تاريخ الأعمال الفنية مليء بالمشاهد البشعة والشنيعة والمؤلمة والتي تتناقض مع تصورنا عن الجمال. و رغم ذلك، نعبّر بعمق عن جمال لوحة "طوف الميدوزا" لثيودور جيريكو، (1791-1824). يمكننا القول بأنّ الفنّ الأوروبي أبرع فنّ خلق الجمال من خلال مشاهد المآسي والالم، وعند تتبع جذورها، نجدها عبر سلسلة طويلة من اللوحات والدراسات الفنيّة، هل يمكن أن نعتبر ذلك نجاحا؟ جَعل المأساة عملا فنيّا يوصف بالجمال؟
بعيدا عن الفن الأوروبي وعن الألم والمأساة (الألم النابع من تعاطفنا مع الآخرين) إلى الفن الشرقي، الياباني تحديدا والى أفضل خلاصة على شكل فنّان تاكاشي موراكامي.
لنعد السؤال مرة أخرى مع بعض التعديلات:
هل يمكن أن يرسم الفنان شكلا بشعا ومنفّرا و مثيرا للاشمئزاز ويصبح عملا فنيّا يوصف بالجمال؟
ذلك أصعب من تحويل المآسي والآلام إلى عمل فنّي يوصف بالجمال. الواقع أن الأعمال اليابانية تجاوزت ذلك وصنعت أعمالا تصوّر أفكارا منفّرة ومثيرة للإشمئزاز. وواحدة من أكثر المواضيع التي يمكن الشعور بخطوط التماس بين المتناقضات الايروتيك. عندما تصور الأعمال الغربيّة صورا عارية تأخذها أحيانا بجانبها الميثيولوجي أو الأسطوري، حتّى تغلف هذا الحضور بشيء من الأبهة؛ لأنّ خلوّها يعرّيها من أي معنى أعمق، وهو ما جعل الكثير ينفر ويعترض على لوحتي ادوار مانيه، (1832-1883)، "غداء على العشب" و "أولمبيا"، رغم أن مثل هذه اللوحات وجدت كثيرا وتمّ قبولها بفضل قدر لا بأس به من خلفيّة تبعدها ولو تلميحا عن الصراحة وتمنحها سياقا ميثيولوجيا، لكن لوحات مانيه لم تفعل أي شيء من ذلك لهذا صدمتهم؛ امرأة معاصرة وعارية تتناول الغداء مع رجلين بكامل ملابسهم. يصعب على الفنّ الغربيّ إظهار ذلك وجعل الفن قادرا على إزالة ذلك الشعور بالذنب أو العار أو الخجل مما يتم تصويره. لوحة جوستاف كوربيه، (1817-1877)، "أصل العالم" التي تصوّر فرج امرأة وكأنها بورتريه، ستشعر بأن في ذلك تجاوزا، ذلك الشعور بالتجاوز قد يكون هدف العمل الفنّي نفسه، الشعور بكسر شيء ما واجتيازه أكثر من الشعور بقبوله وتقبّله؛ ذلك سيحتاج إلى قدر أعلى من الدقة في فهم -ولو من دون وعي- مدى تأثير أدنى الملليمترات باللوحة على حكم الأشخاص.
أكثر ما يدهش احتواء الأعمال الكرتونيّة اليابانيّة على العديد من المشاهد الجريئة والخليعة، وكثيرا ما تؤخذ بإطار فكاهيّ كوميديّ يجعلها مقبولة أكثر، ومحصورة في إطار اللقطة الكرتونيّة كأنّها مزحة ثقيلة أعقبتها ضربة ممازحة على الكتف. جرعة المزاح والفكاهة تلك تجعل المشهد والصورة أو الرسمة مقبولة. وتزيل كل فكرة عن كونها تجاوزا إلى حد القبول بكونها شيء جميل سمحت هذه المزحة بالتعبير عنه بأريحيّة، دون أن يتم التعبير بمتعة التجاوز والتي لا حدود لها. يشبه ذلك تماما قبول بعض المزح والأقوال الخادشة من بعض الأشخاص وفي إطار ساخر.
هل تشعرك لوحات اليابانيين الجريئة بمثل ما تشعرك به لوحات إدجار ديجا (1834-1917) ولوحات إيجون شيلي (1890-1918) من تجاوز؟ لا تلمس بأعمال اليابانيين ذلك، ولنا أن نتخيّل لوحة غربيّة كالتي رسمها كاتسوشيكا هوكوساي (1790-1849) "حلم زوجة الصياد" ؛ بالإضافة الى عنوانها الذي منحها عالما تبتعد به يمكن اعتبارها أقصى حدّ و ما يمكن للفكرة من غرابة و إثارة تصوير إلايروتيك في إطار عمل فنّي. بذل الرسام فيه جهودا في جعلها أكثر قبولا بكونها مضحكة، منفرة إلى حدّ الاستغراب والضحك أو شيء من ذلك؛ لو رسمت بريشة غربيّة رصينة لتبادر للأذهان أنها ليست إلا أفكار تعبر عن رغبات الفنان نفسه. في الإطار الياباني يسهل افتراض أنها ليست فكرة مبنيّة على رغبة الرسام، بل فكرة مطروحة ومبنيّة على أفكار تدور حولها لا عليها.
أكثر ما يميّز تاكاشي موراكامي أنه يظهر صورة جامعة لكل الحالات الفريدة التي صورها الفنّ الياباني. تجد عنده أشكال في غاية القبح لكنها صورت بطريقة جميلة يجعل منها عملا فنيّا في غاية الروعة؛ بالأساس يمكنك أن تشاهد ابداع اليابانيين في ذلك من خلال خيالهم في إظهار أشكال المخلوقات الفضائية بعالم الكرتون. وعلى ما يكثر بفنّه من أفكار جريئة ذات ايحاءات جنسيّة أو تعابير ايروتيكيّة غريبة، فإن اطارها الفكاهي يشبه ما نجده في رسومات الانمي. وأشهر هذه الأعمال تمثال الشاب والفتاة وهم يلعبون لعبة القفز بالحبل والذي يتمّ خلقه من افرازاتهم. خلق شكل مضحك أو لمحة مضحكة تمنح الصورة مساحة لقول كلّ ما تريد بأريحيّة. وأكثر ما يصدم سلسلة الأشكال اللطيفة والجميلة في عالمه، تماثيل ورسومات مع مزجها أحيانا بأشكال بشعة أو قبيحة بعمليّة تمازج دقيقة. تظهر احساسه بالخيط الرفيع الذي يفصل القبيح والنفور والإشمئزاز بالأشكال اللطيفة والناعمة. أتذكّر حلقة من المسلسل الكرتوني "الوميض الأزرق" كان المشهد صادما عندما تحوّلت الأرانب إلى مخلوقات شريرة؛ شكل الأرانب إرتبط بدلالات كثيرة وإقحامها بصورة شريرة مثل صدمة غريبة تحفّز الذهن الى إعادة تركيب الأشكال التي يخزنها. إن اللعب على الدلالة النمطيّة لبعض الأشكال وإعادة خلطها قد يخلق شعورا يشبه الدهشة من الأعمال الفنيّة، حادة لكن بينها وبين النفور حدّا فاصلا وفي غاية الدقة والاقتراب من حدوده يحتاج الى انتباه دقيق.
الأشكال المخيفة ليست جديدة في عالم الفنّ ولو أنها عند موراكامي مختلقة أكثر في حين أنها في أعمال فرانسيس بيكون (1909-1992) مشوّهة من الواقع لغاية ما، تعكس ملامسة للجانب النفسيّ للانسان الحديث. إن الجرأة في خلق إطار مقبول وفني للشكل المريع يشبه خلق إطار مقبول للتصوّرات الايروتيكية عند اليابانيين مثل تاكاشي موراكامي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق