السبت، 17 أبريل 2021

-٣٠-

قبل يوم وفي كراسة ارسم عليها بأقلام الباستيل بعض الرسوم العشوائية ويمكنك أن تفترض بأنها محاولات لرسم باب للهرب. وضعت بضعة زهور للتجفيف. الهروب بالأشياء البسيطة لطالما كانت الملاذ الوحيد من المحيط الخانق، بالكاد يمكن العيش دون هذه الأشياء قبل فترة لم أعد أشعر بطعمها! كان ذلك مرعبا أن أفقد معناها. هذه الأشياء لا يراها ولا يشعر بها أحد غيرك. تلك الأشياء تشبه الزاوية المعتمة التي لا يصلها النور لسجن انفرادي أبعاده مترين في مترين، تلك الزاوية الصغيرة ستعني حتما كلّ شيء بالنسبة للمحبوس في داخل السجن ويمكن أن يحلم بوجود أي شيء وأي معنى في حيّز هذه الزاوية وإن كان مخرجا بهذا الصغر.  بعد أن اغلقت الكراسة على الزهور وضعت فوقها بعض الأثقال البسيطة، لم تكن إلا بضع دفاتر وكراسات رسمت عليها سكتشات وشخابيط وديوان شعر مخجل لأيام مراهقتي الحالمة وسلة وضعت فيها كبسولة لحلاو الليمون للتخفيف من آلام الحلق وبطاقة فيها اهداء من صديقي بمناسبة نقلي مع سلك وشاحن وقلامة أظافر وكرة للضغط والتنفيس وزجاجتي عطر وكلّ ماستطعت تكويمة للضعط على الزهور. ورق الكراس كفيل بامتصاص الرطوبة ولو قليلا وباليوم التالي سأحتاج لنشرها بالخارج ان كان الجوّ مشمسا لتيبس نهائيّا.

 استخدمت الكراس على أكمل وجه


قبل أيام وجدت عصى تشبه كثيرا عصى شخصيّة فيلم (ملك الخواتم) المهيبة مشيت بها عبر الطريق الذي لطالما مشيت فيه أيام طفولتي، مسعى سعيت فيه لملايين المرات وكم تخيّلت بأنّي سأمضي حياتي ساعيا جيئة وذهابا لآخر يوم من عمري كأن هذا الدرب هو أقصى مسافة يمكن لحياتي أن تصل اليه. كان شكلي مضحكا وأنا أمشي بها، لم أبالي، كنت سعيدا بالعثور عليها والعثور على هذا الدرب الذي هجرته لسنوات. "اليوم هاجر مشت أشواطها المليون" تذكرت هذه الكلمات لفهد عافت. 


في البيت بدأت في تشذيب لحائها بالمشرط، من أكثر المشاهد حميمية، مشاهد الاعتناء بالأخشاب ونحتها وسنّ أطرافها بالسكّين في أفلام الكرتون، لطالما شعرت بسكينة تدعو للتأمّل. بالمناسبة سنّ الأطراف ليس سهلا كما يبدو، حاولت بأقصى تركيز أن أجعل الطرف حادّا واختبار حدّتها بضغطها على راحة يدي. رائحة اللحاء أقرب للغبار ولا تشبه التربة، مزعجة ومنفرة، لكن رائحة اللبّ ألطف، أو لأقل بلا رائحة. تحسستها بتمرير راحة يدي بها بعد ازالة اللحاء، لأرى ان كانت ستترك في راحتي أي خدش، بدت جيّدة. 

باليوم التالي وضعتها بالخارج لأعرضها للشمس لكني لم أجدها بعد وقت في مكانها، رُمِيت! لكن أعدتها واعتنيت بها ورحت لأتفقّد الزهور التي قمت بضغطها البارحة ووضعتها على كرسيّ معرّض للشمس وفوقها حجارة صغيرة كي لا تحملها الرياح لكن أحدا في البيت حمل الكرسي وغيّر مكانه مسقطا دون أن ينتبه الى تلك الزهور ((هذه الأشياء لا يراها ولا يشعر بها أحد غيرك)) 

 

أعدت الزهور كانت سليمة وفي لونها الداكن أثر شرخ رخاميّ جميل والعصى أكملت تشذيبها في الفجر قبل النوم في غرفتي، بالآونة الأخيرة أصبحت أنام جيّدا رغم أثر الخدوش الحارقة قليلة والتي تتركها العصى على راحة يدي. 


في اليوم التالي وضعت العصى لأعرضها للشمس وبعد فترة لم أجدها! لم أسأل عنها؛ لم أعد أطيق السخرية كثيرا هذه الأيام. لكنّي وجدتها مركوزة قرب شجرة مئلة لتقويمها. لم يسأل أحد عن السبب الذي جعل هذه العصى نصف ملساء وأثر العناية بها واضح للغاية كل هذا لم يكن كافيا لتشير إلى أنها كانت تعني شيئا ولو تافها لأحدهم.

الأربعاء، 14 أبريل 2021

أن تعرف قبل أن تشعر بما هو جميل بالفعل.

 من أين جاء "ايمانويل كنت" بالمعرفة؟ أو لنقل الرواد الأوائل الذين تحدثوا عن الجمالية؟ كان شيئا ملفتا أن اعتبار الحكم بالجمالية، معرفة. كيف تحكم وفق معرفة قبليّة (بديهيّة) على شيء ما بأنّه جميل، وكأن هذه المعرفة نبعت خالية من خبرة الحواس. وعلى رأي "كَنت" أن المعرفة لا تنبع من الحواس (التجربة) فقط، بل إن هنالك معرفة قبليّة (حكم عقليّ لا يستند الى التجارب) لكن كيف يمكن فصل تأثير الحواس على حكمنا بالجمال؟ وهو أكثر شيء ارتبط وجدانيّا به؛ حكمنا بأن هذا جميل، كثيرا ما ينبع وفق تأثرنا من تجربة سابقة لشيء اعتبرناه جميلا.  



أنا والقرية


لنرى الجمال بعين الفنّان/الرسام:

ما الذي جعل شاجال يرسم الوجه  باللون الأخضر بلوحة "أنا والقرية"، (1911) ؟ هل كان يعلم مسبقا أن الأخضر سيكون أجمل؟ أم أنه شعر بذلك؟ ان كان قد شعر، فهذا يعني أننا نتحدث عن معرفة بالحواس أو تجربة سابقة، وإن كان لا، هذا يعني أنه حكم نابع من معرفة قبليّة يبنى على معطيات عقليّة لا حسيّة، بعيدا عن التصوّر الدارج وفق اتجربة، بأن الوجه الأخضر يصعب اعجاب الناس به، والوجه المخضرّ مثل المزرق يشير الى الاختناق. وفي لوحة "قسم الإخوة هوراس"، (1784) لجاك لويس دافيد، ذلك الشكل المهيب من التضامن الأخويّ والذي يوحي بقسم الموت في سبيل مبادئ صارمة، تشبه الملامح والخطوط في اللوحة نفسها. خمن دافيد أن ذلك سيعجب الجميع ولا شكّ. الموضوع مغري ومحفّز سبق وأن اختبرت فيه مشاعر الناس، لهذا كان سهلا أن يخمن ما سيعجب الجميع في صالون باريس وعندما لاقت اعجاب الجميع اشترى لويس السادس عشر ملك فرنسا اللوحة. 

 

 

التوفيق بين المهنة والفنّ:

 هل المصمّم الداخلي فنّان أم حرفيّ ماهر؟ هل يصمّم البيوت بناء على ما يعجبه أو على ما يعجب الآخرين؟ انه لا يرسم ولا يخرج شعوره أو احساسه، بل يراعي رغبة واعجاب الآخرين. بصورة أخرى هو حرفيّ ماهر.  يذكّرنا بالرسامين الذين يرسمون البورتريهات بناء على الطلبات، ويعدّلون في اللوحة حسب رغبة الزبون؟ متخلين عن فردانيتهم في صالح مهنتهم. ونعرف كم اختصم رسّام مع زبون حول الطريقة التي يرسم فيها البورتريه. أشهرهم جاك لويس دافيد مع مدام ريكاميه. ونقيض ذلك، نجد بورتريهات لا حصر لها منتشرة كأنها صور فوتوغرافية من استديو تجاري، بلا توقيع، فقط توثيق كان من عمل رسام حرفي بالدرجة الأولى. لنتخيّل مصمما داخليا  مثل ذلك الفنان الذي يخاصم الزبون في سبيل رؤيته وانفراده بحكمه بأنّ هذا التصميم أنسب من ذاك. وبعدها لنتساءل:  المصمم هل يصمم و يبني حكمه بالتصميم لأن هذا الشيْ أصح، أم أن هذا الشيء أجمل؟ نتحدّث عن جوانب وان كانت جمالية لكن المصمّم يطرحها كأشياء نابعة من معرفة، وقد يقول بأنّ هذا يجب أن يكون على هذا النحو، مثل نوع وشكل الإضاءة والتحكم بالمساحات يتحدّث على أنه الأصحّ لا الأجمل فحسب. على كلّ حال هو يملك مساحة ضيقة لرؤيته بسبب مراعاة زبون ما خلافا للرسام.

بالعصور القديمة كان الفنان (الحرفيّ) يرسم ويلوّن الآلهة ويختار الألوان التي ترمز اليها طلبا لرضاها، بناء على رمزيّة لون ما. لم يكن يخرج شيئا (يعبّر) عن نفسه. هو رهين مهنته وتقاليدها.

 

الفنان ببساطة يطرح الأفكار كأشياء أجمل وتكون نابعة من معرفة، ويسهل إدراك أنها ليست معرفة مهنية بل معرفة أعمق من ذلك بكثير ويتخطى معطيات الحواس.

 

(قسم الإخوة هوراس)

 

 

إتخاذ القرار:

كيف وصل شاجال لقرار اختيار اللون الأخضر لرسم الوجه؟ هل كان نابعا من قدرة العقل على تخمين الجمال وأثره، أم أن شاجال استخدم إحساسه أكثر من تخمينه (عقليّا) بأنّ الأخضر سيكون أجمل وقد يعدب الآخرين؟ لقد راعى دافيد جانبا واضحا من الآخرين والنمط المحبّب اليهم وفق التجربة، لكنه  ملأ لوحته بشيء من المعرفة القبليّة أشياء خالية من أثر التجارب الحسيّة، لهذا تولّد شيء كامل من هذه اللوحة (ولدت الكلاسيكيّة الجديدة). وتجدر الإشارة الى أن الزمن كان قد ترك لشاجال مساحة تجربة عقليّة وحسية أكبر مما لدى دافيد؛ قرأ شاجال وعرف وسمع عن الحركات الفنية الحديثة وتجاربها وآثارها، عرف تقلبات الفن بالزمن أكثر من دافيد، لهذا منحه موقعه الزمني افضليّة في اجتراح شكل/لون جديد لتصوير الجمال بصورة خالصة. بعبارة أخرى يمكن اعتبار الفنّ الجميل عمليّة قرار واختيار. ولو توغّلنا بالتفكير أكثر يمكن أن نفهم السبب الذي يمنع صنع آلة (ذكاء صناعي) لإنتاج أعمال فنيّة جميلة، لو حصل لكان الاختيار نابع من بيانات مدخلة (تجربة حسيّة بالنسبة للذكاء الصناعي) أي أنّه سيظل يدور في حلقة مفرغة لا يمكن الخروج منها ولا تتعدى مساحتها مساحة تلك البيانات. ولنتخيل الإنسان آلة والبيانات المدخلة فيه تجارب حسيّة، يعني أن الفن الذي ينتجه نتاج تلك البيانات سيكون محدودا (كالآلة) . أما آلة (ذكاء صناعي) للقيام بحرفة؟ ممكن وأكثر بل إن هنالك آلات تقوم بذلك بالفعل.

 

 

في سبيل المعرفة، ما الذي يحتاجه الفن؟

يفشل الفنّ أحيانا عندما يكون مؤسسيّا؛ فيصبح لا شعوريا حرفة بحتة لها تقاليدها وتعاليمها المنمطة (كخطّ انتاج) و يكون مؤدلجا ومؤطرا بالكامل، مما يدفع الفنانين كثيرا الى خلق حركات أو توجهات للصدام معها، وقد يخلق ذلك فنا صداميّا واعتباطيّا، غرضه الاصطدام لا أكثر. اللوحة والمقطع الموسيقي لهم مساحة لا يمكن أن تخلو من كل الاحتمالات حتّى أشد اللوحات عنجهيّة (الأعمال الجريئة) لن تخرج من طور مراعاة شيء ما حول المتلقّي. حتى إفرازات الانسان  أصبحت عملا فنيّا!* ،عُرض بناء على تجربة وخبرة حب الناس وتطلعهم لكل ما هو ثائر ومستكشِف وجديد ومستعدون أن يعذروا أي أحد طالما أن غايته كذلك. لهذا كانت المدارس خيارا أفضل من الأكاديميات، فهي خلقت تقاليد مرنة وساهم إرثها في أثراء رؤيتها الخاصة أكثر، ولأنها مدرسة شبه افتراضيّة وليست أكاديمية (مقرات، وظائف، بيروقراطيّة الخ) أمكن الخروج منها بمرونة وبشكل بناء دون أي حاجة لكسر شيء ما.  

 


------------------------------

* الحديث لا ينتهي عن فصل العمل الفنّي عن الجمال؛ لو اعتبرنا أن الفنّ ينتج الجمال هل كلّ عمل فنّي جميل؟ وعندما نقول عمل فني جميل أيعني أنه عمل متفرّد؟ طالما أن العديد من الأعمال يمكن اعتبارها جميلة مثل مُنتجات الحرفيين وما تنتجه خطوط الانتاج الآلية من تحف إذ يمكن اعتبار ذلك الجمال جمالا عمليا لا فنيّا.