الأربعاء، 10 يوليو 2019

من أوديسا كوبريك إلي سولاريس تاركوفسكي


A Space Odyssey:2001 (1968)




Solaris (1972)



سيحلو لك أن تقارن بين الفيلمين كما كان يحلو للنقاد من قبل. كمقارنة بين قطبي الإخراج السينمائي الأمريكي والسوفييتي. يمكن أن تقارنهما من الخارج لكن من الداخل -أحداث الفيلم- يصعب ذلك. 

الفيلمان في غاية الاختلاف، فيلم كوبريك فضائي للغاية كما هو واضح لكن فيلم تاركوفسكي انسانيّ أو أرضيّ بامتياز، حتّى الكون الذي صوره تاركو بالفيلم لم يكن إلا جزءا من الكون الذي يعيشه الإنسان من ذاكرته لا من خياله

في البدء القاعدة الفضائية، عند كوبريك هي نموذج للقاعدة الخيالية والتي اعتدنا عليها لاحقا بالأعمال الفضائية، مباني خياليّة نظيفة ومرتّبة بإتقان كأنّها عمل ينتمي للفنّ الحديث. في حين نجد القاعدة في فيلم تاركو فوضويّة ومتّسخة كأي منشأة بشريّة، أو كأي قاعدة حقيقية لاخياليّة كما هي مع كوبريك. لاتشعر بوحشة معها إذ أن تاركو لم يملأ فيلمه بالتجسيدات الغرائبية كما فعل كوبريك، بل إنّه قدر الإمكان جعلك تشعر بأن الفضاء الخارجي لن يكون كما اعتدنا بشاشات الغرب، فضاء أسود وفراغ لانهائي موحش ومليء بالنجوم بل سماء تشبه سماؤنا مع نور لايختلف عن نور الشمس. حتّى الملابس لم تكن مصطنعة بل كانت مثل ملابس الأرض تاركو صبّ تركيزه على الانسان في العمل لهذا لم يشتّتك من خلال جرّ خيالك بعيدا نحو الفضاء. 

فيلم كوبريك حاول تجسيد صورة للزمن بوصفه الكون الذي نعيش فيه في حين حاول تاركو تجسيد صورة للذاكرة بوصفها الكون الذي نعيشه. كان يمكن أن نشاهد الحكاية تصور في فيلم على الأرض لكن الفضاء خلق إطارا مناسبا للغاية وأبعد مما نتصوّر. بل أكاد أجزم أن هذا الإطار خلق فرصة لاتعوّض لتاركو ليبثّ كل مايودّ قوله.

تاركو أحضر معه في هذا الفيلم كل  شيء يحبه، الكتب وهي أشياء لانشاهدها في أفلام الفضاء الامريكي وقصة (دون كيخوت) ولوحات بيتر بروغل والتي ظهرت في فيلم (المرآة) ولوحة لروبليوف وهو فنان ظهرت لوحاته في أفلامه واحتل عنوانا لواحد من أهم أعماله.  في الأرض تمثال نصفي لأفلاطون وفي المحطة الفضائيّة تمثال نصفي لسقراط أشياء أبدا لا تبدو وأنّها ستحل في الفضاء في يوم ما. ما أود قوله أن تاركو لم يستغل حقيقة أن الفيلم على الفضاء ليتلاعب بأعصابك ومشاعرك ويغري خيالك من خلال كل الغرائب التي كان يمكن الحديث عنها وتصويرها من عالم المستقبل كالأفلام الغربية أو الخيال الغرائبي والذي كان واضحا جدّا في فيلم زيلوفسكي On The Silver Globe (1988)  من صور مألوفة يحلّق بك حتّى أنّه في مشهد انعدام الجاذبية أراهن بأنه استطاع أن يبعث من الأعماق كل الدلالات الممكنة لانعدام الجاذبية في مشهد. مشهد خلاب أكثر من المشهد المشهور في فيلمه الأشهر (المرآة) 

ولأن تاركو لا أقول يكرر نفسه بل إنه يحب الحديث عن مايحب في كل مرة. نجد مشهدا لامرأة جالسة -بالشكل الذي تبدو فيه لوحات هامرشوي-  وهي تدخّن، وهو ماكرره في فيلمه (المرآة). 




    

الفيلم اعتمد كثيرا على الحوار والمعنى فيه في حين رائعة كوبريك الأوديسا كانت في المشاهد يكفي أنها تولّد صورا وتصورات لاتنتهي في بال كل من شاهد الفيلم وهذا البوستر البديل يدل على ذلك





وكما قلت سابقا أن المقارنة صعبا بينهما، إذ ان لكل فيلم اتجاهه، لايمكن الحديث عن هذا والعودة لذاك بسهولة إلا في اطار حديثنا بشكل عام عن تصوّر الفضاء والاسلوب الذي اتبعه كل مخرج لسرد حكايته. 

وهنا فيلم تاركو والذي اعتمد كثيرا على الحوارات 






..



وكأنّه يستحضر "فاوست" الذي ذكر بالفيلم.شخصيات الفيلم هنا قلقة من خلال التساؤلات (من الداخل) لكنها مع فيلم كوبريك مرتابة ومتوجسة (من الخارج). 


وفي بداية الفيلم كان هنالك مشهد لهطول المطر يشبه الأمطار في أفلام تاركو، تظهر فجأة وتفسد كل شيء على نحو يدعو للبهجة!




المقارنة بين الفيلمين صعبة وان بدت ممتعة. ولأنّ رغبتي بالأساس كانت الحديث عن سولاريس لم أتحدث كثيرا عن اوديسا كوبريك ولأنّنا نريد رغم كل شيء يمنعنا أن نقارن بينهما أستطيع القول بأن فيلم سولاريس كنص مكتوب أعمق من فيلم أوديسا لكن كوبريك وهو صاحب مقولة:
"If it can be written, or thought it can be filmed"
أخذ بالنص بعيدا عبر بصرياته الخلابة وادخاله المدروس للموسيقى كخلفية ودقته في تحديد ردات الفعل مع الوانه التي جعلت العمل يبدو كسلسلة من اللوحات الفنية أشهرها تلك الألوان التي شكلت وجه رائد الفضاء ديفيد باومان وكأنه سلسلة بورتريهات لأندي وارهول





 التساؤل الذي انتهى به الفيلم يدور حول الكون والانسان كجزء في حين التساؤل في فيلم تاركو انتهى حول الإنسان ككون لا ينتهي. وكما يحب معجبوه أن يصفوا أفلامه بأنها شعرية، فيلمه سولاريس يمثل صورة نقية للأفلام الشعرية. كما يفعل الشعر يأسرك حينما يدخلك إلى تصور جديد حول أشياء لم تعتد رؤيتها بجوانب معينة، الجوانب التي يرى الشاعر من خلالها الأشياء.