السبت، 7 يناير 2023

الأعمال الكلاسيكية بعيدا عن الذكريات

 أحيانا أتساءل هل من عاش الانميات "الكلاسيكية" على الفيديو والتلفزيون وبقت كذكريات قادر على لمس مواطن الجمال فيها بعيدا عن الاعتبارات التذكاريّة؟ مقارنة بمن يشاهدها حاليّا على الانترنت ويرى فيها انميّات قديمة ومع ذلك يحبّها فهو لا يحمل تلك الذكريات التي قد يطغى وجودها على الحكم بجماليّة الانمي. 


كل شيّء يتغيّر:




بدءا بالكوميديا التي كانت بالسابق تعتمد كثيرا على الوجيه المطاطيّة مثل كابامارو وصولا الى التعابير التي وجدتها مختلفة ولم أفهمها إلا مع الوقت بمسلسل ماروكو الصغيرة مثل ظهور الخطوط على الوجه في حال الاستغراب والاستنكار بالإضافة الى قطرة العرق الفريدة والتي يعرفها حتما مشاهدي الانمي. هل هذا التغيّر يعني اندثار التعابير القديمة أو الاسلوب االقديم في التعبير؟ 

 


أغلب المسلسلات الكرتونيّة التي شوهدت بالتلفزيون والفيديو عربيّا كانت قديمة في موطنها ربما أقدم بعشر سنوات أو آكثر. لهذا لا يمكن اعادة الفترة الزمنيّة للعمل وفق سنة الانتاج إلا عندما نتحدّث عن صناعة الانمي لكن عن الأذواق والآراء يهمنا بالدرجة الأولى سنة عرضها. 

 

الأسلوب يتغيّر تبع الأذواق -وأشياء أخرى الحديث عنها قد يكون مملا- والتقنية تتطوّر تبع الزمن. بفضل التقنية بالإمكان تصوير المشاهد البهلوانّية لتروس التحكّم في "هجوم العمالقة" بحركات أكثر مرونة من مقاتلي النينجا بالانميّات القديمة. "ون بيس" المسلسل الذي لا ينتهي لا تشبه حلقاته الأولى حلقاته الأخيرة لا أسلوبا ولا تقنيّا وهذه أكبر نقطة ضعف في الانمي من وجهة نظري فهو لم يعد قطعة واحدة أو one piece بل بات يشبه فرانكنشتين. هل تتابع الأعمال مواكبة لاسلوبها أم لتقنيتها؟ أسلوبها أن تتذوّقها لتقنيتها أنت تستخدمها وتستمتع بها غالبا لكليهما وبنسب مختلفة معا تتابعها. التقنية بعد أن تصبح قديمة قد تصل الى حدّ انتهاء صلاحيّتها لكن الأسلوب بعد قدمه هل تنتهي صلاحيّته؟ ومتى تنتهي صلاحيّة العمل أسلوبا أو تقنيّا؟ تقنيّا الاجابة أسهل جرّب نفسك هل تستطيع متابعة فيلم سينمائي صامت؟ أما الأسلوب يمكن أحيانا في ظروف استعادته وعودته حتّى بعد قدمه. 

 

هل للانميّات صلاحيّة؟




كثيرا ما ينظر لتلك الاعمال باعتبارها قديمة ولا تصلح بوجود الانميات الحديثة وباعتبار أن مافيها من رسوم وحركات وتعابير وأساليب لا تمتّ للوقت الحالي بصلة إلا كذكريات. حسنا عرضت تلك الأعمال بعد انتاجها بسنوات عديدة، أي أنها عرضت بعد أن أصبحت قديمة فعليّا دون أن ندرك ذلك ولكن حينما نتحدث كمستهلكين أو مستخدمين لا كمحبين سننظر للعمر الحقيقي للمنتج على أنه عمر استخدامه الفعليّ، وبسبب طبيعتنا الاستهلاكيّة ننظر للأشياء بتعاقبيّة مستمرّة. الانمي في نظر من يراه كمنتج استهلاكيّ يكون قديما ومنتهي الصلاحيّة حال الانتهاء من استخدامه ليس لأنه أصبح قديما أسلوبا وتقنيّا وفي نظر من يراه كعمل ابداعي ومحبّ يمكن أن يكون قديما ولم تنتهي صلاحيّته. يراه الأوّل كمادة مستهكلة -لها عمر استخدام- أو علكة لذيذة ينتهي طعمها سريعا ويُلقى في سلّة الذكريات وعندما يتحدّث عنها بحبّ يحكي عنها كذكريات جميلة لعلّ هذا ما جعلنا نرى العبارة المغلوطة "الزمن الجميل". يصعب الخلاص من شرك الذكريات حتّى لمن نظر اليها كعمل ابداعيّ لن يخلوا حديثه من لذة الذكريات لهذا قد يكون أقلّ تمييزا لروعة الأعمال من الذي شاهدها بعيدا عن اعتبارها شيئا جميلا يتذكره.  

 

بالنهاية هي أعمال جميلة أكثر من كونها ذكريات والعمل الابداعيّ ليست سلع مستهلكة تنتهي بعد الاستخدام. توجد عبارة ولو أنها تستخدم أحيانًا بابتذال الا أنها تصف هذه الأعمال بدقة وهي "تحفة" أي عمل يبقى رغما عن أنف الأسلوب والتقنية. صحيح التقنية أحدثت فرقا واضحا بات بالامكان انتاج عمل بقصة عادية ومع جودة الاخراج يصبح عملا مبهرا الأمر الذي لم يتوفر كثيرا بالانميات القديمة لهذا نجد ثقلها في القصة أكثر.


الى هنا انتهي وأجمل مافي النقاشات عن الانمي وعالمه بروز مصطلحات خاصة تدور في فلكها وان شابها لبس إلا أنها مفهومة مثل "كلاسيكية" و "الزمن الجميل" و الكلمة التي يستخدمها كثيرا محبوا الأفلام السينمائية "تحفة.  


 

 

 

 

الاثنين، 5 ديسمبر 2022

مالذي أخذه الأسد الملك من كيمبا: الليث الأبيض؟

 

استفادت ديزني من أشهر الموروثات العالميّة وأخرجتها بطريقتها كأفلام لكن عملها الأكثر أيقونيّة ربّما (الأسد الملك) لم يؤخذ من الموروث العالمي مثل الأقزام السبعة وعلاءالدين وهرقل وماوكلي من عمل كرتوني ياباني (كيمبا: الليث الأبيض) رغم اصرار ديزني على أصالة حكايتها وأنها لم تأخذ العمل الياباني وبرأيي أجد أن للعمل أصالته رغم ما تخلله من أخذٍ كثير غالبا من خلال الاستفادة في بناء مختلف المشاهد والأفكار المرئية أكثر من القصة وهي أسد يملك مملكة وينظّم الحيوانات فيها كرعيّة في مملكته لتشبه كثيرا (كيمبا:الليث الأبيض).

 

 

بالبداية:

منذ الصغر درج على سمعي أن الأسد ملك الغابة -لقب معروف- والنمر سيّد الغابة -لقب لا أذكر من أين سمعت به- بالكاد كنت استوعب الفرق الذي لم أفهمه الى حدّ وصفه حينها لكن مع كرتون (ماوكلي فتى الأدغال) وشيريخان المأخوذ اسمه من "شير" نمر باللغة الأوردية أو الفارسية وقد تعني الأسد أما "خان" بلغة المغول والترك فهي الملك وكما أن العرب حينما تقول -قديما- ملك يختلف نسبيّا عن كلمة ملك عندما يستخدمها شعب آخر وعندما يقول المغول والترك ملك فهي تعني ملك بمفهوم خاص. خان ملك أقرب الى الملكيّة القبليّة وكأن "شيريخان" ملك النمور يختلف كليّا عن الأسد الملك الذي يعني ملكا للغابة وسكّانها من الحيوانات. شيريخان وأن عنى اسمه ملك فهو كما يوصف بالمسلسل الكرتوني "الخارج عن القانون" D: ومن غير المعقول أن يقال عن الأسد الذي هو ملك لمملكة بأنه خارج عن القانون وإن كان شريرا في مملكته وبالتالي يمكن أن نستوعب أكثر معنى أن يكون النمر ملكا بلا مملكة بل على بني جنسه ولعل اللقب الذي درج بذاكرتي "سيّد الغابة" قريب له ويعني أنه متسيّد الغابة بقوّته لا بشرعيّة مثل الأسد الملك لهذا لا يمكن تخيّل مشهد تتويج سيمبا الشهير في طفل شيريخان. 

 

 

ملك الغابة:

بهذا الفهم يمكن الانطلاق بقصة (كيمبا: الليث الأبيض) الذي ينظم مملكته ويشرّع قوانينها ؛ الليث الأبيض يمنع الصيد وأكل اللحوم ! D: من هذا القانون الطريف تعرف مدى طرافة حكاية الليث الأبيض والأحداث. إلا أن حكاية كيمبا معقّدة لوجود العنصري البشريّ الغائب تماما عن حكاية (الأسد الملك) لهذا سهُل ابتكار القصّة وترتيب الأحداث؛ وريث للعرش يفقد عرشه بمؤامرة من عمّه ويرجع لاستعادتها لاحقا. العنصر البشريّ غائب لكن الطبيعة البشريّة حاضرة وبقوّة. 

 

 


مالذي أخذه الأسد الملك من الليث الأبيض؟:

إضافة الى الاسم كيمبا/سيمبا. أغلبها مأخوذات بصريّة، الصخرة المطلّة وان كانت بمشهد هامشيّ في الليث الأبيض لكنها معلم بارز في الأسد الملك وهي تشبه كثيرا صخرة ماوكلي فتى الأدغال التي يصعد فوقها زعيم الذئاب. سكار الأسد الأعور ويوجد أسد أعور في الليث الأبيض. قرد الماندريل مستشار الليث الأبيض وهو بهذه الصفة القريبة موجود بالأسد الملك وغيرها من المعالم البصريّة. العديد من شخصيات الليث الأبيض موجودة في الأسد الملك، الضباع الشريرة وهي غالبا بهذه الصفة في مملكة الأسد، كريهة حتى بطريقة قتلها الوحشية. كلها أشياء مثل هذه لكنها لا تؤثر كثيرا على صلب الحكاية بل دعّمتها ويمكنني القول بصورة أوضح أن (الأسد الملك) استفاد كثيرا من عمل (كيمبا:الليث الأبيض).     



(كيمبا: الليث الأبيض) :

كليلة ودمنة عالم الكرتون الحكاية التي أدخلت العنصر البشريّ قدر الإمكان كما هو في ذهنيّة الحيوانات. كائن مدمّر وأناني وطمّاع ومرعب بآلاته. في الليث الأبيض وفي افريقيا نجد الأشكال توحي بقوّة الى الخلفيّة التاريخيّة. دائما ماكان البشر البيض في الحكاية بملابس المستعمر وبندقيّة الصيّاد في حين نجد الأشكال السمراء، الوجوه الافريقيّة بمختلف أشكالها بألوان ملابسها الفاقعة وأشكال توحي بالبدائية القبليّة حيث تفهمها وتعيش الحيوانات بقربها لكنها ما إن تأتي مع الرجل الأبيض كتابع أو كمسخدم لأدواته (قنابل يدويّة، بنادق، سياط) نجده ينقلب الى ذلك الكائن المرعب أو إنسان العصر الحديث، انسان أواخر القرن التاسع عشر والجزء الأول من القرن العشرين. للانسان الافريقي في حكايات الليث الأبيض بطبيعته الافريقيّة عدة حكايات يغيب عنها ذلك الطابع الملتبس والمنفّر لوجود البشر قرب الحيوانات. حلقات مثل قصّة الانسان الذي يقاتل الفهد وذريّته وزعيم القبيلة الذي رغب باصطياد الليث الأبيض -ويبدو أنه بحكم الملابس من الماساي- والكاهن الذي تكرر ظهوره في الليث الأبيض. بمقدمة الحلقة الأولى من الجزء الثاني مقدمة بليغة وصارخة عن افريقيا، تعطي أحسن فكرة عن هذا العمل.

 

صور من مقدمة الحلقة الأولى:



 
صورة تمثل مختلف الأجناس في افريقيا

 
 غزو المدن للغابات

 
بعد الاستقلال وبملابس غربية
 

الانسان الأبيض في الليث الأبيض، كل ما يمكن أن يرمز للاستعمار موجود بالصورة

 

(الأسد الملك) : 

العمل حسّي بامتياز، بصريّا لا يُنسى مشهد القطيع الذي كاد يدهس سيمبا والمشهد الأوّل والتحليق بعين الطائر "زازو" الى الاطلالة التي يقف بها موفاسا بانتظار حيوانات مملكة وأغنية Circle of Life بالمشهد وصولا لجملة "هاكونا ماتاتا". تلك الأدوات هي ما يميّز أعمال ديزني ويبرز الجهد والاتقان أكثر من القصّة التي وان كانت جميلة لا تذكر كثيرا بالحديث عن الفيلم بخلاف المشاهد والأغاني كقطع منفصلة بني العمل منها. لهذا مهما أخذ العمل من الليث الأبيض من أفكار بصريّة فإنّ القيمة الأكبر في اعادة انتاج ذلك بإتقان أكثر. لا تهمّ القصة القضايا الحيوانيّة مثل قصص الليث الأبيض بل إنها قريبة منّا نحن البشر وتشبه كثيرا ما أُثر من حكايات الملوك وما يحيط بهم من دسائس ورغم الغياب الكامل للشخصيّة البشريّة عن العمل إلا أن القصّة تشبه الطبيعة البشريّة كثيرا. الإخراج والمونتاج والموسيقى والتي فيها اسم لامع مثل هانس زيمر كلهّا خدمت القصّة وان طغت عليها قليلا. وتظل بداية الفيلم مع الأغنية واحدة من أشهر البدايات على الإطلاق.


بداية (الأسد الملك) :



 

تجسيد الحيوانات في قصص بشريّة:

 صحيح يصعب تأليف قصة عن حيوانات تتحدث دون أن تشبه ولو قليلا البشر بعاطفتها -فاللغة سمة بشريّة- ويزداد الشبه بارتدائها للملابس الانسانيّة مثل الكثير من الأعمال الكرتونيّة (سنجوب) وتصبح بشريّة بالكامل بوقوفها علي قدميها مثل (السبع المدهش)، إلا أن الشخصيّات في (الأسد الملك) ورغم تجريدها من الملابس - بالأساس هل هي بدونها متجردّة D: - في عاطفتها وحواراتها وأفكارها تشبه البشر كثيرا أكثر من شخصيّات (ماوكلي: فتى الأدغال) مثلا ولعل شخصيّات ماوكلي أصبحت حيوانيّة أكثر لوجود البشر بالعمل الذي خلق حدّا فاصلا في حين ساهم غياب الشخصيّات البشريّة بجعل شخصيّات (الأسد الملك) تشبه البشر أكثر واعطت العواطف فرصة أكبر للاستحواذ على اللحظات بغياب أي ازعاج من وجود عنصر بشريّ يشوب العمل، لهذا يمكن ببساطة إعادة تجسيد قصة (الأسد الملك) باستخدام شخصيّات بشريّة، سواء في مملكة غربية أو شرقيّة. الحديث عن مسألة تجسيد الحيوانات أوسع من أن ينتهي ببساطة.


بالنهاية:

قصص الليث الأبيض أجمل وأوسع، بطبيعة الحال أوسع لكونه مسلسل وحتّى لو أختزلت الحكاية في فيلم ستظل القصة أشمل وأجمل ويظل الأسد الملك يستمدّ أغلب روعته من جمال الإنتاج. (كيمبا: الليث الأبيض) فيها قصص تستحق المشاهدة كثيرا؛ غاية في العمق والغرابة وولاّدة للأفكار. حلقات كثيرة منها يمكن أن يطول ويطول الحديث عنها. الانسان فيها يمثّل بعقليّته انسان العصر الحديث (أواخر القرن التاسع عشر والجزء الأول من القرن العشرين) الذي بلغ فيه قمّة عنفه اتجاه الحيوانات؛ بسببه دفع العديد من الحيوانات نحو حافة الانقراض. ليجيء الانسان الأحدث وإن كان رحوما مقارنة بسابقه إلا أنه منذ بدأ بتحويل حدائق الحيوانات القفصيّة لحدائق سفاري بدأ يتجه لتحويل الغابات إلى حدائق/محميّات وكأنها عمليّة قتل رحيم لطبيعتها -هو لم يجد من الحيوانات إلا أعدادا تصلح كتذكار وعيّنات- هل ستشبه الحدائق غابة سيمبا أم الليث الأبيض؟        




الأحد، 25 يوليو 2021

( العالم الذي تمّ تجسيده في فيلم Blade Runner 2049 )

 



Blade Runner 2049

إخراج الكندي: دينيس فيلنوف (٢٠١٧)

للمخرج أفلام تركت بصمتها الملفتة Prisoners (2013) و Arrival (2016). الاستمرار على هذه الوتيرة مذهل وأكثر شيء يشدّ الانتباه جمال الألوان والصور في أفلامه والتي تشدّ الفيلم نحو الاتقان أكثر.


ليس تناصا بل بناء يمكن الحديث عنه. يمكن الانتباه الى أن الفيلم بنى أغلب تجسيداته من أعمال سابقة بالذاكرة. الجميل أن الفيلم أكمل ما يمكن أن نسمّيه ما بدأ به السابقون في تصوّراتهم وتجسيدهم للعالم بعد انتهائه أو مشارفته على الفناء حتّى استعادة السيطرة من خلال قوى خارقة. عدد لا حصر له من الأفلام تحدثت عن الدمار ونهاية العالم يمكن أن تستشفّ مدى تشابه مخيّلة المخرجين عند النظر الى أوجه الشبه بين عوالمهم المظلمة. هذا الفيلم لم يقدّم تصوّرا موازيا بقدر ما يمكن اعتباره بأنّه أكمل البناء على نحو أفضل


-فيلمي Demolition Man و Equilibrium -


من أولى علامات التشابه وضوحا بطل الفيلم الذي يتجوّل بحثا بالقصّة يذكّرنا كثيرا ببطل فيلم Equilibrium (2002)  وحتّى المدينة المزدحمة والمعتمة لوس أنجلوس تذكّرنا بلوس أنجلوس فيلم Demolition Man (1993). يمكن أن لا ننتهي ونحن نتطرّق ونعيد استذكار كل تلك المتشابهات بالأفلام ولا يمكن أن ننتهي بذكر الأمثلة إلا ونتوصّل لبعض الأسباب القريبة وهي أن أغلب شركات الانتاج والاستديوهات والمصممين زملاء مهنة وعمل ويشاركون كثيرا معا في مختلف الأفلام ناهيك عن تأثير مجتمع صنّاع الأفلام الحيّ والذي يملك -حتما- تصوّرا جمعيّا للعديد من الأمور لهذا نجد نسقا متينا يشبه بعضه بالأفلام والبروز منه صعب ويحتاج الى تفرّد يجيده كثيرا مخرج هذا الفيلم. 


نعود الى بناء عالم الفيلم والذي يشكّل بنهاية المطاف الاستديو الخيالي الذي تسير القصّة عليه. حتّى بأفلام الفضاء قد يبدو عالم الفيلم ضيّقا ،خانقا ،لا تشعر باتساع كون الفيلم وإن عبّر الفيلم عبر شخصيّاته وأحداثه بأنّ العالم لا نهائيّ لكنه يبدو ضيّقا مثل استديو مغلق -لنقل كأنهم يمثّلون في حجرة- بالنهاية كل فيلم استديو سيميائيّ مغلق وما يختلف هو مقدار الاتساع بالمعاني ودقة الوضوح. ما يميّز هذا الفيلم هو الشعور باتساع عالمه لا من خلال نقل المشاهد لمساحات واسعة ومفتوحة ففيلم 2012 (2009) نقل المشاهد الى مناطق جغرافيّة مختلفة لكنه ظلّ محصورا رغم وجود سياقين للقصّة في نفس الفيلم وكذلك لوس أنجلوس في فيلم Demolition Man (1993) لوس أنجلوس تبدو محدودة في حين أنها واسعة كثيرا في هذا الفيلم الذي لم يصوّر مناطقها الداخليّة كثيرا. 

العالم في هذا الفيلم أوسع يشبه الذاكرة والتي تبدو لا نهائيّة وعميقة بسبب معالمها المشوشة التي تبقى بفضل محاولات الاستعادة والتأمل واسعة. في أحد مشاهد الفيلم حديث جميل عن الذاكرة مع شخصيّة تملك مؤسسة لصنع الذاكرة التي يتمّ غرسها في الكائنات البشريّة التي يتم انتاجها مختبريّا. وبالحديث عن البشر الموازون للبشر الطبيعيين تعود ذاكرتنا كثيرا الى تلك الكائنات التي صنعناها بالأفلام لتشبهنا أو لتخدمنا لكنها انتهت الى عذاب لا ينتهي ما إن تدرك مصيرها أو ماهيّتها في هذا العالم وكيف أنها ليست مثلنا لا تملك ذكريات ولا لحظة فناء تشكّل هويّة دائمة لها مثلنا نحن البشر. رجال آليين شاهدناهم يعانون رغم آليتهم بالأفلام ولعل أشهر فيلم تعامل مع هذا الجانب مشروع كوبريك الذي أخرجه سبيلبيرغ A.I.Artificial Intelligence (2001) صبي شعر بالمعاناة بعد أن أدرك أنه آلة وليس بشرا، مثلما نعاني نحن من تحسّرنا لأنّنا لم نلد كما وأين ما نتمنّى. أما كيف تلعب تلك المخلوقات دورا مصيريّا في مصيرنا وعن ذلك التوجّس الذي ينتابنا من مخلوقات صنعناها نحن البشر فهو يبدو واضحا في فيلم I, Robot (2004) -كالعادة الأمثلة كثيرة ولا تنتهي ويوجد ماهو أحسن منها لكن لا يمكن حصرها- في هذا الفيلم مزج بين هذين الأمرين بشكل مؤثّر، تشعر بأنّ القصة بنت على ما نملك من قصص حكايتها الأكمل. أكثرت الأفلام بالحديث عن المشاعر والعاطفة والحب لكن هذا الفيلم ركّز على ماهو أعمق، الذاكرة. 

 

-قلعة هاول المتحركة-




السيارات الطائرة والمباني المهيبة والسدود التي تحجب المحيط بأمواجه الهادرة بفعل اختلال البيئة والمركبات المخيفة، وكل تلك المعدات والمنشآت بنيت بالفيلم بصورة جماليّة وذات أثر بليغ بالمعنى. الجمال في كل تلك المجسمات والمباني والألوان  توحي بأنّ كل لقطة ومشهد تمّ تصويرها لتبدو عملا فنيّا. لا يمكن الاستهانة بشكل الآلات والمنشآت وأثرها بالأفلام.  ولو أردنا تذكّر بعض الأفلام التي أبدعت في تجسيد ذلك لوجدنا الأمثلة تبدأ من أفلام الفضاء وصولا بالأفلام التي تتحدّث عن المستقبل. بعض النماذج المجسمّة قد تصبح أيقونة لفيلم كامل وأشهر مثال سفينة فيلم Titanic (1997) الكل منبهر من تجسيد ضخامتها بالفيلم و مثال من عالم الانمي (قلعة هاول المتحرّكة) لميازاكي لا يمكن أن يفلت شكل القلعة من ذهنك عند مشاهدتك الفيلم. أيضا لا يمكن الاستهانة بالأشكال والأشياء التي يتمّ بناؤها للظهور في بضعة مشاهد في فيلم، بل إنها أحيانا تأخذ جزءا كبيرا من ميزانيّة الانتاج كما حدث بالمركبة الفضائية بفيلم كوبريك A Space Odyssey:2001 (1968)  

 

-مشهد الحديقة الافتراضيّة من مسلسل (عدنان ولينا) وهنا يبدو عدنان ولينا وعبسي مدهوشين من وجود البشر يلعبون في الحديقة حولهم ولم يكونوا إلا صورا هولوغراميّة-


-الحديقة الافتراضيّة بالفيلم-


يوجد مشهد مبهر وجميل وهي الحديقة الافتراضيّة، الفيلم يتحدّث عن انقراض الغابات والأشجار لهذا وُجد من أنشأ حديقة افتراضيّة تروّح عن روحه. تلك الحديقة تذكرنا بحديقة البرج في القلعة بالمسلسل الكرتوني (عدنان ولينا) صنعت هذه الحديقة أيضا لنفس الغرض ولأننا نتحدّث عن بناء من مكوّنات وأساسات من ذاكرة عالم الأفلام، هل شاهد فيلنوف (عدنان ولينا) ؟ أكاد أجزم بأنّه لم يشاهده على الإطلاق؛ لكننا كبشر وإن كنّا نبني تصوّراتنا وخيالاتنا على ذاكرتنا وللبشر تجربة مشتركة لا شكّ أننا سنبني أشياء متشابهة بطريقة أو بأخرى. حتّى في تكويننا كبشر ولو اعتبرنا ذلك جزء من تجاربنا سنفهم أكثر كيف أننا قد نلتقي كثيرا بتصوّراتنا عن أبعد الأمور من الحديقة الافتراضيّة الى أساطير النشوء وحكاية الطوفان والتي اشتركت فيها شعوب لم تلتقي ببعض ومع ذلك لها تصوّرات مشتركة في العديد من المسائل. وكأن لنا تصوّرا جمعيّ.

 



يمكننا أن نتخيّل الفيلم كقصّة جميلة لكنها مثّلت في مسرح خلاب وفي غاية الروعة ومبهر بكل الإمكانات والتقنيات. كل ذلك الوهج كان مسلّطا على القصّة نفسها لهذا أتت بهذه الروعة. 

 



البناء الذي جسّد عالم الفيلم هو أقرب مافي الفيلم من كمال ولو أنّ عالم المشاعر في الشخصيّة الأساسيّة بالفيلم مؤثر للغاية وحكاية الذاكرة من أروع ما جسّد في عالم الأفلام؛ ولم يتم اعتصار مشاعر ولحظات الشخصيّة الى حدّ الابتذال. كذلك لا يمكن بعض زوايا المشاهد والتي أخذت بطريقة فنيّة ومعبّرة




 ومشاهدة لا تُتنسى

   

السبت، 10 يوليو 2021

إجراءات سفر

*



وصل باكرا لكنّه يشعر بأن الوقت يخنقه ويكاد يلقي به بيد الموظفين للخارج.  قبل انهاء اجراءات السفر يلازمه شعور مزعج بأنه نسي شيئا. رغم امتلاء جيب ملابسه على غير العادة وكأنه حشر فيها قبل اخلاء غرفته كل مايمكن حمله ويسهل نسيانه. الجميع جيوبهم فارغة وعاديّة وهو يمشي وفي جيبه الأيسر نتوء مزعج.

يحاول اخفاء شعوره بالثقل بابتساماته التي يوزعها للمارة، خاصة للبزّات الرسمية.

بهو فسيح وأصوات تدوي تنادي بالأسماء والأرقام في كل مكان. كم هو مزعج أن تصطاد عينه نظرة فاحصة في هذا المكان المتّسع. يجرّ حقيبته ويعجل في مشيته برتم ثابت هربا من تلك الأعين ويغضّ طرفه هربا من الاصطدام بإيماءة توقفه. يحسّ بأنه تحت سلطة كل الأشخاص الذين يحيطون به.

أخيرا يصل الى بهو آخر بجانبيه سلسلة من مكاتب إنهاء اجراءات السفر، كلها مرقّمة بلوحات بالأعلى وأغلبها خالية من الموظفين. ثلاثة صفوف بشريّة اصطفّت لإنهاء الاجراءات. كانت تلك الصفوف واثقة الى درجة أحس معها بقلّة فهمه وبدت على معرفة تامة بكلّ ما تتطلبه اجراءات السفر، وإن كانت روتينية لكنه شعر بأنّها بحاجة الى درجة عالية تعوزه من الذكاء.

مالذي تعنيه كل تلك الأرقام؟ لا يجد أي شيء منها في أوراق سفره!

الأعين التي انتبهت اليه تشعره بأنّه اقتحم المكان عليهم. يحسب كلّ خطوة يخطوها عمقا الى البهو. وينتبه الى وجود أية ردّة فعل من الجميع تنبئه بخطأ ما. مشهد تحديث الجميع اليه يربكه.

أي رقم؟ أي صف؟ أيّ موظف عليّ أن أقف أمامه؟ يتوغّل عمقا، لم يقرر بعد، التوتر يقوده، كما لو أنه يمشي على حبل معلّق بالسيرك والكل يحدّق به. وهو يسير الى حيث يقوده.

ينتبه الى أنه يكاد يصل الى نهاية البهو بالطرف الآخر، دون أن يأخذ صفّا أو أن يقف أمام أحد الموظفين. الخوف من الحرج يجعله يجنح الى أقرب مكتب. يقف أمامه وكأنه يأخذ صفّه أمام مكتب خالي من الموظفين! ولا أحد يصف خلفه. واقف بكلّ اتزان أمام المكتب الخالي بانتظار انهاء اجراءات سفره. 

يدرك بأنه علق وحيدا في هذا الجرف. ولا يستطيع اخراج نفسه. يكاد يلتفت لكنه يمتنع . حتما أعين كثيرة تحدّق في هذا المعتوه الذي يقف وحيدا وكأنّه بالصفّ  



 

 ________

* Gueorgui Pinkhassov



الاثنين، 7 يونيو 2021

( نادني لينا )





 "اندلعت الحرب العالميّة الثالثة عام ألفين وثمانية. استخدمت فيها الشعوب المتحاربة أسلحة مغناطيسيّة تفوق في قدرتها الأسلحة التقليديّة. ونتيجة لذلك حلّ الدمار في البرّ والبحر. انقلبت محاور الكرة الأرضيّة وباتت الكرة الأرضيّة تعيش كارثة مؤلمة. مضى الآن عشرون عاما على الكارثة ولم يبقى على هذه الجزيرة سواي. أتت الحرب على معضم أجزاء الكرة الأرضيّة. والآن أخذت الأشجار والحشائش تنمو ثانية، وأخذت الأسماك تملؤ مياه البحر. لقد انتعشت الأرض وامتلأت بالحياة من جديد"




المقدمة الأشهر في عالم الكرتون؛ لا شكّ أن الكثير ستشتغل أذهانهم بصوت جدّ عدنان وهو يكتب المقدمة بمذكراته ، ونسبة منهم سينتبهون لصوت عدنان وهو ينادي "جدّييييي" آخر المقطع. ألفت الرواية عام ١٩٧٠ تخيل المؤلف قيام هذه الحرب بعد ٣٨ سنة ولو افترضنا أن الكتاب ألّف هذا العام يعني أن الحرب ستقوم عام ٢٠٥٩. 

 

رواية المدّ الهائل:



خبر إعادة الدبلجة ذكّرتني برواية (المدّ الهائل) لألكسندر هيل كي، لهذا بدأت بقراءتها لأرى القصّة بالكتاب. أنهيت الرواية وبدأت أقارنها بالقصة الكرتونيّة

 


تذكّرت ستانلي كوبريك وهو يتعامل مع النصوص التي يقتبس منها أفلامه، الكثير من هذه التفاصيل موجودة في كتاب (ستانلي كوبريك: سيرة حياته وأعماله) للمؤلف: فنسينت لوبرتو. يمكن اعتبار هذا الكتاب مرجعا رائعا لهذه المواضيع وكذلك يحكي كثيرا عن التفاصيل التقنيّة والتي حتّمت على المخرج تغيير النصوص الأصليّة والخروج بنصّ جديد أو لنقل محسّن سينمائيّا، ولكن مع ميازاكي الأمر مختلف؛ لم يغيّر القصّة؛ كلّ العناصر موجودة وحتّى الهامشيّة منها لكن حصل تبديل كبير بالمسارات وترتيب الأحداث، ميازاكي حلّق بالقصّة بمعنى الكلمة. الرواية انتهت عند الحلقة الثالثة  على ما أذكر من الجزء الخامس -عدنان ولينا مكوّن من ستة أجزاء- وأغلب الأحداث تدور بالجزء الثاني والثالث من الشريط الكرتونيّ، جزء كبير وكبير جدّا من إرث عدنان (القصّة الكرتونيّة) بجمالها وروعتها أستحدثها ميازاكي. رغم التغيير شعرت فعلا أن الرواية هي القصّة الكرتونيّة نفسها؛ فهي بدّلت دون انتهاك لروحها.   

 

 

 إعادة الدبلجة:

نعود للدبلجة الجديدة، لماذا كل هذه الضجّة؟ الكثير لا يعرف بأنّ (سلاحف النينجا) لها دبلجتين مختلفتين كليّا وأجزم أنها لم تكن لتثر الجدل رغم اختلاف المستوى بينهما. وكذلك توم سوير على ما أذكر لها دبلجتين بل إن هنالك مسلسلات أعيد انتاجها بحلّة جديدة وأفضل مثال (ريمي الفتى الشريد) و (دروب ريمي) وأتذكّر مسلسلا أعيد دبلجته بما يسمّى بالدبلجة الاسلاميّة، كانت تجربة تدعو للسخرية أحيانا وطالت هذه التجربة الفيلم الجميل (قبر اليراعات) والمعروف عربيّا باسم (سيتا الحنون) دبلج ثانية باسم (نارا الصغيرة والطائرات المغيرة) وكانت أصواته تشبه أشرطة التسجيلات الاسلاميّة، لكن ذلك لم يحدث أي ضجّة تذكر، وإن تحسّرت على فوات (سيتا الحنون) على من شاهدها بنسختها الأخرى (نارا الصغيرة..) 

لكن مع عدنان ولينا الأمر مختلف. من الخطأ احداث ردود الأفعال باسم ذكريات الطفولة؛ أنت لن ترغم غيرك على مسار طفولتك وليست المسألة مثلما تقول الكلمات التي أقتبست كثيرا كثيرا بالسوشيال ميديا عن المقاهي والرفاق ومن يعيد الرفاق والخ أنت لن تستطيع إعادة حالتك الأولى وأنت تشاهد عدنان ولينا في طفولتك؛ لن تستعيد الدهشة الأولى ولا تلك المساحات المبهمة من غموض التعابير والأحداث بالنسبة الى عمرك ومعرفتك وطريقة تعاملك الأمر أشبه بقاعة سينما بشاشة مميّزة أقفلت أبوابها الى الأبد ولو أعدت مشاهدة نفس المسلسل في أماكن مختلفة لن تغيّر من حقيقة أنك لن تشاهد بعد الآن هذا المسلسل من ذلك المكان. أنت بنفسك خسرت طفولتك بحكم الزمن، عن أي شيء تحافظ عليه إذا؟؟ من وجهة نظري إن كان هنالك شيء يدعو للغضب فهو: 

١. اقفال حلقات المسلسل القديم من اليويتوب وهو تصرّف عدواني -للأسف مشروع ربّما- 

٢. التفريط بقيمة عمل ثمين يعدّ إرثا، لا لطفولة جيل بل لنا جميعا.

 

 

قيمة الدبلجة القديمة:

دبلجت مئات المسلسلات الكرتونيّة لكن حتما عندما نتحدّث عن عدنان ولينا ستدرك أذهاننا أن لها نجاحا مختلفا، يمكن أن نعبّر عنه بأنه كان نجاحا أيقونيّا. إذا كان جزء كبير من قيمة المسلسل الكرتوني (جزيرة الكنز) في صوت وحيد جلال (جون سيلفر) فكيف بعدنان ولينا والذي يستمدّ جزءا كبيرا من روعته وقيمته من نبرات صوت المؤدين وانفعالاتهم، نستطيع القول بأنّه أفضل عمل كان الأداء الانفعالي للأصوات مميّزا. قد يتذكّر من شاهد المسلسلات الكرتونيّة العديد من المشاهد واللقطات والمواقف ولكن مع عدنان ولينا سيتذكّر حتما بعض الكلمات والجمل؛ لا لأنّها جملا ترسخ ككلمات بل كأصوات علقت بانعفالها بالأذهان. من مِن متابعي عدنان ولينا لا يتذكّر جيّدا كلمة "إخرس" بصوت نمرو وعلام -بالرواية ذكرت كلمة "إخرس" مرة واحدة ص ١٧١- ليس في الأمر مبالغة عندما أتحدث عن مثل تلك الأمور فلها وقعها ومثال آخر ضحكة عبسي وأجد مفردة مؤدّي الصوت لا تؤدي الغرض لعل مفردة مجسّد الصوت أفضل تعبيرا، فكلهم كانوا يتفاعلون بالمشاهد ولا أذكر مسلسلا كرتونيا خلق في الأذهان ذاكرة صوتيّة مثل عدنان ولينا الدبلجة الجديدة تشبه مقطع يوتيوبي لتعليم الأطفال الجمل والكلمات. رتم ثابت ورتيب وبلا روح وتفاعل.  

 

 

"نادني لينا"

بهذه الجملة بالدبلجة القديمة تحدثت لينا مع عدنان وفي الدبلجة البديلة تقول "أنا اسمي لينا، لينا نادني باسمي" . يعرف الكثير البداية الشهيرة لرواية (موبي ديك) "نادني اسماعيل" لهذا الاسلوب من الكلام سحره، أقرب للحديث منه إلى الإنشاء وهو الفرق بين الدبلجة القديمة والحديثة.

 


مقارنة بين الرواية والانمي:



"إذ قال: وغطّت السماء طائرات تشبه الفراشات"

لينا وهي تحكي لعدنان ماقاله جدّها عن ذلك اليوم

كان هذا المشهد المنذر بقيامة ذلك العالم، لينا قالت ذلك وهي تنظر الى عيّنة من تلك الطائرات (جمانة) وهي خامدة في قبو القلعة. الجمال الغرائبي والمخيف فنّ يبدع اليابانيون فيه كثيرا، لهذا أبدع الانمي في تصوير هذا المشهد. لم يستغرق استديو غيبلي في رسم التفاصيل كثيرا بالانمي كما نشاهده في انميّات أخرى مثل (قلعة هاول المتحرّكة) لكن بعض العناصر حيكت بتفاصيل إضافيّة خاصة القلعة والطائرة جمانة. تلك الطائرات كانت تشبه فراشة العثّة لكنها بلون معدنيّ قاتم ولها أجنحة ضخمة، حجم الجناح تقريبا بحجم حاملة طائرات، أي بحجم ملعب كرة قدم. ظهر هذا المشهد الذي وصفه الدكتور رامي للينا واصفا ذلك اليوم المشؤوم الذي انتهى فيه العالم "وغطّت السماء.." مرتين: الأولي بمقدمة المسلسل والثانية بفلاش باك سميرة وهي تتذكّر ذلك اليوم.



 

(سميرة تتذكّر)


لا وجود لهذه الطائرة بالرواية وهي عنصر مهمّ في المسلسل والانمي؛ يمكننا أن نخمّن بأنّ شكلها المخيف يعود الى طائرات سباق التسلّح المخيف بالحرب الباردة؛ فهي تشبه طائرات B-2 الأمريكيّة وطائرات أخرى صمّمت بأشكال مشابهة. ولا ننسى طائرات النقل العملاقة السوفيتية "أنتونوف" الكثير من فئاتها ذات حجم مخيف


(قاذفات أمريكيّة ابّان الحرب الباردة)


  ونتحدّث عن عنصر مهم آخر ورئيسيّ بالانمي ولا وجود له بالرواية، القلعة. أغلب الأحداث تدور في أندستريا وهي الأرض المحيطة بالقلعة، ولا وجود لاسم أندستريا بالمسلسل؛ إذ أن القلعة تعني المبنى المهيب الضخم والأرض المحيطة بها -عندما أقول انمي أعنيه كمنتج من غيبلي وأسميه مسلسل وأعني الانمي بالدبلجة-  صوّر ميازاكي تلك الأرض كأرض جرداء من أي علامات انسانيّة لكنها مليئة بالبشر، تشبه بيئة قائمة على دكتاتوريّة العمّال أو اليسار المتطرّف. مبنى القلعة، الشيء المفقود بالرواية لكنها علامة راسخة بالانمي، مبنى غريب وهائل ومخيف وفيها مقرّ استخلاص الطاقة الشمسيّة المرعبة، والأخيرة شيء أساسيّ بالانمي وهامشيّ بالرواية. لم تفصّل الرواية كثيرا بالمعدّات لكن ميازاكي الذي يحبّ التفاصيل فصّلها كثيرا. بعنصريّ: طائرة جمانة والقلعة. للقعلة مشاهد جماليّة، الليليّة منها بالذات، يمكن اعتبارها واحدة من أجمل صور استديو غيبلي الفنيّة.

  

(القلعة من الأعلى)

 

 (جمانة تخرج من أرض القلعة)

 

وما يجعلنا نعتقد أن المسلسل كدوبلاج كان بارعا جدّا تعامله مع الأسماء وطريقة التعريب: عدنان وهو بالرواية كونان احتفظ الاسم بالـ "نان" ولينا هي بالرواية لانا وجيمسي هو عبسي وهل يخفى القمر. أما الاسم الأجمل، نمرو وهو بالرواية أورلو، نمرو ذلك الفتى المتنمّر والمتمرّد. تعامل مؤلف الرواية مع الكارثة ككارثة جيولوجيّة. ذكرت القشرة الأرضيّة في المسلسل أكثر من الرواية، وكأنّ ميازاكي تشرّب الرواية كثيرا. وبالرواية ذكر الـ "تسونامي" ولا أدري هل كان هذا الاسم مشهورا كما هو اليوم بعد تسونامي اليابان الذي ضرب المفاعل النووي؟ أمّا القنبلة المغناطيسيّة! كيف هي شكلها وكيف تعمل؟ لا أذكر بكتب التاريخ العسكري ولا المخترعات ذكرا لمثلها، لكنها تتكرّر كثيرا كثيرا في انميّات الميكا، غزو الفضاء؛ الكثير من الرجال الآليين يمتلكون أسلحة سميت بالانمي والمسلسلات أسلحة كهرومغناطيسيّة. أتخيّل هذا السلاح كقنبلة تخلق ثقبا أسودا أو فراغا ذو كثافة -ولو أن في هذا الوصف تضارب- لنقل تخلق فراغا كبيرا تعمل كدوّامة فراغيّة تجذب بكلّ عنف ماحولها وتدمره. 

ظهر مشهد من البداية حذف من المسلسل! وهو مشهد الكرة الأرضيّة وهي تغرق ببحرها والدوّامات تملؤها حاول ميازاكي بكلّ وضوح توظيف ما أمكنه من عناصر الرواية؛ في مشهد لسميرة وهي عند مرفأ القلعة كانت تقود الدراجة الهوائيّة بملابس أنيقة، بالرواية ذكرت قيادة الدراجات الهوائيّة كإمتياز طبقيّ وكذلك ذكرت بالرواية النقاط التي تمنح للأشخاص للترقية بدرجة مواطنته وهي النقاط أو العلامات في المسلسل. الاسقاطات السياسيّة أو الأيدلوجيّة واضحة بالمسلسل مثل الرواية والمسلسل حاول تصويرها أكثر. مدينة العمّال الكئيبة وفي أرض الأمل - جنّة هذا الانمي- أكثر كلمة ملفتة فيها كانت "العمل/الى العمل"  وهو ماكان يكرهه عبسي الفتى البريّ كما صورته الرواية. عبسي شخصيّة رئيسيّة بالمسلسل وهامشيّة بالرواية. والتقسيم وفق الأعمار، كانت صورته واضحة كثيرا في المسلسل؛ أرض الأمل والتي تشبه الأراضي السويسريّة -بالرواية ذكرت باسم هاي هاربور كأرض فيها غابة ووادي وهضاب لا أكثر- المسلسل استغرق كثيرا في تصوير هذه الجزيرة كجنّة أبدع في ميازاكي وصفها. واستبدل مشهد الماعز المشوي بالرواية بخنزير برّي مشوي على طريقة "ليشون" الفلبينيّة، في المسلسل سمي هذا الحيوان بالثور لأسباب واضحة مشهد عبسي وهو يعدّه ويلتهمه واحد من أشهى المشاهد في عالم الانمي

 

(ثور عبسي وبالأصح خنزير عبسي D: )


وتوكيدا لروعة المسلسل بالدبلجة أصوات العضّ والمضغ كانت مغرية D: . "يا لرائحة السمك القذرة" كان هذا تعليق سميرة عندما دخلت كوخ عدنان لأوّل مرّة ولكنها بالرواية تصرفت عكس ذلك والتهمت بنهم السمك المدخّن الذي افتقدته بسبب ندرة الأخشاب في مكان إقامتها. بالرواية ملابسها كانت بنطالا فضفاضا وسترة غير منمّقة لكنها بالمسلسل عكس ذلك؛ ترتدي بزّة رسميّة وعمليّة.المقارنات كثيرة كثيرة لكنها تدل على استنبات ميازاكي للعديد من الأشياء التي وجد لها تربة خصبة بالرواية الأصليّة.



(مشاهد من أرض الأمل)

 

"ثم نزل مسرعا الى الشاطئ الضيّق، صارخا، باكيا وملوّحا على نحو بريّ بيديه"

هذا المقطع من الرواية، الوصف كان معبّرا و تذكّرت سريعا المشهد بالمعنيّ بالمسلسل ووجدته كما وُصف. 

"ظهر مخلوق صغير رثّ الثياب"

"كان قد ناهز العاشرة وكان يكبر بطريقة بريّة"

(عبسي)

ماهو إلا عبسي تماما بالمسلسل. تذكّرت ملحّنا سألوه عن سرّ نجاح أغنية قام بتلحينها، قال بأنها أتت له الكلمات جاهزة ولحنها معها، كذلك الرواية، أرى أنها أتت محمّلة بالصور والخيال وما على ميازاكي إلا أن يعمل عليها.

 لنتحدّث عن بداية الانمي أو المسلسل، بالبداية التقى عدنان بلينا وهي بالنسبة له كائن لم يسبق أن رأى مثله في حياته فقد ولد في الجزيرة المفقودة ولم يشاهد بشرا إلا واحدا وهو جدّه وهي شخصيّة رئيسيّة بالمسلسل كثيمةة لذاكرة عدنان ولا وجود لها بالرواية، من هنا ندرك كيف صنع ميازاكي بداية موفّقة. ردود أفعال عدنان الأولى مع لينا كانت ظريفة وتعلّقه بها وبرائحة ملابسها وهو يقوم بغسلها مع ضحكات بمشهد لا تخفي دلالة رسم الأسنان حقيقتها المشاغبة.

  


التخاطر:



في الرواية هو موضوع أساسيّ، التخاطر وقراءة الأفكار وكلّ ذلك مع تقمّص الأرواح عالم غيبيّ. كانت سمة واضحة بالرواية، أتحدث عن نفسي وعند مشاهدتي للمسلسل لأوّل مرّة ولأنه عالم غريب بالنسبة لي. لم أدرك كثيرا هذه الظواهر، لم يظهر المسلسل تلك القدرات كشيء إراديّ، بل على العكس ظهرت بالمسلسل بشكل أفضل من الرواية. حالات لا يمكن تفسيرها، اكتسبتها لينا بفضل طبيعتها وحديثها الدائم مع الطيور، كانت تلك الفكرة مقبولة كثيرا بهذا الأسلوب من التورية.

 

 

عودة إلى الرسم أكثر:

 المسلسل استغرق كثيرا كثيرا في الاتساع بأمور أخرى دون الابتعاد عن الرواية، لهذا بتصوّري لم يوري اهتماما كبيرا بتلك الظاهرة (التخاطر) الا بلحظات معيّنة. علينا أن نعي عندما يرسم الرسّام شكلا فهو وبلا وعي يكون عن كوّن فكرة ولو بسيطة عن أجزاء الشكل الداخلية وتكوينها. بالإضافة الى جمال الأشكال التي رسمها الانمي وتدل على تصوّر عميق للقصّة، الأجزاء الداخليّة من القلعة والرسم التخطيطيّ لها


القلعة وكذلك الطائرة "جمانه" والتي تظهر بالمخطط والتي تحدّثنا عن مثيلاتها سابقا رسمت أجزاؤها بعناية ملحوظة.


لماذا ضدّ الاعتراض بهذا الشكل على إعادة الدبلجة؟

   عندما شاهدت جنود القلعة والذين كانوا يرتدون بزاتا خضراء موحدة وخوذ تغطي الأعين اندهشت كثيرا عند نزعهم لأقنعتهم وكيف أنهم بدوا يشبهون كثيرا بقيّة الناس البسطاء في أرض الأمل. كنت أعلم يقينا أنهم بشر لكن مشاهدتهم بملامح مألوفة جعلني أستغرب كيف يكونون مثلهم ويقومون بأفعالهم المشينة اتّجاههم. كذلك لا أنسى العديد من العبارات خلقت فجوات من عدم الفهم مثل "عبثا تحاول" عندما قالتها سميرة لم أفهم بالبداية وعلى وجه الدقّة ماتعني، ليس عيبا بالدبلجة بل أمر رائع أن تواصل الدبلجة رتمها ويضطرّ المشاهد -ان كان صغيرا- للحاق بها. كل ذلك وأكثر العمر حينها سمح لي بالاندهاش ودفعني للتفكير أكثر، الأجزاء المبهمة لصغار الأعمار تحفّز الخيال كثيرا في حين الأجزاء الدقيقة والمفهومة للبالغين تحفّز على التأمّل وهنا الفرق بين مشاهدتك لمسلسلك بطفولتك وبعد بلوغك، باختصار تلك اللحظات ولّت فليس لنا حقّ في الاعتراض إلا على اختفاء تلك النسخ من اليوتيوب بسببها وحسافة أن ما عشناه -وكان جميلا بدليل عمقها في ذاكرتنا- لن يعيشه غيرنا إن اقتصر وجود المسلسل على النسخة الحديثة.

 

باختصار قليلة هي المسلسلات الكرتونيّة التي تميّزت كجمال بالدبلجة والأصوات و (عدنان ولينا) أجملها.  وفي المسلسل كوميديا لا تنسى وكم هو مؤسف لو فاتت أحدا منكم.