الاثنين، 13 مايو 2019

آلة الزمن .





*
 Wayne Thiebaud 



تحاشيا للإحراج كنت أذهب مشيا إلى الصلاة في المسجد البعيد. لا أحد من الجيران يمكن أن يراني باللباس الذي يريحني، عدا قلة من أمثالي.

مع الأيام والسنوات أدركت أن اللباس لم يكن السبب في تفضيلي الذهاب إلى المسجد البعيد. حتّى مع صلوات الظهر كنت أفضّل الذهاب إليه. كان الطريق منه وإليه نفس الطريق الذي كان يؤدي إلى مدرستي، أيامي الأجمل والتي ظننت حينها أن أجمل أيامي لم تأتي بعد، رغم أني كنت أعيشها بالفعل ودفاتري الحالمة تدل على ذلك.

أتذكر بالكلية قال لي أحدهم بأن في "السراة" باب يقود إلى العالم الآخر. ليس لعالم الجن فحسب بل إلى حياة أخرى وعالم مختلف. كان حديثه يسليني، لم أقاطع حديثه بشربي ما كان في يدي، كما كنت أفعل غالبا، محاولا دسّ رأسي في الكوب بعيدا عن ضجيج أي حديث لا يهمني.

لم يعني ذلك شيئا لطريقي الطويل نحو المسجد. من عادتي أحب سماع مثل هذه القصص التي لا أؤمن بها ولو أني أجد متعة في تصديقها من يوم لآخر.

اعتدت إمالة كتفي نحو الظل المنحسر صوب الجدار. يكاد رأسي يحك في الجدار في كل مرة أحاول نيل قدر أكبر من الظلال. مالم تستطعه الخلوة واللحظات في إعادتي لأيامي بالمدرسة استطاعت الشمس اللاهبة والجدار والظل المنحسر فعله. لم يتغير شيء، طلاء الجدار على لون النادي (الأزرق والأخضر) على حاله، كان يلمع وكأنهم يجددونه، كما كان لونه يبعث على "البراد" والبيوت القديمة بالجهة المقابلة لم تتغير، وصالون الحلاقة ذاك الذي ترك في نفسي ندبا لا يُنسى. هل حكيت لأحد ما حدث؟ لا أدري لكني واجهت مالم استطع تجاوزه كنت أخشى الذهاب الى نفس الطريق في نفس الوقت الذي حدث فيه ذاك -خارج وقت الدراسة تماما-. عندما حملت أخي راكضا فكرت بالصراخ لألفت الانتباه إلا أن خوفا ما كان يسد فمي. هل كان أحدهم سيكترث؟ الصراخ ملفت لكن مشهد صبي يحمل أخاه على كتفه راكضا أكثر الفاتا ومع ذلك لم ينتبه أحد.
 هذه الأيام في كل مرة أمر بالكاد يشكل المكان بما حدث فيه عائقا بسيطا على طريقي، كحجر عثرة يمكن ركلها والتسلي بها. ما كنت أظنه سيشكل عائقا على نفسيتي طوال عمري لم يعد شيئا. أصبح كندب موس الحلاقة على الوجه، يزعج كثيرا ويصعب نسيانه حتى يختفي أثره.

لم يتغير حذري وأنا أقطع الشارع عائدا. أصل للبيت وأنسى كل شيء. أعود في وقت آخر -صلاة أخرى- نفس الطريق ويعود كل شيء إلا أيامي الجميلة لا تعود.

لهيب الشمس بات لطيفا.
يمكنني أن أصف الطريق عائدا كما كان. نفس الفتحة النافذة من الجدار والتي يمكنني رؤية الناس يلعبون داخل النادي. ومحول الكهرباء الضخم والذي يعترض الطريق لازال عدا عن الأعمدة التي كانت تحيط به، تحطم بعضها وبعضها مال لكن المحول على حاله. الغريب أن الطلاء كان جديدا طوال طريقي وباردا على العين كعادته أيام المدرسة، عدى المساحة الضيقة بين المحول والجدار. الطلاء كان مقشّرا! وقديم كأنه المكان الوحيد الذي مضت عليه السنين. باب المحول ذكرني بالباب الموجود في "السراة" والذي حكى صاحبي عنه. محول بطاقة هائلة وباب وزمن مختل (آلة زمن) ؟! جعلت كل شيء على حاله حتى الزرع المطل من جدران البيوت والطلاء والنخيل على حالها. الزمن كان متوقفا. والمكان كأنه صورة فوتوغرافية لزمن متوقف وكنت الوحيد الذي يتجول داخل الصورة بزمانه. كأن باب "السراة" الذي حكى صاحبي عنه يقود إلى هنا كأني جئت منه دون أن أذكر وإلا لم صدقت كلامه أو كأن أحدهم صنع آلة الزمن تلك وألقاها على الشارع ودون أن أدرك كأني كنت أعرف شيئا من ذلك في الحقيقة أو في حلمي.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق