريته الصغيرة التي لم تضع فيها وردة منذ وقت طويل. شعر بالحسد اتجاه تلك المزهرية المستلقية هناك بعيدا عن الأنظار. كم تمنّى لو استطاع تخطّي تلك النظرات التي تحاصره والتواجد هناك بعيدا عنهم. "ماذا بعد؟" لم يفهم هل كان يتكلم معهم قبل استيقاظه؟ لم يفهم سبب قول أقرب شخص جالس إليه ذلك. "أنت شاب ونعرف كل ما مررت به وندرك أنك شخص جيّد والكل يشهد على ذلك لكن يصعب كثيرا تجاوز ما حدث بسهولة. لا نودّ أن نكون ثقيلين عليك أكثر من اللازم" قال ذلك وكأنه يملي ما يجب فعله أو كأنه كان يقرأ من ورقة موقعة من الجميع. ثم وضع يده على راحة يده " حالما تستعيد كلّ ذلك ستخبرنا بكلّ شيء، صحيح؟" قالها بنبرة أكثر هدوؤا. "سيّدي أيها السادة أنا لا أفهم ولكنّي آسف على كل شيء بدر منّي. أحتاج إلى الوقت لأدرك ذلك وأقول لكم كل شيء حدث يوم الإثنين .." سكت فجأة، كان سكوته انقطاعا لم يدري لماذا دفعه لسانه إلى يوم الإثنين بالذات؟ مالذي حدث في ذلك اليوم كان يدرك أنه يعرف الكثير وأنه وهو يتحدّث، يتحدّث عن ما يدركه حتّى أن وقوفه عند يوم الاثنين كان ادراكا قابعا في أعماقه. "أخبرتنا قبل أن تسوء حالتك بشيء مما حدث وكنت ستخبرنا بما حدث" بهذا أردف ثاني شخص يقف قربه. "حاولنا البحث عن ذلك الشخص لكن لم يظهر ولا أحد يعرف عنه شيئا" أحدهم قال ذلك وأقرب شخص -وهو أكبرهم- كان قد التفت مصغيا باهتمام الى قوله.

بدأت الأشياء التي حدثت تنمو في داخله. كأن الكدمات بدأت تستيقظ. شعر بأنه بحاجة لأن يكون حذرا في كلامه أكثر. عرف بأنّه على يقين بشيء فعله وكلهم على نفس اليقين. كلّ شيء انتهى تقريبا عدا عن وضع العنوان الأخير لكل ذلك.       
الغرفة التي اعتاد عليها لم يشعر بأنّها ضيّقة زكثر من هذه اللحظة. حتّى أنه لا يدري ولا يفكّر في أن يجرّب ذلك، هل يحقّ له الخروج من الغرفة التي اعتاد الخروج منها متى شاء بلا استئذان؟. صوت الباب يُطرق، أحدهم فتح الباب مناديا أحد الجالسين الذي نهض وأكمل هندامه وخرج. أحدهم نظر إلى ساعته، لا يبدو على عجل كما أن تعابيرهم لا توحي بأنهم يشعرون بمماطلته. قام بتعديل جلسته قليلا رغم أنهم لم يبدوا أي ردة فعل لكنه شعر بأنّه تحرّك أكثر مما يجب وأنه كاد يتجاوز البضع سنتيمترات المصرحة له.

يعرف جيّدا أن في داخله الكثير الكثير مما يجب قوله. حمل يبدو أنه مكلّف بالانفراد به رغم شفقة الجميع. يعرف جيّدا -أو هكذا أصبح- أن فتح فمه كفيل بالدفع بكلّ شيء خارج صدره، نحو الخارج وهؤلاء كلهم ينتظرون.
لا يدري هل جاؤوا للمحاولة بالإمساك به أو الإمساك بما في داخله. عليه أن يعرف أولا قبل أن يقرّر. " لا بأس إن لم ترد الحديث اليوم أو إن لم يكن ممكنا إلا في اليوم التالي" قال الأقرب له ذلك " لندع السيّد يرتاح لم يكن ما قاله سهلا عليه" أحدهم قالها وهو ينهض من الكرسي حاث الجميع على فعل ذلك مثله. "بالفعل يكفي أنه قال ذلك، ما أخبرنا به لم يكن سهلا وعلينا أن نقدّر موقفه ووقع ذلك عليه" ثمّ أردف المتحدّث وهو الجالس بالقرب منه واضعا يده على كتفه " لا عليك سننهي ذلك معا" كانت لمسة المتحدّث في غاية اللطف لكنه لم يدرك مالذي جعله يرتجف بقوّة وبكلّ خوف جرّاء لمسته اللطيفة تلك!

أكمل الجميع هندامهم وقد همّوا بالرحيل وفتحوا الباب، تباعا خرجوا كان ينتظر خروج آخر واحد منهم. كان يدرك أن خروجهم واحدا واحدا لم يكن إلا عدّا تنازليّا لقنبلة الخوف التي تكاد تنفجر به. بدا وكأنّ صاحب تلك اللمسة قد زرعها على كتفه. أمر مزعجهم كلّهم يعرفون نقطة النهاية التي يجري إليها دون أن يدري.

بدأ ينتبه إلى أنهم يوقعون مجموعة من الأوراق وكان أحد الموظفين والذي يرتدي زيّا رسميّا يمرّر ورقة على الجميع، الجميع كان يوقّع وعلامة الأسى تبدو عليهم.

رغم أنهم خرجوا جميعا لكن خروجهم لم يكتمل؛ الباب لا زال مفتوحا ولازالت الجلبة توحي بأنّ الغرفة جزء من الخارج. الحركة أصبحت أسرع وصحته التي كانت تبدو جيّدة، أصبحت أحسن، بل أصبح جيّدا بما يكفي لأن يشعر بأنه مثلهم تماما. الأشياء التي كانت تنمو في داخله بدأت تكتمل. كاشفة عن غابة مرعبة في داخله، دفنت فيها أفظع الأمور. آثار النبش عليها كان واضحا، حتّى أنه يكاد يشعر بأنّ أيدي الجالسين حوله كانت متشقّقة ومبللة بالطين. الغابة في داخله تخفي الكثير. رغم النبش لا شيء موجود. لكنه يشعر برغبة أكبر للبكاء أكثر وأكثر حتّى أنه شعر بالحزن كثيرا اتجاه أشخاص كثيرين عرفهم. كثيرون لم يكن ليشفى إلا أن يلقي بنفسه في أحضانهم يبدو أنهم رحلوا. عيونه بدأت تدمع وعند الباب كان الموظف بملابسه الرسميّة وشاربه الكثّ ينظر اليه بكلّ شفقة، ولم ينتبه إلى شبح شفتيه وهي ترسم قوس النهاية، نهاية حكايته التي يبدو بأنه هو من أنهاها طالبا من الجميع أن يستريح بسلام.

الأحد، 26 يوليو 2020

الأبواب لا تخرج أحدًا





"العالم أصغر مما يبدو، كيف لهذا المكان الفسيح أن يكون خانقا؟" كعادته خرج من المكان ولم يسمع أحد مالذي قاله لنفسه. لم يكن المكان خانقا إلا لحلقه. ولأنه يخجل كثيرا من قيود المجاملات خرج قبل أن يأتي موظف إليه بقائمة المشروبات وقبل أن يضطرّ أن يومئ لهم بابتسامة لطيفة بأنّ عليّ أن أذهب فعلا لا لأن المكان لم يعجبني، حمل لا ينتهي مما عليه أن يفعل اتّجاه الآخرين بالإضافة إلى الحمل الذي على عاتقه، والذي جعله يبدو ككائن مكوّم بالذكريات التي طفحت فوق رأسه مشكّلة كتلة على كتلته. لهذا الشعور بأنه مشوّه بنظر الجميع لم يفارقه منذ كانت الذكريات. 

بعد أن خرج مسرعا من الباب الذي يشبه وميض مقبضه موقفا مرّ به، لم يحاول أن يتذكّره، خمّن أنه موقف لم يعجبه. تجاوز الباب والوميض. الهواء الحار وقت الظهيرة نثر من على رأسه بعض الأفكار المزعجة؛ لهذا بدأ هذا الهواء مريح له رغم حرارته اللاهبة. بدأ يمشي على الرصيف، يعدّ الخطوات، ويتذكّر يوم كان يعدّ الخطوات وكيف أنه علم بأنّ ذلك يساعد عينه علي ادراك كلّ حركة سريعة وكأنّه يشاهدها ببطء، أشياء يخجل أن يقول بأنه كان يتمرّن عليها وهم يسألونه "لماذا لا ترفع رأسك؟". "ماذا استفدت؟" بصوت مسموع ولا يسمعه المارة يتساءل مع نفسه. رفع رأسه بعد أن تخيّل أن هذا كان سببا لجعله يرى كلّ شيء بالحركة البطيئة، وجعلته يلاحظ أشياء كثيرة وبدقّة عالية، بدقة مزعجة، لم يكن ليستمر أحد بلحظاته بسلام لو انتبه لها. بحسرة تذكّر أن ذلك أيضا قد يعني بأنّ الجميع كان يتجاوزه وهو يحدّق ببطء. هزّ رأسه قليلا، كأنه صعق بماء بارد، خفق قلبه بقوّة وبدأ يتلفّت، هل انتبه أحد له؟ انتبه أحدهم، لكن المشي كان كافيا ليلقيه بعيدا عن ذهنه. 

وصل الى مكان يستريح فيه، يبدو أفضل من السابق. "العالم أضيق مما يبدو" قال ذلك وهو يشعر بأنّ المقهى الصغير أوسع من هذا العالم الذي تركه خلف ظهره وفتح الباب، كان خشبيّا كما يحبّ، المكان ليس مليئا بالزجاج وهو ما يحتاجه، الزجاج يجعله في حالة ترقّب دائمة لانكسار أي شيء. يريد مكان يجلس فيه ليس بعيدا عن الجميع وله بعده الخاص؛ كيف لمكان كهذا أن يوجد في مكان صغير؟! جلس بدأ يشعر أن هذا المكان أفضل وأنه أصبح أفضل، مسلمّا نفسه للموظفين الذين بدؤوا يقيدونه بابتساماتهم وبدأ بنفسه بشدّ القيد أكثر مع كلّ ابتسامة رضى يبديها، من شعور عميق وعنيف بمحاولتة للدفع بشعوره الدفين بالضيق من هذا المكان فجأة في أعماقه لحين يسمح له بالهروب حرّا من هذا المكان. 

الأربعاء، 22 يوليو 2020

-٢٤-

لا أستطيع أن أبتعد عن قدمي، كما لا يمكنني أن أهرب من تفكيري. لم أكن أعاني من التصاق قدمي، بل أني شعرت بالقشعريرة وأنا أشاهد أشخاصا فقدوا أقدامهم بفعل الألغام. لا شك أنهم لم ينسوا أخر وخزة شعروا بها في تلك الأقدام. لو أنّ ما أود الهروب منه مثل قدمي كيف يمكنني الهرب بلا قدماي؟ كيف أهرب من التفكير إلا أن أفكر بشيء آخر أجد نهايته تقود إلى ما أهرب منه. 

كان يجدر بهذه الفكرة المكتوبة أن تمزق وترمى في سلة المهملات. لكن كيف يمكنني رمي الأفكار؟ أتخيل دماغي سلة كبيرة مليئة بمثل هذه الأفكار. لهذا أعامل دماغي كسلة للمهملات. أتذكّر حديث طالب هندسة يقول: بأنّ كل المحذوفات تبقى إلى الأبد داخل أجهزة الميموري، مهما حذفتها فإنك لا تستطيع أن تحذفها فيزيائيا! كأنّه يتمّ حذفها  باختلاق هيئة بديلة لها.

خطّي اليوم -الذي كتبته بالورقة- جيّد اعتدت الحكم على نبضات -أيّا يكن- من خلال خطّي الذي يتغيّر دائما وفق شيء لا أفهمه بالكامل. لكني زحب زن يكون خطّي جيّدا وإن كنت في حينها أمر بحالة سيئة كالتي أمرها الآن. 

لا شيء يُمحى ولا شيء يُنسى وكلّ شيء يتراكم للأبد ونحن مثل كانسة الأرضية التي تلتفت حولها ثمّ تدسّ الأوساخ تحت السجّاد. 

يوما ما سنكتشف أن الفراغ يمكن طيّه مثل السجّاد. ويمكن بعدها أن ندسّ فيه مالم نستطع نسيانه وسينتقل عبر الفراغ الى عالم آخر.