الجمعة، 29 مايو 2020

( شريط مزعج )



لم يتوقّف الشريط عن الدوران أمام عينيه. كانت الصورة واضحة الى حدّ مزعج. يدفن وجهه بالوسادة ويسدّ اذنيه بها، الصورة تتضح أكثر! تندفع صرخة من صدره وتصطدم في حلقه محدثة انكسارا وضجيجا في حلقه المكتوم. لا يسمع ذلك أحد غيره. يشدّ شعره للخلف بقوّة، يحاول نزع وجهه من الوسادة التي جعلت الفيلم أوضح. يفتح عينيه لإزالة الشريط. يرى كلّ شيء أمامه مثل إشارة و علامة تذكره بحدث مزعج. طيف مزعج أو وميض ينجم عن ذلك. يلتفت بكلّ اتجاه، العلامات والإشارات تزداد حدّة وازعاجا ورأسه يمتلئ بها. يغلق عينيه ويبدؤ الفيلم الجديد بالدوران .. يدفن رأسه .. يشدّ شعره .. كلّ شيء يدوس روحه أكثر في أعماقه.     



 _________
الصورة: Tim Kellner

الثلاثاء، 26 مايو 2020

-٢٣-

-٢٣-

أجد صعوبة في فهم البشر كثيرا لكني أستطيع فهم المخلوقات التي يتخيلونها بعمق أكثر. لم أدرك بأنّ خلق العديد منها كان سيبعدني عن طبيعتي أكثر. بدأت أشعر بوجودها، كنت أختبئ من البشر ليظهروا من مخابئهم. بدأت أفهمهم أكثر، أحببت عالمهم. لم أستطع لمسهم، كبرت قبل أن أستطيع لمس أحدهم. كدت ألمسمهم في يوم ما. كانوا أقرب لي، عند عامود الإنارة الوحيد، كانوا يحبّون الإضاءة الصفراء كثيرا، كانوا يقولون بأنّ الهالة التي يخلقها النور الأصفر يشبه غرفة النوم، بخلاف الهالة البيضاء التي تشبه كثيرا غرف المستشفيات والأموات وغرف البشر. قبل أن ألمسهم، كبرت وتركوني. مضت سنوات طويلة منذ أن تحدّثت إلى البشر آخر مرة. بالكاد عدت وأنا أفهم لغتهم، لا يشبهون أبدا المخلوقات التي كنت أمضي الوقت معها كثيرا، لم تعتبرني المخلوقات غريبا بقدر هؤلاء. كل ماستطعت فعله هو أن أخبئ ما كان ينقصني لفهمهم، تماما كما كنت بارعا في إخفاء أماكني السريّة، وأنا التقي بالجميع. رحلوا وهم يحملون أسراري، سنين طويلة بقيت هذه الأسرار معهم بعيدا عن البشر، قبل أن أبوح بكلّ شيء لأحدهم، كأنه كان واحدا منهم! عندما رأيته كان يشبههم، يذكرني فيهم كثيرا. لم يعد المكان موحش من دونهم، ولم أكن مخطئا بأنّ مكاني السرّي كان بابا يمكنهم الخروج منه إليّ. مالذي دلّني عليه؟ لا أعرف. ومن أخبرني بأنهم قد يأتون في يوم ما؟ لا أعرف. من كان سببا في عودتهم إليّ؟ قالوا لي يوما: يمكن أن تتخيّل أحدا ويخلقه الربّ من أجلك، تأكد إن رحلت يوما لا يمكنك أن تعيش دون أن تؤمن بوجوده  

الأربعاء، 20 مايو 2020

-٢٢-

-٢٢-

وحدها الأشياء التي نحبها يمكن الكتابة عنها ونحن في أسوأ حالاتنا. الساعة الآن 5:52 مساءً، أصبحت و 53 وأنا أفكّر إن كان بعد تنوين الهمزة ألف، لايهم. السعادة تكمن في داخلك كم بدت هذه الكلمات فارغة وكم بدا كلّ من يحاول حثّنا على ايجاد سعادتنا هذه دجالا، لا يختلف كثيرا عن بائعي التمائم والأعشاب الطبيّة التي تعالج بفضل الوهم. هل يمكنك أن تلمس قلبك؟ مثلها السعادة وإن كانت داخلك كيف يمكن لمسها؟ ستظلّ عضوا في أحشائك تهرسه تقلبات مزاجك ويدك لا تصل أبعد من قشرة جلدك وأحيانا تغوص أعمق، إما بالأظافر أو بمشرط سكّين أو بموس حلاقة لا تدري متى استعملته لآخر مرة. يمكنك أن تبثّ سعادتك في الأشياء الموجودة حولك، أتدري وأنت في قمة البرد يمكن لأنفاسك وأنت تنفثها أن تصنع دفئا؟ ليس لك لكن قد تجد في معنى أن تمنح دفئا للفراغ شعورا يشعرك بالدفء. يمكنك أن تبثّ في الأشياء التي حولك ما يسعدك، يمكنك أن تخرج -لنقل ماتسمّى- السعادة في داخلك وأن تبثّها في أي شيء: تشاهده، تسمعه، لايهم وتشعر بأنّ هذا الشيء وإن كان تافها يسعدك. الأمر أشبه بأنّ تنزع من داخلك قطعة تشبه القطن، بيضاء نقيّة وشفافة -لنقل روحا- وتبثّها في أي شيء، قد تذهب هذه الروح سدى! وقد تحرّك أمامك جمادا لا قيمة له وتجده -ولا تدري كيف- يحدثك ويفهمك أكثر من أي كائن حيّ. هذا الجماد قد يكون أي شيء تسمعه، تشاهده، تلمسه، تمارسه. تلك الأشياء لا تدري إلى متى تدوم لكنها حتما وان لم تدم إلا دقائق قد تصنع بصمة غائرة في ذاكرتك. تشعر معها بملمس لطيف يبهج جلدك، يشبه الشعور الذي ينتابك وأن تمرّر أصابعك على قطعة قماش أو جدار أو إطار لتترك أثرها يعزف في ذهنك -كما نفعل، كما نفعل نحن-. الى أي حدّ استهلكت تلك الروح أو السعادة في بثها بأشياء لا قيمة لها؟ أو أشياء ابتلعتها دون أن تحرّك فمها حتّى. يدي خائفة، أن لا تجد شيئا باقيا في داخلي. عندها ستصبح الجمادات بلا روح! وهي التي كنت أجد فيها روحا لم أجدها بالبشر. أتذكّر الأشياء التي أسعدتني، لم تكن شيئا يعني إلا أني صنعت منها شيئا يعنيني. لا أخفي على نفسي حتّى أن لحظة تسجيل أنيستا لهدفه عام 2009 تركت أثرا في داخلي لا يُمحى. يمكنني تحسس البصمة التي تركتها ركلته تلك. فيها المكان الذي كنت فيه، استقبلت أصحابا لم التقي بهم من قبل ومع ذلك لم يكن ذهني معهم. كان الوقت متأخرا، حتّى أني لم أعد أجلس كما كنت أجلس أول حظوري، كانت جلستي توحي بأنّي سأخرج وعلى كاهلي حمل ثقيل من همّ لشيء يعدّه الكثيرون تافها؛ فريق مهزوم ويخرج من بطولة مهمّة في نظرهم. كان الحمل الذي كنت سأخرج به ثقيلا للغاية، لا أدري مقدار الروح التي قمت ببثّها في تلك الأشياء، وكأنّني أراهن بثمن لا يمكن استرداده ويمكن خسارته بلحظة، كدت أن أخسر كل شيء أنفقته إلى أنهى أنيستا كلّ قلقي وبثّ -حرفيّا- الروح في داخلي! مناسبة تافهة مقارنة بالكلمات التي أستخدمها الآن، لكنها لم تكن كذلك، حتما لم تكن كذلك. كان هدف أنيستا هو أكثر شيء استطعت لمسه حيّا في تلك الأيّام. اليوم وأنا أتحدّث عنه لا أشعر بأي شيء اتجاهه، بل أشعر بالضيق! لا أدري لم أشعر بأن ابتسامة بريشيانو -بالطريقة التي شاهدتها بها لأوّل مرة- تشعرني بالهدوء. ابتسامته باللقاء مع الميلان. كانت بين الرفاق، من الابتسامات القليلة التي رأيتها كذلك، ابتسامة بين الرفاق، رغم كثرة الابتسامات التي شاهدتها بالملعب. السعادة في داخلك! أتدرك معنى أن تشعر مع قدر مخيف من اليقين بأنّه لم يعد هنالك أي شيء في جوفك؟ لم يعد هنالك أي شيء في جوفي ولا يهمّ طالما أني أعرف بأنها موجودة في مكان سيعنيني للأبد.      

الثلاثاء، 19 مايو 2020

-٢١-

-٢١-
*

"ما يصلح" كانت هذه أكثر إجابة على أي شيء تمنّيته وإن كان تافها. لم يملك أحد الوقت الكافي لإخباري بالأسباب، كلّ ماهنالك أن هذه الكاملة كانت كافية لافتراض كلّ شيء ومن سوء حظّي لم يفترض عقلي إلا المعنى الحرفيّ لهذه الكلمة " ما يصلح" تعوّدت أن ما أتمنّاه لا يصلح لي وكبرت على أنه لا يحق لي أن أحلم، الحلم عار. كلّها أشياء وإن شعرت بزنها ستكون جزءا منّ روحي ليست لي. لم يكم بمقدوري قذف هذا الشعور عنّي. الشعور بالعار عند كشف أي شيء أرغبه كان يخنقني. أدرك معنى الاختناق عندما لا يجد أحدهم كلمة ليقول بأنه: نعم يريد ويستبدلها بـ "براحتك". أمر مزعج أن تدرك بأنّك ولدت وأنت محروم من أشياء كثيرة، أشياء منذ ولادتك وأخرى يأتي من الشعور العميق الذي يخلقه "ما يصلح" في جوفك. كل ذلك يجعلك باهتا ولا لون لك ويخلق منك كائنا في قفص مصنوع من نفسك التي لم تعد تتخيّل الأفق إلا خلف حاجز لا يمكن القفز منه. أشعر بالغضب، أشعر بالغضب مني أكثر من أي أحد آخر. لماذا أكره من لا يجب عليّ كرههم؟ لماذا أحقد على من لا ذنب لهم؟ لماذا أصر على أن يدفع الكثيرون ثمن ما يجب عليه دفعه؟ لماذا أقوم بأشياء خاطئة في وجه أكثر من كنت أتحاشى الزلل عنده؟ انكار ذلك يشبه إنكار أحدهم بأنّ الكلمات البذيئة لا تجدي نفعا! "ما يصلح" أن نقول أنها تجدي رغم أنها بالفعل تجدي. الكتابة لا تجدي بل إنها ساخرة الى الحد الذي يجعلها عملا مصطنعا عندما تتقن التعبير عنك. أنني غاضب الى حدّ مخيف وأشعر بالكره إلى حدّ يستنزف روحي. لا أدري من ماذا ولم لكنّه مخيف لأنّي أبدو هادئا وفي أفضل حال رغم ذلك أي أن شيئا ثقيلا ثقيلا يرغمني على إبقاء كلّ ذلك الشعور في جوفي. أشعر بأني مبنيّ من حجارة وأشياء بسيطة استطاعت أن تصنع ثقوبا من خلالي ليتسلل النور إليّ. كنت أعيش على هذه الثقوب بعد أن حبسوني داخل الحجارة التي تحيط بي وذلك للإطمئنان عليّ. ما كلّ هذا؟ يمكن لأحدهم بأنّ يقول بأنّي كنت مخطئا وبأني لم أفهم ماكانت تعني "ما يصلح" عندها سيتحتّم عليّ أن أوجّه الشتيمة والغضب واللعن كلّه إلى نفسي وهي التي تصوّرت بأنها لم تخلق لي من الأساس.   



*Anne Magill

الاثنين، 18 مايو 2020

ملتهم الأحزان



*


لم يكن شخصا أو شيئا عاديّا، من كان يأكل أحزان تلك البلدة.

بالبداية لم يشعر صاحبي بالتحسّن، كان الحزن يأخذ نصيبه كل فترة لكنه زاد عن المعتاد قليلا. لكن بما يكفي ليزرع اليأس في قلبه. صادفه! كان قلبه فارغا، لا يذكر الشعور الذي انتابه عند رؤيته أول مرة. لكنه يذكر جيّدا أنه قال له بأنه سينزع الحزن منه إن لم يكن عنده مانع، قال له: " احكي لي عن مايحزنك، لا يهم إن لم يكن ما يحزنك فعلا. سيحمل كلامك شيئا منه وأمسك به". مسح على ظهره واربت على كتفه واختفى كلّ شيء.

أصبح صديقه، لم يعد يراه شيئا بل صديقا كما يمكن أن تكون هيئته. عاد صاحبي الى بيته وأكمل صديقه سيره بعد أن أخذ حزنه. لم يصعب عليه من حينها أن يجد الأصدقاء في كل مكان. الجميع أصبح صديقا له، والجميع أحبّوا - وهم يحكون لي- شكل أو هيئة هذا الصديق.

" أريد أن آخذ حزنك ... لا أطلب شيئا منك إلا أن أكون صديقك ... لا أحب ملامح الحزن وهي تبدو على أحدهم ... أحب أن أكون صديقا لك ... هل تسمح لي بأن آخذ حزنك ... قل لي مالذي يحزنك ... احكي لي ..."
هذا أكثر ما يذكرونه منه.

كان ينزعج كثيرا عند سؤاله عن السبب الذي يدفعه لفعل ذلك -هل ينوون إدانته؟!- ولو أن هذا كان بعيدا لكنه بدا مزعجا له. لم يقل شيئا عدا أن ذلك يسعده. سألوه كيف يفعل ذلك؟ وكان يجيب بأنه يأكل أحزانهم! أحيانا كان يضحك.
 "لعله لا يدري كيف" هكذا كانوا يقولون أحيانا   

لم تبدو عليه أي تعابير حزينة مختلفة طوال الأيام التي كان يعيش فيها بينهم. لم يكن يحزن.
"كان يأكل حزنه حتما" هكذا كانوا يقولون.

لكنه بالواقع لم يعرف الشعور بالحزن يوما. لم يكن بسبب تكوينه وطبيعته قادرا على الحزن. كان ينزعج،  وربما يغضب، يتململ، كل شعور يقود للحزن كان يطرقه لكن لم يدخل الحزن في قلبه يوما.

بدأ يشعر بتأنيب الضمير، لم يكفي قوله لهم أنه يأكل الحزن منهم. كان عليه أن يقول أكثر من ذلك، كان عليه أن يوضح لهم بأنه يأكل الحزن.

كان يتغذّى على ذلك. وكان شكرهم وامتنانهم يزعجه. فهو غير قادر على إخبارهم بأنه كان يأكل الحزن لا أكثر. هل خمّن بأنّ ذلك سيحدث فرقا في موقفهم منه؟

كلّما أكل الأحزان أكثر ازداد حمل ضميره. لم ينزعج كثيرا؛ فالضمير سطحيّ حتّى يصبح حزنا وهو كائن لا يحزن.

هل سيعتبرونه مخلوقا أنانيّا لو قال ما عنده؟. هل سيعتبر شريرا لو قال بأنه سيسعد أكثر لو شعروا بالحزن أكثر وأكثر؟

في جوفه أحزان بلدة كاملة. ماذا لو استقيظت الأحزان فجأة؟

هو كائن لا يحزن لكنه يفكّر كثيرا. شعورهم بالامتنان والتعبير عنه جعله يفكّر أكثر. هو لم يدرك ما هو الحزن وإن كان يعرفه. لكن التفكير أوصله الى الحزن أخيرا! لا يمكن للتفكير أن يعود أدراجه، الى نقطة البداية. لهذا خرج ذلك اليوم هاربا. وبعد يوم وجد ميّتا.

لم يعرفوا بالضبط الأعراض التي بدت على جسده وسبب الوفاة. بدا كلّ شيء غريبا. لم يسبق لأحدهم أن رأى مثله، لهذا كان من الطبيعي أن يجدوا كل شيء على طبيعته؛ طالما أنهم لم يعرفوا من قبل شيئا عن ذلك. أقاموا له نصبا تذكاريّا. لا أدري لم يبدو لي الآن وكأنّه شخص يأكل قلبا وهو يبكي؟

خلال إقامتي لبضعة أيام بالبلدة، سمعت حكايته منهم، وماكانوا قادرين مثلي على قول قصّته كاملة.  




————

*Kaye Donachie

الجمعة، 15 مايو 2020

عن كافكا الذي لا يصعب الحديث عنه



 يصعب الإتيان بصورة غير مألوفة لكافكا، ويصعب الحديث عنه من كثرة الحديث الذي دار حوله؛ سيل جارف من التصوّرات يمكنها أن تخلق أبعادا لانهائيّة لقصصه. لم يكن أبدا ليتصوّر حدوث ذلك وإن رآها جديرة بالواقع. 

هو ليس عميقا للحد الذي يجعلك تتأمل حوارات شخصياته كثيرا؛ فهي مختصرة في الغالب ولا عجب ان وصف كوبريك قصصه بإعجاب بأنها واضحة مثل المقالات الصحفيّة!. لكنه يؤدي جيّدا في الحوارات بترتيبها وجعلها كافية أكثر وعفوية للغاية لأيّ حدث غريب، فأنت لا تلمس ذلك التحرّز الذي يكشف عن وجه المؤلف كشخصيّة تتحكم من خلف الكواليس. 

الغرابة في قصصه عفويّة، أي أنها لا تأخذ طابعا قصديّا بوضوح مثل الذكي إدغا آلن بو والذي لاتخدش قصديّته رتم القصة في بالنا. يمكنني أن أعتبر إدغار ألن بو مؤلف انمي ورسام ولايمكن لأيّ خطّ أن يُرسم في قصصه عبثا، الأحداث مع بو مليئة مليئة بالمقاصد لكن كافكا مختلف لا تلمس أثره في ذلك كثيرا هو عفويّ الى حدّ موتّر، في داخلك تعرف أن الحدث غير عفويّ لكن الطابع جاء عفويّا للغاية بشكل لا يمكن للقصد أن يتقنه. 

لهذا أتصوّر -وهذا أكثر مايميّز كافكا دون غيره- بأنّ الكثيرين يمكن أن يحبّوا كتابته ويتعاطفوا معه بطريقة معيّنة، بل إن كافكا في هذه المسألة مربك؛ يمكن لكل من قرأ له بأن يتصوّر بأنّه فهم كافكا أكثر من أي أحد آخر، فهم كافكا كما لم يفهمه أحد، فهم كافكا دون غيره! لماذا يشعر الكثيرون -كما أتصوّر- بأنّهم قريبون من فهمه ولا يجدون حرجا وصعوبة في التعبير عن ذلك -لولا كثرة الحديث الذي انكبّ عنه- وكيف أنهم يشعرون بالحرج مع غيره. عند الحديث عن غيره الذي سيشبه معلما يتحدّث عن شيء مبهم يتحرّج الطالب أن يرفع يدا ويشرح طريقة فهمه له، يتهيّب ذلك قليلا ويفضّل ترك الدرس يمضي. مع كافكا يشعر الشخص بأنه زميل لا معلّم لهذا لا يرى حرجا وقيدا في الحديث بانطلاق عن فهمه له. 

كافكا يوقعك في المأزق كثيرا، فبعد الحديث عنه وأنت تشعر بأنّك فهمته وبعد فترة تجد أن فهمك أصبح باهتا! لا ملامح له وماكان يبدو بأنّه فهم عميق بدا بعيدا عن الفتى كافكا وكما توحي صوره فتى عادي، طيّب، هادئ، انطوائي قليلا، يعاني من مشكلة عميقة بالاحراج والوقوع بالحرج بلا سبب أو التصرّف وكأنّ رعشة الحرج تكاد تهزّه بيدها بغتة. هذا الفتى العادي، الهادئ يصعب القبض عليه وارغامه على الحديث. إنه يذكرني كثيرا بالشخصيّات الكرتونيّة -أو في عالم الانمي- لفتى ضعيف هزيل وهادئ يحاول أحد التنمّر عليه (القارئ) يجده سهل المنال ضعيفا لكن هذا الفتى الضعيف يغلبه بالنهاية بسبب حظّه أو أي صدفة تغير مجرى الأحداث وبالغالب بسبب اندفاع المتنمّر (القارئ) الذي يتفاجؤ لا حقا بتصرف لا متوقع من شخص بدا واضحا وشفافا، وكذلك قصصه تفاجئك بفهم آخر بعد فهم بدا أنه محكم في ذهنك. صدمة الهزيمة تلك لذيذة؛ هي تحفّزك على العودة، تلك الصدمة التي تصورها رسومات الانمي بعين تتّسع فجأة وتبدأ عضلات الوجه حول العين بالارتخاء كأنّها تفلت من يدها شيئا كانت تمسكه بإحكام، أو لأقل تشبه ملامح وجه خصم كارلوس ريفيرا بالمسلسل الكرتوني (جو البطل) الذي كان غاضبا جدا لأنّ كارلوس قال بأنّه سيهزم خصمه بالضربة القاضية بدقيقة واحدة، اندفع الخصم بجنون نحوه وقبل نهاية الدقيقة حاول توجيه ضربة لكارلوس الذي تفاداها ولسوء حظّ الخصم كان مندفعا ويده الأخرى بعيدة عن حماية وجهه -وهذا خطأ قاتل- عندها التمعت عينا كارلوس الذي كان بالأسفل دافعا بقبضته عاليا نحو ذقن خصمه، على كل حال المسلسل الكرتوني (جو البطل) جميل ولايمكن أن يلام أي أحد بالحديث عنه مبتعدا ولو قليلا عن صلب أي موضوع.        

كافكا لا يختلف عن أي أحد اخر، هو ببساطة شخص عادي كتب قصصا مثيرة. يمكن المراهنة على وجود الكثيرين مثله لكن من سيمتلك أدواته في الكتابة والتي تبدو بأنّها تجد جوّا فائقا وصافيا في ذهنه. هل نقول بأنّه عبّر عن ما يدور في كلّ شخص بسيط لأنه استطاع العثور على صفتها بهدوء؟ 

قصص كافكا مليئة بالـ "لا حول ولا قوّة" إنه يشعرك رغم خداع الظاهر الاختياري لشخصيّاته بأنّها واقعة في عالم جبريّ. تلك الجبريّة كانت واضحة جدّا مع غريغوري سامسا في (الإنمساخ)، لكنّها بدت غير ذلك مع السيّد "ك" في (المحاكمة). إنه يشعرك بغضب خفيّ حول أمور تبدو قهريّة وهي في غاية البساطة، أو كيف أنه يريك أن أشياء تافهة -بالنظر إليها واقعيّا- تمنعك لكنها في سياق الحياة أو داخل معمل الحياة تخلق كلّ ذلك الأثر. في (المحاكمة) حاول كافكا أن يبيّن أن رسام القاضي وأمورا ثانويّة هامشية لها أكبر أثر على قضيّته، أكثر من المحامي نفسه. سيكون مؤسفا أن تشعر بأنّك مكتوف اليدين أمام ماترغب به من أجل سبب تافه، أو سبب لم يبدو لك تافها وسيبدو غالبا بعد فوات الأوان. عبّر السيّد "ك" باستغراب عن امكانيّة تقربه لاحداهنّ وقال لم أتصوّر بأنه يمكن الوصول اليك بقفزة واحدة!

تخيّل أن الشخص ماهو إلا قطعة من آلة على شكل بشر هو المجتمع أو البلد أو أي مكوّن بشريّ. قطعة دائريّة مسنّنة واحدة من آلاف القطع تدور بمسار ثابت للأبد، وفكرة تغيير مكانها، وضعيّتها، أو جعلها تقترب من قطعة أخرى -متمنّاة- ولا تبعد إلا شبرا صعبة للغاية. وحده صانع الآلة يمكن أن يغيّر مكانها ولكن متى؟ وهل تملك القطعة إلا أن تدور بمسارها ولاتشعر إلا أنها تتحرّك بمسار دائري ثابت رغم أن الآلة تذهب وتجيء في كلّ مكان وتمارس حياتها بكل ما يمكنها فعله. أو بأقل تخيّل أن أحدا يعيش بالقرب من مكان يرغب بالوصول إليه، لا يبعد إلا مترا لكن زجاجا يفصل بينه وبين المكان؛ هل تجد فرقا أن يكون عرض هذا الزجاج مترا أو مترين أو ١ ملليمتر؟؟ وإن كانوا جميعا غير قابلين للكسر؟؟ يمكن لك أخي الانسان أن تجد العزاء إن كان سمكه مترين ولكن إ كان ١ ملليمتر ولو كان كافيا لإعجازك لكنه سيقهر أملك أكثر من الأول بكثير. 

كافكا بالوصف مثل مواطن بعيد كلّ البعد عن دوائر الحكم، والطبقة الحاكمة ومثل ذلك ويصف مايشعر به وكيف يراهم بكل بساطة، لكن هذه البساطة تحيط بها هالة المواطن الصالح الخائف قليلا والذي يخلق لهؤلاء أمورا أخرا لا تكذّبها الأحداث لكن يكذّبها الواقع، كون الأحداث تناسبها والواقع لا يجدها.

ما يجعله محيّرا هو أنه لا يبدو مثل كتاباته. شخص يعيش بحالة حزن وارتياب عميقين. سيرة حياته عاديّة ولا يبدو إلا كشخص سعيد ويعيش حياة جيّدة، عدا عن طبيعتها الهابسبورغيّة قبل وبعد الحرب العالميّة الأولى.

أتصوّره شخص خجول، وإن لم يبدو كذلك. الشخص الذي أوصى بإحراق أعماله وصديقه ماكس برود فعل العكس لأنّه عرف يقينا أن كافكا يعني عكس ذلك. أيشبه ذلك عندما يسألنا أحدهم إن كنّا نرغب بشيء نريده من كلّ قلبنا لكنّنا نجيب بعاميّة "بكيفك، اللي تشوف، زي ما تبي" ؟ الكلام المكتوب له فهم ذو بعد واحد لكن عندما يُسمع من قبل شخص يعرف القائل ويفهمه سيملك الكلام بعدا ثالثا يغيّر معناه كليّا. في رسائله لميلينا -للأسف لم أقرأ كلّ رسائله لها- لا أدري أكانت رسائل المثقفين كذلك غالبا؟ هل كان كافكا بحاجة لأحد يكتب عنه رسالة تسأل ميلينا عن ملابسها؟؟ أو أكان كافكا بحاجة إلى الوقوع في هفوة تشبه هفوة شخصيّة روبي تيرنر في فيلم Atonement (2007) ؟ 


تيرنر الذي كان يكتب رسالة معتادة وهو يفكّر بكلام غير معتاد يودّ قوله كتب كلمة خليعة لحبيبته ونسي أن يمحوها وأرسل الرسالة


يمكن أن تفهم الشخص الخجول لا من خلال كلامه بطريقة حرفيّة، بل مثل مايفهم أحدهم إجابة "كيفك، اللي تبي" بأنّا بالواقع نعم. 

بالأخير لا ننسى أن يهوديّة كافكا، مثل يهوديه كل الشخصيّات الابداعيّة تترك أثرا بالغا في أعماله. التحفّز الذي يظهره الشخص الذي يعيش ضمن أقليّة مندمجة ولكن يفصلها شيء معنويّ تحفّز خلاق. يسهل الانخداع -ان كان انخداعا- بأنّ لدى اليهود الاوروبيين ذكاءً غير عادي، له علاقة بتكوينهم العرقيّ ولو أن تكوينهم الاجتماعي قد يكون غالبا بالأثر على كل ذلك. لعل كافكا لم يكن إلا صورة مكبّرة أو كعيّنة مكبّرة لحالة الخجل التي تنتاب المجتمعات الأقليّة، خجل يشبه الانحراج لا من شيء تم فعله بل من وضع وجد رغما عنهم. 

على كلّ حال. تذكّر عند الاندفاع بالحديث عن كافكا بأنّك ستجد ذقنك مندفعا وستجد عينا بالأسفل تبرق مثل كارلوس ريفيرا، مع قبضة تهوي للأعلى إليك بكلّ قوة. 







 انقضاضة كارلوس ريفيرا




هل يتحدّث كافكا عن كوابيس؟ أم يتحدّث كما يصف أحدّهم بأنّ ما يمرّ به هو كابوس حقيقيّ؟ أي شيء يصعب الاستيقاظ منه. ليست الغرابة أكثر علامة لكوابيس كافكا بل عدم وضوح وجوه الشخصيّات هو ما يوحي بذلك أكثر؛ أنا مدين لمن أشار لي بأنّك تحبّ اللوحات التي لا يظهر الأشخاص فيها بملامح واضحة. يسهل تخيّل نفسك أحد منهم، ولعل أشخاص كافكا كذلك يسهل تخيّل نفسك منهم. 
 



من رسومات كافكا. يمكن قراءة الكثير من خلال رسومات شخص ليس برسام من الأساس


بالنهاية أشعر بأنه يصعب إحكام الحديث عنه مثلما يصعب إحكام الحديث بعمق -أو بمحاولة تعمّق- عن شخص عادي لكن تصدر منه أعمال عميقة مستمدة من طبيعته كإنسان. 

الجمعة، 8 مايو 2020

الجري داخل العجلة


*

كل شيء يبدو طبيعيّا وساكنا عدا عن التعب الذي أشعر به في رئتي. كلّ شيء على حاله وإن أوحى شعور التعب بغير ذلك. السأم يقتلني ولا أدري متى شعرت به لأوّل مرّة. كأنه في بدايته لكنّه بدأ بعيدا من الأعماق. كل من يتحرك حولي، وإن بدا كطيف الأحلام تشعرني عينه بأنّي أبدو طبيعيّا بالنسبة له. قدمي! للتوّ بدأت أشعر بها وبدأت أرى الوجوه بوضوح أكثر حتّى العجلة التي أجري ولا أدري منذ متى في داخلها، للتو انتبهت ثانية لوجودها. إلى أين؟ لا أدري إلى أين ربّما الى حيث أصل لأعمق نقطة في مكاني نفسه. كلّهم في حالة سكون من حولي، وحدي وكأني أجري للحاق بهم وهم في مكانهم. اللهاث يخنق صدري والجري الذي يملؤ رئتي تعبا أفقدني القدرة على الكلام. وجهي جامد ومشدود، بالكاد أقوى على ثني عضلة فيه لأخلق تعبيرا في وجهي. هواء العجلة يجفّف العرق في جبيني. يتلاشى شعوري بقدمي من جديد -لا أدري ان كانت تدمى- واختفى معها الشعور بملمس العجلة في قدمي.

حتّى من حولي بدؤوا يتلاشون واختفت ملامح العجلة من عيني. أشعر بهم، وأشعر بعدم شعورهم بما يضطرب في جوفي وكأنّ أحدا يجري بداخل عجلة في جوفي. قلبي منهك، وتنهيدة فيها حِمل سنوات تنتظر وقوفي لتخرج من أعماقي. لا أدري كم، لكن ربما بما يكفي لإخباري بكلّ شيء لا أعرفه عن العجلة التي أجري فيها. 

اليأس يخنقني، هذا الشعور يوحي بأنّ وقتا مضى منذ أن تلاشوا جميعا عن عيني. وقت طويل حتّى أنّي رأيت أخيرا أحدهم يقف قربي وكأنّ شيئا ما غير طبيعي. لأوّل مرّة أشعر بأنّ أحدهم يراني غير طبيعي. لأول مرة أشك بأن وجود أحد يجري داخل العجلة غير طبيعي. 

بدأ شعوري بملمس العجلة يعود وعادت قدمي. بدأت أشعر بدمي أكثر، بدأت أرى أشياء أكثر من ذي قبل، كلّ شيء بدأ يظهر من حولي تدريجيّا، حتّى من كانوا يروني طبيعيّا باتوا أكثر وضوحا ومشاعري بدأت تنمو أكثر.

الجري يكبّل يدي -للتوّ أدركت- لها أعوام وهي تلوح جريا على عادتها بمسار يصعب كسره. وكل ما يمكنني فعله هو أن ألقي بنفسي على من يقف قربي، ولعله آخر شخص سأراه في حياتي التي لا أذكر كيف كانت قبل هذا الحال. ولو أني أذكر أحلامها قليلا.

قدمي بدأت تهترئ، وروحي بدأت بالذبول. آخر رمق فيني -آخر نقطة للقفز خارجا- بدأت تقترب. لأول مرة أرى شيئا يسير على مسار يقترب مني. 

الذين اختفوا من عيني سابقا وعادوا، عادوا واختفوا بعد أن لاحت نقطة الرمق الأخير.  لم أعد أشعر بوجودهم وكلّ ما أعرفه أني كنت أعلم بوجودهم. 

"هم لم يروني طبيعيّا من الأساس؛ هم لم يروا شيئا منّي ومن عجلتي لهذا بدت نظراتهم طبيعيّة"  

"النظر بالأفق يحجب كل شيء حولي" 

لم يعد أحد هنا إلا هو . لم تعد لي أي فكرة إلا فكرة القفز والارتطام به. قد أحدث ضررا به، إلا أني سأداهم إصابته وأسبق ألمه بإخباره عني. وبأني شعرت بقربه وبأن ذلك جعلني أشعر تدريجيّا بكل شيء. قدماي، يداي، جسدي كلّه، النقطة التي جاءت معك، لأقفز عبرها خارجا من  عجلتي التي كادت تتحطّم بي. 





ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* Cy Tombly