Children in a movie theater. 1958. Wayne Miller
"الأرض تضحك وردا"
رالف أميرسون
أفضل بداية للحديث عن أي موضوع، البحث عن مفهومه وما يعنيه. غالبا ما يبدأ البحث بأقوال اليونانيين الذين على ما يبدو لم يتركوا شيئا إلا وأفردوا له تعريفا لمفهومه ليكون منطلقا للتفلسف حوله؛ فليس غريبا حينها أن تكون بداية الحديث عن الاصطلاحات اليونانية.
معنى الكوميديا؟
بالرجوع لمختلف القواميس، نجد أنها كلمة يونانية مركبة، مكونة من:
komos يقابلها بالانجليزية revel: عربد،استمتع، (وتأتي الكلمة الانجليزية revel كذلك بمعنى قصف!).
ōidē بالانجليزية to sing: ما يعني غناء أو لنقل تغنّي.
أرسطو في كتابه "فن الشعر" يقول: "أن الكوميديا نشأت من الأغاني المتصلة بالعضو الذكري وكانت تغنّى بالاحتفالات والطقوس التي تخصّ الخصوبة. وبشكل أوسع "على الرغم من أن أصل الملهاة (الكوميديا) القديمة غامض، فإن الدور الذي لعبه الكورس (جوقة الإنشاد) يعتقد أنه جاء من أداء المطربين الأثينيين.. مجموعة من المغنين كانوا يرقصون ويغنون ويمتعون الحضور بهزل فاحش ونقد شخصي لما يبدو أنه كان من طقوس الخصوبة ويحتمل أنه متصل ببداية عبادة ديونيسيس.. يُعتقد أن مساهمة الممثلين في الكوميديا القديمة انبثقت عن الحكايات الهزلية التي تختلف عن حكايات المغنين بحبكتها. كانت تقدم مواقف مسلية في مشاهد قصيرة تؤديها شخصيات جماعيّة من نموذج واحد. كان أداؤهم غير محتشم لأن هذه الحكايات كانت لها علاقة بطقوس العضو الذكريّ"[1] وما أغرب أن يحمل المعنى بإحدى تشعباته وصدفه عبارة "قصف"؛ الكلمة التي نقولها بتعبيرنا العاميّ "قصف الجبهة"، وأن يوحي أرسطو الى الأصل الجريء للكوميديا. للكوميديا صور متعددة، مثلاً، المسرح، في المسرح اليوناني القديم أشتهر أرسطوفانيس، الحكايات القديمة والفلكلورية، نجدها مثلاً، بمدوّنات الإغريقي إيسوب وما جمعه وترجمه عبدالله بن المقفع من قصص "كليلة ودمنة"، بالروايات الأدبيّة، مثلاً "غرغانتوا وبانتاغرويل" لرابله. لا يوجد شعب لا يحمل إرثا كوميديا، سواء كان فلكلوريا أم أدبيا. وأكثر الأشكال الكوميدية شهرة ماجسّد بطريقة تفاعليّة وحركيّة.
فسيفساء تصوّر الأقنعة التي كانت تستخدم بالمسرحيّات قديما
النكتة :
الحديث عن الكوميديا يقودنا للنكتة، والتي يمكن اعتبارها فنّ شعبيّ، بالعادة قصّة قصيرة هدفها إضحاك الآخرين لأسباب، منها: إدخال البهجة والسرور على المستمعين، السخرية والتشفّي، إيصال حكمة ورسالة مبطّنة. ومن معاني عبارة "نكتة" باللغة العربيّة: الأثر أو العلامة، سواء كانت خفيّة أم ظاهرة. وهي فعلا تترك أثرا وعلامة على المستمع. في الأعمال الأدبية، تظهر النكت في شعر الهجاء، يندر أن تجد بيتا هجائيّا لا يحمل في طيّاته غاية لإضحاك الآخرين. نجده بالشعر العربي الجاهليّ والإسلامي، إلا أنه يبدو أكثر وضوحا وإلحاحا بالأخير، من خلال أبيات الأخطل وجرير والفرزدق، وصولا إلى أقذع حالاته، مع شعراء العصر العبّاسي وما بعدهم. ومن أشهر أشعار الهجاء المُضحكة شطر بيت شهير لحسان بن ثابت -رضي الله عنه- "جسم البغال وأحلام العصافير"، كأن الشطر بتناقله على الألسن احدى صور الـ MEME الشهيرة. وظهرت النكتة من خلال الشخصيات الأدبيّة، الخياليّة والواقعيّة، بالتراث العربي مثلاً، جحا وشعيب.
مكانة الكوميديا
الكوميديا وحكايات الضحك حاضرة كثيرا بقصص الملوك والحكّام، حيث بدوا من خلالها أقرب الى طباع سائر الناس، تزخر كتب التراث العربي مثلا، بقصص الظرفاء من أدباء وشعراء وغيرهم. ورُوي بالأثر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- متى وكيف ضحك، وتناولت الشريعة الإسلاميّة الضحك وآدابه، إذ نهي فقهيّا عن الكذب في سبيل إضحاك الآخرين، وفي حديث رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- :"كثرة الضحك تميت القلب"، ذلك يعني أن الضحك وما يجلبه بالكوميديا والنكت لا يخلو من الذمّ بظروف. بعيدا عن التراث العربيّ، تواجد المهرجون في قصور الحكّام الأوروبيين. ولعلّ أشهر صورة تحكي لنا تواجد مهرّج في حضرة أحد الحكّام، ما صورته لوحة "ستانزيك، 1862م" للرسام البولندي يان ماتيكو، وهي تحكي قصة المهرج ستانزيك، الذي شاهد بالصدفة خريطة تصف الوضع العسكريّ لبولندا. نرى المهرج يجلس بعيدا عن ضحكات النبلاء واحتفالاتهم، بوجه متجّهم، بعد أن هاله ما تعكسه الخريطة من كارثة تنتظر بلده الأم. لعل هذا يظهر لنا إلى أي مدى يمكن أن تكون الكوميديا حاضرة بكلّ المستويات والأزمنة، وبمختلف الظروف، بما في ذلك أحلكها. وإلى أي مدي يمكن أن تكون معبّرة وبقسوة. كوسيلة، حاول الملوك من خلالها العودة لطبيعتهم البسيطة، والاطلاع على البسطاء. وحاول العامة تسلية حكامهم لنيل الحظوة والمكافآت، ومن خلالها نصح الحكماء ملوكهم، ومثل هذه الحالات رويت في كتب التراث مثل "الأغاني" للأصفهاني و "العقد" لابن عبدربّه. وظلّت الكوميديا قناة فعّالة ومرنة -إن كانت غير رسميّة- للاتصال والتواصل بين مختلف الطبقات، من ملوك وحكام ورعيّة، قوّة ناعمة تفرض هيمنتها بميل البشر الطبيعيّ للكوميديا. بدونها كان يمكن أن يغدو الانسان أكثر انعزالا عن غيره، وتصبح الحواجز بين الطبقات الاجتماعيّة أكثر إحكاما. ومن خلالها تأمل الانسان كثيرا سلوك الحيوانات والطبيعة، ونرى كيف أسقط الانسان سلوك الحيوانات في قصصه الفلكلوريّة والطريفة؛ مثلاً، نجد الأسد بجبروته، والثعلب بمكره، والذئب بدهائه، ولعل أكثر الانطباعات رسوخا عن سلوك الحيوانات في الأذهان نابعة من تلك القصص.
Stańczyk by Jan Matejko 1862
جرأة الكوميديا:
يتصرف البشر فيما بينهم وفق واعد سلوكيّة، تخلق سياقا يسيرون عليه، والضحك غالبا ما يكون خروجا لحظيا وعفويا من هذا السياق، يخلق ترويحا عن النفس والأفكار. بعبارة أخرى، كأن أحدهم يرخي قليلا ربطة عنق الرسميّات عن أنفاسه. لذلك له طابع متمّرد على كل السياقات، ومن خلاله يمكن تمرير أكثر الرسائل جرأة وبذاءة. في أعمال الانمي اليابانية، كثيرا ما خالطت لقطات الإيروتيك تعابير كوميدية، تنعكس برسم الأوجه الشاخصة بنهم، وعلى العينين رسم قلوب ورعاف بالأنف. كثيرا ما رويت النكات السياسيّة في ظلّ أكثر الأنظمة السياسيّة قسوة. وتكمن براعة النكتة في الخروج من المسار والسياق بطريقة بهلوانيّة، تجلب الرضى رغم الانتقاد.
سانجي من "One Piece" يمكن فهم الإشارات الكوميدية ومدى جرأتها من خلال العناصر الموجودة بالصورة.
الكوميديا، واحدة من أكثر وسائل الخروج عن السياق أمانا. مرّرت من خلالها أقسى تعابير النقد، على المجتمعات والشعوب والأعراق. مثلاً، عبارة nigga غير مقبولة إطلاقا، إلا من باب النكتة والأعمال الكوميدية، وعلى نطاق ضيق بالتعامل بين الناس مباشرة. بحكم أن الأعمال الكوميديّة -كما نفترض- تحمل رسالة هادفة، في حين لا يحمل التعامل المباشر رسائل هادفة غالبا. وكما نعبّر عاميّا "مزحة برزحة"، ما الذي يجعل الخروج باستخدام الكوميديا والنكتة مقبولا أكثر من غيره؟ "لقد كان أرسطوفانيس معلما وشاعرا كوميديا. نقده الذي لا رحمة فيه للحركات الفكريّة والسياسية وقادتها قد أراد منه أن يقنع الأثينيين بتعديل سياساتهم العامة. كتب كل مسرحيّاته تقريبا حول مشاكل وأشخاص محليين. في مسرحياته بذاءة كبيرة. بتحويل أفكاره الأساسيّة الى مسرحيات، فإنه يستفيد من كلّ وسيلة ليدفع الناس الى الضحك. بتفوقه بالكوميديا الساخرة والحكايات الهزليّة إنه سيد الكلمة المسرحيّة، يعرف القيمة الكوميدية للقول المناسب والنهاية غير المتوقعة. كثير من نوادره لا تحكى بل تمثّل."[1] حتّى أنه بالضحك أو التعابير الكوميدية، يمكن للأشخاص القفز للوصول الى الآخرين والتفاعل معهم، ونسمّي ذلك كسرا للحواجز.
إذا سألنا أنفسنا عن نسبة النكات البذيئة التي نتذكرها، سنجد أن لها حضورًا لافتًا بين ما يتداوله الناس ، وتحظى بقبول لا بأس به. وعلى عكس الحكايات البذيئة التي تتطلب مناسبة محددة لسردها، فإن النكتة قادرة على تجاوز القيود؛ فهي موجزة ومباشرة، تقدم فكرة سريعة وتثير ضحكًا فوريًا يحظى بالتسامح.
التسامح مع الكوميديا
في رواية "أيام سدوم المائة والعشرون"، حاول ماركيز دو ساد بوصفه للرغبات الوصول لأقصى حالات اللغة تعبيرا ، وملامسة أعلى سقف للرغبات. بالخيال وصل أبعد مما وصله بازوليني في فيلمه Salo. وفي الأعمال الفنيّة، حاول الكثير من الرسامين رسم مشاهد ايروتيكية طافحة بالرغبات، وبطبيعة الحال واجهها النقّاد بعنف، ولنا أن نتخيّل لو أن نتفا من تلك المشاهد المرسومة تم تناولها بإطار كوميدي، كما نجدها بأعمال الياباني تاكاشي موراكامي، أجساد لشخصيات كرتونيّة منفوخة الأعضاء، كأنها أخذت من انميّ hentai ولكن بوضعيّات مضحكة. كانت المبالغة في الوضعيات المضحكة لا المثيرة. قد يبدو المجون حادّا ومنفّرا، وسيبدو أقلّ حدّة وأنعم إن ظهر بإطار كوميدي وساخر. في كلا الحالتين يمثّل ذلك انفلاتا، ولكون انفلات الرغبات غير محبّب، سيغدو أكثر تقبلا بالحالات الكوميديّة، كاستخدام مشهد إباحيّ أو صورة لممثل أو ممثلة اباحيّة بإطار كوميدي في MEME ساخر.
الـ MEME كظاهرة معاصرة:
كما نعرّف الكلام باللغات بأنها: أصوات منبرة، كإشارة تحمل دلالة بين المستمعين والأحرف عبارة عن: رسم يشير لتلك الأصوات، ويمكن تركيبها لتغدو كلمة. ومثل ذلك إشارات الضوء والتلغراف، بنمط معيّن يمنحها دلالة للتواصل بين متلقين. أيضا الـ MEME صورة تمثّل إشارة مركّبة لها دلالة بين المتلقّين -خصوصا- وسائل التواصل الاجتماعيّ. وكأي وسيلة تواصل وُجدت وليدة ظرف معيّن، فإن الـ MEME اختلقت لتختصر الكثير من العبارات على متلقّي يقلّب صفحات الانترنت سريعا؛ فلا وقت له للقراءة والتمعّن بعمق وجديّة. وبطبيعة الحال، الظروف تساهم في تجسيد طرق ولغات التواصل بين البشر وفق الاحتياج، مثل لغة الاشارة والتلغراف، وحتّى طريقة التواصل بين المساجين بقرع القضبان، واستخدام أدخنة النيران قديما للإشارة بين الناس من مسافات بعيدة، والـ MEME في عصر ازدهار وسائل التواصل الاجتماعيّ. ما يلفت النظر أنها أخذت كثيرا طابع النكت والكوميديا، وهو ما يُفهم أن ذلك ما يتطلبه الظرف وحاجة المتلقّين لتلك اللغة وقت فراغهم. صورة، لكن بدلالة مستحدثة على دلالتها الأصليّة. لغة محكيّة، مثل أي لغة، تبدأ بإشارة اعتباطيّة يفهمها سكّان وسائل التواصل الاجتماعيّ، ويصعب قليلا أن يفهمها أشخاص بعيدون عنه. ما Hلذي يعنيه كون الـ MEME لها طابع كوميدي بفهم مشترك. ولماذا اختار الناس في حساباتهم الافتراضية، تعابير كوميدية للتواصل؟ ما قد يدلّ على أن الكوميديا والنكتة طبيعة بشريّة ذات فهم مشترك، قد تشبه بجوانب في طبيعة وجودها اللغة نفسها.
وبتعريف آخر الـ MEME عبارة عن صورة لها دلالة نمطيّة، استحدثت لها دلاليّة إضافية خارج السياق. ولعلّ واحدة من أقدم أشكال MEME، الرسومات الزخرفيّة، الموجودة بالنقوش القديمة والرسومات القروسطية، صور لوحوش خرافيّة وكائنات بجسد مركب من عدة حيوانات، وفي رسومات بعض الفنانين اليابانيين، صور مخلوقات أسطوريّة، أحيانا بأعين جاحضة مخيفة، لكنها تخفي شيئا من الطرافة والسخرية، لدرجة أنها رغم رعبها فهي قد تسرق ضحكة ساخرة من فمك. وتحمل بعض كتب القرون الوسطى الأوروبيّة، رسومات مضحكة وطريفة، ربّما في أكثر كتبها تعنّتا، تصوّر الشياطين والوحوش بأشكال غريبة، وبوضعيات مضحكة ومشينة، بعضها حيوانات ترتدي ملابس بشريّة، تذكّرنا بلوحات الرسامين، هيرومينوس بوش (1450-1516م) وبيتر بروغل (1525-1569م)، وما تحمله من صور طريفة ومضحكة وإن كانت تصوّر الجحيم والعذاب.
بوصف تلك الأشكال، قد نقول بأنها كائنات مركبة أو مشوّهة. ولاننسى أن خيطا رفيعا يفصل بين الأشكال المرعبة والمضحكة، والأشكال المشوّهة قد تحمل تعابير فنيّة بعيدة عن الهزل، مثلاً، لوحات بيكاسو وفرانسيس بيكون. وقد يرتعب الأطفال أحيانا من بعض وجوه الشخصيّات الكرتونيّة الطريفة. بالأساس أشكال غريبة، لكنها أصبحت طريفة، بفضل السياق المُحدث بإطار محصور. ولعلّ هذا ما يصنع الطرافة بالأشكال الغريبة، السياق في الإطار المحصور خلال فكرة طريفة. والسياق مع الإطار المحصور، يكوّن الفهم الذي ينبغي أن يبنى كمعنى طريف وفكاهيّ. ومثل هذا البناء لا يكون إلا بفهم جماعيّ، يتشكّل بصورة قريبة من تشكّل المفردات والمصطلحات. ولعلّ أشهر ما يمكننا الاستشهاد به، MEME معركة جودزيلا وكينج كونج MEME القط الأبيض الشهير على طاولة الطعام. الفهم الجماعيّ يكمن في السياق المضاف (قد تكون صورة مُحدثة أو عبارة) بالإطار المحصور المتمثّل بالصورة الأصليّة للـ MEME. المعركة بين إثنين والكلب دخل فجأة، العبارات المضافة بصورة القطّ.
meem مشهد المعركة في فيلم Godzilla Vs Kong
صورة من مسلسل The Real Housewives of Beverly Hills أصبحت باستخدام العبارات من أشهر الـ MEME
الكوميديا الإبداعية:
ازدهرت الكوميديا بالمسرح والأغاني الشعبيّة، بفضل أدائها التفاعلي، لكن مع جنس أدبيّ يفتقد لهذا التفاعل كالرواية مثلاً، تصعب الكوميديا. قد يسهل تأليف الروايات المأساويّة، لكن الكوميديا والخروج من السياق يتطلّب رشاقة وخفّة، أو ما نسميه "حسّا فكاهيا". يصعب تصوّره بلا حركة وتفاعل إلا ما ندر، مثلاً، رواية "الجندي الطيّب: شفيك"، تعتمد الفكاهة على المفاجأة، كطبيعة الخروج من السياق، لهذا لا تكفّ ابتسامتك عن الارتسام فجأة، وأنت تقرأ عن الطيّب شفيك.
الكوميديا السوداء:
أو ما نقول عنه "المضحك المبكي". خروج حاد -لكنه خاطف- عن سياق الواقع. المسألة ليست جمعا للأضداد؛ فالضحك ليس نقيضا للبكاء، وإن بدا كذلك، وإلا لكانت الكوميديا السوداء أسهل. فجمع الأضداد ينتج غالبا حالة بروز ملفتة لجمع النقيضين كما قال شاعر "اليتيمة"
فالوجه مثل الصبح مبيضّ
والشعر مثل الليل مسودّ
ضدان لما استجمعا حسنا
والضدّ يظهر حسنه للضدّ
ولو عومل الضحك كنقيض للبكاء، وأنتج من خلال هذا المفهوم عمل كوميدي، سيبدو مبتذلا. ولكونهما غير نقيضين، إبرازهما معا، بما فيهم من حديّة، تشبه ما يفعله الطباخون بإضافة الملح إلى الأطعمة الحلوة بمقدار قليل يساهم في إبراز حلاوة نكهة الـ salted caramel مثلا. عمليّة جمع لطبيعتين مستقلتين من تفاعلات النفس البشريّة، والجمع بينهما بقالب واحد بمقياس محكم صعب، لكنه ينتج عملا عميقا وفي غاية الذكاء، وهو ما تبدو عليه الكوميديا السوداء. في فيلم كوبريك A Clockwork Orange، اقتحم أليكس منزل امرأة مسنّة كانت تمارس الرياضة في غرفة مليئة بالقطع الفنيّة الحديثة، أغلبها خليعة وإيروتيكيّة، حاولت المرأة ضرب أليكس بتمثال نصفي لبيتهوفن، في حين أمسك أليكس بقطعة فنيّة حديثة، وبدأ الشجار بالقطعتين على وقع سيمفونيّة بيتهوفن التاسعة، الفنّ الحديث ضدّ الفن الكلاسيكي.
لقطة فيلم A Clockwork Orange
هل الكوميديا بذاتها فنّ؟
تبدو أقرب إلى ذلك، لنقل أن الحسّ الفكاهيّ موهبة. لكن ما إن يُمنح إطارا فنيّا إلا ويغدو عملا نسمه بالكوميدي. والمبدعون والأذكياء ذوي الحسّ الفكاهيّ على ندرتهم، يحوزون على سحر خاص، مثل فولتير ومارك توين. الحسّ الفكاهيّ شيء لا يمكن تعلمه، ولم يدرج في الأذهان وصف المضحكين والكوميديين بالذكاء. ولو أن للذكاء سمة كوميديّة عندما يقترن بالغدر والخداع، كما يروي الانسان بفلكلوره القصصي عن تصرّفات الثعلب الذكيّة، الذي يبدو أن لديه ذكاءً يخرجه قليلا من سياق طبيعة الحيوانات وسلوكياتها الاعتيادية، لهذا ربط الثعلب كثيرا بالشياطين بمعتقدات عدد من الشعوب[4]. ولو كان لنا أن نتساءل قائلين: هل يمكن للروبوت (الذكاء الاصطناعيّ) أن يكون مضحكا وذا حسّ فكاهيّ؟ قد نتخيّل أي ابداع للذكاء الصناعيّ، إلا الإضحاك والكوميديا، يصعب تصوّر أن شيئا في غاية الإتقان والدقّة، قد يخرج عن السياق المصمّم له. ولو تخيّلت وسيلة لاختبار وفحص انسان آلي، إذا كان روبوتا (ذكاء اصطناعي) أم لا، لاخترت الضحك والإضحاك، بدلا من سلسلة الأسئلة المنطقيّة، التي تعمل للكشف عن البشر الآليين، كما شاهدناها مثلاً، في فيلم Blade Runner (1982).
إن أردنا، كيف يمكن أن ينتج الذكاء الاصطناعي الكوميديا والنكت؟ ما ينتج عن الذكاء الاصطناعي عادة، معطيات تستند إلى منطق مستخلص من الخوارزميات، وبيانات يمكن تحليلها للوصول إلى استنتاجات وتوقعات منطقية، ما يجعله قادراً على معالجة مشاعر مثل الحزن، وإن كان بدرجات محددة. فالحزن يمكن توقّعه وفهم أسبابه، بينما يظل الحسّ الفكاهي لغزاً يصعب التنبؤ به، إذ يعتمد على عنصر المفاجأة الذي يولّد الضحك. لا يمكن بناء قصة كوميدية على حدث واحد يتطور بشكل متسارع، مثل كرة الثلج التي تكبر تدريجيًا، كما يحدث في حالات الحزن. ففي حين يعتمد الحزن على سلسلة من التطورات التي يمكن التنبؤ بها وتراكم المشاعر، فإن الكوميديا تقوم على سلسلة من المواقف المضحكة التي إذا توقفت، زال أثرها سريعًا. هذا يتناقض مع الحزن الذي يظل قائمًا بعمق وبُعد زمني. للكوميديا طابع ابتكاريّ أكثر من الحزن، ما هو مُحزن عند شعب ما، حتما محزن عند باقي الشعوب. لكن ما هو مضحك عند شعب ما، قد لا يُضحك شعوبا أخرى بالدرجة نفسها. وقد تزداد المسألة تعقيدا، فالنكتة يتفاوت مفعولها من راوي الى آخر. ومفهوم ما هو مضحك أوسع بكثير من ما هو محزن. ما هو محزن يُبنى ضمن قصّة أو حكاية، في حين أن ما هو مضحك يمكن أن يكون تصرّفا أو تجسيدا، شيء لحظيّ لا امتداد منطقيّ له. ومن خلال ذلك، قد نتخيّل الذكاء الاصطناعي يبني حكاية أو حدثا كوميديّا، لكنه لن يكون إلا اجترار أو استنساخ لصيغ فكاهيّة سابقة. من يملك حسّا فكاهيّا لا يستطيع أن يعلمها لغيره، بل إنه لا يملك لها معرفة ولا نتخيّل أن ينتهي حسّه الفكاهيّ، يمكن فقط أن نتخيّل روبوتا ذو حسّ فكاهيّ، شريطة استقباله البيانات مثل الانسان، بحواسه وانتباهه لردود الأفعال والتلميحات، و ماينتجه من تفاعل خاص ومباشر. الذكاء الاصطناعي يعتمد على المحاكاة، وتعتمد الكوميديا على الإبداع.
الضحك
الضحك استجابة طبيعية للفرح أو المفارقات. لقد اهتمت الأدبيات البشرية بعلاقة الضحك بالمفارقات، حيث يُعتبر الضحك في بعض الثقافات، مثل الثقافة الروسية، دليلاً على قلة الأدب إذا كان بلا سبب. لأن الضحك فعل تفاعلي، فإن رواة النكت قد يضحكون أكثر من المستمعين. لكن أكثر النكات تأثيرًا هي تلك التي تثير ضحك المتلقي دون حاجة لتفاعل من الراوي. من جهة أخرى، فإن سرد النكات كتابةً يكون تحديًا، إذ تكون أكثر فعالية عندما تُروى شفهياً من قِبل شخص يتمتع بقدرة على الأداء، حيث تُعزز نبرات الصوت وحركات الجسم من التجربة. يبدو أن للضحك جذورًا عميقة في النفس البشرية، ورغم فهمنا لكون الضحك والنكات أفعالًا تفاعلية، إلا أن نقلها في إطار محدود، مثل النص المكتوب، يُعد مهمة صعبة، كما تفعله عبارات مارك توين بكتبه. وكم تبدو العبارات المضحكة والطريفة عميقة بلسان الفلاسفة، الذين يقلّ عندهم الطابع الكوميدي، إلا من باب النقد، و تكون لاذعة وبليغة بامتياز، مثل عبارات نيتشه الناقدة للألمان والعبارات السياسيّة اللاذعة للأديب والفيلسوف الفرنسي فولتير. ولفهم الغاية لمثل تلك العبارات "يمكن وضع حدّ فاصل بين النقد والإهانة المباشرة، يكمن الاختلاف في ذكاء التقديم الذي يعتبر سمة هامة للنقد إن هذه حقيقة نفسية و ليست تقليدا أدبيا. نستطيع أن نتحدّى أو نشتم الأشياء التي نخافها لكننا لا نضحك عليها. أن تضحك على شيء دليل على إحساس الضاحك بالتفوّق" [2]
الضحك شعور أم فعل؟
هل سمعت أحدهم يقول (دون أن يضحك فعلاً) : أضحكني قول فلان، أو ضحكت من تصرف ذاك؟ ولو أنه فعليّا لم يضحك، أي لم يصدر ذلك الانفعال والذي نسمّيه الضحك. هل يصحّ أن نقول بأن الإنسان يضحك في قلبه؟ (من داخله)، عدا عن حالة الرغبة بالتعبير عن الفرح والابتهاج، بقوله أنه ضحك، دون أن يصدر منه ذلك التفاعل، كإثبات وجود الفرح والابتهاج بضحكة افتراضيّة. كثيرا ما يعبّر الضحك الافتراضي عن التندّر، كردة فعل مناقضة لما هو مفترض، أو ضحك يحمل طابع التفاعل مع الكوميديا السوداء، "ضحكت في داخلي" و "أنا من داخلي أضحك"، هل هو ضحك حقيقيّ؟ وهل خلق تفاعلا كيميائيا داخل الجسد، بما يجسّده من شعور كما يفعل الحزن وغيره من المشاعر. الضحك وما يمثله من تفاعل وانفعال (شعور)، يحمل طابعا أكثر فجائيّة ولحظيّة من الحزن، الذي يبدو أحب كثيمة يتم تناولها بالابداعات البشريّة، من قصص وأشعار وخرافات. لحظات الحزن أطول أمدا من لحظات الشعور بالضحك، لذا يمكن تأملها ووصفها أكثر. في حين يصعب الإمساك بلحظات الشعور بالضحك، وبالتالي تأملها. كأن الحزن صورة ساكنة في حين يبدو الضحك صورة متحرّكة وخاطفة.
"إذا ضحك المرء فعلى الآخرين، وإذا بكى فعلى نفسه"
مثل هنديّ [3]
جذور الضحك، متى ضحك الإنسان أو مرة؟
هل تعلّم الانسان الضحك، ومعها تعلّم ما هو مضحك (الكوميديا)؟ يسهل إضحاك الأطفال أكثر من غيرهم، ويسهل إبهارهم و خداعهم، وكأن هناك صلة بين عمر الإنسان وسهولة إضحاكه. أيملّ الانسان مما كان يضحكه؟ وتزداد صعوبة إضحاكه وتقلّ بتقدّم الانسان بالعمر؟ كأن في الأمر خدعة! كأن ما يضحك الانسان ليس إلا شيئا نجح بخداعه. يمكننا القول بأنّ الضحك يحمل شيئا من بقايا طفولتنا. ولنا أن نسأل باعتباطيّة، كيف سيضحك الروبوت لأوّل مرة وهو لم يكن طفلا في يوم ما؟
الختام: هل الحس الفكاهي ملَكة؟
كيف لصاحب الحسّ الفكاهي معرفة ما يضحك الناس؟ وكأنه فهم لنفسيّات البشر وتفكيرهم. ولكونها -كما سنفترض- مَلكة، فهي ليست قائمة على سلسلة من العمليّات التحليليّة وتنتهي باستنباط دقيق، بل إنها أقرب إلى الحدس. لهذا يمكننا القول بأن من يملك حسّا فكاهيّا، لديه حدس كوميديّ دقيق أكثر من غيره.
يظل ما هو مضحك (الكوميديا) موضوع يصعب فهمه وتناوله. يمكن اسقاط أوصاف كثيرة لوصفه، ومن ثم دراسته. كأن نتخيّل أن الكوميديا عمل يحاكي الجانب الخلفيّ لتفكيرنا، والجانب الذي لانرغب أن يمثلنا ونُعرف به ونُختزل في داخله. ولكنه سيظل جانبا نحبّ من وقت لآخر الهرب إليه، كمساحة مريحة من ثقل وعبء الحياة وجديتها.
---------------------
الهوامش:
[1] ليليان هيرلاندز، ج. د. بيرسي، ستيرلنج أ. براون، ترجمة محمد الجورا، دار الحقائق للطباعة والنشر والتوزيع.
[2] نفس المصدر السابق.
[3] روحي البعلبكي، موسوعة روائع الحكمة والأقوال الخالدة، بيروت: دار العلم للملايين.
[4] مارتن والن، (٢٠١٠)، الثعلب التاريخ الطبيعي والثقافي، ترجمة ريم الذوادي، أبوظبي: كلمة للنشر والتوزيع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق