الاثنين، 16 أكتوبر 2023

طنين

 



 "ألا تسمع هذا الصراخ الرهيب الذي يحيط بك من كل جانب؟ هذا الصراخ يسميه البشر بالصمت"

العبارة لامست أعمق ما يمكن للكلمات حفره في ذاكرتي. كم بدا ذلك رهيبا؛ اعتبار الصمت صوتا نسمعه. يشبه الصمت التحديق بعيدا بالأفق، أو كما صوّر الرسام فريدريش كاسبر الأفق في لوحته "متجول فوق بحر الضباب، 1818م". لوحات كاسبر مليئة بالصمت، بعبارة أخرى مليئة -وللتوّ انتبه الى هذا الرابط- بالأفق. العبارة لجورج بوشنر، أخذتها من فيلم " لغز كاسبر هاوسر، 1974 " إخراج، فرنر هيرتزوغ. 

هل توقّعت أن تُحرم يوما من سماع ذلك الصوت بسبب عرض صحّي، أو علّة طفيفة تسبّب طنينا في أذنك؟

 كم أذهلتني معلومة أن جزءا من الناس بعد أن يفقد قوّة السمع ويبدؤ بالضعف يحلّ الطنين تدريجيّا على سمعه بدلا من الصمت! وكأن انعدام الصوت ليس إلا ذلك الطنين المُزعج الذي يدوي داخل الرأس ويملؤه فعلا بالفراغ، ذلك الفضاء الذي يخلقه الصمت على أذهاننا وداخل رؤوسنا ليس فراغا بل أفقا واسعا يجعلنا نتنفّس بعمق. ولم يقوى الضجيج يوما على اسكات الصمت؛ إذ أن صمت بضعة أجزاء من الثانية كافية لتجعلنا نتنفس. لكن الطنين يسكت الصمت، الطنين فراغ مُزعجّ. فراغ تؤكده محاولتي اليائسة لإغلاق أذني. وبالشعور بأنّ كل ما يلفت الانتباه باطمئنان حولي يتلاشى ويتشتت وجوده الذي كان يملؤ فراغا يمكن أن أسند رأسي أو تفكيري عليه. كل يوم منذ أيام وأنا أحاول سماع ذلك الصوت الذي أحنّ إليه، الصمت الذي لطالما أحببته الى حدّ أن عبارة عنه كانت كافية لترك أعمق حفرة لمست شيئا عزيزا في ذاكرتي.