السبت، 12 مايو 2018

بين ما لا يمكن كتابته وما لايمكن أن يكون فيلما

" If it can be written , or thought , it can be filmed "

ألهذا الحدّ هذا ما يمكننا بالأفلام؟

لعلّ أكثر فكرة بديهيّة في البال هي أنّ الروايات -الكلمات - يمكنها أن تقول أكثر مما تستطيع الأفلام قوله أو تعبيره لهذا في حال أعجبك فيلم مستمدّ من رواية فإنّه من المعقول جدّا أن تجد في الرواية تفاصيل أكثر وأعمق. برأيك مالأقلّ  ضررا: مشاهدة الفيلم قبل الرواية أم قراءة الرواية قبل الفيلم؟ بالنسبة لي أعتبر الرواية اسهابا في حكاية الفيلم لهذا لا أشعر أن الأفلام تفسد الروايات عليّ كثيرا. وأجزم بأنّني سأجد بالرواية المكتوبة مالم أجده بالفيلم. أمّا مشاهدة الفيلم سأجد فيه تلخيصا ممتعا للرواية المكتوبة، وسأعيش الأحداث هذه المرة بحواسي، سمعيّا وبصريّا. ولهذه الأسباب قد يفضّل المرء الفيلم على الرواية. أي أن الشخص سينطلق بعد الرواية للفيلم ليجد تلخصيا أمتع أوضح لا ليتعمّق أكثر.



لكن الفكرة هي أنّ الكتابة تتفوّق على الفيلم كونها تصل لتعابير لاتصلها الأفلام إلا تلميحا. مثل حديث النفس والذي يمكن كتابته ببساطة، وانطباع الشخص ورأيه الكامن في باله حول مسألة ما، كلّها أشياء تكتب ولكن يصعب التعبير بها شكلا في فيلم ولو عن الطريق الملامح إلا مجازا. بل إنّ رتم الفيلم السريع لايمنح الذهن وقتا كافيا للتأمّل.
الكتابة أولا ثمّ الفيلم ولايمكن تصوّر وجود فيلم قبل الكتابة. بل يكفيك أن تجزم كون روايات رائعة مثل (زوربا) لكازانتزاكيس و (الحارس في حقل الشوفان) لسالينجر لايمكن أن تكون بالأفلام كما هي بالكتاب. يوجد فيلم لزوربا ولكنّي أراهن بأنّه يصعب أن يعجبك دون قراءة مسبقة للرواية  



السؤال: هل يمكن للفيلم أن يعبّر بشيء لايمكن كتابته؟ كما يمكن للكتابة -كما يمكن تصوّر ذلك أكثر- أن تعبّر بشيء لايمكن "أفلمته"؟
بسؤال آخر: هل يوجد مشهد في فيلم لايمكنك وصفه كتابة لنا؟ 




A Clockwork Orange (1971)
إخراج: ستانلي كوبريك

هذا الفيلم مقتبس من رواية (البرتقالة الآليّة) لأنتوني بورجيس. هذا هو الفيلم الذي جعلني أحبّ عمل كوبريك كثيرا ولكن لا أدري مالذي وجده كوبريك في هذه الرواية حتّى يتحمّس لإخراج فيلم منها؟ طوال التساؤلات الأخيرة كنت أدور حول نقطة أن الأفلام تحاول أن تقول ماقالته الرواية لكن مع هذا الفيلم وجدت أن كوبريك استطاع أن يصوّر مشاهد لايمكن كتابتها، أي أنّك عبثا -بتصوّري- لن تجد بالرواية شيئا من التعابير التي صنعها هذا الفيلم. إن كان كوبريك يقول بأنّ كل مايمكن كتابته وتخيّله يمكن أن يصنع منه فيلما فإنّه من البديهيّ أنّ نتصوّر أن كلّ  فيلم يمكن كتابته وjخيّله لكن بهذا الفيلم كنت أشعر بصعوبة الحديث عنه ووصف لقطاته. 
في هذا الفيلم كوبريك كما في Dr. Strangelove (1964)  صوّر كوبريك الكثير من المشاهد التي يصعب ايصال تعبيرها كتابةً وكأنّه في أفلامه يتعمّد فعل ذلك كثيرا، كما أن الكتابة يمكن أن تستحيل على التجسيد بالأفلام فالأخيرة كذلك في مواقف تستحيل على الكتابة، لم ألمس كثافة مثل هذه المشاهد إلا عند كوبريك وبدرجة أقل ديفيد لينش وقبلهم كان لويس بونويل. هل لهذا علاقة في وعي باتّجاه أمر معيّن؟ أن الفيلم عليه أن لايجسّد بل أن يمتدّ إلى مالاتصل إليه الكتابة؟ 

أجد صعوبة عندما أودّ وصف يد الدكتور سترانجلوف وهي تندفع آليّا لأداء التحيّة النازيّة وكيف يحاول الدكتور عبثا إعادة يده "المهنّقة" على هذه الوضعيّة. بطبيعة الحال أكثر مايصعب كتابته هي المواقف الكوميديّة والتي تميل للكوميديا السوداء أو للكوميديا المخفيّة في عمق الموقف، شيء مضحك ومناقض مثل أن مشاهدة مشهد محزن ومبكي يعدّ أمرا ممتعا في فيلم. تجد هذه الكوميديا كثيرة لدى كوبريك وقبله بونويل ونوعا ما ديفيد لينش وبالعصر الحالي عند تارانتينو الجميل ولو أنّه يبدو كملصق إعلاني جميل مقارنة بهم. لاشكّ  وأن التجسيد المرئيّ -الفيلم وقبله المسرح- كان لغرض التسلية والضحك وشيء من هذا القبيل وكأنّ ذلك إقرارا مبكّرا بعجز الكتابة عن فعل ذلك بدقة عالية.  


بالنسبة لي أتصالح مع فكرة أنّ أعظم فيلم لن يكون بإخراج كوبريك ويحتمل أن يكون لكوروساوا أكثر منه. لكن كمخرج أستطيع القول -بحسب رأيي- أن كوبريك أفضل مخرج. هم أفضل منه في اختياراتهم للقصص والحكايات وبجذب الجماهير بمختلف أنواعهم أي أمور تأتي قبل الفيلم وبعده لا أثناءه. كوبريك بالنسبة لي يشبه شاعرا أدرك أنّ قدراته أفضل بكثير من شعره.
هل أفلامه غريبة الأطوار؟ أفلامه توحي بأنّها كذلك. لديّ  قناعة أن شكل المرء يوحي بشيء منه. في ملامح كوبريك شيء من الحدّة، أو يمكن أن تقول بأنّ ملامح وجهه لاذعة على الذاكرة أكثر من غيره وليست ناعمة مثل فيلليني وغيره وأقرب شخص يعطيني وجهه نفس الانطباع هو لويس بونويل 

  
بالنسبة لي هم يشبهون بعضم حتّى بالأفلام، ومع ذلك أستغرب كثيرا كيف أن ديفيد لينش لايشبههم؟ رغم أن أعماله توحي بأنّه كذلك بطريقة ما. يبدو لينش بريئا مقارنة ببونويل وكوبريك بملامحهم الحادّة والتي تعكس اخراجهم وطرحهم لبعض الأمور بحدّة. ففي فيلم Lolita (1962) المستوحاة من رواية بنفس الإسم لفلاديمير نابوكوف كان كوبريك مستفزّا للغاية. كان كمن يمرّر سكّينا حادة في جلد ناعم بقبضة مرتعشة برغبة. تنتظر أنت أن يحدث شيء ما دون أن يحدث. بدا وكأنّ كوبريك وبالعامي "فيه حردة" لكنه لم يفعل أي شيء. 
 الاعتماد على الملامح للحكم أمر أقرب كما يحبّ  المشيرون الى الدراسات كثيرا نوعا من التخلّف أو هو التخلّف بعينه وإن كان من المثير الحديث عنها. وعلينا أن نقرّ بأنّنا خلقنا بهيئتنا بحكمة نحن أعجز من أن نفهم سرّها ولسنا مرسومين في عالم للإنمي حيث يمكنك أن تفهم رغما عن الرسّام والمخرج بماذا توحي ملامح هذا أو ذاك. 

 على كلّ  حال ستظلّ الأفلام ترجمة للكتابات وككلّ ترجمة ستقف عاجزة عن ايصال بعض الأشياء لكنّها ستحاول قول كلّ  شيء لكن لاننسى بأنّها تستطيع أن تضيف شيئا من عندها لدرجة قد تغري الكتابة بالقيام بعمليّة عكسيّة لترجمة الفيلم الى كتابة.  



لو كان هنالك قاموس مصوّر أقترح أن تكون هذه الصورة موجودة عند مفردة "مُخرج" كونها تعكس كثيرا شكل وحال المخرج. 

بالنهاية كلمة "أفضل مخرج" هي "كأفضل شاعر" هي لاتعني ماتقوله بالفعل لكنّها بذلك تودّ أن تقول شيئا ما، وبدرجة ما هي كأنّ يقول الأب لابنته بأنّها أجمل بنت في العالم، هو لن يقاتل الناس ليقنع الآخرين بذلك بل إنّه مطمئنّ لاعتبارها كذلك بقلب مرتاح.