الأربعاء، 5 فبراير 2025

كيف صنع ذلك الجيل من أعمال الانمي إرثا مميزا من الذكريات


"لا تغضب منّي أيها الشاب أرجوك، لا أريد أن أتذكّر أي شيء عن حياتي الماضية"
(جون سيلفر، في الحلقة الأخيرة من "جزيرة الكنز")




التطرّق  للذكريات

في "ريمي الفتى الشريد"، أخفى فيتاليس عن ريمي اسمه الحقيقي وماضيه، كما فعل تامر في "النمر المقنّع"، حين أخفى هويته وطفولته عن الجميع. الكثير من الذكريات كانت تخبّؤها شخصيات ذلك الجيل من الأعمال بشجن ،  مثل والد فارس الفتى الشجاع وخالة بوليانا. ورغم أن عنصر الذكريات حاضر في أعمال أنمي أحدث مثل "ون بيس" و"قاتل الشياطين" ، إلا أن ما يميز الذكريات في أنمي الثمانينات والتسعينات هو ارتباطها الوثيق بجيل نشأ على متابعتها مدبلجة. هل يعود ذلك إلى طبيعة قصصها، أم إلى الزمن الذي عُرضت فيه؟



الرسم والتحريك وأثره على الذاكرة

تشبه رسومات تلك الأعمال لوحات الفن الياباني، مع فارق أن العيون فيها أكثر اتساعًا -إذ تُعتبر العين مرآة الروح وفق اعتقادهم- . تتميز العديد من مشاهد الأنمي القديم بجمالية تشبه اللوحات الفنية، لا سيما في أعمال أوسامو ديزاكي مثل "ريمي الفتى الشريد" و"جامبا" و"جزيرة الكنز"، مما يضفي على المشهد قيمة حسية مميزة. أما في الأعمال الحديثة، حيث يغلب الرسم الرقمي الآلي الذي يفتقد دفء الخطّ اليدوي  والهامش الناعم من اللمسة البشريّة، فإن ارتباطها بالذكريات يبدو أقل تناغمًا. في الرسوم القديمة، كان للإضاءة وتباينها دور وظيفي وأساسي في إبراز ملامح الوجوه وتفاصيل المشاهد، تمامًا كما في اللوحات الفنية، وهو عنصر أصبح أقل حضورًا في الأعمال الحديثة.


"ليدي أوسكار"، مشهد قصف الباستيل

في تلك الفترة، لم تكن التقنية تتيح تنفيذ مشاهد حركية سريعة كما هو الحال اليوم. بدلًا من ومضات قصيرة كـ'ضربة خارقة أو صاعقة' أخرجت كومضة، كانت المشاهد أطول وأكثر تأملًا، مما أتاح للمشاهد فرصة استيعاب المشاعر الكامنة فيها. كما امتازت المشاهد الحركية القديمة بلمسات فنية معبرة، سواء عبر لقطات ساكنة تلتقط جزءًا من الحركة، مثل قتال بيلي بونز لسكيني دوغ و تحطيم سيلفر للجمجمة في "جزيرة الكنز" أو من خلال انسيابية أنيقة في الحركة والألوان، كما في ضربات "النمر المقنع" والمناورات الكروية في "الهداف".  في المقابل، تميل الأعمال الحديثة إلى إثارة المشاهد عبر ومضات سريعة تثير المشاعر وتتحكم بالانتباه، حتى مع غياب القصص العميقة، مما جعل الاستعراض الحركي يشكل جزءًا كبيرًا من بناء الشخصيات وسرد الأحداث.

كما أولت الأعمال القديمة -وخاصة المدبلجة منها- اهتمامًا خاصًا بالقصص الخالدة التي تحمل قيمًا إنسانية. حدود الرسم والتحريك آنذاك دفعت إلى التركيز بشكل أكبر على المشاهد الحوارية وتحليل الشخصيات بصريًا.  لهذا، يمكن ملاحظة الفرق في طبيعة الذكريات بين من شاهد "جزيرة الكنز" في طفولته وعاد ليتذكر مشهد كوب القهوة بين جيم وسيلفر، واللحظات المؤثرة في "ريمي الفتى الشريد" وبين من نشأ على مشاهدة "البوكيمون" و "أبطال الديجيتال".



"ريمي الفتى الشريد"


الصوت والدبلجة: بين الجودة والتبسيط

إلى جانب القيمة التي يضفيها الجمال البصري في تشكيل الذكريات واستعادتها، للصوت وتناغمه جمالٌ خاصٌّ ووزنٌ في الذاكرة. في تعليق أحدهم على أنمي "الرمية الملتهبة"، قال إن صراخ البطل مزعج ولا يمكنه إكمال مشاهدته، وهو تعليق مشابه لما سمعته عن "هجوم العمالقة". مشاهد الصراخ جزء أساسي في الأنمي الياباني، تُستخدم لتصوير لحظات الذروة والحماس، ويتماشى هذا الأسلوب مع مفهوم 'الإشباع اللحظي'، حيث يُستثار المتلقي فورياً عبر مشاهد مشحونة بالعاطفة. ومع ذلك، في الأنمي القديم، كان بناء المشاعر أكثر تدريجًا وتأملًا، أما في الدبلجات القديمة، فقد كان هناك اهتمام أكبر بانتقاء الأصوات، والعناية بالأداء، لذلك لم يكن غريبًا أن تبقى أسماء مثل وحيد جلال، سامي كلارك، إيمان هايل، ونصر عناني محفورةً في ذاكرة جيلٍ بأكمله. 



شخصيات من سلسلة ' مسرح تحف العالم'  

يمكن بسهولة ملاحظة الفرق بين الدبلجات التي قُدمت في الثمانينات، بما فيها إنتاجات 'مسرح تحف حول العالم'، وبين الدبلجات الأحدث في التسعينات. الدبلجات الأقدم كانت أكثر وفاء للنصوص الأصلية، واحتفظت غالبا بالأسماء الأصليّة، على عكس الدبلجات اللاحقة التي عرّبت الأسماء ووجهت بشكل أكبر للأطفال،  على سبيل المثال، في المشهد الترويجي للشركة الدولية لأفلام الكرتون، تقول بأنها "لا تغفل أن تحوّل بعض أروع قصص الكبار إلى عالم الصغار، وبشكل لطيف ولغة مأنوسة سهلة التناول"،  ويقول المشهد نفسه  بعبارة لاحقة: "يقوم مركز الزُهرة بدبلجتها إلى اللغة العربيّة بعد أن ينتقي منها بكلّ دقة وحرص ما يناسب قيم المجتمع العربيّ وعاداته وتقاليده"،  تعكس هذه العبارة تحولًا جوهريًا في نهج الدبلجة، حيث أصبحت أقرب إلى الرقابة التربوية، وهو ما أدى أحيانًا إلى تحوير أو تشويه النصوص الأصلية(١) . في السابق، كانت الدبلجة بطبيعتها تناسب الصغار وتجذب الكبار (الذين شاهدوها غالبا مع صغارهم بجلسات التلفزيون)، لكنها لاحقا باتت أكثر توجيها للصغار؛ سواء بانتقاء العبارات ونبرة الصوت، اختفت اللغة الفخمة والعبارات البليغة التي أضفت على الأعمال السابقة عُمقا بلاغيّا، وحلّ محلّها أسلوب أكثر مباشرة وتربوية -وإن كان ذلك بدافع من اعتبارات تربوية مهمة (٢)- ذلك أفقدها شيئا من السحر والجاذبية العابرة للأجيال والأبقى للذكريات.

 


سياق العرض وأثره في تشكيل الذكريات  

لا يمكن إغفال السياق التاريخي والاجتماعي الذي أحاط بإنتاج الأعمال ودبلجتها ووسائل عرضها، سواء عبر قنوات التلفزيون أو أشرطة الفيديو أو مواقع التحميل على الإنترنت. بعض الأعمال أُنتجت في الثمانينات لكنها لم تُدبلج إلا في التسعينات، بينما عُرضت أخرى على القنوات الرسمية خلال أوقات الذروة العائلية، وشاهدها الجميع، في المقابل، هناك أعمال لم تُتح إلا عبر القنوات الفضائية خلال فترة تعدد القنوات. مما خلق تجارب مختلفة في تلقيها وتأثيرها على ذاكرة المشاهدين، على سبيل المثال، أُنتج "النمر المقنع" في الثمانينات لكنه لم يُدبلج إلا في أواخر التسعينات! لذلك، قد لا يحظى "النمر المقنع" بنفس الطابع الذي تحمله في الذاكرة أعمال معاصرة له، لكنها دُبلجت قبل سنوات، مثل "فارس الفتى الشجاع" و "الكابتن ماجد".

ختامًا، يمكن القول إن طبيعة قصص ذلك الجيل من الأنمي، إلى جانب أسلوب رسمه ودبلجته وسياق عرضه، قد ساهمت في تشكيل ذاكرة أكثر حميمية. وما حديث شخصيات تلك الأعمال عن الذكريات إلا صدى يتردد صداه من الأعماق ،  " ألا تعتقد .. ألا تعتقد .. أني على صواب يا جيم"  



" جزيرة الكنز"، حديث القهوة بين  جيم وسيلفر 


---------

(١) أحيانا يضطرّ المنتج لإزالة مشاهد وعبارات غير ملائمة، مثلا، مسلسل "أخي العزيز" عبر عدد من المشاهدين بأنهم لم يفهموا قصّته. مجلة حبر الالكترونية،  مقالة رحمة حسين، "دوبلاج مسلسلات الأطفال في الأردن: لماذا شارفت القصّة على الانتهاء". 

(٢) اعتبارها احدى وسائل تعليم اللغة العربية للأطفال.