*
كان لها هدير يشبه غرف التبريد المتجمدة. آلة صممت للأشخاص المحكوم عليهم بالدخول في جوفها لتقرير مصيرهم.
عدد من المسؤولين تواجدوا ببزاتهم الرسمية، لم يكن الجو مؤهلا لمثل هذه الملابس الثقيلة والمزعجة، ما أكثر الزخارف فيها وكأنها تصر على إعطاء المشهد شيئا من الأبهة ولو كانت مصنوعة من قطعة قماش ملونة. آمر وحدة الإعدام يتحدث مع السيد مندوب المحكمة بحديث جانبي وهو يشير إلى مكان بالخارج تماما. تعابيرهم لا تشبه المكان على الإطلاق وحدها بزة الآمر الرسمية توحي بأنه معني بما يحدث
" حاولت أن أفهمهم لكن للأسف كما تعلم الإجراءات معقدة، سبق وخاطبتهم لكن دون جدوى" قال الآمر وهو يميل بعيدا عن صاحبه دون أن يبعد يده عن ملامسة السيد برفق سارحا بنظراته بعيدا.
أجابه مندوب المحكمة " سمعت أن كل شيء سيتغير"
"أي تغيير؟" أجاب الآمر بهدوء وأضاف بعد سحب نفسه نحو المندوب وكأنه ممسك بعامود ثابت "اني أعرفهم جيّدا، لا جدوى منهم على الاطلاق" هكذا قال وهو مبتسم هيئته لا توحي بالأبهة لكن حضور تابعيه وعددهم يوحي بذلك.
بادله المندوب بابتسامة قائلا "ستتحسن الأحوال على كل حال" كان ثباته وهندامه ولبسه الأسود الأنيق مع كبر سنه والشيب في وجهه يوحي بالوقار وسيما الرحمة بادية على وجهة الأمر الذي جعلني أتوهم بأنهم كانوا يتحدثون عن تحسن احوالي
كان علي أن أدخل الآلة وهي بحجم حجرة صغيرة محمولة على عربة قديمة. صعدت الدرج للدخول إليها، كان قد تم الحكم علي بها وفي موكب بسيط مع عدد من الأزياء الرسمية تم اقتيادي. يمكنني الهرب لو أردت لكن الأيدي ستطالني حتما وتغير الحكم من ايداعي داخل الآلة المعدّة للانفجار بالمحكوم عليهم -ان هي انفجرت- إلى الإعدام شنقا. الكل يعرف بأن عددا كبيرا من المحكومين بها بل أغلبهم خرجوا منها سالمين عدا عن بعض الحوادث المؤسفة والتي كانت نتيجة خطأ ما. لهذا الكثيرون يرون أن الحكم بالبقاء في جوفها ٦ ساعات بانتظار انفجارها يعني النجاة حتما من الاعدام. الآلة صممت لتنفجر وفق إعدادات وخوارزميات يمكنها أن تقرر ما إذا كان المدان يستحق الموت أم لا. كل هذا لم يكن كافيا ليشعرني بالطمأنينة رغم الأوجه المطمئنة حولي. فكرت بالهرب لكن ذلك كان سيعني تبديل الحكم للموت قطعا. لكن فكرة التواجد في جوف آلة كأنها لعبة متاهات مصغرة من الداخل مليئة بكومة معقدة من القطع المتحركة وبأسلاك وتروس وبكرات مسننة وأذرع معدنية ومفاتيح من عدة أشكال وأزرة مضاءة بمختلف الألوان ومنافذ باعثة للحرارة والضجيج والاهتزاز كلها حشرت داخل جوفها بشكل معقد بحيث يبدو أن قطع سلك بسيط منها كافي لإبطالها. أي جرذ كان يمكنه انقاذي، لكن أي جرذ كان سيلج داخل جوفها مع كائن يفوق حجمه عشرات المرات.
بعد أن تمنوا لي التوفيق أغلقوا الباب علي لأبقى ٦ ساعات يفترض أنها صالحة للعيش دون أكل أو شرب لأترك فيها وحيدا.
الآلة من الخارج مكعبة الشكل تقريبا دون أي لمسة فنية، و بلون مهترئ عتيق دون نوافذ، عدى عن فتحات موصولة يبدو أنها صنعت لتمرير الهواء البارد من جهاز التكييف المثبت عليها أو منافذ لدخول الأسلاك الكبيرة وهي تثير الخوف لحجمها وشكلها الغريب، تبدو وكأنها موجودة لحقن الآلة بالطاقة. شعرت بأنها كائن معدني أكثر من كونها آلة. بالداخل تبدو أصغر بكثير من الخارج، بسبب متاهة الأجهزة المعقدة والمرصوصة بالجوانب لخلق أي مساحة فارغة وهي ممر فارغ لا يكفي للتمدد بسلام ويوجد كرسي بالعمق وجهاز توقيت يحسب الوقت المتبقّي
الكل واثق من خروجي حيا لأنهم ينظرون الي من الخارج
اللعنة تذكرت أحد المنسوبين يقول بأن الفنيين أدخلوا بعض التحسينات في الآلة! أي أنها قد تعمل بعكس ماعتادوا عليه. كلمته تلك قتلتني. الآن أنا بداخلها كجثة باردة. كل شيء بارد لا ينبغي أن ترتفع حرارة الآلة وإلا ستنفجر، ينبغي أن لا تنفجر إلا وفق ما هو مخطط لها. قبل الصعود شاهدت عددا من الفنيين يعنون بجهاز التكييف، وجوده ظروري لعمل الآلة. لم يدخلوني إلا بعد أن وقع جميعهم على ورقة الفحص وأن كل شيء سليم لتعمل الآلة كما يجب.
الكرسي بارد للغاية، الأرقام تشير إلى أشياء لا قيمة لها لكن وجودها يوحي بأن كل شيء على ما يرام. بعض جوانب الآلة كتب عليها المحكومين قبلي ماكان يفترض أن تكون آخر كلماتهم. لم يتركوا لي ما يكفي من الفراغ، آخرها كتبت قبل أعوام، أصبح الجميع ينظر الى هذه الآلة على أنها لا تعمل. لم يحدث وأن انفجرت بمحكوم مثلي من قبل. لكني سمعت عن حوادث يذكرونها لآلات انفجرت بسبب أعطال فنية ومرات أقل انفجرت كما يجب.
الكثير تحدث بأن الآلة لا قيمة لها وأنها خدعة ذلك أن المؤسسة المصنعة تحلب الأموال لقاء تشغيلها والعناية بها وصنع بديل عن كل واحدة تنفجر بنجاح. فساد هذه المؤسسة يجعلنا نعيش! هكذا هي الأمور والخروج من الآلة حيا يعني اسقاط كل الأحكام عني
لهذا الهرب كان مخزيا والهرب سيجعل مني اضحوكة ويلحق بي العار ناهيك عن كوني أحمق استبدل حكم الإعدام المحتمل بإعدام مؤكد.
الكرسي البارد منعني من الذهاب أبعد بالتفكير. الباب مغلق بإحكام ولا شك أن الجميع بعيدون من حولي ويحاولون امضاء وقت فراغهم على مسافة أمان كافية، رغم استهانتهم بالآلة لا أحد منهم يقترب.
صوت هدير الآلة يخنقني. يشبه الغضب، الحديد والمعادن بدأت تزمجر. بدأت أشعر بغضب الأشياء من حولي، كأنها فعلا قرأت بيانات قضيتي وأن كلامهم عن الخوارزميات حقيقة! لم أكن مجرما لكن التهم أمكن إثباتها ورقيّا.
أحاول تغطية فمي وأنفي فالهواء البارد بدأ يحفر في حلقي. أذرع حديدية تدير تروسا مسننة بانتظام واحكام لم تقلقني حركتها الرتيبة إلا بعد أن شعرت بأن رتم حركتها بدأ بالتغيير! خطب ما أصاب الآلة والتي اشتهرت بأنها لا تعمل كثيرا كما يجب وبدلا من انفجارها بالنهاية انفجرت عدة مرات بسبب أعطال كهذه دون إكمال مهمتها بالحكم.
بالجهة الأخرى بدت احدى القطع منحلة أكثر من اللازم، لم تكن كذلك. قطعة ممسكة بذراع يدير أحد التروس والذي بدا مائلا أكثر من غيره. حاولت احكام تثبيت القطعة بخوف لكن لعنة ما حلت بي، أصبحت أسوأ من السابق لاشك أن يدي ارتجفت أكثر من اللازم لهذا تخلخلت أكثر لم أعد أفرق بين اهتزازها واهتزاز يدي وقلبي. حركة الأذرع أصبحت أشد اختلافا!
شيء ما فعلته يدي، كنت واهما لم يكن الرتم إلا على حاله لكن تدخلي أفسد كل شيء، أهذه الأعطال التي يتحدثون عنها؟ كان الهواء المنفوث من أحد الأجهزة ساخنا، وجه الجهاز بتقاطيع أزرة التحكم والمفاتيح المضاءة تشبه وجها عابسا لن تحب التحديق به. الأسلاك من خلف هذا الوجه شدت بعناية وهي موصلة على ما يبدو لتغذيته ونفخه أكثر بحيث يبدو كالمدعي العام بوجهه المتجهم وهو من سيملأ صدر هذه الآلة لتنفجر بي.
لو أن اللمبة الحمراء تنطفئ لبدا الوجه أكثر قبولا. الاقتراب منه أصابني بالذعر، من خلفه وجوه وكومة لا تنتهي من الأجهزة المكدسة فوق بعضها. يمكنني رؤية بضع أسلاك منحلة بالداخل! "لا أحد يعبأُ بسلامة المواطنين ولا أحد يهتم" يبدو أن إحكامها يحتاج إلى جهد ما، لم تكن أوجه الفنيين الذين رأيتهم قبل دخولي لتوحي بأنهم على استعداد لشدها، ان كان مقدرا للآلة أن تنفجر فلا يهم إن كان بسبب عملها أم بسبب خلل يصعب اقتفاؤه وسط كل هذه الأشلاء.
اللعنة، هل علي أن أُعنى بالآلة مثل الأهبل بالداخل كي لا تنفجر بسبب اهمال هؤلاء الفنيين؟ للمرة الأولى شعرت برخص قيمة الأرواح عندهم.
الباب مغلق بإحكام ومقفل ولا يمكن لأي يد أن تحفر في تلك المعادن مخرجا خلال ٦ ساعات. ناهيك على أن شارات التحذير تملؤ الآلة، وهي تحذر من أن أي عبث قد يتسبب بانفجار الآلة لهذا دائما ما يشار بالتقارير الى أن سبب العطل الفني ناجم من عبث المحكومين بحياتهم.
كيف حافظ من نجى من المحكومين على رباطة جأشهم؟!
لمَ لم اسأل أي أحد منهم عن ما يجب فعله بمثل هذه الحالات.
هدير الآلة بات أشد ومفاتيح الإنارة التي كانت مطفأة باتت متوهجة بألوان مختلفة، ازدادت أزرة الأنوار المضاءة بشكل يثير الذعر، بالخصوص تلك الحمراء المصابة بالغبار، وكأنها تضيء للمرة الأولي! اذ أن الآلة كانت قد حوت عددا من المحكومين كلهم سلموا لكن لم تكن الحمراء مضاءة مع أحدهم. الكرسي أصبح أشد برودة والمكان أصبح باردا بشكل مرعب كأنه ثلاجة أموات.
الأصوات اختلفت، الأنوار كذلك، الاهتزازات، باتت أشد عنفا وقلبي يرجف صدري بشدة كأنه يحاول كسر بابه حتى يخرج مني. هو قد وجد نفسه حبيسا داخل جسدي.
حاولت ضرب الباب متجاهلا، الكتابة الحمراء والتي لم أفهم ما تعني إلا أن لونها يوحي بالمعنى
مرت ٤ ساعات، بقيت ساعتان، جلست على الكرسي جثة هامدة افترض أنها أنا. أمامي جهاز بجانبه قطعة نقدية. سمعتهم يقولون أن الآلة لا تنفجر إلا بعد أن يقوم هذا الجهاز (جهاز الطباعة) بطباعة ورقة تشير الى النتيجة، انفجار أو الى وجود خلل يحتم الانفجار أو بوجود انذار كاذب. الجهاز يخرج الورقة من فمه وكأنه يمد لسانه برسالة تقول "انفجار" ...
كان المحكومين يضعون قطعة النقد هذه على طرف فم الجهاز اذ أن سقوطها و رنينها على السطح المعدني يشير إلى أن الجهاز مد لسانه أخيرا ناطقا بالحكم. وهم ينتظرون هذا الرنين بخوف وقلق. وكم ماتوا (فزعا) لأن القطعة كانت تسقط أحيانا من طرف فم الجهاز بسبب عطسة أو اهتزاز الآلة أو بسبب عدم تثبيتها بعناية.
ثبتّ القطعة جيدا. لأنتظر الجهاز حتى أقطع لسانه حال خروجه لأقرأ ما فيه
بقيت ساعة لا شك المكان هادئ بالخارج بعكس الصخب والعنف داخل هذه الآلة.
اربطة حذائي منحلة أميل لأشد الأربطة ... أسمع رنينا! يهتز قلبي، أدفع جذعي للأعلى لأرى ما انتهيت عليه دون أن أفهم شيئا، لم تعد أربطة أعصابي مشدودة بخلايا جسدي بإحكام وشراييني لم يعد الدم يتدفق فيها بعناية كما بالسابق وعظامي لم تعد مشدودة على مفاصلي بقوة حتى تحملني، عضلاتي باتت كالإسفنج، هشة من الضعف، وقلبي بات ينبض بالفراغ، لم يعد تفكيري قادرا على تشكيل شيء من أشياء متفرقة، لم يعد تفكيري جزءًا من أي شيء مني
لا أهتم وإن خرجت سالما لا شيء مما حدث فيني يمكن اصلاحه
فُتح الباب! يتفقد المسؤولون الآلة ويعيد الفنيون فحص الأجهزة. يوقعون على أوراق الفحص "كل شيء على ما يرام"
"هلا عزيز تهانينا كيف سارت الأمور؟ "
كان علي أن أدخل الآلة وهي بحجم حجرة صغيرة محمولة على عربة قديمة. صعدت الدرج للدخول إليها، كان قد تم الحكم علي بها وفي موكب بسيط مع عدد من الأزياء الرسمية تم اقتيادي. يمكنني الهرب لو أردت لكن الأيدي ستطالني حتما وتغير الحكم من ايداعي داخل الآلة المعدّة للانفجار بالمحكوم عليهم -ان هي انفجرت- إلى الإعدام شنقا. الكل يعرف بأن عددا كبيرا من المحكومين بها بل أغلبهم خرجوا منها سالمين عدا عن بعض الحوادث المؤسفة والتي كانت نتيجة خطأ ما. لهذا الكثيرون يرون أن الحكم بالبقاء في جوفها ٦ ساعات بانتظار انفجارها يعني النجاة حتما من الاعدام. الآلة صممت لتنفجر وفق إعدادات وخوارزميات يمكنها أن تقرر ما إذا كان المدان يستحق الموت أم لا. كل هذا لم يكن كافيا ليشعرني بالطمأنينة رغم الأوجه المطمئنة حولي. فكرت بالهرب لكن ذلك كان سيعني تبديل الحكم للموت قطعا. لكن فكرة التواجد في جوف آلة كأنها لعبة متاهات مصغرة من الداخل مليئة بكومة معقدة من القطع المتحركة وبأسلاك وتروس وبكرات مسننة وأذرع معدنية ومفاتيح من عدة أشكال وأزرة مضاءة بمختلف الألوان ومنافذ باعثة للحرارة والضجيج والاهتزاز كلها حشرت داخل جوفها بشكل معقد بحيث يبدو أن قطع سلك بسيط منها كافي لإبطالها. أي جرذ كان يمكنه انقاذي، لكن أي جرذ كان سيلج داخل جوفها مع كائن يفوق حجمه عشرات المرات.
بعد أن تمنوا لي التوفيق أغلقوا الباب علي لأبقى ٦ ساعات يفترض أنها صالحة للعيش دون أكل أو شرب لأترك فيها وحيدا.
الآلة من الخارج مكعبة الشكل تقريبا دون أي لمسة فنية، و بلون مهترئ عتيق دون نوافذ، عدى عن فتحات موصولة يبدو أنها صنعت لتمرير الهواء البارد من جهاز التكييف المثبت عليها أو منافذ لدخول الأسلاك الكبيرة وهي تثير الخوف لحجمها وشكلها الغريب، تبدو وكأنها موجودة لحقن الآلة بالطاقة. شعرت بأنها كائن معدني أكثر من كونها آلة. بالداخل تبدو أصغر بكثير من الخارج، بسبب متاهة الأجهزة المعقدة والمرصوصة بالجوانب لخلق أي مساحة فارغة وهي ممر فارغ لا يكفي للتمدد بسلام ويوجد كرسي بالعمق وجهاز توقيت يحسب الوقت المتبقّي
الكل واثق من خروجي حيا لأنهم ينظرون الي من الخارج
اللعنة تذكرت أحد المنسوبين يقول بأن الفنيين أدخلوا بعض التحسينات في الآلة! أي أنها قد تعمل بعكس ماعتادوا عليه. كلمته تلك قتلتني. الآن أنا بداخلها كجثة باردة. كل شيء بارد لا ينبغي أن ترتفع حرارة الآلة وإلا ستنفجر، ينبغي أن لا تنفجر إلا وفق ما هو مخطط لها. قبل الصعود شاهدت عددا من الفنيين يعنون بجهاز التكييف، وجوده ظروري لعمل الآلة. لم يدخلوني إلا بعد أن وقع جميعهم على ورقة الفحص وأن كل شيء سليم لتعمل الآلة كما يجب.
الكرسي بارد للغاية، الأرقام تشير إلى أشياء لا قيمة لها لكن وجودها يوحي بأن كل شيء على ما يرام. بعض جوانب الآلة كتب عليها المحكومين قبلي ماكان يفترض أن تكون آخر كلماتهم. لم يتركوا لي ما يكفي من الفراغ، آخرها كتبت قبل أعوام، أصبح الجميع ينظر الى هذه الآلة على أنها لا تعمل. لم يحدث وأن انفجرت بمحكوم مثلي من قبل. لكني سمعت عن حوادث يذكرونها لآلات انفجرت بسبب أعطال فنية ومرات أقل انفجرت كما يجب.
الكثير تحدث بأن الآلة لا قيمة لها وأنها خدعة ذلك أن المؤسسة المصنعة تحلب الأموال لقاء تشغيلها والعناية بها وصنع بديل عن كل واحدة تنفجر بنجاح. فساد هذه المؤسسة يجعلنا نعيش! هكذا هي الأمور والخروج من الآلة حيا يعني اسقاط كل الأحكام عني
لهذا الهرب كان مخزيا والهرب سيجعل مني اضحوكة ويلحق بي العار ناهيك عن كوني أحمق استبدل حكم الإعدام المحتمل بإعدام مؤكد.
الكرسي البارد منعني من الذهاب أبعد بالتفكير. الباب مغلق بإحكام ولا شك أن الجميع بعيدون من حولي ويحاولون امضاء وقت فراغهم على مسافة أمان كافية، رغم استهانتهم بالآلة لا أحد منهم يقترب.
صوت هدير الآلة يخنقني. يشبه الغضب، الحديد والمعادن بدأت تزمجر. بدأت أشعر بغضب الأشياء من حولي، كأنها فعلا قرأت بيانات قضيتي وأن كلامهم عن الخوارزميات حقيقة! لم أكن مجرما لكن التهم أمكن إثباتها ورقيّا.
أحاول تغطية فمي وأنفي فالهواء البارد بدأ يحفر في حلقي. أذرع حديدية تدير تروسا مسننة بانتظام واحكام لم تقلقني حركتها الرتيبة إلا بعد أن شعرت بأن رتم حركتها بدأ بالتغيير! خطب ما أصاب الآلة والتي اشتهرت بأنها لا تعمل كثيرا كما يجب وبدلا من انفجارها بالنهاية انفجرت عدة مرات بسبب أعطال كهذه دون إكمال مهمتها بالحكم.
بالجهة الأخرى بدت احدى القطع منحلة أكثر من اللازم، لم تكن كذلك. قطعة ممسكة بذراع يدير أحد التروس والذي بدا مائلا أكثر من غيره. حاولت احكام تثبيت القطعة بخوف لكن لعنة ما حلت بي، أصبحت أسوأ من السابق لاشك أن يدي ارتجفت أكثر من اللازم لهذا تخلخلت أكثر لم أعد أفرق بين اهتزازها واهتزاز يدي وقلبي. حركة الأذرع أصبحت أشد اختلافا!
شيء ما فعلته يدي، كنت واهما لم يكن الرتم إلا على حاله لكن تدخلي أفسد كل شيء، أهذه الأعطال التي يتحدثون عنها؟ كان الهواء المنفوث من أحد الأجهزة ساخنا، وجه الجهاز بتقاطيع أزرة التحكم والمفاتيح المضاءة تشبه وجها عابسا لن تحب التحديق به. الأسلاك من خلف هذا الوجه شدت بعناية وهي موصلة على ما يبدو لتغذيته ونفخه أكثر بحيث يبدو كالمدعي العام بوجهه المتجهم وهو من سيملأ صدر هذه الآلة لتنفجر بي.
لو أن اللمبة الحمراء تنطفئ لبدا الوجه أكثر قبولا. الاقتراب منه أصابني بالذعر، من خلفه وجوه وكومة لا تنتهي من الأجهزة المكدسة فوق بعضها. يمكنني رؤية بضع أسلاك منحلة بالداخل! "لا أحد يعبأُ بسلامة المواطنين ولا أحد يهتم" يبدو أن إحكامها يحتاج إلى جهد ما، لم تكن أوجه الفنيين الذين رأيتهم قبل دخولي لتوحي بأنهم على استعداد لشدها، ان كان مقدرا للآلة أن تنفجر فلا يهم إن كان بسبب عملها أم بسبب خلل يصعب اقتفاؤه وسط كل هذه الأشلاء.
اللعنة، هل علي أن أُعنى بالآلة مثل الأهبل بالداخل كي لا تنفجر بسبب اهمال هؤلاء الفنيين؟ للمرة الأولى شعرت برخص قيمة الأرواح عندهم.
الباب مغلق بإحكام ومقفل ولا يمكن لأي يد أن تحفر في تلك المعادن مخرجا خلال ٦ ساعات. ناهيك على أن شارات التحذير تملؤ الآلة، وهي تحذر من أن أي عبث قد يتسبب بانفجار الآلة لهذا دائما ما يشار بالتقارير الى أن سبب العطل الفني ناجم من عبث المحكومين بحياتهم.
كيف حافظ من نجى من المحكومين على رباطة جأشهم؟!
لمَ لم اسأل أي أحد منهم عن ما يجب فعله بمثل هذه الحالات.
هدير الآلة بات أشد ومفاتيح الإنارة التي كانت مطفأة باتت متوهجة بألوان مختلفة، ازدادت أزرة الأنوار المضاءة بشكل يثير الذعر، بالخصوص تلك الحمراء المصابة بالغبار، وكأنها تضيء للمرة الأولي! اذ أن الآلة كانت قد حوت عددا من المحكومين كلهم سلموا لكن لم تكن الحمراء مضاءة مع أحدهم. الكرسي أصبح أشد برودة والمكان أصبح باردا بشكل مرعب كأنه ثلاجة أموات.
الأصوات اختلفت، الأنوار كذلك، الاهتزازات، باتت أشد عنفا وقلبي يرجف صدري بشدة كأنه يحاول كسر بابه حتى يخرج مني. هو قد وجد نفسه حبيسا داخل جسدي.
حاولت ضرب الباب متجاهلا، الكتابة الحمراء والتي لم أفهم ما تعني إلا أن لونها يوحي بالمعنى
مرت ٤ ساعات، بقيت ساعتان، جلست على الكرسي جثة هامدة افترض أنها أنا. أمامي جهاز بجانبه قطعة نقدية. سمعتهم يقولون أن الآلة لا تنفجر إلا بعد أن يقوم هذا الجهاز (جهاز الطباعة) بطباعة ورقة تشير الى النتيجة، انفجار أو الى وجود خلل يحتم الانفجار أو بوجود انذار كاذب. الجهاز يخرج الورقة من فمه وكأنه يمد لسانه برسالة تقول "انفجار" ...
كان المحكومين يضعون قطعة النقد هذه على طرف فم الجهاز اذ أن سقوطها و رنينها على السطح المعدني يشير إلى أن الجهاز مد لسانه أخيرا ناطقا بالحكم. وهم ينتظرون هذا الرنين بخوف وقلق. وكم ماتوا (فزعا) لأن القطعة كانت تسقط أحيانا من طرف فم الجهاز بسبب عطسة أو اهتزاز الآلة أو بسبب عدم تثبيتها بعناية.
ثبتّ القطعة جيدا. لأنتظر الجهاز حتى أقطع لسانه حال خروجه لأقرأ ما فيه
بقيت ساعة لا شك المكان هادئ بالخارج بعكس الصخب والعنف داخل هذه الآلة.
اربطة حذائي منحلة أميل لأشد الأربطة ... أسمع رنينا! يهتز قلبي، أدفع جذعي للأعلى لأرى ما انتهيت عليه دون أن أفهم شيئا، لم تعد أربطة أعصابي مشدودة بخلايا جسدي بإحكام وشراييني لم يعد الدم يتدفق فيها بعناية كما بالسابق وعظامي لم تعد مشدودة على مفاصلي بقوة حتى تحملني، عضلاتي باتت كالإسفنج، هشة من الضعف، وقلبي بات ينبض بالفراغ، لم يعد تفكيري قادرا على تشكيل شيء من أشياء متفرقة، لم يعد تفكيري جزءًا من أي شيء مني
لا أهتم وإن خرجت سالما لا شيء مما حدث فيني يمكن اصلاحه
فُتح الباب! يتفقد المسؤولون الآلة ويعيد الفنيون فحص الأجهزة. يوقعون على أوراق الفحص "كل شيء على ما يرام"
"هلا عزيز تهانينا كيف سارت الأمور؟ "
* Max Ernst
