أصبح شابا يعرفه الجميع لكن لا أثر له في الأوراق الرسمية. كانت يسمع في صغره دائما من والده أن الاجراءات الحكومية شاقة ومتعبة وكان يرى تقاسيم وجهه في كلّ مرّة وهو يكفهرّ عندما يُسأل عن السبب الذي دعاه للتأخير بتسجيل ابنه منذ ولادته والتي كانت سببا بوفاة والدته. يعيشون في بلدة صغيرة لكنها قريبة من أذهان الدوائر الحكومية جيّدا. كان حديثه وأعذاره تشبه كرة الثلج التي كانت تتكبر وتتعاظم مع السنين. أدرك الابن أن كرة الثلج هذه ستبتلعه ولن يكون قادرا على فعل أي شيء إلا الهرب والهرب من الإجراءات الحكومية والتي بات يراها مطاردة خفيّة تتبعه أينما حلّ.
أصبح دون أن يدري أجنبيّا أو متسلّلا أو خارجا عن القانون، أو أي صفة تستدعي القلق من البزّات الرسمية. لا أحد يدري كيف استطاع الشاب ** تدبّر أموره والعيش على هذا المنوال خارج أسوار القانون أكثر من عشرين عام. حتّى عندما مات أبوه ودفن شعر بأنّه داخل نطاق صغير هي حدود معارفه لا يستطيع تجاوزه وكأنه لا يستطيع الابتعاد أكثر من بضعة أمتار عن أقرب شخص يعرفه جيّدا، يمثّل هوية له. أحس بالغرابة. شعر كليّا أنه غير موجود بالنسبة للأشخاص القابعين خارج دائرة معارفه. مالذي دفع والده لعدم تسجيله؟ لاشكّ أن أمرا خطيرا منعه من ذلك. فقد اعتاد رؤية جبين والده يتصبّب عرقا عند سؤاله عن السبب وراء إهمال تسجيله وكيف كان يدافع عن نفسه بأنّه لم يستطع ولم يجد الوقت الكافي لذلك. كان يفكّر بأنّ شيئا مهمّا منعه عن ذلك.
أصبح ** ماهرا في الاختباء عن القانون وأعين الأوراق الحكوميّة وإجراءاتها وتكيّف كليّا مع الحياة بمراوغة كلّ ذلك. تلقّى تعليما مبدئيا في بلدته الجبلية وجل اثباتاته وعود والده ومعارفه لهذا كان تعليمه متواضعا. ولكنه عمل في أكثر المجالات الحرّة ، تنقل كثيرا بالأنشطة، زملاء والده كانوا يساعدونه ويملكون محلات تبيع مختلف المستلزمات والأنشطة وكان بارعا في كلّ شيء طالما وجدت التعليمات. حقيقة أن هذا هو أقصى مدى يمكن عمله جعله يتقن كل تلك الأعمال. وأن يصنع لنفسه إسما محببا لدى الجميع.
استطاع كسب رزقه ولكنّه يكبر أكثر مما ينبغي. لم يصدق أحد حقيقة عدم امتلاكه أوراقا ثبوتيّة؛ كان ذلك كافيا لإقناع أي مسؤول أو موظف حكومي بأنّ لديه أوراقا ثبوتيّة بالفعل. وعوضا عن الإصرار بطلبها كانوا يمرّرونه وكأنهم يلمسون وجودها بنفيه اللامعقول بوجودها ويتركونه بسلام.
جيرانه وأصحاب والده وأصحابه يدركون أنه يعيش هاربا بهذه الصوة. وأن مسألة الأوراق الثبوتيّة مسألة تافهة يمكن حلّها مقارنة بما هو عليه من هروب، وأنها ستكون موضوعا مثيرا يتسلّى به الموظفون الحكوميون كثيرا. وحتما سيساعدونه تعاطفا معه. لكنهم لم يشاؤوا أن يخبروه بأن والده لم يكمل الإجراءات كسلا أو تسويفا وكان من المحتمل أن يحاول أحد الأصحاب أن يشرح كيف أنه سكت كل هذه السنوات على أمر مهم كهذا. لم يكن في بالهم احتمال التأنيب اللفظي الذي لن يدوم وقعه على قلوبهم طويلا. وفضّلوا عوضا عن ذلك أن يستمرّ ** بالهرب والنجاح بذلك حماية لسكوتهم. كان يرى أنهم يعاملونه بجدّية بالغة لهذا يتخيّل أن الأمر في غاية الصعوبة ومثير للقلق. لم يعمّر طويلا فقد توفّي ** في عام ٠٨ ** جرّاء حادث مؤسف في احدى الأودية ولم يعثر عليه ولم يكن له وجود في التعداد السكاني للبلدة كأنه كان رقما زائدا أو هامشا أزيل ليحافظ الرقم على صورته العشريّة بلا شوائب. ظل موجودا حتّى مات آخر شخص يعرفه واختفى للأبد؛ لأن أحدا لم يصدّق وجود شخص عاش في هذا الزمن وهذه البلدة دون أن يدوّن اسمه في أي ورقة رسميّة، آخر فرصة له كانت بوفاته داخل البلدة لكنه استمرّ بالهروب -حتّى بعد مماته- من تلك الأوراق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق