"العالم أصغر مما يبدو، كيف لهذا المكان الفسيح أن يكون خانقا؟" كعادته خرج من المكان ولم يسمع أحد مالذي قاله لنفسه. لم يكن المكان خانقا إلا لحلقه. ولأنه يخجل كثيرا من قيود المجاملات خرج قبل أن يأتي موظف إليه بقائمة المشروبات وقبل أن يضطرّ أن يومئ لهم بابتسامة لطيفة بأنّ عليّ أن أذهب فعلا لا لأن المكان لم يعجبني، حمل لا ينتهي مما عليه أن يفعل اتّجاه الآخرين بالإضافة إلى الحمل الذي على عاتقه، والذي جعله يبدو ككائن مكوّم بالذكريات التي طفحت فوق رأسه مشكّلة كتلة على كتلته. لهذا الشعور بأنه مشوّه بنظر الجميع لم يفارقه منذ كانت الذكريات.
بعد أن خرج مسرعا من الباب الذي يشبه وميض مقبضه موقفا مرّ به، لم يحاول أن يتذكّره، خمّن أنه موقف لم يعجبه. تجاوز الباب والوميض. الهواء الحار وقت الظهيرة نثر من على رأسه بعض الأفكار المزعجة؛ لهذا بدأ هذا الهواء مريح له رغم حرارته اللاهبة. بدأ يمشي على الرصيف، يعدّ الخطوات، ويتذكّر يوم كان يعدّ الخطوات وكيف أنه علم بأنّ ذلك يساعد عينه علي ادراك كلّ حركة سريعة وكأنّه يشاهدها ببطء، أشياء يخجل أن يقول بأنه كان يتمرّن عليها وهم يسألونه "لماذا لا ترفع رأسك؟". "ماذا استفدت؟" بصوت مسموع ولا يسمعه المارة يتساءل مع نفسه. رفع رأسه بعد أن تخيّل أن هذا كان سببا لجعله يرى كلّ شيء بالحركة البطيئة، وجعلته يلاحظ أشياء كثيرة وبدقّة عالية، بدقة مزعجة، لم يكن ليستمر أحد بلحظاته بسلام لو انتبه لها. بحسرة تذكّر أن ذلك أيضا قد يعني بأنّ الجميع كان يتجاوزه وهو يحدّق ببطء. هزّ رأسه قليلا، كأنه صعق بماء بارد، خفق قلبه بقوّة وبدأ يتلفّت، هل انتبه أحد له؟ انتبه أحدهم، لكن المشي كان كافيا ليلقيه بعيدا عن ذهنه.
وصل الى مكان يستريح فيه، يبدو أفضل من السابق. "العالم أضيق مما يبدو" قال ذلك وهو يشعر بأنّ المقهى الصغير أوسع من هذا العالم الذي تركه خلف ظهره وفتح الباب، كان خشبيّا كما يحبّ، المكان ليس مليئا بالزجاج وهو ما يحتاجه، الزجاج يجعله في حالة ترقّب دائمة لانكسار أي شيء. يريد مكان يجلس فيه ليس بعيدا عن الجميع وله بعده الخاص؛ كيف لمكان كهذا أن يوجد في مكان صغير؟! جلس بدأ يشعر أن هذا المكان أفضل وأنه أصبح أفضل، مسلمّا نفسه للموظفين الذين بدؤوا يقيدونه بابتساماتهم وبدأ بنفسه بشدّ القيد أكثر مع كلّ ابتسامة رضى يبديها، من شعور عميق وعنيف بمحاولتة للدفع بشعوره الدفين بالضيق من هذا المكان فجأة في أعماقه لحين يسمح له بالهروب حرّا من هذا المكان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق