الثلاثاء، 9 سبتمبر 2025

أهو على نتفليكس ؟ : سلطة الشعبيّة الرقميّة وسهولة الوصول على الذائقة


حينما يسأل شخص ما «موجود على نتفليكس؟»  فهذه العبارة تكشف عن مدى احتمالية مشاهدة الفيلم، أو تجاهله في حال عدم توفره على المنصة. ليس السبب انعدام الثقة بجودة العمل، بل بسهولة الوصول. كأن الاختيار لا يعتمد على الذائقة بقدر اعتماده على ما هو متاح. كيف غيّرت المنصات الرقمية أولوياتنا بمشاهدة الأفلام،  وكيف أصبحت الأرقام والمشاهدات معيارًا جديدًا للجودة، على حساب الانتقائية الفنية والإبداع الأصيل. في بداية نشأتها، واجهت نتفليكس تحديًا في توفير أفلام جيدة على الإنترنت، لكنها ركزت على بناء مكتبة ضخمة بغض النظر عن  جودة المحتوى. راهنت على امكانية جذب المشاهدرين بسهولة الوصول ونجحت فعلا مع الوقت. امتلأت المنصة لاحقا بمحتوى متنوع، وتمكنت من استقطاب قاعدة واسعة من المشاهدين، الذين أصبحوا أكثر تقبلًا لما هو متاح، لملء وقت الفراغ بسهولة.


كيف تؤثر تقنيات سهولة الوصول على خيارات المشاهدين؟

في عالم ما قبل المنصات الرقمية، كان الوصول إلى الأفلام يتطلب جهدًا بحثيًا قد يطول للوصول إلى نسخة بجودة عالية وترجمة دقيقة. لكن اليوم، أصبحت الأفلام المتوفرة على نتفليكس تتصدر قوائم المشاهدات والتقييم على منصات مثل Letterboxd، بما في ذلك أعمال ربما لم تكن لتحظى بالاهتمام لولا توفرها بسهولة. هذا التوجه يقودنا إلى التساؤل حول تأثير هذه السهولة على ذائقة المشاهدين؛ فجهد البحث سابقًا كان يمنح الأفراد سببًا ليكونوا انتقائيين في اختياراتهم.

لا يمكن الاستهانة بتأثير الوصول السهل في تكوين ذائقتنا السينمائية. سهولة المشاهدة وخاصية « متابعة الحلقة التالية» تلقائيًا تجعلنا أكثر عرضة للرضا بالمحتوى المتاح؛ ومنها تنتقل ثقافة الاستهلاك السريع، ونجد أنفسنا منجذبين وموجّهين نحو الهبّات والمحتوى الرائج الذي تروّجه الخوارزميات، وبالتالي  تتشكل ذائقتنا تدريجيّا على أساس تراكم مشاهدات سهلة الوصول. هذه الديناميكية نفسها تُستخدم أيضًا في مجالات أخرى؛ فالمطاعم المتاحة عبر تطبيقات التوصيل الأكثر طلبًا، والأجهزة الأكثر شعبية تنتشر بفضل سهولة الاستخدام وبساطتها. ولزيادة المشاهدات، قامت نتفليكس بتقليل مدة الانتظار في خاصية « متابعة الحلقة التالية» الى خمس ثواني. في كلّ ابتكار تقنيّ تحرز المنصّات الرقميّة تقدّما اكثر.


التقدم التقني في إنتاج الأعمال وعرضها:

كثيرا ما ألقى التقدّم التقنيّ ظلاله على مختلف المجالات الفنيّة. في الصناعات السينمائيّة وعلى مدار عقود، أثرت تقنيات التصوير على أساليب الإخراج، فمع ظهور الصوت، ازداد التركيز على المشاهد الحوارية، بينما عزّز دخول الألوان من جماليات الصورة، وأتاحت المؤثرات الرقمية تصوير مشاهد لم يكن بالإمكان تنفيذها واقعيًا، بل ظلت محصورة في الخيال. هذه الابتكارات لم تكتفِ بإثراء لغة السينما، بل وسّعت آفاق الذائقة الفنية. وعلى الجانب الآخر، لعبت تقنيات العرض دورًا محوريًا في تشكيل تفضيلات المشاهدين، بدءًا من صالات السينما، مرورًا بشاشات التلفزيون التي أدخلت الأفلام إلى المنازل، وصولًا إلى المنصّات الرقمية، التي لا تقتصر على تقديم الخيارات، بل تعيد تشكيل الذائقة وفقًا لمنطقها القائم على لغة الأرقام والخوارزميات اللحظية.




تأثير الأرقام والخوارزميات 

الأرقام الكبيرة تجذب الاهتمام وتخلق ضغطًا اجتماعيًا ضمنيًا، فعبارات مثل «ألم تشاهد هذا العمل بعد؟» تعزز الشعور بضرورة المشاهدة حتى لا يفوّت الشخص تجربة شائعة. وبالتالي، يتطور نوع جديد من الانتقائية الجماعية التي تحكمها الأرقام والمشاهدات بدلًا من الذائقة الفردية. هذا التحول يُعيد طرح التساؤلات حول معنى الجودة في عالم تسيطر عليه معايير المشاهدات والعوائد. وكما كانت أرقام شباك التذاكر تثير فضول الناس وتدفعهم للمشاهدة، فإن أرقام المشاهدات الرقمية تثير فضول الناس ولكن بطريقة أشدّ وأعقد؛ فمع تسهيلات الوصول، أصبحت معايير الانتقاء الجماعيّ أقلّ ارتباطا بجودة الفيلم، كما أنها أصبحت دافعًا لإنتاج أجزاء أخرى من الأعمال أو حتى إعادة استنساخها بأعمال أخرى، تلبية لرغبات المتلقين وردود أفعالهم الحاضرة بأرقام المشاهدات والتعليقات. ولهذا، شهدنا تسارعًا في إنتاج أجزاء جديدة لأعمال ناجحة رقميًا، بفارق زمني أقصر مما كان يحدث سابقًا؛ فبين الأجزاء المتتابعة من أفلام مثل «العراب»  و«المدمّر» ، كانت هناك فترات انتظار طويلة لاتخاذ قرار الإنتاج واستكمال الإعدادات، مما أتاح للأجزاء اللاحقة فرصة لإضافة أبعاد أعمق للأعمال الأصلية. أما في عصر المنصات الرقمية، فيأتي الإنتاج المتتابع غالبًا استجابة لحاجة السوق أو إشباعًا لرغبة المشاهدين المتلهفين، دون أن يمنح العمل الجديد دائمًا المساحة الكافية للنضوج الفني.


سلطة الجوائز والشعبية الرقمية على الذائقة

رغم عفويّة الذائقة، إلا أنها خضعت لمؤثرات مختلفة، مثل الجوائز والألقاب التي تقدم تصنيفا شبه رسميّ لمختلف الأفلام. يمكن فهم معايير النقد والجمال في الجوائز والمهرجانات والسياق التاريخيّ للحدث المرافق. في المقابل، تمثّل الأرقام والمشاهدات سلطة مختلفة، ترتبط معاييرها بالأرباح والتفاعل الجماهيري. ما يجعلنا نشاهد الأثر الذي تحدثه حفلات الاحتفاءات الرقميّة على وسائل التواصل لتصنيف الأفلام . ويظهر النفوذ الرقمي بوضوح عندما تجد استوديوهات عريقة مثل جيبلي أو مخرجين كبارًا مثل مارتن سكورسيزي يقدمون أعمالهم عبر نتفليكس. المقلق في السلطة الرقمية، أنها أكثر ضراوة وأقلّ إنسانية وارتباطا بمعايير النقد الفنّية للجمال؛ وتوظيف الأجندات والأفكار أكثر وضوحا في المنصّات الرقميّة. وعلى عكس النفوذ المؤقت للجوائز والمهرجانات، فإن نفوذ الأرقام بالمنصات الرقمية مستمر ومتجدد وطاغي بقدرته على توجيه تفاعل الجماهير وإقناعهم بخطاب رقمي موجز، بخلاف الخطابات المسهبة للجوائز والمهرجانات. 



الإبداع الأصيل في مواجهة السوق الاستهلاكية للمنصات

مع هيمنة المنصات الرقمية وتأثيرها على تفضيلاتنا، يبقي الإبداع السينمائي الأصيل رهانه على الزمن وعمق الأثر، في مواجهة التأثير اللحظي الذي تخلقه الأعمال الرائجة. وبغض النظر عن الضغوط الرقمية وسهولة الوصول وتغيّر أنماط المشاهدة، سيظل هذا الإبداع كالمعدن النفيس، لا يفقد بريقه وتزداد قيمته مع الزمن الذي سبق واستعاد عبر التاريخ أعمالا  لم تلقى رواجا في زمانها وفشلت في أرقام شبّاك التذاكر. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق