الأربعاء، 11 يناير 2017

ساعة بيولوجيّة للمجتمع البشريّ




عندما تقرأ في كتاب "مقالة في تاريخ المجتمع المدني" لآدم فيرغسون فإنّك وهو يتحدّث عن الشعوب وهي في مرحلة بداوتها كالتي كان عليها السكيثيين في عهد الاغريق ومانقله شارلفوا عن هنود كندا ونقله تاسيتوس عن الجرمان في عهد الرومان ستجد الكثير من الأمور تتطابق مع مانقله المستشرقون حول سكّان الجزيرة العربيّة. الكرم، الإقدام، التفاني وحتّى كره المهن الحرفيّة والتي كانت تترك للنساء أو للعبيد وظاهرة استحقار المهنّ لاتخفى على تاريخنا في نجد. إنه ينطلق من فكرة مبتكرة ورائعة حول أن تاريخ البشر يتكرّر وبنفس الوقت مستمر نحو النموّ. فالبشر متشابهون بتشابه مراحل تطوّرهم أو تمدنهم مع الاختلافات التي تنشأ من الجغرافيا والمناخ والدين في الشرق.

إنّ مرحلة البداو هي بداية مرحلة تكوين النضج نحو التمدّن. ففي البداوة الكرم نابع من الوحدة التي بها يكون الفرد آمنا في بيته وعلى ماله. مبنيّة على الصداقة والقرابة والإيمان بأنّ مايمسّ هذا يمسّه هو. فالكلّ متساوي وروح التساوي طاغية إلا ماتفاوت من مهارات وتقدّم في العمر. فكلّ البداوات لها فرسان وحكماء من كبار السنّ وعندما يتمدّن هذا المجتمع يأخذ معه الكثير من قيمه التي تتبدّل تدريجيّا. ففكرة الكونجرس الروماني قائمة على استشارة كبار السنّ في البدء، أيّ أن ذلك من وحي ماكان لهم من بداوة ماضية والتي تلاشت مع إقرارحقّ الملكيّة -وهي لبنة التمدّن الأولى- والحقوق التي كان البدوي يعرفها بفطرته من سعادته وحاجته ولكنها الآن بحاجة الى إعادة صياغتها مع الاستقرار بالمدن والقرى، حيث أنّ الترحال والغزو والرعي لم تعد الأسس الرابطة للمجتمع وهي أسس محسوسة ويتطلّب عند فقدانها بالتمدّن بإقرارها بالحقوق المعنويّة المدعومة بالتشريع.

فقد لاحظ علي الوردي بأنّ الاستبداد نشأ مع استقرار العشائر بالضيع والقرى. لأنّ ذلك أنشأ التملّك ومارافقها من طبقيّة وحسد وطمع. الأمر الذي لم يكن موجودا في البادية.

وحيث أنّه لايوجد مختار تحرسه الأنظمة والقوانين  بل شيخ تحرسه القيم والمبادئ وحاجة الجميع. وفي المدن يتحوّل إجلال الشيخ الى إجلال سلالته. ففي البادية تقبل الهدايا ويكثر العطاء في حين يقلّ في المدن حتّى قبول الهدايا إذ أنّ المهدى يفهم أنّها نوع من أنواع الإعارة (تسليع العواطف).

ومع ذلك لم يصل الإغريق لماوصلوا إليه إلا بعد تمدّنهم. وكذلك الرومان. بل إنّ المجتمعات التي ظلّت على بداوتها والتي لم تعزها الشجاعة خضعت بقوّة الأنظمة العسكريّة للدول -كان الاغريق والرومان ينعتوهم بالبرابرة- والأمر ينطبق على استعمار أمريكا الذي تأخّر سكّانها كثيرا بالبقاء في بداوتهم بقارتها الشماليّة ووصل الأمر بقارتها الجنوبيّة الى أحطّ مراحل وهن التمدّن دفعة واحدة فسقطت في وجه حضارة مندفعة تحمل كلّ أسباب الإنبعاث.

ولعلّ قيم البداوة الصالحة والمندفعة  والتمدّن الحكيم قبل مرحلة التفسّخ هو ماجعل الإسلام يؤسّس نفسه بقوّة في جزيرة العرب وجعل مسلميها يحطّمون أعظم امبراطوريّتين في ذلك الزمان. لقد أتى الإسلام للعرب بقيم التمدّن الحكيم والى الرعايا اللاحقين بقيم الإصلاح لتمدّنهم الذي وهن في أجزاء منه. لقد استقرّ العرب وأسسوا حضارتهم الإسلاميّة بمراحل طبيعيّة للنموّ. ولعل أشهر تحوّل حدث في تاريخنا الاسلامي هو حكم الأتراك للعديد من الأقاليم الإسلاميّة وبصورة خاطفة، من البداوة الى الحكم لعالم قطع شوطا طويلا من التمدّن لكنّ أسباب وهنه تضاعفت مع الزمن دون إصلاح جدّي. كان الأمر أشبه بالصدمة، لم يكن ركب النموّ الحضاري متوافقا مع وصول الأتراك في حالات كثيرة. وهذا ماسبّب الارتباك في العالم الإسلاميّ، لم يكن لهؤلاء أيّ قيم تساعد على استنهاض ماحكموه، بل كانوا مندفعين مما زاد الوضع تمزيقا. ولم يوفّق إلا سلاجقة الروم والعثمانيون في مواكبة البلدان التي ورثوها، لأنّهم أكملوا أشواطا من النموّ قبل أو خلال الحكم بعكس غيرهم الذين حكموا كما حكموا عشيرتهم.  ولكن مع الأسف ما عجز عنه العرب والفرس من قبل عجزوا عنه لاحقا في إصلاح قيم التمدّن التي وصلوا إليها لاحقا -وهو موضوع آخر-.ولكن عندما دخل الفرنج الى بلاد الغال إنساقوا مع ماورثوه بالبلاد من عباد وسلك حضاري والأمر منطبق على القوط واللمبارد الجرمانيون. لم يمهل الزمن الأتراك كثيرا إذ أنّهم انتقلوا من البداوة الى الحكم بدلا من البداوة إلى التمدّن فالحكم.

المجتمعات تبني نفسها ويساعدها الآخرون. فكلّ ذلك كان بناءا للتاريخ أو إعمار له.  وينبغي لكلّ بنيان تالي أن يكون أحسن مما قبله.

عندما وصل كولومبس إلى القارة الجديدة كان ذلك في عام ١٤٩٢م لكننا  لاندري بالضبط في أيّ عام كانوا هم ؟ 


بالنهاية، وبالعودة الى كتاب فيرغسون أحبّ أن أشير إلى أنّ روعة كتابه ستكتمل حالما تقرأ "روح الشرائع" لمونتسكيو أو العكس. فهذه الكتب تناولت تاريخ مالايمكن أن ندركه ببساطة كالأحداث إلا بالتدبّر وهو عبارة عن تاريخ شيء نمى بنا وبمجتمعاتنا وقوانيننا يشبه الفهم الذي لم يكتمل بعد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق