السبت، 20 أغسطس 2016

-٣-

-٣-

حقيقة، ليس على الضحك أن يكون منطقيّا. أتذكّر كيف أنّني ضحكت في وقت لو علم من هم حولي بما بي لاستغربوا. وحدها لحظات الضحك تخرجنا من غرفة عالمنا الخانق. لازلت أحبّ ذلك المكان الذي شهد أشدّ لحظات ضحكي جنونا. لم يكن الصوت وحده يخرج من فمي، بل كانت أشياء كثيرة قابعة في في صدري. الضحك جعلني أتنفّس بعدها. لاتوجد لحظة تريك الإنسان على طبيعته أكثر من الضحك. ولايوجد شيء يصعب تزييفه ولايبدو واضحا مثل الضحك. إذا أردت أنّ تتأمّل جمال أحدهم، فانظر إلى ملامحهم عندما تتحرّر من جديّة العالم ضحكا. هو تجسيد للأمل، الذي يجعل من ينتظر شيئا لايرجى قدومه ينتظره! فالأمل لايعصى على أحد إلا في مكان واحد كما قال جون ميلتون "حيث يستعصي الأمل، الذي لايستعصي على أحد"

الثلاثاء، 16 أغسطس 2016

الأدب الأجنبي والشعر: مالن تنقله الترجمة



"سيجيء الموت وستكون له عيناك" 
تشيزاري بافيز



"حيث يستعصي الأمل، الذي لايستعصي على أحد"
جون ميلتون



المقطعان من قصائد مترجمة. الأولى عن الايطاليّة والثانية عن الانجليزّية. لم تفقد الترجمة لم تفقد بريقهما. لعلّ المعنى كان شاسع التعبير لدرجة أنّه استوعب الترجمة بصدر رحب. لكن عندما تحاول أن تقرأ الشعر الأجنبيّ بالذات فإنّك لن تجد إلا القليل القليل من مثل هذه المقاطع التي لم تفقد بريقها. 

حاولت مرارا وتكرار قراءة أشعار آليغري وإدغار ألن بو وإليوت لكن دون جدوى! كأنّني أقرأ جثث قصائدهم. لقد إزددت قناعة بأنّ ترجمة الشعر مستحيلة وبالكاد يصلنا شيء من روعة تلك الأشعار عدى بضع مقاطع متفرقة، ليتني أفهم كيف بقيت كذلك. هل من روعة الترجمة، أم من روعة المقطع نفسه؟

لعلّ محبّي الروايات سمعوا كثيرا عن حرص القرّاد اقتناء النسخة التي ترجمها منير البعلبكي دون غيرها. السبب بكلّ بساطة روعة الترجمة، وكأنّ روعة القصّة لاتصل روعتها إلا بترجمة جيّدة بالذات. 


 "الترجمة والحرف أو مقام البعد" لانطوان برمان.

لقد عثرت على ضالتي في هذا الكتاب. الكتاب الذي يتحدّث بشكل مبسّط وجميل حول الترجمة. فيه وجدت كلّ التساؤلات المعتادة حول الترجمة ومشاكلها مع النصّ الأدبي. في العديد من الأمثلة المبسطة بكلّ وضوح. وكلام المؤلف جعلني أتذكّر بضعة مواقف مرّت بي. 

عندما أردت أن أصف أحد الأجانب بطيبة القلب قلت: he has a white heart عندها لم يفهم الأجنبي ماأعنيه! كنت أعني بأنّ له قلبا أبيضا -وهو مايفهمه كلّ العرب- ولكنّ وصف القلب بالأبيض غريب عليهم. لذلك عندما يترجم أحدهم نصا أدبيا عربيا فيه هذه العبارة عليه أن يقول: he has a kind heart  أي قلبا طيّبا، مما يعني أن ننسى مسألة القلب الأبيض كليّا وبالتالي استحالة ترجمتها دون تحريف "الأبيض" لما يعنيه "بالطيب". 

أيضا كيف يمكن للعربيّ أن يترجم محادثة بين عربّيين من بلدين مختلفين؟ أو عندما يستشهد عربيّ بهذا المثل "يادار مادخلكش شر" ؟ عند الترجمة لن ينتبه القارئ الأجنبي إلى أنّ العربي استخدم مثلا بلهجة مختلفة، مما يعكس دلالات معيّنة وفق السياق. لأنّ الترجمة أتته حرفيّا. أو عندما يتمّ استخدام مفردات محليّة لها دلالات معيّنة مثل: لهجات الجنوب أو نجد أو الحجاز، قد نستخدمها عمدا لإيصال صورة ما لن توصله أي ترجمة.   






أيضا مسألة أخرى. لاشكّ وأنّ العربي يدرك الفرق الواضح بين قراءة القرآن بلسانه العربيّ وقراءته مترجما! الأمر أشبه بالفرق بين قراءة آيات القرآن وقراءة تفسير الآيات.


وفي كتاب "محاكمات نورمبرغ" تأليف ج. م. جيلبرت وترجمة: أحمد رائف. يوجد مقطع لفت نظري. وهو كلام لهانز فرانك حاكم بولندا الألماني النازي الذي عبّر عن ندمه وقد اكتسى بعد الأسر وبالمحاكمة روحانيّة واضحة طغت على كلماته.  هذا الكلام كان وصفا لحال هتلر وطغيانه وكيف أن الله كان يراه.


لقد أتى أحمد رائف بآيات قرآنيّة! بالتأكيد لم ينقل فرانك هذه الآيات بل إنّ المترجم وجدها أفضل كلمات ممكن أن تترجم ماقاله فرانك. 

الثلاثاء، 2 أغسطس 2016

كيف يحكي لنا DNA عن التاريخ؟



لعلّ أهمّ المناسبات التي نسمع بها عن DNA هي جرائم القتل والإغتصاب. فبعد أن كان المحقّقون يستخدمون آثار البصمات للتثبّت من تواجد المتهمين بساحة الجريمة والتي تُترك على الأسطح الصلبة بات DNA يعطي أدلّة لايمكن ردّها عن تواجد المتّهمين وعن  مايخلّفونه من آثار سائلة وغيره. وبفضل تطوّر العلم أصبح DNA أكثر الشهود ثقة بالمحاكم.

توسّعت الإستخدامات أكثر فأكثر وازدادت إثارة وبدى وكأنّنا مقبلين على أمور لم نكن نتوقّعها. وخصوصا فيما يخصّ دراسة الكروموسوم X الخاص المؤنّث والكروموسوم Y الذكوري. ومايخصّ Y  الذي بإمكانه أن يحدّثنا أكثر عن الأجداد. ببساطة نستطيع أن نسأل الجثّة من هو أباك ومن أين جاء؟ لتجيب ومن دون تردّد وبلغة الكروموسومات

هذا الإكتشاف حفّز علماء التاريخ كثيرا، وقد كان هذا امتحان صعب لمدوّنات التاريخ أو لنقل: أن التاريخ أصبح على موعد مع المحاكمة.



سيّد سايكس، عفوا هل السيّد سايكس (ذاك) قريبك؟
 


من هذا السؤال بدأ مؤلّف كتاب " لعنة آدم" بالتساؤل جديّا عن ماإذا كان السيّد سايكس المدعوّ هو الاخر قريبا له حقّا. بعد أن كان الأمر المتوقّع أن يكون مجرّد تشابه للأسماء اكتشف صدفة بعد تحليل الكروموسوم Y بأنّ السيّد سايكس ذاك قريبه بالفعل ولهم جدّ مشترك قبل مئات السنين! هذا الأمر جعله يبدأ مشروعا أوسع وهو محاولة لدراسة  كروموسومات سكّان اسكتلندا الغاليّة وهل تتوافق روايات التاريخ عن سكّان تلك البلاد مع مايقوله الكروموسوم؟

النتائج كانت مبهرة، لم تكن صادمة أو غير متوقعة إذ أنّ التاريخ لم يكن يكذب دائما وإن كان يخطئ في بعض الأحيان.
   
ومن النتائج المبهرة هو ماتوصّل اليه في معرفة من أين أتى أجداد الآيسلنديين، باعتبار أنّ سكّانها من أقل الناس اختلاطا في أعراقهم. كان التصوّر التاريخي والقديم هو أنّهم جميعا جاؤوا من النرويج (فايكنغ) ولكن نتائج فحص العيّنات أظهرت أن 75٪ فقط كانوا من النرويج (فايكنج) في حين كانت البقيّة من السلت -أو شعب الغال- وبمعرفة مضافة بالتاريخ يستطيع المرء أن يستنتج بأنّ الفايكنغ قد أحضروا معهم عبيدا من السلت لهذه الجزيرة، كما هو منطقيّ افتراضا. وعند فحص كروموسوم X الخاص بالأمّهات جاءت النتيجة كالتالي: حوالي نصف سكّان الجزيرة من أمّهات سلت. لقد أحضر الفايكنغ زوجات سلت أو إماء على مايبدو. ويمكننا أن نضيف بأنّ الفايكنغ كانوا قد أسّسوا مدينة "دبلن" في ايرلندا من أجل اقتناص العبيد وبيعهم، وسكّان تلك البلاد من الكلت.

بعد هذه النتائج بدى وأنّ العمل لن يتوقّف، فحول العالم الكثير الكثير من الأسئلة والتي تنتظر الأجوبة. وأوّل سؤال كان: من أين جاء سكّان جزر المحيط الهادئ؟ هل أتوا من أمريكا أو من آسيا، مع العلم بأنّ المسافة لكليهما كانت سحيقة مقارنة بالقوارب الهزيلة التي استخدمها سكّان تلك المناطق. بدا من المثير أن تتمّ مقارنة مارواه علماء الأنثربولوجيا والاثنولوجيا. وهل احتفظ سكّان تلك الجزر بمايدلّ على مكان أجداهم في معتقداتهم قبل سؤال جيناتهم؟   



   الكتاب نقلنا الى أمريكا الجنوبيّة (الانكا) ووسط آسيا لملاحقة جينات جنكيز خان. لقد أخذ جولات لابأس بها لمطاردة الجينات ومقارنة النتائج ومن ثمّ استكمل الكتاب موضوعه مبتعدا عن التاريخ متطرّقا لأمور علميّة بشكل أكبر.  وللمؤلّف كتاب آخر اسمه "سبع بنات حوّا" هذه المرّة كان قد درس كروموسوم X الخاص بالإناث واستنتج بأنّ جميع سكّان أوروبا تعود أصولهم الى واحدة من الأمّهات السبع!

بنات حوّا السبع

على كلّ حال لاننسى أن المؤلّف يتحدّث عن تخصصه في علم الجينات. لذلك فهو عندما يتحدّث عن التاريخ لايتعمّق كثيرا ولايطيل. ومن هنا تكمن المشكلة. من الصعب أن يجتمع علم التاريخ بعلم الجينات في شخص واحد.

وأيضا مسألة أن جميع الأوروبيين يعودون إلى الأمّهات السبع لايمكن الجزم بها ١٠٠٪. فلازال هذا العلم واسعا على المعارف المتاحة، ولازالت الأبحاث فيه مستمرّة. وهو صعب على الهواة ومحبّي التاريخ لدرجة أن الكثير لايعرف الفرق (بالتحديد) بين الجين و DNA والكروموسوم وأيّهم الآخر. على كلّ حال لبريان سايكس كتاب لم يترجم يتحدّث فيه عن أصول سكّان الجزر البريطانيّة وفق أبحاثه. وبالذات البحث عن أصول السكّان بالجزر البريطانيّة واحد من أهم وأكثر المواضيع التي أثارت جدلا عبر التاريخ، لطابعها الفريد ولأنّها جزيرة ويسهل نسبيّا تتبّع الشعوب الوافدة للوقوف وتاريخها وتلمّس مدى تأثيرها سياسيّا وثقافيّا. فكأنّها مختبر تاريخيّ حيّ يمكننا من خلاله معرفة مدى تأثير البشر ببعظهم جرّاء اتصالهم مع بعض وبمختلف الظروف. فهي جزيرة "بريطانيّة" سكّانها "أنجلو-سكسون" وسيطر واستطون "الفايكنج" في أرجاء منها ولها تاريخ مع الإحتلال "الرومان" .



 وعندما تبحث في نتائج مثل هذه الأبحاث في العالم العربيّ لاتجد شيئا إلا في المنتديات القبليّة وغيرها. ورغم أنّ هنالك حقائق مثيرة، مثل تبيّن أن العديد من القبائل لايعودون الى جدّ واحد. مما يدلّ على أنّ القبيلة قد تكون حلفا. وهو معروف في هذا الزمان فكم قبيلة لها فرع معروف بأنّه بالأصل من قبيلة أخرى. وهذا قديم حتّى بالجاهليّة قبيلة "الرباب" كانت حلفا من قبائل عدّة -لهم رابط قبليّ- منها: تيم، ضبّة، عدي، وغيرها. وجزء من بجيلة دخلت في عامر بن صعصعة. وتزداد الأمور إثارة عند فرظيّة أن سكّان الجزيرة العربيّة مليئة بالأعراق أكثر مما نتصوّره، أكثر من الفرعين العظيمين (عدنان وقحطان) كما هو ثابت بالأذهان.

 الخوض في هذا المجال عندما معقّد وغير مجدي بدرجة كبيرة. خاصة أننا نفتقد لمراكز أبحاث متخصّصة وباحثين مثل الغرب. فالموجود عندنا مراكز تبيع التحاليل من أجل دعوى إثبات صكّ الإنتماء للقبيلة هذه أوهذه!  وكأنّ هذه المراكز وجدت لتجارة الوهم. و تتفاجأ عندما تجد أحدهم يعرّف نفسه "خبير التحليل بالـ DNA" أو " متخصّص بتحاليل الـ DNA" وعندما ترى نقاشاته تجده عبارات يقولها مثل "اقطع واخس" " تعقب" في حوارات لاتستطيع إلا أن تقول بأنّها مثال واضح لجاهليّة القرن الواحد والعشرين.


     
 لازال هذا العلم في بداياته. والجزم بمدى ثبوت نتائجه وفق التصوّرات محلّ أخذ وردّ في بعض الأوجه. لكن ماذا لو استغلّ مختصّون في هذا المجال إلمامهم لضرب التاريخ والهجوم على المؤرّخين، حيث سيبدو المؤرّخ عاجزا من وجهة نظرهم. كونه لايفهم في الـ DNA مثلهم. ولايستطيع أن ينتقد النتائج ولاأن يعرفها وإن وجدت كونه غير مختصّ في هذا المجال المعقّد، إلا عن طريق مختصّ آخر يقف إلى جانبه.

وهنالك مشكلة أخرى. ماذا لو نشأ لوبيّ متعصّب على غرار لوبي نظريّة داروين أو العلماء الذين أوصلوا نظريّته الى تبنّي فرضيّة أن الانسان كان قردا. لقد بلغت فيهم القوّة أن جعلوا من معارض لها يخشى على منصبه العلميّ! لقد أصبح لهذه النظريّة  حرس مثل "حرّاس الهيكل" وكأنّها ذات طابع آيدلوجي!

وقد تجد المتحمّسين ينشرون معلومات مقتطعة مثل: نسبة تقارب جين الإنسان و والفأر تساوي ... والخنزير تساوي ... في حين أنّ التشابه قد لايفيد بأنّ هذا من ذاك. فجينات الإنسان تشبه جينات الاسفنج البحريّ بنسبة ٧٠٪. 

لكن هنالك وجهات نظر ترى بأنّ هذه البحوث مساعدة للتاريخ وعلماء التاريخ، لابحوثا من أجل كتابة التاريخ.