كتاب "قصة الفن" ، تأليف إرنست غومبرتش، ترجمة عارف حديفة، منشورات هيئة البحرين للثقافة والآثار
الفنّ، تاريخا وقصّة
رغم كثرة الكتب التي تناولت تاريخ الفنّ، يبقى كتاب "قصة الفن" لغومبرتش الأشهر على الإطلاق. فالفنّ ليس حكاية تُروى، ولا مجرّد تسلسل زمني لأسماء الفنانين وأعمالهم؛ بل هو سلسلة من المفاهيم والأساليب التي تشكّلت على امتداد الأزمنة والأمكنة. لا يمكن فهم هذا التاريخ إلا بتحليل الأعمال نفسها، عبر تتبّع خيوط دقيقة جاءت في سياقات هامشية لا في متون السرد. فالمصريون القدماء لم يشرحوا دلالة بعض الألوان والأشكال في رسومهم، ورجال الكهوف لم يتركوا أثرًا يُفسّر ولعهم برسم قطعان الحيوانات قبل أكثر من ثلاثة عشر ألف عام. نتحدّث إذا عن سيرة الأساليب والمفاهيم التي جسّدت في أعمال الفنانين، وكيف كان سبيل وصولها الى عقل الفنّان وانتهائها بفرشاة الرسام و مطرقة النحّات وتخطيطات المعماريّ، كلّ ذلك بسياقه التاريخي والاجتماعي، نجده في هذا الكتاب.
عن الكتاب
ما يثير الدهشة في هذا الكتاب هو تتبّعه الدقيق لتطوّر أساليب الفن ومفاهيمه؛ بدءًا من الرسم على جدران الكهوف وعلاقته بالسحر والشعوذة، مرورًا بالرسومات الفرعونية التي صوّرت الأجساد بمقاطع جانبية رمزية، دون مراعاة للاختلاف في الأبعاد، وصولًا إلى منحوتات الآشوريين التي لم تكن ملامحها دقيقة بما يكفي لتمييز هوية الشخص المصوَّر. لم يكن التجسيد يهدف لإبراز الفروق الفردية، بل للتعبير عن فكرة أو دور.
ثم تطوّر هذا التوجّه تدريجيًا، فبدأ الإغريق بتجسيد انفعالات الجسد، وأدخلوا مفهوم العمق والزوايا في الرسم. يتتبع المؤلف هذه التحوّلات بدقة حتى عصر النهضة، حيث بدأ الفنانون يُعامَلون كفنانين لا كحرفيين، وظهرت مفاهيم مثل المنظور، وتوزيع التناسق في التكوين، والتبخير. يعرض المؤلف أبرز المحطات الفنية والأسماء التي تركت بصمة حاسمة، مثل مايكل أنجلو، دافينشي، رافائيل، ورامبرانت، دون أن يغفل تحوّلات الفن في العصر الحديث.
يبيّن كيف انتقل الفن من الواقعية والاتقان البصري في أعمال فان آيك وألبريخت دورر، إلى التجريد والتفكيك مع كاندينسكي وبول كلي، وكيف عادت الأشكال البدائية الوثنية التي سبقت التاريخ لتظهر من جديد على يد فنانين معاصرين يستعيدون طفولة الفن الأولى. كما يشير إلى تغيّر موقع الفن الطليعي، من كونه مرفوضًا ومطارَدًا إلى تسيّده صالات العرض.
وإن كان قد أغفل ذكر بعض الأسماء المؤثرة في تطوّر الفن، مثل جيريكولت، وكليمنت، وموديلياني، وماليفيتش، فإن قراءته للأعمال والمدارس الفنية جاءت مدهشة في عمقها، وبخاصة في ربطه بين كل أسلوب وسياقه التاريخي والاجتماعي. كما أنّه يوفّق في الموازنة بين الحديث عن الرسم والنحت والمعمار.
ما لذي ينقص الكتاب ليكمل قصته؟
رغم اتساع الكتاب وشموليته، إلا أن غياب الحديث المفصّل عن الفنون خارج الإطار الغربي يُعدّ من أبرز النواقص فيه. يكاد يكون مختزلا بالعصور القديمة أو في سبيل ربطه بسياق الفنّ الغربي وهذا ما يجعل عنوان "قصة الفن" يبدو أحيانًا أوسع من محتواه، إذ أنّ 600 صفحة لا تكفي لاحتواء قصة الفنّ بجميع أبعادها الثقافية والجغرافية. كذلك، لم يُسلّط الكتاب الضوء الكافي على مساهمة الفلاسفة والمنظرين في علم الجمال، أمثال بومغارتن الذي وضع أسس الاستطيقا كمجال فلسفي مستقل. كما لم يُناقش بعمق أثر السياسات الكبرى كالمعسكر الشيوعي على الفن، خاصة في أوروبا الشرقية. ويمكن هنا الاستشهاد بفيلم Never Look Away (2018)، الذي يقدم لمحة درامية مؤثرة عن تجربة الفنان الألماني المعاصر غيرهارد ريختر، وتأثير النظام السياسي على مساره الفني. لكن، ورغم ما يمكن أن يُقال عن نواقصه، يصعب إنكار الإحاطة المدهشة التي حققها غومبرتش في تأريخ أساليب ومفاهيم الفنّ عامة والغربي خاصة، ومن زواياه التقنية والتاريخية والجمالية.
وربما ما ينقصنا لا ما ينقص الكتاب، كتابة قصّة الفنّ من وجهات نظر أخرى، عربيّة، إسلامية، شرقية وغيرها. سرديات بديلة تنبع من سياقاتها الخاصة، وتسلّط الضوء على تجارب فنية لم تمر بالضرورة عبر عدسة الفنّ الأوروبي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق