الجمعة، 6 نوفمبر 2020

كيف نصنع من الأشكال والأفكار البشعة عملا فنيّا.






 
إن رسم الرسّام منظرا قبيحا، هل يمكن أن ينجم عن ذلك عملا فنيّا؟ وإن اعتبرناه عمل فنّي، هل سنعتبر هذا العمل شيئا جميلا؟


تاريخ الأعمال الفنية مليء بالمشاهد البشعة والشنيعة والمؤلمة والتي تتناقض مع تصورنا عن الجمال. و رغم ذلك، نعبّر بعمق عن جمال لوحة "طوف الميدوزا" لثيودور جيريكو، (1791-1824).  يمكننا القول بأنّ الفنّ الأوروبي أبرع فنّ خلق الجمال من خلال مشاهد المآسي والالم، وعند تتبع جذورها، نجدها عبر سلسلة طويلة من اللوحات والدراسات الفنيّة، هل يمكن أن نعتبر ذلك نجاحا؟ جَعل المأساة عملا فنيّا يوصف بالجمال؟

 

بعيدا عن الفن الأوروبي وعن الألم والمأساة (الألم النابع من تعاطفنا مع الآخرين) إلى الفن الشرقي، الياباني تحديدا والى أفضل خلاصة على شكل فنّان تاكاشي موراكامي. 

 

لنعد السؤال مرة أخرى مع بعض التعديلات:

 هل يمكن أن يرسم الفنان شكلا بشعا ومنفّرا و مثيرا للاشمئزاز ويصبح عملا فنيّا يوصف بالجمال؟

 ذلك أصعب من تحويل المآسي والآلام  إلى عمل فنّي يوصف بالجمال. الواقع أن الأعمال اليابانية تجاوزت ذلك وصنعت أعمالا تصوّر أفكارا منفّرة ومثيرة للإشمئزاز. وواحدة من أكثر المواضيع التي يمكن الشعور بخطوط التماس بين المتناقضات الايروتيك. عندما تصور الأعمال الغربيّة صورا عارية  تأخذها أحيانا بجانبها الميثيولوجي أو الأسطوري، حتّى تغلف هذا الحضور بشيء من الأبهة؛ لأنّ خلوّها يعرّيها من أي معنى أعمق، وهو ما جعل الكثير ينفر ويعترض على لوحتي ادوار مانيه، (1832-1883)، "غداء على العشب" و "أولمبيا"، رغم أن مثل هذه اللوحات  وجدت كثيرا وتمّ قبولها بفضل قدر لا بأس به من خلفيّة تبعدها ولو تلميحا عن الصراحة وتمنحها سياقا ميثيولوجيا، لكن لوحات مانيه لم تفعل أي شيء من ذلك لهذا صدمتهم؛ امرأة معاصرة وعارية تتناول الغداء مع رجلين بكامل ملابسهم.  يصعب على الفنّ الغربيّ إظهار ذلك وجعل الفن قادرا على إزالة ذلك الشعور بالذنب أو العار أو الخجل مما يتم تصويره. لوحة جوستاف كوربيه، (1817-1877)، "أصل العالم" التي تصوّر فرج امرأة وكأنها بورتريه، ستشعر بأن في ذلك تجاوزا، ذلك الشعور بالتجاوز قد يكون هدف العمل الفنّي نفسه، الشعور بكسر شيء ما واجتيازه أكثر من الشعور بقبوله وتقبّله؛ ذلك سيحتاج إلى قدر أعلى من الدقة في فهم -ولو من دون وعي- مدى تأثير أدنى الملليمترات باللوحة على حكم الأشخاص. 

 

أكثر ما يدهش احتواء الأعمال الكرتونيّة اليابانيّة على العديد من المشاهد الجريئة والخليعة، وكثيرا ما تؤخذ بإطار فكاهيّ كوميديّ يجعلها مقبولة أكثر، ومحصورة في إطار اللقطة الكرتونيّة كأنّها مزحة ثقيلة أعقبتها ضربة ممازحة على الكتف. جرعة المزاح والفكاهة تلك تجعل المشهد والصورة أو الرسمة مقبولة. وتزيل كل فكرة عن كونها تجاوزا إلى حد القبول بكونها شيء جميل سمحت هذه المزحة بالتعبير عنه بأريحيّة، دون أن يتم التعبير بمتعة التجاوز والتي لا حدود لها. يشبه ذلك تماما قبول بعض المزح والأقوال الخادشة من بعض الأشخاص وفي إطار ساخر. 

 

هل تشعرك لوحات اليابانيين الجريئة بمثل ما تشعرك به لوحات إدجار ديجا (1834-1917) ولوحات إيجون شيلي (1890-1918) من تجاوز؟ لا تلمس بأعمال اليابانيين ذلك، ولنا أن نتخيّل لوحة غربيّة كالتي رسمها كاتسوشيكا هوكوساي (1790-1849) "حلم زوجة الصياد" ؛ بالإضافة الى عنوانها الذي منحها عالما تبتعد به يمكن اعتبارها أقصى حدّ و ما يمكن للفكرة من غرابة و إثارة  تصوير إلايروتيك في إطار عمل فنّي. بذل الرسام فيه جهودا في جعلها أكثر قبولا بكونها مضحكة، منفرة إلى حدّ الاستغراب والضحك أو شيء من ذلك؛ لو رسمت بريشة غربيّة رصينة لتبادر للأذهان أنها ليست إلا أفكار تعبر عن رغبات الفنان نفسه. في الإطار الياباني يسهل افتراض أنها ليست فكرة مبنيّة على رغبة الرسام، بل فكرة مطروحة ومبنيّة على أفكار تدور حولها لا عليها. 

 







 أكثر ما يميّز تاكاشي موراكامي أنه يظهر صورة جامعة لكل الحالات الفريدة التي صورها الفنّ الياباني. تجد عنده أشكال في غاية القبح لكنها صورت بطريقة جميلة يجعل منها عملا فنيّا في غاية الروعة؛ بالأساس يمكنك أن تشاهد ابداع اليابانيين في ذلك من خلال خيالهم في إظهار أشكال المخلوقات الفضائية بعالم الكرتون. وعلى ما يكثر بفنّه من أفكار جريئة ذات ايحاءات جنسيّة أو تعابير ايروتيكيّة غريبة، فإن اطارها الفكاهي يشبه ما نجده في رسومات الانمي. وأشهر هذه الأعمال تمثال الشاب والفتاة وهم يلعبون لعبة القفز بالحبل والذي يتمّ خلقه من افرازاتهم. خلق شكل مضحك أو لمحة مضحكة تمنح الصورة مساحة لقول كلّ ما تريد بأريحيّة. وأكثر ما يصدم سلسلة الأشكال اللطيفة والجميلة في عالمه، تماثيل ورسومات مع مزجها أحيانا بأشكال بشعة أو قبيحة بعمليّة تمازج دقيقة. تظهر احساسه بالخيط الرفيع الذي يفصل القبيح والنفور والإشمئزاز بالأشكال اللطيفة والناعمة. أتذكّر حلقة من المسلسل الكرتوني "الوميض الأزرق" كان المشهد صادما عندما تحوّلت الأرانب إلى مخلوقات شريرة؛ شكل الأرانب إرتبط بدلالات كثيرة وإقحامها بصورة شريرة مثل صدمة غريبة تحفّز الذهن الى إعادة تركيب الأشكال التي يخزنها. إن اللعب على الدلالة النمطيّة لبعض الأشكال وإعادة خلطها قد يخلق شعورا يشبه الدهشة من الأعمال الفنيّة، حادة لكن بينها وبين النفور حدّا فاصلا وفي غاية الدقة والاقتراب من حدوده يحتاج الى انتباه دقيق.   

  


الأشكال المخيفة ليست جديدة في عالم الفنّ ولو أنها عند موراكامي مختلقة أكثر في حين أنها في أعمال فرانسيس بيكون (1909-1992) مشوّهة من الواقع لغاية ما، تعكس ملامسة للجانب النفسيّ للانسان الحديث. إن الجرأة في خلق إطار مقبول وفني للشكل المريع يشبه خلق إطار مقبول للتصوّرات الايروتيكية عند اليابانيين مثل تاكاشي موراكامي. 

الأربعاء، 4 نوفمبر 2020

لا نهائيّة المعاني

 


 

توصف اللغة كثيرا بأنها أصوات لها طابع اعتباطي ولكن الانسان (المجتمع) يمنح هذا الصوت دلالة ما. وحتّى ان أصرّوا على أن لا علاقة للدلالة بذلك الصوت (صوت الكلمة) فإنه من الجميل أن نفكر بأن كلمة "أم" صيغت بهذه النبرة الحميمية بحرف الميم التي تضم الشفاه لكنها أفكار سخيفة وساذجة وواهمة في نظر اللسانيين بالذات. ويرون بأن الناس يفكرون بهذه الطريقة لأنهم يرون الفكرة تبدو جميلة وخلابة لكنها ليست منطقية وصحيحة. الواقع أن ما يجعل هذه الفكرة أقرب الى الحقيقة كونها جميلة، يمكن اعتبار بعض النظريات والفرضيات صحيحة كونها جميلة وخلابة؛ الفكرة تبدو صحيحة لأنها جميلة، لا يعقل للحقيقة أن تتركها فارغة. طوال التاريخ والانسان يحارب هذه الأفكار الجميلة في سبيل الحقيقة وإن كانت مُرّة واعتبرها أهم من كل شيء -كان ذلك صعبا-  بعكس انسان العصور القديمة الذي لم يكن يحمل ذلك التقدير للعلم أو لم يكن يتخيل أن للحقيقة شكل مبسط لهذا أتاح لمختلف التفسيرات وأكثرها تحليقا وجمالا بأنّ تحيك من الحقائق ما تشاء. أتخيل أنه بعد ألف عام لن يرث البشر أساطير وقصص جميلة خرافية من عصرنا بل سيقفز للخلف أكثر.


حين يكون للصوت الاعتباطي دلالة ويصبح بعدها كلام ذو معنى ماذا عن بقية الإشارات على اعتبار أن الصوت إشارة. اللون مثلا، هل هو اعتباطي؟ أعني دلالاته هل منحناها له نحن أم وجدناها باللون نفسه؟ بعضها كذلك وبعضها منحت منّا، فكان اللون بهذه الصورة إشارة اعتباطيّة لكنه لم يكن كذلك عندما عنى اللون الأزرق الهدوء والسكون، حتما هو يعني أكثر من ذلك لكن هذا أسهل مايمكننا أن نجزم به. الشعوب تمنح الدلالات: ذاكرتها وأحداثها وأشياء كثيرة من حولها قد تصل الى حدّ اعتبارها جميلة، مقدسة. ولو خرجنا عن الألوان والأصوات البشرية لوجدنا الأشياء التي تبدو إشارات يمكن أن تكون لغة ذات دلالة: الغروب، الرعد، المطر. أوكلها اعتباطيّة وكذلك الدلالات الممنوحة لها هل جاءت اعتباطيّة؟ كأننا نخزّن فيها بيانات رقميّة وهي المعنى لنجد كل تلك الأشياء أو اللغات من حولنا ذاكرة متنقّلة.

 

هل تمنح بعض الشعوب دلالات لما حولها أكثر من غيرها؟ وهل نحن كأشخاص نمنح الدلالات؟ كل شخص يمنح وفق طريقته؟؟ وهل هنالك أشخاص أكثر من أشخاص؟ ماذا عن الحدّ الأقصى هل لذلك حدّ؟ ماذا لو أن أحدهم منح لكل شيء من محيط حياته دلالة ومعنى، لم يمنح النجوم دلالة ومعاني بل منح كلّ نجمة دلالة ومعني وحيدا وكلّ ذكرى (الذكريات إشارات كذلك) منحها دلالتها ومعانيها أيضا كيف يمكنه العيش وسط هذا الضجيج وسط هذه الغابة المكتظة من المعاني والكلمات (على شكل أشياء) والتي لا نهاية لها، هل يمكن حينها أن يجد لحظة صمت في حياته؟ لو وصل لهذا الحدّ سيبدو انتحارا بعد أن استنفذ كل شيء. والصمت وهو آخر شيء يملكه الانسان، الرمق الأخير للسكون وهو القلب النابض لكل المعاني والذي سيظل ينبض بمعناه الذي يملكه في أعماقه حتّى يطغى بالمعنى المجازي/ الإضافي الملقى على عاتقه. الصمت هو الأساس الي نستند عليه في كل ما نمنحه من دلالات ومعاني.


إننا لا نمنح الأشياء من حولنا دلالات ومعاني بل شيء من روحنا يتمّ قطفه لبثّ المعنى. في مشهد شبيه لما حدث مرة بانمي "ون بيس" حيث الناس يدفعون الضرائب من أرواحهم في جزيرة الـ بيغ ماما نفسها. كذلك الأشياء تطلب منك روحا لتأخذ المعنى منك. ماذا لو منح أحدهم كلّ شيء معنى ووجد نفسه خاليا تماما من أي شيء؟

لازلت أذكر حديث أحدهم الذي قال بأنه يستحيل حذف أي صورة أو أي شيء من ذاكرة "الميموري" حتّى لو حذفت فلا يمكن حذفها فيزيائيّا! كأن الحذف ليس إلا إعادة صياغة لا أكثر. كأنه لا نهاية لها مثل الفراغ تماما.


"ألا تسمع هذا الصراخ الرهيب الذي يحيط بك من كلّ جانب؟ هذا الصراخ يسمّيه البشر بالصمت"

جورج بوشنر