الثلاثاء، 28 مارس 2017

جميل بشهادة الفنّان لا بشهادة الجميع.



لو كنت أنت من رسم لوحة ماليفيتش هذه هل تتوقّع أن يعرفها أحد؟ في الواقع إنّ هذه اللوحة بيعت بمبلغ عالي، أكثر من عشرة ملايين دولار. ولا داعي للسؤال بكم كانت ستباع لو كنت أنت من رسمها.







هل في اللوحة شيء يدعو للتأمّل؟ أم أنّنا نتأمّل ماليفيتش باللوحة؟


مجموعة من أعمال ماليفيتش الرائعة. بصراحة كازيمير ماليفيتش من الفنّانين الذين أحبّ التأمّل في لوحاتهم والنظر إليها، وبالنسبة لي هذا الجدار مبهج وبديع. الجواب على السؤال هو أنّ الرسم بالذات لاينفصل إطلاقا عن إسم صاحبه. بإمكانك أن تشعر بجمال وروعة أبيات شعر لشاعر لاتحبّ قصائده في العادة ولكنّه في هذه الأبيات بدا مختلفا. توجد الكثير من القصائد المجهولة المشهورة والتي احتفى الكثيرون بها في حين لايوجد مثل ذلك كثيرا في عالم اللوحات، لأنّ إسم الفنّان مهمّ للغاية لكلّ لوحة أكثر مما يعنيه إسم الشاعر والكاتب في القصيدة والرواية. 


لا أعتقد أن شهرة ماليفيتش كانت عبثيّة وأنّ الأشكال في لوحاته كان يمكن لأيّ واحد منّا ابتكارها. إنّنا نولد ونحن نعرف -بطريقة ما- أن هذا الشيء جميل وهذا غير جميل. لا إثبات علميّ لديّ، ليس إلا حدسا، فعندما تقرأ عن إمرأة توصف بأنّها جميلة في كتاب ما عمره ٥٠٠ سنة فإنّ احتمال أن تكون هذه الإمرأة قبيحة في نظرك  قليل جدّا. الأوصاف التي تتصف بها الجميلات بالمجمل نفسها منذ آلاف الأعوام باختلاف بعض التفاصيل القليلة. وهنالك حالات أخرى خارج نطاق هذا الحكم، ولا أتكلّم عن الحبّ، أن يحبّ رجلا إمرأة ليست جميلة في نظرنا ولكنّها بالضرورة جميلة في نظره، فالحبّ شيء مختلف. وبعيدا عن المرأة أو الرجل حتّى. هل الأمر ينطبق كذلك على الأشياء والأشكال من حولنا؟ 







(الموجة العظيمة) لهوكوساي
ترى كم واحدا من ١٠٠ سيقول عن هذه اللوحة جميلة وكم واحدا سيقول العكس؟
إنّنا نعرف بالغالب ماهي المرأة الجميلة ونتّفق حول ذلك في الغالب ولكن عند الحديث عن: متى تكون المرأة جميلة أو الرجل جميل وكيف يكون شكلهما فإنّنا عندئذ سنختلف كثيرا وستبرز مسألة التفضيلات بيننا. أيضا ينطبق ذلك ربّما على الأشكال والأشياء، شيء ما يجعلنا نقرّ بأنّ هذا الشيء جميل وليس ضروريّا أن نصف كيف بالغالب، لذلك الكثير من اللوحات التي قد لانفهم كيف أشتهرت وكيف أصبح رسّاموها عظاما إلا عن طريق معرفة رأي الكثيرين من الناس حولها أو رأي المهتمّين بالفنّ. قد نعرّف أو نَعرف الجمال بأنّه شيء نحبّ أن نراه مرة ومرّتين وأن نفكّر ونحن نحدّق فيه ونتأمّله. متى يكون ذلك؟ هذا مالانعلمه أو مالم نتمكّن من معرفته بالضبط، ولو أنّي أميل الى كون ذلك موجود من فطرتنا لذلك لايمكن حصره. 

يوجد أشخاص قادرون على معرفة الأشياء الجميلة أكثر من غيرهم. وكلّ ماعليهم فعله أو أن يجعلونا ننتبه لتلك الأشياء أكثر ومن بين هؤلاء الرسّامون. وبطبيعة الحال وذلك مبنيّ على قدرتهم على رؤية الجمال ووصفه قدر الإمكان بالرسم، وتختلف إمكاناتهم وأدواتهم بطبيعة الحال. فخطوط رفاييل وبوتشيللي الأنيقة والناعمة تساعدهم على رسم الجمال وجعله واضحا لنا أكثر وكذلك الحال مع إضاءات رامبرانت والخطوط المتعرّجة والتي تبدو متحرّكة لروبنز.



(مقبرة اليهود) لرويسدال
في هذه اللوحة الكثير من التفاصيل والتي لم تخفي وتطمس معالم الجمال، فكثرة التفاصيل سلاح ذوحدّين قد تجعل الرسّام يذهب بتلك الزخارف بعيدا فيضيع الجمال في كومة التفاصيل. إلا أنّ رويسدال عنده قدرة عجيبة على جعل الجمال شاخصا رغم التفاصيل الكثيرة. يوجد رسّامون غيره كثر يرسمون مثله ولكنّهم لم يشتهروا مثله. فهو استطاع أن يصف الجمال بإسهاب وتوصيف دون أن يشعرنا بالملل والضياع.



وفي لوحة ويستلر هذه. يبدو الجمال في التفاصيل المرتّبة والأنيقة، كأنّها قطعة قماش حيكت برفق. الرسّام الأمريكي من  أكثر الرسّامين الغربيين الذين تأثّروا بشكل واضح بالفنّ الياباني المعتمد على تنسيق الأشكال البسيطة بطريقة أنيقة ومرّتبة مريحة للعين، ورغم أنّه قد تنقص الأدوات والأشياء لإبراز الجمال لكنّ قدرة الرسّام هي ما تجعله قادرا على إبرازه بأبسط التفاصيل. فهو استطاع أن يصف الجمال بإيجاز دون أن نشعر بأنّ شيئا ينقص وصفه. 



أحب هذا الاسكيتش لمونيه وبالنسبة لي هو أجمل اسكيتش لرسّام مشهور. ليست صدفة أن توجد هذه الرسمة في الكثير من الكتب التي تتحدّث عن مونيه رغم أنّه رسم الكثيييير من الاسكيتشات غيرها ولكن لهذه بالذات حضورها المميّز. إنّ الجمال فيها عفويّ وكأنّها كلمة خرجت من فم قائلها بشكل عفويّ. فهو استطاع أن يصف الجمال بشكل غير كافي ولكنه كافي بالنسبة الى كلمة عفويّة أو وصف جزئيّ.


الكثير يستطيع أنّ يعبّر عن الجمال بطريقته، من وجيه مودلياني القوطيّة إلى خربشات جاكسون بولوك وصولا للوحات فونتانا الممزقة بالمشرط. إن الفنّ لازال نفسه يبحث عن الجمال ولكن العالم الآن بات يعترف بوجوده بطرق شتّى. صحيح توجد الكثير من الأعمال القبيحة والمثيرة للإشمئزاز والتي تسمّى عند البعض فنّا ولا ندري كيف يحدث ذلك إلا أنّ الفارق بينها وبين الأعمال الأخرى الفنّان نفسه، فمثلا يستاء الكثير من أعمال داميان هيرست التي أخذت طابعا تجاريّا ولاتزال قائمة جائزة تيرنر للفائزين تثير السخرية مثل سرير تريسي إمين  لذلك حتما لايمكننا فصل الأعمال عن الفنّان نفسه، فبقد ما نحن بحاجة للحكم على هذا العمل هل هو جميل أم لا، نحتاج للحكم على الفنآن هل هو فنّان حقّا أم لا.    


بناءًا على ثقتنا بالرسّامين نحن نستطيع أنّ نخمّن بأنّ هذا الشكل الذي رسمه جميل، وهو ذاته الذي قد لانقول عنه كذلك لو رسمه غيره. لاننسى أنّ قيمة اللوحة تدخل فيها عدّة أمور: سيرة الفنّان، سيرة اللوحة، موضوعها، سعرها -وهو أمر يخصّ عالم الأعمال بعيدا عن الفنّ-. لاشكّ أنّ العالم سينظر بإعجاب إلى لوحة أصرّ رسّامها على مواجهة العالم الرافض بها. وقد يكون من باب ردّ الجميل منح قيمة إضافيّة للوحات جميلة لم تنل نصيبها من الإعجاب بل نالت الكثير من الإنكار.

أتذكّر قولا اعتياديّا أُطلق كثيرا وهو: أن أعظم الفنّانين ماتوا فقراء! وهذا القول إطلاقا غير صحيح. الكثير منهم ماتوا عظاما وأغنياء ولكنّ للفنّان الفقير قيمته الخاصة، فهو ضحّى بالكثير من الأمور في سبيل أن يري العالم الجمال بطريقته رغم كلّ الصعاب. ولعلّ أشهر من مات بالفقر وهو رسّام فان غوخ وصديقه بول غوغان . على الأقل أدرك بول سيزان شيئا من اعجاب الناس أواخر عمره. لكن فان غوخ وغوغان بالكاد نالوا أيّ شيء يذكر إلا الإعجاب الذي يبديانه لبعضهما.

كم واحدا مثل فان غوخ مات فقيرا؟
الكثير ولكن لماذا اتّفق العالم على جمال فان غوخ، هل الأمر جاء مصادفةً؟ بالطبع لا. بالنسبة لي فان غوخ يمتلك ميزة لايمتلكها إلا غوغان صديقه. وهو جعل الأشكال مدموجة في قالب هندسيّ فريد بحيث يخلق فراغا متناسقا وبشكل أنيق. حتّى الفراغ في لوحات فان غوخ يبدو جميلا.










بورتريهات لأرماند رولين. وهي من النماذج المثاليّة لفنّ فان غوخ. لاحظوا شكل الفراغ خلف الجسد، لو افترضنا أن اللوحة عبارة عن لونين: أسود للفراغ وأبيض للجسد أتخيّل أنّ الشكل العام سيكون جميلا. يوجد الكثير من الرسّامين اللذين قلّدوا فان غوخ ولكن لايوجد ذكر بارز لهم. الخطوط السوداء العريضة التي تحدّد الجسد منحته بروزا ونتوءا بديعا. أتذكّر في المراحل المتوسّطة كيف أن الأشكال التي رسمتها تبدو أجمل عندما أحدّدها باللون الأسود لتبدو أكثر بروزا -مع فارق التشبيه طبعا-


ماهذه إلا أداة من أدوات فان غوخ الكثيرة جدّا  والتي عن طريقها كأيّ رسّام يحاول أن يبرز أو يرسم الجمال. وله جانب آخر ملفت بنظري بالإضافة إلى هندسة الفراغ فلايوجد من هو مثله في رسم الأشكال الهندسيّة كالمباني والغرف والأثاث بشكل لطيف.





المعالم العمرانيّة والأشكال الهندسيّة في لوحان فان غوخ رائعة، يبدو أنّه كان مؤهلا ليكون مهندسا معماريّا!

هل نعود إلى أوّل كلامنا، حيث أنّه لو قرأنا عن إمرأة جميلة في كتاب عمره ٥٠٠ سنة فإنّها بالغالب تعتبر جميلة بنظرنا كون الجمال لم يختلف في عين البشر منذ القدم؟ مالذي جعل لوحات فان غوخ التي كانت غير جميلة في زمنه جميلة في زمننا؟ أليس مفترضا أن نكون قادرين على معرفة الجمال بحكم فطرتنا؟ مالذي اختلف؟ بتصوّري أنّ الجمال الطبيعي كوجه الإنسان والمناظر الطبيعيّة نكون قادرين أكثر على تحديده وفهمه. في حين الجمال الإبداعيّ من قبل البشر غير ذلك، لأنّ البشر لايمتلكون وصفا دقيقا عن الجمال بشكل كامل، لهذا قد يبدو الأمر أكثر تعقيدا من هذه الناحية.


في عالم الرسم بفضل أدوات الفنّانين نستطيع رؤية الجمال، كلّ بحسب أدواته وقدرته، الأمر أشبه بكاميرا قادرة على منحنا صورة واضحة لمنظر جميل وكاميرا قدراتها أفضل قادره على منحنا صورة أوضح وأخرى قادرة على إبراز لون معيّن وأخرى قادرة على التقريب أكثر وهكذا.

علينا أن ندرك بأنّ شهرة وعظمة اللوحات لا تبنى على الجمال وحده، بل على كلّ شيء يتعلّق بها. ومنها أمور لايمكن أن نفهمها إلا كونها أشياء حدثت هكذا بشكل اعتباطيّ في زمننا ولانفهم السبب مثل شهرة الكثير من نجوم السوشيال ميديا. وكذلك قد يكون الأمر غير ذلك. فأعمال أندي وارهول الجميلة نالت أكثر من نصيبها بفضل رجال الأعمال الأمريكيين. كان أحدهم بشتري لوحة وارهول بالملايين مرة ومرّتين وهو يمتلك العشرات منها، على زمل أن ذلك سيجعل سعرها يرتفع تباعا خاصة وأنّ المشتري مجهول الهويّة!

لكن على مرّ التاريخ والسؤال الذي لا إجابة له: من هو أعظم فنّان؟
كلّ ما أستطيع قوله أنّني في هذه الفترة أشعر بأنّ أكثر من فنّان استطاع أن يقترب من الكمال والمثاليّة لوصف الجمال ولأنّ النفس البشريّة متقلّبة لا يمكن أن تجزم بحكم مطلق حول أفضليّة عمل انسان ما. لكنّ يبدو أنّ رافاييل وفيرمير قد وصلا إلى مستوى عالي من التطلّعات. 











إن أكثر لوحات رافاييل شهرة هي لوحاته الدينيّة وبالذات التي تصوّر العذراء، لو للطف لوحة  لكانت لوحة لرافاييل. لايمكن أن يصوّر أحدهم حنان الأمّ كما يفعل رافاييل، حتّى لوحاته التي تصوّر سانت جورج وهو يقتل التنّين تبدو في غاية اللطف! لوحاته تبعث على السكينة مما يساعد على التأمّل فلاعجب إن أحبّوا لوحاته الدينيّة. في لوحته كلّ الخطوط ناعمة ولايكاد يوجد خطّ يخدش أناقة لوحاته. في لوحاته شيء حيّ لا أجده في لوحات الآخرين. 
كلّ ماعليك هو أن تبحث عن لوحاته التي في عناوينها Madonna


 



يوهانس فيرمير، هذا الفنّان رغم قلّة لوحاته إلا أنّها نالت إعجابا منقطع النظير. لعلّه أكثر فنّان يعرف هواة الفنّ لوحاته بالتفصيل لا لقلّتها بل لأنّها من أكثر اللوحات التي تدعوك للتأمّل. إن لوحاته غريبة التفاصيل! كيف؟ لايوجد جزء باللوحة تحسّ بأنّه بلامعنى. قد تحبطك لوحة بحثت في تفاصيلها لأنّك وجدت أو شعرت بأنّ هنالك سنتمرات بلا معنى، الأمر الذي لايمكن أن يكون مع فيرمير. اللوحة الأولى بالصورة توصف بأنّها أروع أعماله والثانية قيل بأنّها أجمل لوحة طبيعيّة وله لوحة رسم فيها وجه فتاة شابة يعتبرونها موناليزا هولندا. بلوحاته القليلة حاز فيرمير كلّ ذلك.


مع ذلك إن مافعله رافاييل وفيرميير ماهي إلا محاولة أو طريقة أو لغة في وصف الجمال. ذلك لأنّ الجمال أوسع من أن يوصف أو يصوّر كاملا بإبداع بشريّ، لذلك يعتبر الفنّانون الذين يمتلكون مراحل مختلفة ورائعة في مسيرتهم الفنيّة  عظماء، مثل فان غوخ وبيكاسو. 

على كلّ حال، سيظلّ الجمال لغزا، لانعرفه أهو شكل أم علامة أم شعور داخليّ فينا؟ إنّنا نحاول الإجابة عن طريق اقتفاء أثره والذي يبدو واضحا في أعمال وأكثر وضوحا في أعمال أخرى أو أنّه غير واضح ولكنّنا نكون واثقين وقتها من الفنّان الذي يشهد على ذلك.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق