الأربعاء، 14 أبريل 2021

أن تعرف قبل أن تشعر بما هو جميل بالفعل

 من أين جاء "ايمانويل كنت" بالمعرفة؟ أو لنقل الرواد الأوائل الذين تحدثوا عن الجمالية؟ كان شيئا ملفتا أن يُعتبر الجمالية معرفة جمال شيء ما. كيف تعرف أنك تعرف قبليّا (تحكم قبليّا) على شيء ما بأنّه جميل وكأن هذه المعرفة نبعت خالية من الحواس. كما أقر "كَنت" بأنّ ليس كل معرفة هي نابعة وصادرة فقط من الحواس (التجربة) بل إن هنالك معرفة قبليّة (قبل أي تجربة) لكن كيف يمكن فصل تأثير الحواس على الحكم بالجمال؟ وهو أكثر شيء ارتبط وجدانيّا به؛ أحكامنا بأن هذا جميل نابعة كثيرا أو متأثرّة -كما نتصوّر- من تجربة سابقة لشيء اعتبرناه جميلا.  



أنا والقرية


لنرى الجمال بعين الفنّان/الرسام:

مالذي جعل شاغال يرسم الوجه  باللون الأخضر في لوحة "أنا والقرية" (1911) ؟ هل كان يعرف مسبقا أن شكله الأخضر سيكون أجمل؟ أم أنه شعر بأنّه سيكون كذلك؟ ان كان قد شعر، فهذا يعني أننا نتحدث عن معرفة بالحواس أو تجربة سابقة وإن كان لا هذا يعني أنه حكم نابع من معرفة قبليّة يبنى على معطيات عقليّة لا حسيّة. بعيدا عن الوجه الأخضر والذي لم يعتد الناس رؤيته ويصعب تصوّر اعجاب الناس به وفق معرفة قبليّة -الوجه المخضرّ مثل المزرق يشير الى الاختناق-. لنتذكّر (قسم الإخوة هوراس) (1784) لجاك لويس دافيد، ذلك الشكل المهيب من التضامن الأخويّ والذي يوحي بقسم الموت في سبيل مبادئ صارمة تشبه الملامح والخطوط في اللوحة نفسها. خمن دافيد أن ذلك سيعجب الجميع ولا شكّ. الموضوع مغري ومحفّز سبق وأن أُختبرت فيه مشاعر الناس لهذا كان سهلا أن يخمن ما سيعجب الجميع في صالون باريس وعندما لاقت اعجاب الجميع اشترى لويس السادس عشر ملك فرنسا اللوحة. 

 

 

التوفيق بين المهنة والفنّ:

 هل المصمّم الداخلي فنّان أم حرفيّ ماهر؟ هل يصمّم البيوت بناء على ما يعجبه أو على ما يعجب الآخرين؟ انه لا يرسم ولا يخرج شعوره/احساسه كليّا. فهو حتما يراعي رغبة/اعجاب الآخرين. بصورة أخرى هو حرفيّ ماهر، هل يذكّرنا بالرسامين الذين يرسمون البورتريهات بناء على الطلبات ويعدّلون في اللوحة حسب رغبة الزبون؟ متخلين عن فردانيتهم في صالح مهنتهم ونعرف كم اختصم فنان (فنان) مع زبون حول الطريقة التي يرسم فيها البورتريه، وأشهرهم جاك لويس دافيد مع مدام ريكاميه ونقيض ذلك نجد بورتريهات لا حصر لها ولاتنتهي منتشرة وكثيرة كأنها صور فوتوغرافية من استديو تجاري بلا توقيع فقط توثيق كان من عمل رسامين وحرفيين بالدرجة الأولى. مع ذلك يمكننا أن نجزم بأنّ مصمما داخليا قد يكون ذلك الفنان الذي يخاصم الزبون -فرضا- في سبيل رؤيته وانفراده بحكمه بأنّ هذا الأنسب، الأجمل الخ ونعود الى السؤال بصيغة أخرى: المصمم هل يصمم أو يبني حكمه بالتصميم بأنّ هذا هو الأصح -يجب أن يكون كذلك- أم هذا هو الأجمل؟ نتحدّث عن جوانب وان كانت جمالية لكن المصمّم يطرحها كأشياء نابعة من معرفة -معرفة مهنيّة غالبا- تقول بأنّ هذا يجب أن يكون على هذا النحو، مثل نوع وشكل الإضاءة والتحكم بالمساحات يتحدّث على أنه الأصحّ لا الأجمل فحسب. على كلّ حال هو يملك مساحة ضيقة لرؤيته بسبب مراعاة زبون ما خلافا للرسام.

بالعصور القديمة كان الفنان (الحرفيّ) يرسم ويلوّن الآلهة ويختار الألوان التي ترمز اليها طلبا لرضاها، بناء على رمزيّة لون ما. لم يكن يخرج شيئا (يعبّر) عن نفسه. هو رهين مهنته وتقاليدها.

 

الفنان ببساطة يطرح الأفكار كأشياء أجمل وتكون نابعة من معرفة، ويسهل إدراك أنها ليست معرفة مهنية بل معرفة أعمق من ذلك بكثير ويتخطى معطيات الحواس.

 

(قسم الإخوة هوراس)

 

 

إتخاذ القرار:

الى أي مدى امتدّ ذلك الفراغ الشاسع والمجهول والذي احتاج الى إدراك ومعرفة ما حتّى يصل شاغال لاختيار اللون الأخضر ويختار أو لنقل يرسم دافيد لوحته؟ هل كان نابعا من قدرة العقل على تخمين الجمال وأثره أم أن شاغال استخدم نفسه/احساسه أكثر من تخمينه بأنّ الأخضر سيعجب الآخرين أم سيكون الأجمل؟ لقد راعى دافيد جانبا واضحا من الآخرين والنمط المحبّب اليهم وفق التجربة لكنه وحتما ملأ لوحته بشيء من المعرفة القبليّة أشياء خالية من أثر التجارب الحسيّة لهذا تولّد شيء كامل من هذه اللوحة (ولدت الكلاسيكيّة الجديدة) وتجدر الإشارة الى أن الزمن كان قد ترك لشاغال مساحة تجربة عقليّة وحسية أكبر مما لدى دافيد؛ قرأ شاغال وعرف وسمع عن الحركات الفنية الحديثة وتجاربها وآثارها، عرف تبدلات الفن بالزمان أكثر من دافيد. لهذا منحه موقعه الزمني افضليّة في اجتراح شكل/لون جديد لتصوير الجمال بصورة خالصة. بعبارة أخرى يمكن اعتبار الفنّ الجميل عمليّة قرار واختيار، ولو توغّلنا بالتفكير أكثر يمكن أن نفهم السبب الذي يمنع صنع آلة (ذكاء صناعي) لإنتاج أعمال فنيّة جميلة، لو حصل لكان الاختيار نابع من بيانات مدخلة (تجربة حسيّة بالنسبة للذكاء الصناعي) أي أنّه سيظل يدور في حلقة مفرغة لا يمكن الخروج منها ولا تتعدى مساحتها مساحة تلك البيانات. ولنتخيل الإنسان آلة والبيانات المدخلة فيه تجارب حسيّة يعني أن الفن الذي ينتجه نتاج تلك البيانات سيكون محدودا (كالآلة) . أما آلة (ذكاء صناعي) للقيام بحرفة؟ ممكن وأكثر بل إن هنالك آلات تقوم بذلك فعلا.

 

 

في سبيل المعرفة، مالذي يحتاجه الفن؟

يفشل الفنّ أحيانا عندما يكون مؤسسيّا؛ فيصبح لا شعوريا حرفة بحتة لها تقاليدها وتعاليمها المنمطة (خطّ انتاج) أو يكون مؤدلجا ومؤطرا بالكامل (خطابات رسميّة) مما يدفع الفنانين كثيرا الى خلق حركات أو توجهات للصدام معها وقد يخلق ذلك فنا صداميّا اعتباطيّة، غرضه الاصطدام لا أكثر. اللوحة والمقطع الموسيقي لهم مساحة لا يمكن أن تخلو من كل الاحتمالات حتّى أشد اللوحات عنجهيّة (الأعمال الجريئة) لن تخرج من طور مراعاة شيء ما حول المتلقّي. حتى إفرازات الانسان  أصبحت عملا فنيّا!* ،عُرض بناء على تجربة وخبرة حب الناس وتطلعهم لكل ماهو ثائر ومستكشِف وجديد ومستعدون أن يعذروا أي أحد طالما أن غايته كذلك. لهذا كانت المدارس خيارا أفضل من الأكاديميات، فهي خلقت تقاليد مرنة وساهم إرثها في أثراء رؤيتها الخاصة أكثر ولأنها مدرسة، شبه افتراضيّة وليست أكاديمية (مقرات، وظائف، بيروقراطيّة الخ) أمكن الخروج منها بمرونة وبشكل بناء دون أي حاجة لكسر شيء ما.  

 


------------------------------

* الحديث لا ينتهي عن فصل العمل الفنّي عن الجمال؛ لو اعتبرنا أن الفنّ ينتج الجمال هل كلّ عمل فنّي جميل؟ وعندما نقول عمل فني جميل أيعني أنه عمل متفرّد؟ طالما أن العديد من الأعمال يمكن اعتبارها جميلة مثل مُنتجات الحرفيين وما تنتجه خطوط الانتاج الآلية من تحف إذ يمكن اعتبار ذلك الجمال جمالا عمليا لا فنيّا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق