كيف يمكن أن نكتب تاريخا لقرى في غاية الكتمان؟
بإمكانك أن تسمع حكايات كبار السنّ عن الزمن الأوّل "أيام الأوّلين"، صورة نمطيّة عن زمن كان في غاية القسوة على أناس طيّيبين. لكن الواقع أنّ هنالك الكثير من الحكايات التي لايمكن أن تخرج من صدورهم بحكم طبيعتهم. لا لأنّ فيها مايشين بل لأنّ طبيعتهم كتومة بشكل لايصدّق.
إنّهم أناس متحفّظون، لقد كتب المستشرقون كثيرا عن الجزيرة العربيّة وعن نجد وبدوها بالذات ولكنّ القرى ظلّت شبه مجهولة إلا من الخارج. بتصوّري لايمكن لأيّ أحد أن يؤلّف كتابا دقيقا عن العادات الاجتماعيّة وقصص القرى النجديّة، فهو لن يعثر إلا على كلّ ماهو نمطيّ يخفي أمورا لايحبّ أهلها أن تبدو. ليس لأنّ فيها مايشين بل لأنّهم متحفّظون حتّى على ابداء مشاعرهم.
يقول محمد عبدالله الحمدان الذي أعدّ كتاب "ديوان السامري والهجيني" أنّ الكثير من قصائد شاعر الملك عبدالعزيز: فهد بن دحيم موجودة لدى بعض الرواة وأصدقاء الشاعر خاصة والذين لم يسمحوا لأحد بالاطلاع عليها ناهيك عن نشرها! الأمر معتاد في قرى نجد أن يقوم شاعر بحرق كلّ قصائده أو أن يوصّي أحدهم بعدم رواية أبياته بعد مماته! ففي لقاء مع الشاعر الراحل أحمد الشايع وهو من الزلفي تحدّث عن شيء مثل ذلك وكيف أنّ الشعر كان نوع من العيب روايته وكانوا يعانون في ذلك وذكر أن الأمور كانت أهون في عنيزة وعند العوازم.
إن ذلك يجعل المرء يستغرب وجود كم كبير من شعراء قرى نجد ومن بينهم أشعر شعراء النبطيّة وهو ابن لعبون. وقد كتبوا قصائد توحي بأنّهم اطّلعوا على الأقل على أبيات الشعر الجاهلي والفصيح ولا أحد يعرف كثيرا كيف تعلموا كلّ ذلك. ناهيك عن كون العديد منهم كانوا يكتبون كما توحي بذلك أبياتهم. عند وصول المدارس - عهد الملك عبدالعزيز- لم يعرف طلبة معنى لـ " لاترمي قشرة الموز على الطريق" فهم لم يروها في حياتهم. كل مايُعرف عن قرى نجد لايعدو عن كونه انطباعات أو حكايات من الأوّلين الذين لايقولون كلّ شيء ولايحبّون نشر الشعر الذي ينشر مافي صدورهم.
كيف يبدو أهل قرى نجد وكيف هي حياتهم؟ بالتأكيد لاتبدو الصورة التي رسمها مسلسل "طاش ماطاش" دقيقة في كلّ جوانبها. من كوميديّات سعيدان وعليّان إلى سالفة "البرقيّة" (السِّكني) . أشهر انطباع حولهم لعلّه الانطباع بأنّهم متشدّدون ووهّابيّون لا أكثر. إنّه إجحاف لايصدّق في حقّ من لم يحكوا كثيرا عن أحوالهم وظروفهم.
لعلّ أشهر شيء في نجد كان الفقر، وليس من الإنصاف أن يذكر "الجهل والفقر" معا لأنّ الفقر كان سيّد الموقف. لا أحد يعرف مالذي فيها حتّى يعود إليها أكثر من رحل عنها طلبا للرزق وهي في عزّ فقرها.
لاتبدو الحياة في ذلك الزمان كما توحي قصصهم ومانسمع بأنّها حياة تستحقّ أن يُحلم بعودتها. رغم أن من عاشها يذكرها بنفس طيّبة أحيانا، إنّه أشبه بمن تسأله عن حاله وهو ليس بخير ويقول لك: "بخير نحمد الله ونشكره" الكثير من التصرفات والمواقف لايجب أن يُحكم عليها بدون النظر بعين الاعتبار لحالة الناس في ذلك الزمان. من الصعب أن نفهم كيف كانت الأحوال في غاية القسوة إلا إذا حاولنا أن نفهم بأنّ بعض المواقف لم تكن إلا بسبب خلفيّة ذلك الزمان.
بالكاد نستطيع فهم الحياة فيها عن طريق أشعارهم التي بقيت. كان هنالك العديد من الشعر الذي اندثر للأسباب التي ذكرنا وكان هنالك شعر يصوّر الكثير ولاشكّ ولكن القليل منه رغبوا في وصوله وكذلك القصائد التي سجّلت المواقف السياسيّة على اختلاف توجّهاتها.
من القصائد التي حكت عن الفقر في نجد لابراهيم بن جعيثن التي فيها:
مما جرا جالي على الشعر دالول
للقيل دقّ "التيل" راع المكينة
"التيل" يعني التلغراف
وفيها يخاطب نجد وكيف غدا حاله بعد أن ذهب ماجمعه من مال خارجها بعد مدّة بسيطة من عودته اليها:
يا نجد حدَّيْتيني انشرك واقول:
من يا الَّدِنيَّة برّ بِكْ ما تبينه
يا نجد يا ام الهول ما دِرْتي الحول
ما اسرعك لي ثوب الجفا تلبسينه
جيتك وانا عاقل وبك صرت بهلول
خوفٍ على ما في يدي تاخذينه
الى أن جاوبت نجد بلسانه:
تقول ذا طبعي ولاهو بمجهول
إنشد ترى شيابكم خابرينه
ولم يتغيّر الحال كثيرا، ظلّ أهلها يرحلون لجمع المال ويعودون اليها وحال ماينتهي ماعندهم يرحلون ليجمعوا ماسينفقونه فيها لاحقا.
ولنجد رمزيّة مؤثّرة وثقل سياسيّ بالجزيرة العربيّة، رغم أنّها تبدو على الخرائط بقعة صفراء خالية من السكّان إلا في قرى تحاصرها الرمال. أو جزر خضراء منعزلة في بحر صحراء واسعة. وهي فعلا قد تكون كما قال الشاعر عطالله بن خزيّم:
مامثل نجد الى عطت بالمقابيل
الله يـثـبّـت بـالـمـعـزّة رجـالـه
وقد ينقم منها أحدهم ويقول كما قال الشاعر فهد بن صليبيخ:
يانجد من سمّاك نجد غوى اسماك
هـو لـيـه مـاسـمّـاك بـامّ الـبـلاوي
الحديث عن نجد يصعب من مسألة التعريف بما هي: نجد؟ حيث يفهم أنّ الرياض وقراها منها في حين أنّ العرب أيّام الجاهليّة وبداية الإسلام لايسمّون تلك المناطق بنجد. حيث أنّ نجد عندهم تشمل القصيم وحائل التي هي تعتبر من الشمال عندنا اليوم. إلى مسألة الحديث عن حياة أشخاص يجيدون الكتمان بشدّة، ويؤثرون السكوت في الكثير من المواقف وتكثر عندهم الأمثلة التي تسخر وتحذّر من كثرة الكلام والثرثرة ويجيدون إبطان المعاني في كلامهم وأشعارهم. وبالرغم من دورهم في الكثير من المواقف التاريخيّة إلا أنّهم لايكثرون الحديث عنها وعن رجالها. بكلّ بساطة لنجد تاريخ لم ولن يكتب بسبب طبيعتها.
على كلّ حال لم يكن هذا الحديث إلا تصوّرا يتكرّر في البال من حين الى آخر.
بإمكانك أن تسمع حكايات كبار السنّ عن الزمن الأوّل "أيام الأوّلين"، صورة نمطيّة عن زمن كان في غاية القسوة على أناس طيّيبين. لكن الواقع أنّ هنالك الكثير من الحكايات التي لايمكن أن تخرج من صدورهم بحكم طبيعتهم. لا لأنّ فيها مايشين بل لأنّ طبيعتهم كتومة بشكل لايصدّق.
إنّهم أناس متحفّظون، لقد كتب المستشرقون كثيرا عن الجزيرة العربيّة وعن نجد وبدوها بالذات ولكنّ القرى ظلّت شبه مجهولة إلا من الخارج. بتصوّري لايمكن لأيّ أحد أن يؤلّف كتابا دقيقا عن العادات الاجتماعيّة وقصص القرى النجديّة، فهو لن يعثر إلا على كلّ ماهو نمطيّ يخفي أمورا لايحبّ أهلها أن تبدو. ليس لأنّ فيها مايشين بل لأنّهم متحفّظون حتّى على ابداء مشاعرهم.
يقول محمد عبدالله الحمدان الذي أعدّ كتاب "ديوان السامري والهجيني" أنّ الكثير من قصائد شاعر الملك عبدالعزيز: فهد بن دحيم موجودة لدى بعض الرواة وأصدقاء الشاعر خاصة والذين لم يسمحوا لأحد بالاطلاع عليها ناهيك عن نشرها! الأمر معتاد في قرى نجد أن يقوم شاعر بحرق كلّ قصائده أو أن يوصّي أحدهم بعدم رواية أبياته بعد مماته! ففي لقاء مع الشاعر الراحل أحمد الشايع وهو من الزلفي تحدّث عن شيء مثل ذلك وكيف أنّ الشعر كان نوع من العيب روايته وكانوا يعانون في ذلك وذكر أن الأمور كانت أهون في عنيزة وعند العوازم.
إن ذلك يجعل المرء يستغرب وجود كم كبير من شعراء قرى نجد ومن بينهم أشعر شعراء النبطيّة وهو ابن لعبون. وقد كتبوا قصائد توحي بأنّهم اطّلعوا على الأقل على أبيات الشعر الجاهلي والفصيح ولا أحد يعرف كثيرا كيف تعلموا كلّ ذلك. ناهيك عن كون العديد منهم كانوا يكتبون كما توحي بذلك أبياتهم. عند وصول المدارس - عهد الملك عبدالعزيز- لم يعرف طلبة معنى لـ " لاترمي قشرة الموز على الطريق" فهم لم يروها في حياتهم. كل مايُعرف عن قرى نجد لايعدو عن كونه انطباعات أو حكايات من الأوّلين الذين لايقولون كلّ شيء ولايحبّون نشر الشعر الذي ينشر مافي صدورهم.
كيف يبدو أهل قرى نجد وكيف هي حياتهم؟ بالتأكيد لاتبدو الصورة التي رسمها مسلسل "طاش ماطاش" دقيقة في كلّ جوانبها. من كوميديّات سعيدان وعليّان إلى سالفة "البرقيّة" (السِّكني) . أشهر انطباع حولهم لعلّه الانطباع بأنّهم متشدّدون ووهّابيّون لا أكثر. إنّه إجحاف لايصدّق في حقّ من لم يحكوا كثيرا عن أحوالهم وظروفهم.
لعلّ أشهر شيء في نجد كان الفقر، وليس من الإنصاف أن يذكر "الجهل والفقر" معا لأنّ الفقر كان سيّد الموقف. لا أحد يعرف مالذي فيها حتّى يعود إليها أكثر من رحل عنها طلبا للرزق وهي في عزّ فقرها.
لاتبدو الحياة في ذلك الزمان كما توحي قصصهم ومانسمع بأنّها حياة تستحقّ أن يُحلم بعودتها. رغم أن من عاشها يذكرها بنفس طيّبة أحيانا، إنّه أشبه بمن تسأله عن حاله وهو ليس بخير ويقول لك: "بخير نحمد الله ونشكره" الكثير من التصرفات والمواقف لايجب أن يُحكم عليها بدون النظر بعين الاعتبار لحالة الناس في ذلك الزمان. من الصعب أن نفهم كيف كانت الأحوال في غاية القسوة إلا إذا حاولنا أن نفهم بأنّ بعض المواقف لم تكن إلا بسبب خلفيّة ذلك الزمان.
بالكاد نستطيع فهم الحياة فيها عن طريق أشعارهم التي بقيت. كان هنالك العديد من الشعر الذي اندثر للأسباب التي ذكرنا وكان هنالك شعر يصوّر الكثير ولاشكّ ولكن القليل منه رغبوا في وصوله وكذلك القصائد التي سجّلت المواقف السياسيّة على اختلاف توجّهاتها.
من القصائد التي حكت عن الفقر في نجد لابراهيم بن جعيثن التي فيها:
مما جرا جالي على الشعر دالول
للقيل دقّ "التيل" راع المكينة
"التيل" يعني التلغراف
وفيها يخاطب نجد وكيف غدا حاله بعد أن ذهب ماجمعه من مال خارجها بعد مدّة بسيطة من عودته اليها:
يا نجد حدَّيْتيني انشرك واقول:
من يا الَّدِنيَّة برّ بِكْ ما تبينه
يا نجد يا ام الهول ما دِرْتي الحول
ما اسرعك لي ثوب الجفا تلبسينه
جيتك وانا عاقل وبك صرت بهلول
خوفٍ على ما في يدي تاخذينه
الى أن جاوبت نجد بلسانه:
تقول ذا طبعي ولاهو بمجهول
إنشد ترى شيابكم خابرينه
ولم يتغيّر الحال كثيرا، ظلّ أهلها يرحلون لجمع المال ويعودون اليها وحال ماينتهي ماعندهم يرحلون ليجمعوا ماسينفقونه فيها لاحقا.
ولنجد رمزيّة مؤثّرة وثقل سياسيّ بالجزيرة العربيّة، رغم أنّها تبدو على الخرائط بقعة صفراء خالية من السكّان إلا في قرى تحاصرها الرمال. أو جزر خضراء منعزلة في بحر صحراء واسعة. وهي فعلا قد تكون كما قال الشاعر عطالله بن خزيّم:
مامثل نجد الى عطت بالمقابيل
الله يـثـبّـت بـالـمـعـزّة رجـالـه
وقد ينقم منها أحدهم ويقول كما قال الشاعر فهد بن صليبيخ:
يانجد من سمّاك نجد غوى اسماك
هـو لـيـه مـاسـمّـاك بـامّ الـبـلاوي
الحديث عن نجد يصعب من مسألة التعريف بما هي: نجد؟ حيث يفهم أنّ الرياض وقراها منها في حين أنّ العرب أيّام الجاهليّة وبداية الإسلام لايسمّون تلك المناطق بنجد. حيث أنّ نجد عندهم تشمل القصيم وحائل التي هي تعتبر من الشمال عندنا اليوم. إلى مسألة الحديث عن حياة أشخاص يجيدون الكتمان بشدّة، ويؤثرون السكوت في الكثير من المواقف وتكثر عندهم الأمثلة التي تسخر وتحذّر من كثرة الكلام والثرثرة ويجيدون إبطان المعاني في كلامهم وأشعارهم. وبالرغم من دورهم في الكثير من المواقف التاريخيّة إلا أنّهم لايكثرون الحديث عنها وعن رجالها. بكلّ بساطة لنجد تاريخ لم ولن يكتب بسبب طبيعتها.
على كلّ حال لم يكن هذا الحديث إلا تصوّرا يتكرّر في البال من حين الى آخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق