لم يعد يعرف، أيعلمون بأنه يعرف أمرهم؟
لا يتذكر كيف انتهى به المطاف للعيش بينهم. كلّ ما يدور في البيت على أنه منهم. أحيانا لم يكن يفهم شعوره الخافت بأنّه ليس واحدا منهم، حتما لم يمكن ليتذكّر يوم ولادته إلا أنه حاول الحفر عميقا للوصول لأبعد نقطة. ما لذي دعاه ليحفر أكثر؟ كلّ شيء كان على ما يرام الى أن بدأت ذاكرته تستيقظ، وتلملم شتات ما في جعبتها، كقطع لعبة " البازل" المبعثرة. في بالذاكرة : يد، كرسيّ، نصف وجه يحدق ويوحي بأنّه كان متفاجأ من تعابير نصفه الثاني بخفاء، خمّن بأنّ قطعة نصف الوجه الآخر لابدّ وأنها ضحكة ساخرة أو ردّة فعل لحدث عابر. مع الأيام بدأت ذكرياته تفاجئه أكثر، وأدرك أنّ ذكرياته تحاول إخباره وإيقاظه بحذر كي لا ينتبه الجميع.
يوما على طاولة الطعام، قال له أحدهم: "جلدك مقشعرّ" مع ابتسامة ترقب، يجيب : " لا أدري، أوه أكره جسدي يتصنّع الشعور بالبرد"، لم يكن عسيراً إغلاق تلك الاستفسارات بجواب سريع وابتسامة هروب. لكنه بدأ يخشى جسده. نبضات قلبه، مسامات جلده، رعشة يده... كلها كانت تحاول إخباره بشيء. كان الحديث معهم باسترسال وإسهاب ينسيه ويشعره بأمان خافت. "ناولني ذاك" قالها بصوت متسرّع كمحاولة للهرب، يجيبه أحد منهم " أيهم؟" فيقول سريعا وكأنه يحاول تدارك موقف ما " ذاك فوق الأدراج أنت أطول منّي، ناولنيها" يعطيه أياها مع ابتسامة كأنها تقول: وماذا بعد، يمشي بهدوء يثقله خارج المنزل قائلا " سأعود قريبا" ويلوّح لآخر، ويمشي أسرع بعد أن زال ثقله كأن قدميه تقولان له: كان ذلك وشيكا!
مما الخوف والهرب؟ لم يفهم، إلا أنه اعتبر الخوف نذير ينبئه، لا شعورا يتوهمه.
الأيام تمضي مكررة معها تلك المواقف. انتابه قلق بأنهم يشكّون بأمره، بعد أن عرفهم وأنهم لم يكونوا إلا شيئا متنكّرا يرتدي ما يشبه هيئته، هكذا انتهى به القلق والتفكير نحوهم. احساسه بأن عيشه لم يعد إلا أداءً وخدعة يرهقه أكثر "لن يطول ذلك الى الأبد ولو عرفوا لانتهى أمري وعرفت ما هُم". لم يصدق، كان محاطا بعدد منهم في منزل واحد. رغم اهتمامهم الذي يحاصره كان يعرف بأنّ تظاهره سيحميه منهم. ذكرياته وجسده كانا يعرفان كلّ شيء وهو بالكاد يعرف أي شيء. وكلما استيقظت ذكرى جديدة، كان الهواء يثقل من حوله والمكان يضيق أكثر، لكنه ظلّ يطمئن نفسه "لا يعرفون بأني أعرف أمرهم، وما ظلّ كذلك سيبقى في مأمن منهم ولن يفعلوا شيئا". "يمكن أن أستمر كذلك الى الأبد" قالها يحدّث نفسه، وفكّر "سأظلّ في مأمن"، لكن بعد إلحاح ذاكرته وجسده وأفكاره التي بدأت تخبره، بأنهم يعلمون ما يخفيه عنهم، إلا أنهم يتظاهرون ليكيدوا له! كان ذلك التفكير يزعجه ويرعبه. بل إنه شعر بأنّ عقله يتفتّت من هول التفكير، وافتقد الشعور المريح بأن تظاهره ينطلي عليهم. لكنهم الآن يحاصرونه بشكوكه التي بدأت المواقف والأحداث تلوّح بها، "كلهم يعرفون .. كلهم يعرفون" كان يضرب عقله بهذه الكلمات. لم يعد يطيق ذلك. ولا يدري كيف يقوى على الاستمرار وتعجّب من قدرتهم على الاستمرار بتعذيبه وتظاهرهم بأنهم لا يعرفون بأنه على علم بأمرهم. وبعد التفكير بدأ نداء خفيّ يوحي إليه ويخبره بأنهم يتعمدون تعذيبه وسيستمرون بأقنعتهم يتظاهرون أمامه إلى الأبد ولن يكشفوا أمرهم له. ومحال أن يطمئن حتّى الى وجوده محاطا بينهم في صورتهم الجماعيّة المعلقة على الجدار، الى الأبد، أو -فكّر- إلى أن يكبر ويذكر أكثر ولا يدري حقّا، إن كان يودّ أن يذكر أو ينسى