الجمعة، 15 مايو 2020

عن كافكا الذي لا يصعب الحديث عنه



 يصعب الإتيان بصورة غير مألوفة لكافكا، ويصعب الحديث عنه من كثرة الحديث الذي دار حوله؛ سيل جارف من التصوّرات يمكنها أن تخلق أبعادا لانهائيّة لقصصه. لم يكن أبدا ليتصوّر حدوث ذلك وإن رآها جديرة بالواقع. 

هو ليس عميقا للحد الذي يجعلك تتأمل حوارات شخصياته كثيرا؛ فهي مختصرة في الغالب ولا عجب ان وصف كوبريك قصصه بإعجاب بأنها واضحة مثل المقالات الصحفيّة!. لكنه يؤدي جيّدا في الحوارات بترتيبها وجعلها كافية أكثر وعفوية للغاية لأيّ حدث غريب، فأنت لا تلمس ذلك التحرّز الذي يكشف عن وجه المؤلف كشخصيّة تتحكم من خلف الكواليس. 

الغرابة في قصصه عفويّة، أي أنها لا تأخذ طابعا قصديّا بوضوح مثل الذكي إدغا آلن بو والذي لاتخدش قصديّته رتم القصة في بالنا. يمكنني أن أعتبر إدغار ألن بو مؤلف انمي ورسام ولايمكن لأيّ خطّ أن يُرسم في قصصه عبثا، الأحداث مع بو مليئة مليئة بالمقاصد لكن كافكا مختلف لا تلمس أثره في ذلك كثيرا هو عفويّ الى حدّ موتّر، في داخلك تعرف أن الحدث غير عفويّ لكن الطابع جاء عفويّا للغاية بشكل لا يمكن للقصد أن يتقنه. 

لهذا أتصوّر -وهذا أكثر مايميّز كافكا دون غيره- بأنّ الكثيرين يمكن أن يحبّوا كتابته ويتعاطفوا معه بطريقة معيّنة، بل إن كافكا في هذه المسألة مربك؛ يمكن لكل من قرأ له بأن يتصوّر بأنّه فهم كافكا أكثر من أي أحد آخر، فهم كافكا كما لم يفهمه أحد، فهم كافكا دون غيره! لماذا يشعر الكثيرون -كما أتصوّر- بأنّهم قريبون من فهمه ولا يجدون حرجا وصعوبة في التعبير عن ذلك -لولا كثرة الحديث الذي انكبّ عنه- وكيف أنهم يشعرون بالحرج مع غيره. عند الحديث عن غيره الذي سيشبه معلما يتحدّث عن شيء مبهم يتحرّج الطالب أن يرفع يدا ويشرح طريقة فهمه له، يتهيّب ذلك قليلا ويفضّل ترك الدرس يمضي. مع كافكا يشعر الشخص بأنه زميل لا معلّم لهذا لا يرى حرجا وقيدا في الحديث بانطلاق عن فهمه له. 

كافكا يوقعك في المأزق كثيرا، فبعد الحديث عنه وأنت تشعر بأنّك فهمته وبعد فترة تجد أن فهمك أصبح باهتا! لا ملامح له وماكان يبدو بأنّه فهم عميق بدا بعيدا عن الفتى كافكا وكما توحي صوره فتى عادي، طيّب، هادئ، انطوائي قليلا، يعاني من مشكلة عميقة بالاحراج والوقوع بالحرج بلا سبب أو التصرّف وكأنّ رعشة الحرج تكاد تهزّه بيدها بغتة. هذا الفتى العادي، الهادئ يصعب القبض عليه وارغامه على الحديث. إنه يذكرني كثيرا بالشخصيّات الكرتونيّة -أو في عالم الانمي- لفتى ضعيف هزيل وهادئ يحاول أحد التنمّر عليه (القارئ) يجده سهل المنال ضعيفا لكن هذا الفتى الضعيف يغلبه بالنهاية بسبب حظّه أو أي صدفة تغير مجرى الأحداث وبالغالب بسبب اندفاع المتنمّر (القارئ) الذي يتفاجؤ لا حقا بتصرف لا متوقع من شخص بدا واضحا وشفافا، وكذلك قصصه تفاجئك بفهم آخر بعد فهم بدا أنه محكم في ذهنك. صدمة الهزيمة تلك لذيذة؛ هي تحفّزك على العودة، تلك الصدمة التي تصورها رسومات الانمي بعين تتّسع فجأة وتبدأ عضلات الوجه حول العين بالارتخاء كأنّها تفلت من يدها شيئا كانت تمسكه بإحكام، أو لأقل تشبه ملامح وجه خصم كارلوس ريفيرا بالمسلسل الكرتوني (جو البطل) الذي كان غاضبا جدا لأنّ كارلوس قال بأنّه سيهزم خصمه بالضربة القاضية بدقيقة واحدة، اندفع الخصم بجنون نحوه وقبل نهاية الدقيقة حاول توجيه ضربة لكارلوس الذي تفاداها ولسوء حظّ الخصم كان مندفعا ويده الأخرى بعيدة عن حماية وجهه -وهذا خطأ قاتل- عندها التمعت عينا كارلوس الذي كان بالأسفل دافعا بقبضته عاليا نحو ذقن خصمه، على كل حال المسلسل الكرتوني (جو البطل) جميل ولايمكن أن يلام أي أحد بالحديث عنه مبتعدا ولو قليلا عن صلب أي موضوع.        

كافكا لا يختلف عن أي أحد اخر، هو ببساطة شخص عادي كتب قصصا مثيرة. يمكن المراهنة على وجود الكثيرين مثله لكن من سيمتلك أدواته في الكتابة والتي تبدو بأنّها تجد جوّا فائقا وصافيا في ذهنه. هل نقول بأنّه عبّر عن ما يدور في كلّ شخص بسيط لأنه استطاع العثور على صفتها بهدوء؟ 

قصص كافكا مليئة بالـ "لا حول ولا قوّة" إنه يشعرك رغم خداع الظاهر الاختياري لشخصيّاته بأنّها واقعة في عالم جبريّ. تلك الجبريّة كانت واضحة جدّا مع غريغوري سامسا في (الإنمساخ)، لكنّها بدت غير ذلك مع السيّد "ك" في (المحاكمة). إنه يشعرك بغضب خفيّ حول أمور تبدو قهريّة وهي في غاية البساطة، أو كيف أنه يريك أن أشياء تافهة -بالنظر إليها واقعيّا- تمنعك لكنها في سياق الحياة أو داخل معمل الحياة تخلق كلّ ذلك الأثر. في (المحاكمة) حاول كافكا أن يبيّن أن رسام القاضي وأمورا ثانويّة هامشية لها أكبر أثر على قضيّته، أكثر من المحامي نفسه. سيكون مؤسفا أن تشعر بأنّك مكتوف اليدين أمام ماترغب به من أجل سبب تافه، أو سبب لم يبدو لك تافها وسيبدو غالبا بعد فوات الأوان. عبّر السيّد "ك" باستغراب عن امكانيّة تقربه لاحداهنّ وقال لم أتصوّر بأنه يمكن الوصول اليك بقفزة واحدة!

تخيّل أن الشخص ماهو إلا قطعة من آلة على شكل بشر هو المجتمع أو البلد أو أي مكوّن بشريّ. قطعة دائريّة مسنّنة واحدة من آلاف القطع تدور بمسار ثابت للأبد، وفكرة تغيير مكانها، وضعيّتها، أو جعلها تقترب من قطعة أخرى -متمنّاة- ولا تبعد إلا شبرا صعبة للغاية. وحده صانع الآلة يمكن أن يغيّر مكانها ولكن متى؟ وهل تملك القطعة إلا أن تدور بمسارها ولاتشعر إلا أنها تتحرّك بمسار دائري ثابت رغم أن الآلة تذهب وتجيء في كلّ مكان وتمارس حياتها بكل ما يمكنها فعله. أو بأقل تخيّل أن أحدا يعيش بالقرب من مكان يرغب بالوصول إليه، لا يبعد إلا مترا لكن زجاجا يفصل بينه وبين المكان؛ هل تجد فرقا أن يكون عرض هذا الزجاج مترا أو مترين أو ١ ملليمتر؟؟ وإن كانوا جميعا غير قابلين للكسر؟؟ يمكن لك أخي الانسان أن تجد العزاء إن كان سمكه مترين ولكن إ كان ١ ملليمتر ولو كان كافيا لإعجازك لكنه سيقهر أملك أكثر من الأول بكثير. 

كافكا بالوصف مثل مواطن بعيد كلّ البعد عن دوائر الحكم، والطبقة الحاكمة ومثل ذلك ويصف مايشعر به وكيف يراهم بكل بساطة، لكن هذه البساطة تحيط بها هالة المواطن الصالح الخائف قليلا والذي يخلق لهؤلاء أمورا أخرا لا تكذّبها الأحداث لكن يكذّبها الواقع، كون الأحداث تناسبها والواقع لا يجدها.

ما يجعله محيّرا هو أنه لا يبدو مثل كتاباته. شخص يعيش بحالة حزن وارتياب عميقين. سيرة حياته عاديّة ولا يبدو إلا كشخص سعيد ويعيش حياة جيّدة، عدا عن طبيعتها الهابسبورغيّة قبل وبعد الحرب العالميّة الأولى.

أتصوّره شخص خجول، وإن لم يبدو كذلك. الشخص الذي أوصى بإحراق أعماله وصديقه ماكس برود فعل العكس لأنّه عرف يقينا أن كافكا يعني عكس ذلك. أيشبه ذلك عندما يسألنا أحدهم إن كنّا نرغب بشيء نريده من كلّ قلبنا لكنّنا نجيب بعاميّة "بكيفك، اللي تشوف، زي ما تبي" ؟ الكلام المكتوب له فهم ذو بعد واحد لكن عندما يُسمع من قبل شخص يعرف القائل ويفهمه سيملك الكلام بعدا ثالثا يغيّر معناه كليّا. في رسائله لميلينا -للأسف لم أقرأ كلّ رسائله لها- لا أدري أكانت رسائل المثقفين كذلك غالبا؟ هل كان كافكا بحاجة لأحد يكتب عنه رسالة تسأل ميلينا عن ملابسها؟؟ أو أكان كافكا بحاجة إلى الوقوع في هفوة تشبه هفوة شخصيّة روبي تيرنر في فيلم Atonement (2007) ؟ 


تيرنر الذي كان يكتب رسالة معتادة وهو يفكّر بكلام غير معتاد يودّ قوله كتب كلمة خليعة لحبيبته ونسي أن يمحوها وأرسل الرسالة


يمكن أن تفهم الشخص الخجول لا من خلال كلامه بطريقة حرفيّة، بل مثل مايفهم أحدهم إجابة "كيفك، اللي تبي" بأنّا بالواقع نعم. 

بالأخير لا ننسى أن يهوديّة كافكا، مثل يهوديه كل الشخصيّات الابداعيّة تترك أثرا بالغا في أعماله. التحفّز الذي يظهره الشخص الذي يعيش ضمن أقليّة مندمجة ولكن يفصلها شيء معنويّ تحفّز خلاق. يسهل الانخداع -ان كان انخداعا- بأنّ لدى اليهود الاوروبيين ذكاءً غير عادي، له علاقة بتكوينهم العرقيّ ولو أن تكوينهم الاجتماعي قد يكون غالبا بالأثر على كل ذلك. لعل كافكا لم يكن إلا صورة مكبّرة أو كعيّنة مكبّرة لحالة الخجل التي تنتاب المجتمعات الأقليّة، خجل يشبه الانحراج لا من شيء تم فعله بل من وضع وجد رغما عنهم. 

على كلّ حال. تذكّر عند الاندفاع بالحديث عن كافكا بأنّك ستجد ذقنك مندفعا وستجد عينا بالأسفل تبرق مثل كارلوس ريفيرا، مع قبضة تهوي للأعلى إليك بكلّ قوة. 







 انقضاضة كارلوس ريفيرا




هل يتحدّث كافكا عن كوابيس؟ أم يتحدّث كما يصف أحدّهم بأنّ ما يمرّ به هو كابوس حقيقيّ؟ أي شيء يصعب الاستيقاظ منه. ليست الغرابة أكثر علامة لكوابيس كافكا بل عدم وضوح وجوه الشخصيّات هو ما يوحي بذلك أكثر؛ أنا مدين لمن أشار لي بأنّك تحبّ اللوحات التي لا يظهر الأشخاص فيها بملامح واضحة. يسهل تخيّل نفسك أحد منهم، ولعل أشخاص كافكا كذلك يسهل تخيّل نفسك منهم. 
 



من رسومات كافكا. يمكن قراءة الكثير من خلال رسومات شخص ليس برسام من الأساس


بالنهاية أشعر بأنه يصعب إحكام الحديث عنه مثلما يصعب إحكام الحديث بعمق -أو بمحاولة تعمّق- عن شخص عادي لكن تصدر منه أعمال عميقة مستمدة من طبيعته كإنسان. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق