الثلاثاء، 18 أغسطس 2020

-٢٦-

 لم أنم جيّدا ولا رغبة لي في النوم. لم أعد أشعر بدماغي. لازلت أفكّر بشكل جيّد ولو أني أشعر بأنّ دماغي متوقّف عن العمل؛ لم يعد يفرز العديد من الافرازات التي تزن شعوري وسلوكي، شعرت بذلك لهذا شعرت بحاجتي لشرب الماء كثيرا.لست أدري بعد هذه الفكرة الغريبة، هل أنا أفكّر بشكل جيّد؟

أشعر بالقلق، لا شيء يقلقني. أشعر بالغضب، لا شيء يغضبني. أشعر باليأس ولا شيء يدعو لليأس، على الأقل بالنسبة لمن يعيشون حولي. كل شيء على ما يرام وأكثر. كل شيء كما يتمنّاه الجميع.

بالعادة أتعافى بالحديث عن ما أحب. ليس لدي الآن ما أقوله عن ما أحب وهذا يخنقني. 

 الآن أكتب بقلم سائل، ذو خطّ عريض. لطالما أحببت مثل هذه الأقلام، الأقلام الدقيقة قادرة على فضح أبسط ارتعاشة في يدي. الأقلام العريضة تحافظ على تماسك خطّي. خطّي ليس جيّدا لهذا اليوم بل أني لا أكمل رسم كل الحروف واكتفي بخدش بسيط يدل على الحرف الذي أردت كتابته. 

 عزيزي القارئ، كعادتي لم أقل أي شيء حتّى الآن. كل مافعلته هو أنني أخذتك بعيدا عدة أسطر بالأسفل. الجميع بالأعلى على ما يبدو، غادروا بعد بضعة أسطر أو من أول سطر. أعترف بأن ذلك يشعرني بأني قادر على قول ما أريد يا عزيزي الوحيد علي انفراد، ولو أن هذا ليس كافيا لجعلي أقول كلّ ما أريد. أقول لك من كل قلبي بأني ممتن لبقائك معي كل هذه المدة. 

يكفي وصولك، ويكفي أنك ترى هذا المكان، مكاني السرّي الذي أختبئ به بعيدا عن الجميع. 

لا شيء أستطيع قوله ولو أن هذا السكوت يخنقني. يكفي أن تكون معي في لحظة كان يمكن أن أقول لك مالم أستطع قوله. ليتك تخبرني، مالذي رأيته في عيني وأنا أكاد في هذه اللحظة أن أقول لك كلّ شيء. 


الجمعة، 7 أغسطس 2020

الأطباق الطائرة لم تعد تظهر

 
 
 
 
"الأطباق الطائرة لم تعد تظهر لأن الناس لم تعد تؤمن بوجودها" قالها صاحبي وكأنه يحدّث نفسه، بدا كلامه وكأنه كان نتيجة تفكير طويل من الأعماق.

"ولكن هل تذكر تلك البرامج التي كانت تلمؤ التلفزيون؟" بهذا أجابه شخص معه ولم أعرفه وبدا أنه كان يتحدث معه من مدّة طويلة.


"بالفعل الناس كانوا يشاهدون كلّ ذلك، كل من كان يؤمن بها شاهدها فعلا حتّى من لم يكن يؤمن بها تفاجأ بها كثيرامرة" وبعد توقّف لبرهة أكمل صاحبي "لم يكن الخوف وحده من فعل ذلك، ببساطة الناس كانوا يؤمنون بها، وكانوا يتخيّلون كلّ شيء حولها. أشكالها الدائريّة وبريقها في السماء، حتّى ذلك السلّم الضوئي الذي تنزل منه تلك المخلوقات تخيّلوها كثيرا، لكنها مخلوقات مشوهه بناها الخوف أكثر من أي شيء. الأطباق بنيت بخيال حالم لهذا كان انجذاب الطبيعة لها أقرب".


"لماذا غادرت تلك الأطباق؟" سأل صاحبه.


يجيبه صاحبي "لم تعد موجودة".


"لماذا لم تعد كذلك؟" يعيد صاحبه السؤال.


 " لم تكن موجودة إلا لأنّ الناس آمنوا بها وتخيّلوها. كان الخيال جامحا، وكافيا ليزاحم الطبيعة في وجودها لهذا وجدت"
أجابه ملتفتا اليه وكأنّه استغرب من جهله معتقدا بأنه يعرف الاجابة مسبقا


"لا يمكن للناس خلق شيء بخيالهم" علق صاحبه متهكما


"يمكنهم لو تخيّلوا بملء أعماقهم، الطبيعة تنتبه كثيرا لتحديق البشر وترقبه بحذر أو لا أدري لكنها تترقّب" وكأن صاحبي انتظر كلمات تحفّزه للمضيّ أكثر


فيسأله صاحبه "هل الطبيعة تخشى البشر؟ أم أنها تلبّي رغبات البشر؟"


فيجيب " لا، اطلاقا لكن الطبيعة صدّقت وجود تلك الأطباق ببساطة" قالها وكأنه يريد أن يغيض صاحبه بقوله "ببساطة"


" هل كانت الطبيعة تبحث في السماء مثلنا؟ هل كانت تترقّب قدومهم؟" ويضيف صاحبه " هل كانت الطبيعة تصدّقنا؟"


كعادته وكأنه يتخذ من طفولته مرجعا لتفسير كلّ شيء في الكون قال صاحبي " أذكر ذلك اليوم جيّدا الذي وبّخني الجميع فيه. قالوا بأني كنت أنا من كسرت تلك الأنوار بالكرة، كان الجميع يحدّق بي لدرجة أنهم كانوا يقذفون بتلك الكرة على وجهي في كلّ نظرة. حاولت الانكار، حاولت أن أبرّر مافعلته، لا أدري مالذي غاص فيني وجعلني أنا من كسرت تلك الأنوار واتّسقت بالكامل مع ما حدث في خيالهم. كان خيالهم أقوى من الحقيقة. لم يكن بمقدوري تجاوز خيالهم عنّي. لا أدري كيف أشرح لك، كنت طفلا لم أستطع الصراخ في وجه أحد منهم لتمزيق خياله العالق في عينه. لهذا ، لهذا أو لا أدري لذلك تمكّنوا منّي بالكامل. ولا زلت أعيش على أني فعلت كلّ ذلك بالفعل"


"أنت لم تفعل ذلك" يردّ صاحبه وبدا ضجرا ولم يرغب بإطالة تعليقه أكثر.


"صوت انكسار تلك الأنوار عالق في أذني، شعرت بها، يكفي أني شعرت بها وهل توجد حقيقة أكثر من ذلك؟ أكثر من أني لو فعلت ذلك على حدّ فهمك ولم أشعر بذلك الصوت في أذني" بدا وكأنه صوّب كلامه بدقه في وجه صاحبه


"لو أخبرتهم بكل ماحدث وأنت بهذا العمر لصدقوك وتلاشت من أذنك تلك الأصوات" بنبرة حادة حاول صاحبه أن يؤنبه


" لن ينتهي ولن يتغيّر أي شيء سأقول لك بأنّ لا أحد سيستفيد من إقامة حجر دومنو سقط بالسابق وكان سببا في سقوط سلسلة من أحجار الدمنو والتي لازالت تسقط، مالفائدة من إقامة ذلك الحجر وحيدا؟" وكأنّه يحاول إغلاق الموضوع وإنهاؤه على طريقته قال " لهذا كما قلت لك يمكنني أن أحقّق أي شيء لو تخيّلته بعمق، لو استطعت أن أرغم الطبيعة على خيالي لحقّقت ما أحلم به من كلّ أعماقي، أكاد أبكي! الفكرة وحدها تبكيني وإن لم أستطع يوما فعلها، سأرجو من الناس الذين تخيّلوا في الماضي الأطباق الطائرة أن يتخيّلوا ما ومن حلمت به، حتما سيأتي، حتما سيتحقّق في يوم ما. سواء بخيالي أو بخيال الجميع سأحدث الكلّ عنه حتّى يأتي ذلك اليوم الذي يسقط فيه من السماء كنجمة اختارها القدر من بين الملاييييين لتسقط وتستقرّ في المكان الذي أنا فيه"


كان بريق عينيه لامعا وملفتا وكان كافيا أن يجعل أعين الناس تبرق ويرون كلّ شيء غارق في ذلك البريق من خياله. كان يمكنه أن يحلّق بهم ويريهم ما يحلم به، كان يمكنه أن يجعلهم يحلمون معه، يتخيّلون معه لكن كلّ ذلك وهذه اللحظة الناعمة بالذات والصافية كانت رقيقة لدرجة أن صوت انفتاح باب غرفته بقوّة كان كافيا لتمزيق كل هذه اللحظة بعنف وتختفي كل تلك الأصوات الحالمة مدهوسة من وقع صوت فجّ يقول " كنا ننادي عليك تعال" 
 
تذكّر ما دار كان يشبه إقامة حجر دنمو سقط منذ مدّة وأكمل سلسلة السقوط التي لازالت تستمرّ بعيدا 







الخميس، 6 أغسطس 2020

-٢٥-

في ذلك اليوم كنا في قاعة النشاط -أعتقد الثقافي بهذه الأسماء تسمّى مثل هذه القاعات- لم يدري المعلم مالذي يفعله بنا، كلّ شيء معدّ ليكون مناسبا تماما لأي زيارة ولا أحد يريد استخدام أو تحريك أي شيء حتّى لا تفسد القاعة الديكور. قام بتشغيل المسجّل وعلى صوت أحد الدعاة أو المنشدين، لا أدري متى يمكنني إخراج أذني من هذا المكان. بعض الطلبة جلسوا على الكراس والبعض الآخر على الطاولات؛ لم يكن العدد يكفي وكانت الطاولات شيئا جديدا لذلك اليوم. الوقت لا يتحرّك كان جالسا معنا في سكون. أتوق لباب الخروج رغم شمسه الحارقة. لطرد الوقت من قاعتنا حاولت أن أقرأ شيئا، لا شيء مسلّي على الإطلاق، بضع منشورات، حاولت البحث عن قصّة؛ بعض المنشورات تحمل قصص الجن والسحر شيء ممتع أكثر من كونها قصّة معبرة. وجدت واحدة وهي لداعية مشهور - لا أحب ذكر الأسماء التي سأنتقدها- كان يحكي عن فتاة تخرّجت من المرحلة الثانوية، افترضت أنها أكبر منّي بسنتين. كانت الفتاة المدلّلة لوالدها المليونير التي لا يرد لها طلبا. استمرّت غارقة في دلال والدها -كنت أشعر بالفخ الذي ينصبه الداعية لحياتها، أو لأقل أن الداعية لم يكن إلا راويا لا أكثر- بعد تخرّجها من الثانوية طلبت من والدها أن تدرس بالخارج وأنها ستذهب وحدها وأنها ستتبرج وتلبس ما تشاء -شعرت بأنّ الفتاة عدوانيّة كلمة بسبب كلمة تبرّج- رفض الأب بكلّ لين وحاول إقناعها وحاول أن يعرض عليها الدراسة في الداخل بأيّ جامعة تريد -لم تكن هنالك جامعات تذكر- لكنّها رفضت و لا أذكر التفاصيل ولكني شعرت بأنّ الفتاة بدأت "تنفلت" على والدها بهذا التعبير العامي فهمت. كانت القصة تتجه نحو نهاية معتادة في مثل تلك المنشورات لكني تعاطفت معها قليلا. بعد أن كثر الجدال انقلب والدها الطيب الذي يدلّلها الى ذلك الوالد القاسي الذي أرغمها على ما يريد ومنعها من كلّ شيء اعتادت عليه وحبسها وبعد نصيحة من أحد الدعاة -أفترض أنه صاحبنا أو صوته الذي كان يروي القصة  كخلفية صوتية لمشهد جرا تمثيله- قام بأخذها بقوّة إلى "الديرة" وهي قرية قريبة من بلدتهم -أعرف تلك البلدة- وقام بتزويجها من أحد الرجال الأكفاء والذي يرعى الأغنام ويسكن في بيت شعبيّ -تقريبا كذلك كانت التفاصيل- تخيّلت البيت ووجدته يشبه بيت عمّال شعبي في حي جدّي أمامه أرض صفراء غابرة. بعد أن رمى الرجل ابنته في أحضان زوجها أو "بعلها" وتركها عاد بعد مدّة طويلة ليزور ابنته فتفاجأ بإمرأة -الصبيّة أصبحت امرأة كأنّها عاشت السنة بسنوات ولم ينتبه الراوي لذلك- تفاجأ الأب - الراوي يصف الدهشة بأنّها دهشة رضى وسعادة- خرجت من الباب أمرأة يركض أمامها طفل ومنتفخة البطن لاستقبال والدها الذي فاته كلّ ما عاشته ولم يسأل عنها. يقول الراوي، بأنها كانت نهاية سعيدة لحكاية هذه الفتاة! شعرت بالضيق، شعرت بالقهر وشعرت بكلّ شعور مقيت يمكن الشعور به. مع اني افترضت أنها فعلا سعيدة -كنت أصدق الراوي- لكني شعرت بأنها ظلمتو لم يكن بالإمكان الإفصاح عن ذلك كان سيقال لي وبفم كريه "ماشأنك؟". مالذي يجعلنا نختزل السعادة في طوق تقليدي وضيّق كهذا؟ ألم يمل البشر من هذه السعادة وكثرة تكرارها؟ لم تكن سعادة بدت أشبه بالواجب الذي عليك أداؤه في حياتك رغما عنك. تخيّلت شكلها، تخيّلت منظرها تخيّلتها بعد أن كانت أكبر مني بسنتين وقد أصبحت أكبر مني بعشر سنوات. هل بقي شيء من حياتها؟ لا شيء تم امتصاص حياتها بالكامل وترك ما تبقّى من المجسّم جامدا يقف عند الباب.

بعد سنوات مررت بتلك البلدة في طريقي إلى مدينة بعيدة. مررت ببلدة أفترض أنها كانت موطنها، وفي الخلف حيث توجد قرى صغيرة، افترضت أنها هناك في واحدة منها. أو أنها وكعادة أغلب الدعاة والمنشورات في ذلك الزمان لم تكن إلا فتاة افتراضيّة اعتدنا وجودها في مثل تلك القصص.    

اشتقت الى تلك الأيّام ولم أدري أن باب الخروج الذي خرجت منه بعد سنة أو سنتين وكانت الشمس حارقة، كان خروجا من حياتي التي أغلقت عليّ الباب الى الأبد.