هل يمكن اعتبار نيون جينيسيس ايفانجيليون (1995) مسك الختام لسلسلة أعمال الميكا؟
في الذاكرة: مازنجر (1972)، جونكر (1972)، جرندايزر (1975)، البطل خماسي (1976) وغيرهم الكثير، أعمال ميكا كلاسيكية حازت مكانة كبرى لكن سرعان ما وصلت تلك إلى مرحلة التشبّع وتكرار الأفكار.
رواج هذه الأعمال تزامن مع موجة البحث العلمي المبكر عن الكائنات الفضائية، و القلق من احتمال وقوع غزو خارجي أو نهاية كارثية للعالم، خصوصًا في ظل الحرب الباردة والتجارب النوويّة.
نيون جينيسيس ايفانجيليون أو " انجيل عصر جديد"
الى حدّ ما، يمكن اعتبار العمل ذروة الميكا في إضافة الأفكار ؛ أكثر من كل ما أضافته الأعمال السابقة. يحظى العمل بتقدير واسع حتى من الذين لا يتابعون الميكا بشغف، وله حظور ملفت بالدراسات والمقالات الجديّة.
ما الذي نجده فيه ولا نجده في غيره؟ مع أن العمل لم يكن محبّبا على غرار سلسلة الأعمال الكلاسيكية ولم يكن شينجي (بطل القصة) مقرّبا الى قلوب المشاهدين، و على ما شاب نهايته بالفيلم من غموض وتداخل مبالغ فيه، للعمل أوجه تميّزه عن غيره.
بدايات مربكة
لعل أول ما يطرأ على ذاكرة من شاهد العمل، الجمود والكآبة التي تسكنه؛ شعور يبدأ في أولى الحلقات. مشاهد مطوّلة وجامدة، أحيانا يكسرها حدث عابر وذو دلالة مفاجئة. شينجي (بطل العمل) يظهر بلا تمهيد، وقيادته للآلي تتم بلا تحضيرٍ كافٍ. لقاء عابِر مع والده يُثير أسئلة لا إجابات. ظهور “الملائكة” مفاجئ ومقلق. قلق الشخصيات وضجرهم ينساب إليك فتحسّ بأن ثمة معارك نفسية تنبعث من الداخل ومن ماضي لم يروى وأحمال تثقل أذهانهم. بخلاف الأعمال السابقة، كان القلق ينصبّ من الغزو الخارجي وتهديده.
عن الرسم
أحيانا لا توحي صرامة خطوط الرسم بإمكانية حدوث أي حركة تكسر المشهد. التفاصيل المسلية قليلة، ومساحات الفراغ شاسعة، بعض الزوايا والمشاهد الخالية توحي بالإهمال والترك، كأن الجمود مقصود لإبراز خواء العالم. ومع ذلك الرسم ليس مبسطا؛ فالتلاعب بالزوايا والألوان الصارخة يبرز عناصر معينة، تضيف شعورًا قويًا يتناقض مع جمود الرسم.
ألوان باهتة وضبابية تخلو من الحياة تعكس المشهد
اللقطات المطوّلة في العمل تخلق شعورًا بالترقّب والملل، مشابهة لما نراه في الأفلام السينمائيّة. مصمم هذه اللقطات يدرك أن المشاعر التي تنتاب المشاهد تحتاج إلى وقت لتتكوّن، فتوقيت قطع المشهد وطريقة الانتقال تلعب دورًا مهمًا في بناء المعنى. مونتاج هذا العمل يتميز بشيء من الشاعريّة بحثا عن معنى.
الأسماء
"الملائكة"، اسم يطلق على المخلوقات الغازية! ما يعكس تساؤلا إن كان البشر هم الطرف الشرير بالفعل. وبقدر غموض الاسم يأتي غموض المكان الذي أتوا منه. عنوان العمل "انجيل عصر جديد" يكتسب عمق دلالته من شخصيّة اسمها "آدم"، تتمحور حوله أجزاء مهمة من القصة. "حقل الإرهاب المطلق" وهي طاقة دفاعية وهجوميّة يطلقها الغزاة. لا يبدو بأن الأسماء اختلقت لجذب الانتباه فحسب؛ بل لتوصيل دلالات دقيقة.
غموض وحذر
بأعمال الميكا السابقة الغزاة يشبهون بعضهم، وحوش آليّة لها هيئة شبه بشريّة. بهذا العمل يمكن اطلاق عبارة "الشيء" على الغزاة؛ إذ يفتقرون إلى هيكل بشري ثابت أو إطار محدد. ويتطور شكلهم في كل مرة، ليقترب أكثر من هدفه. هذا التطور السريع يثير قلق الشخصيات، وينقل شعورًا مماثلًا إلى المتلقي. على عكس الأعمال القديمة، حيث كان اقتراب العدو متكررًا وروتينيًا، هنا يظهر العدو وكأنه يكسر الحواجز والمسافات، مما يزيد من التوتر والإحساس بالخطر.
ويمكنك الشعور بالقلق الذي انتاب العالم من وجود مدينة مخبّأة أسفل المدينة! في المدينة مطلّ بزاوية الغروب يشبه كثيرا مشاهد الانمي القديمة لشخصين يتأملان الغروب بسكينة بحثا عن السلام. بعض المنشآت يظهر عليها الحذر؛ أنشأت تحسبا لشيء ما. الكثير من الشخصيات عباراتها توحي بالملل من الهرب المستمر من تهديد مقلق لا يصل حدّ الفزع، مما يجعل التبلّد يسيطر على تعابيرهم، بما في ذلك العالم المسؤول عن مواجهة الغزاة (والد شينجي)، الذي بالكاد يظهر عليه القلق بشكل يكسر جموده.
الأسرار في القصة مصممة بعناية؛ فهي تخلق فراغًا يخلق انبعاجا على سلوك الشخصيات وتصرفاتهم.
بين الواقعيّة والخيال
من يذكر التجارب العلميّة بأعمال الميكا؟ مثل تجربة التحام الأسلحة الطائرة بجرندايزر واليويو الكهرومغناطيسي في البطل خماسي. في ايفنجيليون التجارب أكثر تعقيدا وعلمية. ومعدّلات النجاح ضئيلة للغاية، بما يتماشى مع القلق والغموض المحيط بالأحداث.
مصطلح الحاسوب الحيوي يتألّق كإضافة فريدة؛ فالمفاجأة في الدمج بين البيولوجيا والتكنولوجيا تقترن بازدواجية تُلقي بظلال مثيرة وريبة على طبيعة الكائنات والآليين وأجهزة الحاسوب.
وعلى صعيد الواقعيّة، نرى القيود التي تحدّ من استخدامات الآليين وما تمثله من تحديات مقلقة؛ حاجة الآليين لكابلات الطاقة ولا يقاتلون دونها الا لدقائق معدودة، مثل الرجل الحديدي لا يستطيع القتال إلا فترة محدودة. ولا يطيرون بصورة مطلقة مثل الميكا الكلاسكية. أو أسلحة لا محدودة من أشعات الليزر. الآليون في أعمال الكلاسيكية من ابداع الخيال، وفي هذا العمل أقرب للخيال العلميّ.
لا يحمل الآليون الذين يتصدون للغزاة هيئة محببة
الخير والأمل
كانت أعمال الميكا الكلاسيكية تتغنى بأعمال الخير البطوليّة وتحثّ على الأمل. نهاية الحلقات مريحة -كأنها تنهيدة-، وقاعدة الآليين المدافعين عن الأرض تمثّل الخير المطلق بمواجهة الشرّ، كتبت لنحبّ أبطالها المخلصين، وأقوالهم التي تحثّ على فعل الخير بعيدا عن النقاش في قضايا الأخلاق (الإيتيقا). لكن الخير في ايفانجيليون لا يخلو من الريبة، من مسمّى "الملائكة" للغزاة الى ما يحيط بالقاعدة (نيرف) من غموض يكتنف مشاريعها و أهدافها السريّة. والعمل يحوي كمّا من النقاشات في قضايا الخير والشر.
بخلاف أبطال الميكا، كان شينجي مكتئبا في أغلب حالاته وأشهر صوره بالعمل
بالختام: هل من عمل بعده؟
بقدر ما فتح العمل أبعادا وتفاصيلا بهذا المجال مثلا، الآلات الحيويّة، الغزاة وطبيعتهم المبهمة، الأبعاد النفسيّة للأحداث وأثرها على الشخصيّات، إلا أنه أغلق الباب كما يبدو على من بعده! هل نال العمل صفته الختاميّة لتوقيت صدوره أو لما قدّمه من أفكار؟ أم هل تجاوزت اهتمامات المشاهدين عالم الميكا وغزاة الفضاء؟ يبدو أن ايفانجيليون والزمن تقاطعا معا، ليكتبا نهاية حقبة لا تنسى من أعمال الميكا البطوليّة.






