الاثنين، 4 ديسمبر 2023

كيف يمكن عمل فيلم مثالي عن نابليون؟



شخصية تشبه الاسكندر المقدوني ويوليوس قيصر مجمع على عظمتها ويصعب الحكم عليها.لا نجد صعوبة في الحكم على هتلر وستالين أو جنكيزخان ورغم أن نابليون يشبه الدكتاتوريين والطغاة بجوانب كثيرة إلا أنه نادرا ما تطلق عليه هذه الصفات بصورة مطلقة. كأنّ التاريخ قام بعمل مونتاج لسيرته وتحاشى تشويه حكايته بالحقائق ليقتصر على الجانب المشرق من عظمته، سمة فعلها التاريخ لأشخاص نادرين.

 هل انتاج فيلم بسرديّة تعظيميّة مشابهة لفيلم أبيل غانس (1927م) وبمدة ٦ ساعات تقريبا عمل مثاليّ؟. 

بسيرته الكثير مما يمكن الحديث عنه وما يمكن كشفه والتركيز عليه كمّ هائل من العناصر التي نجدها في القصص والكتب واللوحات الفنيّة عنه. انتقاؤها في فيلم يحتاج لانتقائيّة ابداعيّة، كان يمكن أن تكون بصورتها الأكمل بمشروع كوبريك الذي توفّي قبل اتمامه ويمكن فهم سبب بقاء المشروع في ظلّ المسودّات والأفكار والمفاوضات سنين طويلة. الآن لدينا فيلم ريدلي سكوت بطولة خواكين فينيكس ولا أدري كيف سيكون.

الأمر أشبه بمحاولة رسام اختزال نابليون في لوحة، أي زمن سيختار؟، على أنّ اللوحة ليست إلا قطعة متوقّفة من الزمن إلا أنها قادرة على اعطاء صورة مجملة عنه ربما أكثر من فيلم يدوم لساعات؛ فالمدة ليست دائما في صالح الأفلام. هل تستطيع البوسترات تصوير ما تصوّره اللوحات؟ في أحد بوسترات فيلم سكوت نجد فينيكس جالسا بوضعيّة تشبه لوحة الرسام الفرنسي ديلاروش المرسومة عام (١٨٤٠م) بعنوان "نابليون في فونتينبلو في ٣١ مارس ١٨١٤" بعد هزيمته الأولى من الحلفاء. بالبوستر يرتدي قبّعة ويبدو أقلّ بدانة وتعابيره مختلفة؛ بدا جديّا ومتجهّما في حين كان اليأس والغضب واضحين عليه في اللوحة، وعلى الجدار نجد توقيع نابليون باللون الأحمر. 

وانتهي بتساؤل: كيف سيبدو الفيلم المثاليّ عن نابليون؟

 

لوحة ديلاروش

 


لوحة جاك لويس دافيدز "نابليون عابرا الألب" (١٨٠١م)، لعلها أشهر لوحة لنابليون. 


 

 

    


الاثنين، 16 أكتوبر 2023

طنين

 



 "ألا تسمع هذا الصراخ الرهيب الذي يحيط بك من كل جانب؟ هذا الصراخ يسميه البشر بالصمت"

العبارة لامست أعمق ما يمكن للكلمات حفره في ذاكرتي. كم بدا ذلك رهيبا؛ اعتبار الصمت صوتا نسمعه. يشبه الصمت التحديق بعيدا بالأفق، أو كما صوّر الرسام فريدريش كاسبر الأفق في لوحته "متجول فوق بحر الضباب، 1818م". لوحات كاسبر مليئة بالصمت، بعبارة أخرى مليئة -وللتوّ انتبه الى هذا الرابط- بالأفق. العبارة لجورج بوشنر، أخذتها من فيلم " لغز كاسبر هاوسر، 1974 " إخراج، فرنر هيرتزوغ. 

هل توقّعت أن تُحرم يوما من سماع ذلك الصوت بسبب عرض صحّي، أو علّة طفيفة تسبّب طنينا في أذنك؟

 كم أذهلتني معلومة أن جزءا من الناس بعد أن يفقد قوّة السمع ويبدؤ بالضعف يحلّ الطنين تدريجيّا على سمعه بدلا من الصمت! وكأن انعدام الصوت ليس إلا ذلك الطنين المُزعج الذي يدوي داخل الرأس ويملؤه فعلا بالفراغ، ذلك الفضاء الذي يخلقه الصمت على أذهاننا وداخل رؤوسنا ليس فراغا بل أفقا واسعا يجعلنا نتنفّس بعمق. ولم يقوى الضجيج يوما على اسكات الصمت؛ إذ أن صمت بضعة أجزاء من الثانية كافية لتجعلنا نتنفس. لكن الطنين يسكت الصمت، الطنين فراغ مُزعجّ. فراغ تؤكده محاولتي اليائسة لإغلاق أذني. وبالشعور بأنّ كل ما يلفت الانتباه باطمئنان حولي يتلاشى ويتشتت وجوده الذي كان يملؤ فراغا يمكن أن أسند رأسي أو تفكيري عليه. كل يوم منذ أيام وأنا أحاول سماع ذلك الصوت الذي أحنّ إليه، الصمت الذي لطالما أحببته الى حدّ أن عبارة عنه كانت كافية لترك أعمق حفرة لمست شيئا عزيزا في ذاكرتي.

 


الثلاثاء، 13 يونيو 2023

-٣٤-

 


ليتك تعرف مالذي تعنيه هذه الصورة بالنسبة لي؟ لن أكذب لو قلت بأنها واحدة من أهم  عشر أو خمس صور رئيتها في حياتي -موضوع صور أثّرت بحياتك يبدو شيّقا؛ له وقفة لاحقة- بعيدا عن الرومنسيّات واجترار الحديث عن الذكريات. هذه أوّل صورة رأيت بها زيّ برشلونة، في صغري بمجلة قديمة ومهملة قلبت الصفحات -لا أذكر أكنت حينها أعرف القراءة أم لا- لكن "يلعن" كم يبدو اللون الأحمر والأزرق فاتنا بشكل لا يصّدق! أحببته وحينها لا أذكر من سألت وقال لي: هذا هاجي والآخر ستويشكوف لاعبي برشلونة ومن بعدها وأنا برشلوني الى الأبد. 

 

منذ فترة كنت وددت الحديث عن كرة القدم كثيرا. بعيدا عن محبيها الصاخبين والمحللين الذين يتحدثون بلغة الأرقام الكسولة وهم يقولون هذا أفضل وهذا أعظم من هذا، عليك أن تعرف أن كلّ الأرقام عليها أن تخرس أمام مدرب نوتنغهام فورست الراحل براين كلوف الذي حقّق مع نادي صاعد من الدرجة الثانية دوري الأبطال مرتين متتاليتين وقبلها الدوري مع فريق صعد به. لكي لا أشعرك بالملل؛  قد لا تبدو محبّا لكرة القدم وأعدك أني سأتحدث عن ما سيحبه كل انسان في عالم كرة القدم، قصص الوفاء، الحزن والفرح وبعض اللقطات الغريبة. سأجرب أن أقول ما أرغب بالحديث عنه من أحداث دون سردها. لحظات غريبة مثل معانقة كاسانو للحكم الرهيب كولينا  وعن اللاعب الذي أصرّ بعناد على ارتداء الرقم "١٣" في فرقه متحديا المعتقد الذي يقول بأنه رقم مشؤوم ومع ذلك لا أذكر وجها حزينا مثل وجهه -قد يهمك أن تعرف اسمه- عن الفرق ذات اللعب الجميل والتي ياللحسرة لم تتجوّج لهذا قلّة من يتذكّرا روما سباليتي مثلا وغيره وأجمل فريق مرّ بالتاريخ برشلونة من قدوم رونالدينهو وصولا الى بيب حتّى رحيل ميسي، لن نحسد الأجيال السابقة على مارادونا. ماكنت أشعر به وأنا أتابع مباريات السيريا أ مثلا بين سيينا وأتلانتا وأسماء أشكّ بأنّ أحدا سيتذكّرها. 

أطلت الحديث؟ هذه ليست الطريقة الجيدة للحديث عن كرة القدم، هل يمكن أن يُكتب شيئا عنها أجمل مما ترويه المقاطع؟  يمكنك أن تقرأ تصريحات بيب غوارديولا وهو الأكثر واقعيّة وتصريحات زالاطان -الاسم الذي أطلقه على زلاتان ابراهيموفيتش- الأكثر جنونا من الجميع. أتذكّر منتدى اسمه "الهدف الرياضي" كان يجمع عشّاق الكالتشيو (الدوري الايطالي) وهم أجمل من يتحدّث عن كرة القدم. كانت المواضيع هناك بجمال المواضيع التي تتحدث عن الشعر والتي كنت أقرؤ الكثير منها ذلك الوقت. أؤكد أني قرأت ما يمكن منه اخراج أمتع وأجمل الكتب حتّى لمن لم يشاهد مباراة كاملة في حياته.

 

أعود الى الصورة أول مرة رأيتها كنت صغيرا وكنت ألحّ بحثا عن زيّ برشلونة بألوانه التي فتنتني، للأسف لم يكن هنالك أيّ لبس بهذه الألوان، وماوجد كانت درجات الأزرق والأحمر تعيسة.   


+

اضافة متأخرة، أحب النطق الحماسي لرؤوف خليف في مباراة بروسيا دورتموند وريال مدريد لاسم اللاعب ونجم بروسيا رومان ليفاندوفسكي، كان رؤوف ينطقه "ليفاندوسكي" ليتناغم مع رتم الحماس لتعليق رؤوف. كانت ليلة مميزة وسوبرهاتريك تاريخي لليفا. بروسيا دورتموند لعله أكثر أندية اوروبا حضورا بالجماهير، ظلت جماهيره تسجّل أرقاما قياسيّة بالحضور ومؤازرة الفريق. دورتموندالمدينة تقع بالاقليم الصناعي "الرور" أكثر اقليم الماني تعرّض للقصف والتدمير في الحرب العالميّة الثانية. تذكّر مقلب تلفزيونيّ عرضوا فيه على مشجعين اندية المانية تشجيع النادي الخصم، لا أنسى مشجّع دورتموند العجوز، أصلع بملامح حادّة وصارمة لكن ذلك كلّه لان بحزن وهو يقول أبدا لا يستطيع ولا يمكن هو شيء ليس كما يتصوّرون طلبه. رغم المبلغ الكبير الذي عُرض عليه وهو ولاشكّ مبلغ كبير جدّا ليمنح لشخص بنهاية عمره كم كانت حياته ستتغير فقط لو وافق على تغيير ميوله الكرويّ لكنّه أصرّ على الرفض وبدت ملامح الحزن على وجهه، كأنه يسأل نفسه مالضير من تغيير ميوله؟ بدا وكأن مجرّد السؤال انتهاك لحرمة عزيزة على قلبه. لكنه بالنهاية رفض، نعم رفض كلّ ذلك من أجل ناديه الحبيب.

مذهلة كرة القدم الى أيّ حدّ يمكن لها أن تكون شيئا ما وأي ما في داخلنا.

الأربعاء، 7 يونيو 2023

-٣٣-

 عن الانمي والذكريات أتحدث، كنت أفكر بالحديث عن كرة القدم والدوري الأوروبي. ربّما بمزاج آخر. 


هل استمتعت بالانمي بطفولتك؟ هل يمكن للانمي بعد الكبر أن تترك أثرها الناعم بذاكرتك كما تفعل بطفولتك؟ بالنسبة لي عالم الكرتون -أسمي الانمي بعد الدبلجة وماشاهدته بمرحلة الطفولة عملا كرتونيّا- ترك أكثر من ماريّة مميزة بذاكرتي، لا أنساها وأحب العودة اليها لأني بذلك لا أعيد المشهد بل أعيد المشهد وأنا أقف خلف ذلك الكائن الذي كنته طفلا. كيف ولماذا شعر بذلك؟ 


عن الاطالة ..

سأمرّ بأعمق ما أتذكره من مشاهد آتذكرها لحظة كتابتي هذه:

مشهد رامي في المسلسل الكرتوني "الهدّاف" وهو طفل منوّم بالمستشفى اثر حادث أدّى الى كسر ساقه، استيقظ ليلا، الغرفة مظلمة والجوّ راعد وماطر وبالنافذة رأى كرة ملقاة ومتّسخة تحت المطر. حمل رامي نفسه بعكّازه ومشى بصعوبة خارجا ليلتقط الكرة، تعثّر وسقط وابتلّ وتلطّخت ملابسه بانهاية ينتهي المشهد ورامي يمسح الكرة وعليه ابتسامة داخل غرفة المستشفى. المشهد خالي من أيّ كائن حيّ، وحده رامي والكرة والغرفة مظلمة ولامكان للنور. المشهد مليء باللون الأزرق القاتم. لم أفهم سبب المشهد ولا لماذا رامي حكى هذه القصة لحنين اخت علاء. لكنه كان كئيبا بدرجة ناعمة، كآبة لا تستدعي أن تطردها من ذهنك، تلامس حدّا رهيفا من القبول دون اختراقه.


من "الزهرة الجميلة سوسن" عمل فيه غرابة وحدّة ناعمة. احدى الشخصيات الشريرة مرعبة رغم أنها كوميديّة الاطار ومضحكة ويتمّ التنمّر عليها كثيرا لكن ملامحها كانت تمثّل لي كابوسا منفرا ولا أدري كيف! باحدى المشاهد كان هذا الشرير -نسيت اسمه- في الشارع يطارد سوسن لكنها وبوسط زحام المارة -هكذا اذكر- خرج ذيله الغليض؛ الشرير عبارة عن راكون بشريّ سمين ولونه قاتم وعند خروج ذيله وانتباه المارة اليه نفروا منه وبدؤوا بمطاردته لإيذاءه. شكله كان مؤذيا بالنسبة لي وكم كان المشهد مبهجا وغريبا في نظري. على فكرة أغنية المسلسل الكرتوني جميلة وصوت المغنّي عذب.

 

"مخلص صديق الحيوان" مشاهد كثيرة وغالبا ملامح لحيوانات حزينة. القفزة الانتحاريّة للحصان الأسود وروبو زعيم الذئاب ومشهد نهايته وأكثر حسرة مخلص على موته وندمه وكلماته ".. مهما كان السبب فقد قتلت حيوانا وأنا حزين" ولا أنسى الأغنية الحزينة بنفس الحلقة في مشهد فيدباك روبو.


من "الكابتن ماجد" عمل لا أحبه لكن مشهد الغروب والجرف الصخري واجتماع أعضاء الفريقين لمواساة وليد كان مؤثرا. حتّى موسيقى نهاية المشهد كانت مبهجة. حدث ذلك بعد الهدف الذي أحرزه بسام على وليد لأول مرة، في مباراة تدريبية اقتحمها بسّام بمشهد دراماتيكي. 


لا أدري لم كنت أحب الاعمال الكرتونيّة التي تصوّر الأصحاب والرفاق، المقاتلين وأعضاء الفريق كنت ألمس ذلك الخيط الحميميّ الذي يطوّقهم وكم كان مشهد اختفاء أحدهم موجعا بالنسبة لي. أعمال كثيرة ومنها "سنجوب" عندما غادرت السناجب الغابة التي دمرها البشر لمشروع صناعيّ يهدف الى قطع الأشجار، هاجروا بحثا عن غابة بديلة. مشاه كثيرا من هذا القبيل مكوّمة في حجرة ذاكرتي، تشبه الى حدّ ما المستودع المظلم تحت الدرج (بالعامي دِرِجة) لبيت عمّي كان مليئا مليئا بالألعاب المدمّرة كنت أغطس فيها بحثا عن أي لعبة جديدة وأنا أتلمّس بالظلام معالم اللعبة البلاستيكية "الخربانة" أحيانا كنت أمرّ على ملمس قماشيّ لدمية أو شعر أو شيء غريب. تذكرت، باي ذا وي تذكرت؛ زحدهم قال لي عندما انطفأ كهرباء المنزل وبات مظلما فجأة اندفعنا الى السطح عبر الدرج بسرعة يقول: كان ابن أخي يجري صاعدا ويده على -حديدة الدرج ما أعرف اسمها- وبينما يده تمسح المعدن وهي تصعد مرّت على ملمس غريب! كان فروا غالقا!! يقول من بعدها لم يعد ابن أخي كما كان. كيف أبحث بذاكرتي عن الاعمال الكرتونيّة وما فعلت بي، بالضبط أغطس فيها كما كنت أفعل بدرجة عمّي. أتمنّي أن تكون الصورة واضحا يا عزيزي القارئ. (": 


يوجد الكثير لكن وباختصار، أعظم عمل تحدّث عن ذاكرة الأعمال الكرتونيّة كان "مونستر" عبر شخصيّة شتاينر وجريمر. مشهد يطول ويطول الحديث عنه. أما حاليا فهجوم العمالقة يتسيّد كلّ اللحظات المرسومة في ذاكرتي. 


ويومكم سعيد.

 

 

الجمعة، 2 يونيو 2023

-٣٢-

 كانت أول تدوينة لي هنا عن فيلم Julie&Julia (2009) الفيلم جعلني أحب التدوين والمدونات، لا زلت أتعجب من قدرة الفيلم على جعلي أرى ذلك الجانب اللذيذ من كتابة اليوميّات. كغيري فتحت عددا منها وهجرتها الآن لا أدري أين رميتها، أحنّ اليها مثل دفاتري "الكشاكيل" أحب فوضويتها وشخابيطها ورسوماتها، تمنيت تمنيت لو أني احتفظت بكلّ دفاتري تلك. المدونة جميلة كيوميات وفوضويات بلارتابة مع غياب شبه تام عن فكرة جذب ولفت الانتباه. كنت سأتمنى الاطلاع على دفتر الكشكول أكثر من مذكرات الشخص الذي أرغب بمعرفته. على كل حال الكشكول مخبأ داخل أدراج الغرف أحيانا بلا أقفال والمدونات مكشوفة بعالم النت فكرة أنها يمكن أن تُكشف خلسة هو ما يمنحها قيمتها لهذا لا نجد الدفاتر السريّة مخبأة داخل الأقفال ولا المدونات الخاصة محجوبة بمواقع مغلقة، لابد من خيط رفيع يمكن منه الوصول اليها. الأمر يشبه لعبة نلعبها بالهرب من القرّاء والافتراض بأن أحدا ما يلحق بنا.

طولت. أعود للفيلم جولي معجبة بالشيف الأمريكيّة جوليا، تحاول تقتدي فيها وتفتح مدونة فيها تفاصيل مقادير وطبخات "الشيفة" جوليا. كتابة كلّ شيء بلا مواربة هو ملح المدونة، كيف أنها بصعوبة استطاعت قتل الكركند[١] وصار القرّاء يسمونها "قاتلة الكركند" D: وشيء من وصف المقادير وعنّي أحب أحب أقرأ وصف الوجبات بمنيو المطاعم، أحيانا تكتب بطريقة شاعريّة وتشهّي عبارات مثل: مع صلصلة الـ ... الشهيّة ، المقرمشة، بنكهة الـ ... المنعشة، إلخ. طبعا كلمة المنعشة تعني شيئا حامضا أو مالحا مثل "الأومامي" الفيلم خالي من الأحداث لكنه حليو وحتّى البطلة جولي "وش ملحها" بالفيلم. 

أحاول أشرح معنى عبارة "وش ملحها" لا أعني جمال الملامح التعبير يوحي بأنّ تصرّفات الشخص "راكبة ولايقة" على الملامح. لهذا يسهل وصف أحدهم بأنه "جميل" من الصور لكن يصعب وصف أحدهم "المملوح" فقط من خلال الصور دون رؤية شيء من التصرفات. "الملح" وصف لملامح الشخصيّة لا الوجه كجزء علويّ يحتوي على أعضاء من جسد الانسان. ألهذا نسمع كثيرا احداهنّ تصف ابنها أو ابن قريب محبّب اليها بـ "ياملحه" وما رأيكم بعبارة "كله ملح وقبله" كلها توحي بالقبول وحلاوة الشخصيّة أكثر من الملامح. كثيرا مانعنيها بجمال الروح ولكن بسياق عامي عندما نحاول تحاشي وصف الملامح. بكل صراحة هذا ما أفهمه من العبارة وفق السياقات التي مرّت عليّ. ولأن نظريّة الانتخاب الطبيعي يمكن أن تكون صحيحة أكثر شيء في عالم المصطلحات والعبارات، أجد أن لهذه العبارة جذر عميق. الأكلة والطبخة مهما كانت متقنة راح تكون ناقصة لو خلت من الملح والأمر ينطبق كذلك على الملامح. 

 

--------------

[١] الكركند: دائما عند قراءتي لهذا الاسم احتمال يكون المقصود لوبستر أو كابوريا أو استاكوزا أو أم الربيان. المقصود بالفيلم الكائن المفصليّ الطويل صاحب الكلابات. بالطبخ أحيانا يتم قتله بغرس سكين حادة وقوية خلف عنقه أو يلقى حيّا بماء مغليّ حتّى يتحول لونه بعد الموت للون البرتقالي. جولي لم تستطع قتله وعلى ماذكر اضطرّت للإلقاء به حيّا في قدر مغليّ، لهذا سميت بقاتلة "الكركند"

الاثنين، 29 مايو 2023

-٣١-

كيف فقدت ذلك الحبل الرفيع الذي كان يربطني بمدونتي؟ لم أعد أكتب منذ مدة كما تُكتب المدونات، أفكار غير مرتبة وآمال وتطلعات مبعثرة أقوم باختطافها برفق كما تُخطف الفراشات قبل الطيران. 


by the way تذكرت معلومة لا أذكر أين حصلت عليها، غالبا من فيلم وثائقي قديم. المهم، في الكولوسيوم كان المصارعون يتقاتلون حتّى الموت تحت هتاف الجماهير، كانوا عبيدا وأسرى حرب بالغالب وبعضهم عومل بالنهاية كالأبطال. إن أراد أحد المصارعين الاستسلام كان يجثوا على احدى ركبتيه ويرفع يده اليسرا، عندها يقترب الخصم بهدوء ويغرس السيف في عنقه من الخلف بكلّ رحمة! مالذي يدفع أحدهم لهكذا استسلام؟ هل تعب من القتال، هل ضجر من كل ذلك العبث ليقول كفى أروني كيف نبدو بعد الموت؟ لا أظنّها شيئا من ذلك، كلها افتراضات تشبه بنات أفكار عصرنا؛ السلم جعلنا نفرغ للتفكير. ما يحزنني أنني لم أجد ذلك المنظر في لوحة، لا لأن ذلك قد يعني أن المعلومة خاطئة وأني أتمسّك بها لرومنسيتها -أيشبه تفكيري هذا شيئا من تفكير شيطان الجرة في انمي "قاتل الشياطين" الذي يتأمل سكرات الموت كصورة فنيّة- أكرهه، على كلّ حال كم أتمنّى أن أسمع كلمات المستسلم الأخيرة، كم كان عددهم؟ هل كان غاضبا وهو يسمع صوت هتافات الجماهير؟ ربما منها صافرات استهجان وجهت نحوه. كلهم الآن ميتيون وبعد أكثر من ألفي عام ما رأيك أنت بما حدث؟ هل يمكنك تفسير ذلك الحشد من الجماهير؟ لعلهم كانوا أعلى  صخبا من جماهير شالكه أو بروسيا دورتموند أو لاتسيو روما في أوج حماسهم بعد احراز فريقهم لهدف في المرمى، أريد منك أن تُسكت من يسخر من هتاف البشر على دخول كرة مطاطيّة داخل المرمى وتجعله يخبرك لم كانت جماهير الكولوسيوم تهتف بجنون؟ لا أحاول عَصر معنى مأساوي من كل ذلك، لكن الانسان لئيم لا يبالي غالبا بالآخرين، إنه لا يبدي أي اهتمام ببوح أحدهم طالما أن ذلك البوح لم يُخرج بصورة جمالية تثير اعجابه؛ لهذا يحتفي بحزن الشاعر ولا يأبه لغيره، لمن لا يحكي شيئا بل إنه وعلى علم منّا يعيش مأساته بصمت لكن الشاعر ومن مثله يُحتفى به حتّى يجد في حزنه لذّة وقيمة. الواقع أن فينا شيئا يشبه شيطان الجرّة الكريه في انمي "قاتل الشياطين". 

 

انتهيت، لو كنت رساما لرسمت كلّ محارب استسلم في تلك الحلبة. لوحة أجمل من لوحة الرسام الفرنسي جيروم "التصويت بالابهام" 

 

 

 - شكرا على ما قرأت ووصولك لآخر سطر D: -

لو كنتَ أنت  رسام، ماذا كنت سترسم عزيزي القارئ؟


     

الخميس، 27 أبريل 2023

حنيني الى كتاب عن الفضاء الخارجيّ




أجمل ما يمكن أن تقرؤه بعزلة كتب الكون والفضاء. أثناء القراءة يقودك حنين غابر للتحليق أبعد عن عالمك. للأرقام الفلكيّة، والأبعاد السحيقة جاذبيّة غريبة؛ اللحظة التي تبدأ فيها بتخيّل المكان والزمان هناك تمنحك سكينة تكاد تجعلك تشعر بغتة بنبضات جوفك. إن التعجّب من كلّ تلك المعلومات تجعلك وياللمفارقة تدرك الكون الذي أنت تمثّله بالنسبة لملايين الخلايا والمكوّنات الحيّة التي تعيش في داخلك.


الكتاب الموجود بالصورة، كان الوحيد عن الفضاء الخارجي في المكتبة، كان بعبارة أخرى مكوكي الفضائي الوحيد الذي يمكنني من خلاله الانطلاق نحو عالم يتمنّى البشر جميعا معرفة كلّ شيء عنه. 


كنت أتخيّل عند كلّ جملة تصف تضاريس وأجواء كوكب ما، كيف سيبدو العيش هناك؟ وكيف ستبدو الحجارة هناك؟ وكثر الخيال الى حدّ أني كنت أشعر ببرد الكواكب البعيدة وبالحرارة اللاهبة للكواكب القريبة من الشمس. وكم شعرت بالاختناق بعد أن قرأت بأنّ الزهرة كوكب يفوح بالأدخنة الملتهبة، وتحسست تلك الحرارة وهي تلهب قصبتي الهوائيّة. وبعيدا الى المريخ، أعتقد أن نبضات قلبي تغيّرت قليلا؛ عند القراءة بأن القطب الشمالي منه هو المكان الوحيد الذي يمكن العيش فيه! بضعة عشر درجة تحت الصفر. المريخ كوكب عجيب؛ تقرؤ فجأة بأن أعلى قمة جبل فيه ارتفاعها أكثر من 25 كيلو مترا، (قمة افرست تقريبا 8 كيلومترات). كيف يبدو المشهد على القمة هناك؟ هل تخيّلت ذلك؟ لو قرأت الكتاب وحيدا لتخيلت بالفعل. بعد المريخ وبمسافة سحييقة يطلّ المشترى وتبدأ الكواكب بعدها بالتباعد أكثر وأكثر عن الشمس، وعن الأرض حيث نحن. الكواكب بعدها أكبر ومتباعدة أكثر، ولم أستوعب إلا متأخرا أن المشترى وزحل كواكب غازيّة يمكن أن تغوص فيهما على حدّ فهمي! كأنه كوكب من طين. وكنت أدهش لأن وصف كوكب زحل مرّ بالكتاب الخالي من شاعريّة التعابير بسلام؛ دون التغزّل بحلقته الفريدة. حجارة وقطع من الجليد أهذا كل ما في الأمر؟ الواقع أن الكتاب ليس بحاجة إلى تعابير شاعريّة؛ الأرقام الفلكيّة تُغني. بالكتاب مرّ عليّ أكثر من مرة الفلكي الالماني هيرشل، والفلكي الفرنسي الذي خمّن بذكاء (بسبب انحراف كوكب أورانوس) بأنه يوجد كوكب مجهول خلفه، وبالفعل كان نبتون وعن الفلكيّ الانجليزي تعيس الحظّ، الذي استنتج مثل الفرنسي وجود نيبتون، لكن المرصد الحكومي تجاهله في حينها.

 

بقيّة أجزاء الكتاب، عن البيئة وغيرها لم أقرأها بعد. كنت أكتفي بصفحات الفضاء وأعيد الأسطر علّي أجده يتحدّث بأسطر نسيتها -أو لا أدري تظهر فجأة!- عن الحياة في الكون، لكن للأسف لم يكن كتابي من هذا النوع، أحببت محاولتي الاحتكاك بهذا الموضوع ولو عن بعد.


لا زلت ومع مرور السنوات أقلب صفحات هذا الكتاب سريعا في كلّ مرة. حنين الى تلك الأحلام.

السبت، 15 أبريل 2023

كل شيء هادئ على الجبهة الغربيّة.


 

 All Quiet on the Western Front

"كل شيء هادئ على الجبهة الغربيّة"

عنوان رواية جسّدت في عدة أفلام سينمائيّة، للألماني إريش ماريا ريمارك، الذي شارك في الحرب العالميّة الأولى بالجبهة الغربيّة (1914-1918). من بين مئات الروايات والقصص التي روت مختلف الحروب ، كانت لروايات هذه الحرب مكانة خاصة بالذاكرة البشريّة. لمَ يبدو الحديث مختلفا عن هذه الحرب بجبهتها الغربيّة؟ 


 

قبل هذه الحرب

من بعد حرب 1871م، دخلت الدول الأوروبيّة سباقا للتسلّح حتّى بدأت الحرب 1914م. الجيوش أصبحت متخمة بالاستعدادات، وعلى الجبهات أعداد مليونيه لم يحشد البشر مثلها من قبل، استعدادا للمذبحة. الأسلحة صبحت أشدّ فتكا، بما فيها الأسلحة الكيميائيّة، والتي تركت أثرا بذاكرة الجنود، قال أحدهم "أتذكّر المشاهد الفظيعة في المستشفى العسكري حيث يرقد ضحايا الغاز مختنقين أياما بطولها وهم يتقيؤون قطعا من رئاتهم المحروقة"[١]،   كانت هذه الأسلحة على استعداد تام لحصد أكبر عدد ممكن من البشر.     

 

الفيلم الألماني


 

ما الذي حدث  في الجبهة الغربيّة بالذات؟

تحدّث الفيلم الألماني All Quiet on the Western Front (2022)  (المشتق من الرواية) عن هذه الجبهة، وكذلك فيلم كوبريك Path of Glory (1957). 

بعد تجمّد الجبهة، بدأت الجيوش بحفر الخنادق وإنشاء التحصينات التي كبرت مع الحرب، جيوشا كاملة اختبأت بالخنادق. لم يعد الوقت يمضي، وملئ الجنود بالرعب والخوف والترقّب. شاهدوا  الموت بالحركة البطيئة، شيء لا يشبه ما تصوره الأفلام من انفجارات مفاجئة وتطاير أشلاء البشر؛ في المشهد ترى الأجساد بعد تطايرها ساكنة وجامدة، لكن الجنود شاهدوا تساقط الأشلاء الملطخة بالدماء والطين وهي تتحرك وتصرخ، لا يستطيع المخرجون والكتّاب تصوير كلّ ذلك الصراخ والدماء، وروائح الموت المخيفة؛  "الرجل الذي لم يفهم بلحمه ودمه لا يستطيع أن يتكلم عنها"[٢]

وصوت المدافع  المرعب والمرتبط بتطاير الأشلاء كان سببا بتسجيل حالات كثيرة من الصرع والأمراض النفسيّة؛ كان العلماء قد بدؤوا  بدراسة مثل  تلك الحالات قبل الحرب، ألقت الحرب عليهم سيلا لا ينتهي ممن أصيبوا بتلك الأعراض الغريبة، عولجت حالات بالصعق الكهربائي "كانت الحرب قد أنمت بالفعل في المانيا كما في بلدان الغرب الأوروبي الاهتمام بالتحليل النفسي فمعاينة أعصبة الحرب فتحت عيون الأطباء أخيرا على أهمية المنشأ النفسي للاضطرابات العصابية"[٣]

بسبب طبيعة الحرب التي خنقتها الخنادق، شاهد الجنود موت رفقائهم دون مواجهة، ما شكّل حملا ثقيلا على ذاكرتهم. الأرض المشوّهة بالخنادق وحفر القذائف كانت كافية لترك انطباع لا يُنسى "ما زلت عاجزا عن العثور على الكلمة أو الصورة التي تعبر عن فظاعة هذا الخراب ، لا شيء يشبهه على وجه الأرض، ولا يمكن أن يوجد مثيل له تبقى الصحراء صحراء دائما، ولكن الصحراء التي تخبرك طوال الوقت أنها لم تكن صحراء من قبل أمر مقرف، تلك هي الحكاية التي ترويها جذوع الأشجار السوداء المبتورة التي لا تزال قائمة حيث كانت القرى من قبل"[٤]. 


 

عبث الحرب في وجه البطولات

 سلاح الفرسان، الذي كان يمثّل الطبقة العليا بالجيش، وانتسب اليه العديد من أبناء الأسر المرموقة أصبح بلا فائدة. بوجه الخنادق والرشاشات. " لقد عدونا بخيولنا هنا وهناك مثل الأرانب أمام خط من المدافع وكان الرجال والخيول يتساقطون في كل الاتجاهات، أنفقنا معظم الوقت في تفادي الخيول" هذا ما قاله فرانسيس جرانفيل[٥].  بهذه الطريقة، كان تحطّم رمزيّة هذا السلاح محبطا. طبيعة الحرب قلّلت من دور الشجاعة في المعارك، الشجعان خامدون بالخنادق. لم يكن هنالك وزن ملموس للإتقان في هذه الحرب، كل ما كانت تحتاجه أشخاص يرتدون بدلة عسكريّة وينفذون الأوامر، بلا مهارة وإتقان بخلاف الحرب العالميّة الثانية، (في الحرب العالميّة الثانية مُنح الطيار هانز أولريش رودل  "وسام فارس الصليب الحديدي مع أوراق البلوط الذهبيّة والسيوف والماس" لتدميره أكثر من 500 دبابة وعشرات السفن والقوارب والمعدات) حتّى مثل هذه القصص البطولية لم ممكنة بالحرب العالميّة الأولى. 



عبثيّة الحرب

ببداية الفيلم، مشهد للألمان وهم يجردون الجثث من الملابس العسكريّة، ليتم غسلها وخياطة ما تمزّق منها، لإلباسها أفواجا أخرى من المجنّدين، أحيانا دون الحصول على وقت كافي لانتزاع أسماء المقتولين. كذلك عدد من الوحدات أبيدت، حملت اسما ورقما، لمجندين مدنيين من مناطق محدّدة من الطبقة الوسطى، نسبة كبيرة من الجنود المحترفين (الرسميين) قتلوا أو  أصيبوا، وأصبحت الجيوش بغالبها من المتطوعين المدنيين، والكثير منهم حملوا السلاح لأول مرة. معدّل أعمار الجنود بدأ ينخفض. ما شكّل عبئا على الدول.  لم يكن على الجبهات قادة عباقرة يحسمون الموقف، ولا أسلحة سريعة تنهي كلّ ذلك سريعا كعمليّة قتل رحيم. 

كانت الخنادق حصينة للغاية؛ حُصدت آلاف الأرواح بسهولة، في سبيل مدّ سيطرتهم بضعة سينتمترات على الخريطة. على الخريطة بدت الكيلومترات سهلة، لكنها تطلبت بالواقع بساطا من جثث الجنود. ما يخلق مشهدا أشبه بالكوميديا السوداء؛ جنرالات متعطشين للانتصارات والأوسمة، ينعمون بأفخم الأطعمة وأنظف الأماكن برفقة السياسيين والصحفيين، يستنفذون برعونة أرواح المجنّدين، (ركّز فيلم كوبريك على هذا الجانب كثيرا لدرجة أنه أحدث ضجّة في فرنسا).

وبعد أن يجعلك الفيلم الألماني تتعرف وتتعلّق بحكاية الشخصيّة الأساسيّة بالفيلم، تشاهده وهو يموت بمعركة عبثيّة أخرى، في آخر يوم وأثناء مفاوضات الاستسلام، أحد الجنرالات وبسبب حنقه العبثي يرسل ما تبقّى من حطام جنوده الى الجبهة بتلك اللحظة! لا لشيء إلا ليرضي فكرة تأزّ في رأسه المليء بتأثير الكحول. يساق الجنود اليائسون مدركين أن بلدهم أعلن استسلامه ولم يتبقّى على وقف اطلاق النار إلا أقل من ساعة، لكن قائدهم من مقره المريح يصرّ على ارسالهم. يهجمون بيأس، ويموت الكثير، بالنسبة لك ليسوا إلا كومبارس لكن الشخصيّة الأساسيّة يموت معهم، تشعر بحسرة، وبمقدار ما نالته الشخصيّة من تعاطفك خلال مشاهدتك، تدرك أن من مات من الكومبارس بهذه الطريقة كان يعني الكثير لأحدهم.



عودة المجندين بعد الحرب 

حكى الجنود تجاربهم بعد الحرب لعائلاتهم، والأدباء منهم لقرّائهم والرسامون لمعجبيهم. كانت حالة فريدة، من عاد كانوا بالغالب مدنيين جنّدوا بالحرب، "لم تخرج حكاية الحرب العظمى من بين صفوف الجنود العاديين، لقد جاءت من متطوّعي الطبقة الوسطى الذين أصبحوا ضباط الحرب الصغار وهو أمر مفهوم ؛ الطبقة الوسطى هي الطبقة العظمى في مجال تسجيل الذات" [٦] وهذا ما جعل وقع حكاياتهم مختلفا. 

الحرب بطيئة ومملة، خالية من نشوة الحركة والانتصارات، ليس فيها إلا الجمود والترقّب بالخنادق، يجعل  وجه الموت يقترب ببطء،  ذلك أتاح لهم رؤية جانب لا يكاد يرى من وجه الموت على مرّ  التاريخ،  "الجبهة قفص ينتظر المرء ما يحدث فيه بتوتّر" [٧]

وكذلك تعرضت ذاكرة الجنود للإصابات؛ عندما شرع الأديب روديارد كبلنغ بكتابة تاريخ عسكري عن الحرس الايرلندي بالحرب حاول تقصّي الأحداث والقصص من ذاكرة الجنود ومروياتهم، لكنه لاحظ الاختلاط الكبير في حكايتهم وامتلائها بالأخطاء "يصاب الرجال بالشك أو بالثقة الزائدة بالنفس، ويقدمون بنية حسنة تماما نسخا متناقضة عن ما حدث، المشهد المؤثر لرفيق شوّه الى حد بدا معه ميتا ينطبع على عقل المرء، ويطرد كل حدث عداه في ذلك اليوم، صدمة مستودع عتاد يُفجّر ويقلب السماء على الأرض الخالية يشوّش الذاكرة طوال نصف المعركة"[٨]

أيضا أصيب الجنود في انسانيّتهم؛ حيث حضرت السخرية في أكثر المواقف رعبا، مثل استهزاء جنود انجليز بجثة جندي فرنسي محترق [٩] أو عندما يقول أحدهم بكلّ بساطة " من الأفضل أن نضرب الحربة في البطن؛ لأنها لن تعلق هناك كما يحصل عندما ندفعها بالأضلاع" [١٠]

 


 على الجانب المخالف ،  الجندي الطيّب شفيك

بالجانب الآخر وعلى الجبهة الشرقيّة كان ياروسلاف هاشيك يروي حكاية "الجندي الطيّب: شفيك"، واحدة من أكثر الروايات الكوميديّة شهرة. يمكنها أن تأخذك الى أقصى اتجاه مخالف لما شعرت به برواية "لا جديد على الجبهة الغربيّة"؛ ستضحك كثيرا من دعابات ومواقف شفيك الساخرة، والتي كانت انعكاسا لما يكنّه هاشيك التشيكي/السلافي لإمبراطورية الهابسبورغ وتاريخها، البلد الذي كان على مضض يحمل جنسيّتها ويرتدي بزّتها العسكريّة،  "لا شيء قد تغير منذ ذلك الحين، الذي ظهر فيه اللص فويتخ [القديس أدالبرت شفيع التشيكيين] الذي لقب بالقديس وراح يعمل قتلا وإبادة في السلاف البلطيقيين وهو يحمل السيف بيد والصليب بيد أخرى" [١١]. حتما، لم تخلوا الجبهة الشرقيّة من الكوارث، لكنها ذكرت قليلا بالرواية؛ رغم مشاركة المؤلف في تلك الجبهة. لكن هل كان بإمكان هاشيك تأليف روايته "الجندي الطيّب: شفيك" وهو يقاتل بخنادق الجبهة الغربيّة؟ لم تخلوا الجبهة الغربيّة من توصيف كوميديّ وساخر والمسألة لا تدور حول شرط وجود الموت والمآسي؛ فهي موجودة في كلّ الجبهات، لكن للجبهة الغربيّة طبيعة مختلفة. تحرك جنود الجبهة الشرقيّة لمسافات طويلة في حين تعفّن الجنود بخنادق الجبهة الغربيّة. النطاق الذي تحدثت عنه رواية هاشيك كانت خلف خطوط القتال غالبا،  وبحكم توجه هاشيك الناقد، نجد حكاياته من الخطوط الخلفيّة مليئة بتفاصيل إداريّة واجتماعيّة وتاريخيّة، بعضها حقائق عرفها وبعضها تعكس وجهة نظره " كان العقيد فريدريش كراوس الذي يحمل لقبا إضافيّا هو "فون تسيلرغورت" وتسيلرغورت هذه قرية في سالزبورغ سبق لأسلافه أن سلبوها من كل شيء في القرن الثامن عشر".[١٢]  

 


وبجانب الروائيون رسامون على الجبهة

على صعيد الروائيين، وصف الفرنسي  فرديناند سيلين بروايته "سفر الى آخر الليل" الحرب على الجبهة الغربيّة من الجانب الفرنسي، و ريمارك بروايته "لا جديد عل الجبهة الغربيّة"  وصف الجبهة الغربية من الجانب الالماني، وفي روايته وصف هاشيك الحرب بالجبهة الشرقيّة من الجانب الهابسبورغي (الألماني). هذا على صعيد الروائيين وماذا عن الرسامين؟

  بالجبهة الغربيّة ومن الجانب الألماني، شارك عدد من الرسامين المشهورين. مات اثنين منهم، فرانز مارك و أوغست ماك. رسم مارك قبل بداية الحرب، عام 1913م  لوحة تشبه ما ستراه البشريّة لاحقا من فوضى الحرب "مصير الحيوانات" ورسم أوغست ماك  عام 1914م، لوحته "الوداع"، التي تصور مشاعر الكآبة التي أحاطت بالجميع بداية الحرب. أما من نجى، فقد تركت تلك الحرب أثرا بالغا بأعمالهم، ولعلّ أشدّ من رسم أهوالها الرسام أوتو ديكس، كما عكست لوحة جورج غروس "تحيّة الى أوسكار بانيتزا"، 1917م، التي تصوّر مشهد تأبين الكاتب الالماني بانيتزا، الفوضى والأجواء المشحونة في الداخل الألماني أثناء الحرب. ويمكن رؤية الأشكال المشوّهة بعد الحرب، في لوحات بيكمان وماكس أرنست. وكان كيرشنر الوحيد الذي رسم نفسه ببدلته العسكرية. أيضا اشتهرت مشاركة رسامين آخرين خارج المانيا. زار الرسام الأمريكي جون سارجنت الجبهة الغربيّة، ورسم لوحته الشهيرة "بالغاز" عام 1919م، وهي تصوّر كومة من المصابين مطروحين بالأرض، وصفّ من الواقفين أصيبوا بهجوم غازيّ. على كلّ حال يمكنك مشاهدة الفرق بين لوحة الجندي الرسام ديكس والزائر الرسام سارجنت.

"جندي جريح" ١٩٢٤ لأوتو ديكس


                                                    "بالغاز" ١٩١٩ لجون سارجينت


 

بماذا اختلفت عن الحرب العالميّة الثانية:

كانت الحرب العالمية الثانية  حرب الصاعقة وطائرات الشتوكا وقاذفات الكاتيوشا ودبابات  T-34 و التايغر واختراع الرادار وبروز الغواصات وحاملات الطائرات، حرب الآلات والابداع والسرعة والابتكار بامتياز، لم تكن حرب الجمود والانتظار الخانق في خنادق الجبهة الغربيّة وتيرة الحرب المتسارعة والمتنقّلة خفّفت من أثر التفكير والكآبة لكنها لم تخفف من الدماء والآلام بطبيعة الحال. كلّ شيء حدث بسرعة مفاجئة بما فيها سقوط فرنسا " إنه ليصعب على المرء أن يحكم بموضوعيّة ووضوح على مجرى الحرب في الجبهة الغربية خلال شهر أيار وحزيران سنة 1940؛ فإن تواتر الهزائم السريعة وعدد الأسرى الضخم والمدن المفتوحة وما إليها قد أوحت إلى العالم المشدوه بأن فرنسا لم تقاوم قطّ. هناك حقيقة لا مجال للشك فيها هي أن الجيش والأمة لم يبديا من ضروب البسالة في هذه الحرب التي لم يستعدا لها ما أبدياه في حرب 1914م ولكن هنالك حقيقة أخرى حرص هذا الكتاب [التاريخ الكامل للحرب العالميّة الثانية لريمون كارتييه] على إثباتها وهي أن هذه الحرب لم تعدم معارك بطوليّة دامية تخللتها أيام الهدنة"[١٤].  رغم قصر المعارك، عدد الوفيات  كان أكبر، والموت أسرع بفعل الآلات، كان يسير بسرعة جنونيّة بخلاف الحرب الأولى، لكن أبرز من حكى عن الحرب وشهد فظائعها المدنيّون! هذه الحرب فتكت بالمدنيين أكثر مثلا، بمدن: درسدن، هيروشيما، ناغازاكي، لينينغراد. للموت وجه واحد، لكن بالحرب العالمية الثانية،  ظهر بأقنعة مختلفة، بسبب الآلات الحربية، ومن أبرز أقنعتها ما يمكن أن نراه باقتراب الموت والخوف في قعر  المحيط، داخل غوّاصة تكاد بآلاتها تخنق طاقمها المكتظّ في الفيلم الألماني

 Das Boot (1981).



المشاهد الجانبيّة لأفلام الحرب

بالعودة الى فيلمنا،  وكومة الملابس ولوحات أسماء الجنود المنزوعة وهو حدث ثانوي بالحرب، أعطى للمشاهد رؤية أعمق للأحداث. حتّى مظاهر الترف، يمكن للمشاهد الجانبيّة بمفارقتها الصارخة أن تمنحك زاوية للرؤية بشكل أفضل. كون مشاهد الدماء والقتل مكرّرة ومعتادة في تصوير الأفلام ويتعذّر وصفها، مشاهد ينطبق عليها ما قاله جندي الماني شارك بالحرب العالميّة الأولى  " قد يتعاطف أولئك الذين لم يعيشوا التجربة وهم يقرأون كما يتعاطف شخص مع بطل رواية أو مسرحية  لكنهم لن يفهموا بالتأكيد كما أن المرء لا يستطيع أن يفهم ما يتعذر تفسيره" وآخر انجليزي قال " يجب عليك أن ترى الأشياء بأم عينيك قبل أن تصدقها بأي قدر من الحميمية"[١٥] . إذا لا مجال لقول وتصوير كلّ شيء، كل ما يمكن فعله اقتناص اللحظات التي لم تروى من قبل؛ لعلّها تكشف الغطاء عن معاني فاتت من ذاكرة الحرب.



بالختام

بسبب الطبيعة البطيئة للحرب وتواجد المدنيين المجندين فيها، اكتسبت الحرب العالمية الأولى طابعًا خاصًا، حيث ظهرت الصراعات الجسدية والنفسية بوضوح في روايات المشاركين.


----------------------

الهوامش:

[١] إريش ماريا ريمارك ، لا جديد على الجبهة الغربيّة، ترجمة ليندا حسين، دار أثر للنشر والتوزيع.

[٢] صموئيل هاينز، حكاية الجند: الحرب والذاكرة والمذكرات في القرن العشرين، ترجمة فلاح رحيم، دار التنوير للطباعة والنشر.

[٣] سيغموند فرويد، محاضرات تمهيديّة جديدة: حياتي - خمسة دروس - مساهمة في تاريخ التحليل النفسي، ترجمة جورج طرابيشي، دار مدارك للنشر. 

 [٤] مصدر رقم (٢). 

[٥] مصدر رقم (٢).

[٦] المصدر رقم (٢). 

[٧] مصدر رقم(١)

 [٨] مصدر رقم (٢).

[٩] مصدررقم (٢).

[١٠] مصدر رقم(١).

[١١] ياروسلاف هاشيك، الجندي الطيب: شفيك، ترجمة توفيق الأسدي، دار الخيال للطباعة والنشر والتوزيع.

[١٢] مصدر رقم(١١).

[١٣] ج.ه.ج اندريشين، موسوعة الحرب العالميّة الأولى، ترجمة نسيم واكيم يازجي، دار مؤسسة رسلان للطباعة والنشر والتوزيع.

[١٤] ريمون كارتييه، التاريخ الكامل للحرب العالميّة الثانية، سهيل سماحة و أنطوان مسعود وإشرف جبران مسعود، نشر مؤسسة نوفل ش.م.م.

[١٥] مصدر رقم (٢).


 





السبت، 18 مارس 2023

الكوميديا والضحك.

 

Children in a movie theater. 1958. Wayne Miller

 

"الأرض تضحك وردا" 

رالف أميرسون

 


 أفضل بداية للحديث عن أي موضوع، البحث عن مفهومه وما يعنيه. غالبا ما يبدأ البحث بأقوال اليونانيين الذين على ما يبدو لم يتركوا شيئا إلا وأفردوا له تعريفا لمفهومه ليكون منطلقا للتفلسف حوله؛ فليس غريبا حينها أن تكون بداية الحديث عن الاصطلاحات اليونانية.


 

معنى الكوميديا؟ 

بالرجوع لمختلف القواميس، نجد أنها كلمة يونانية مركبة، مكونة من:

 komos يقابلها بالانجليزية revel: عربد،استمتع، (وتأتي الكلمة الانجليزية revel كذلك بمعنى قصف!).

 ōidē بالانجليزية to sing: ما يعني غناء أو لنقل تغنّي.

 أرسطو في كتابه "فن الشعر" يقول: "أن الكوميديا نشأت من الأغاني المتصلة بالعضو الذكري وكانت تغنّى بالاحتفالات والطقوس التي تخصّ الخصوبة. وبشكل أوسع "على الرغم من أن أصل الملهاة (الكوميديا) القديمة غامض، فإن الدور الذي لعبه الكورس (جوقة الإنشاد) يعتقد أنه جاء من أداء المطربين الأثينيين.. مجموعة من المغنين كانوا يرقصون ويغنون ويمتعون الحضور بهزل فاحش ونقد شخصي لما يبدو أنه كان من طقوس الخصوبة ويحتمل أنه متصل ببداية عبادة ديونيسيس.. يُعتقد أن مساهمة الممثلين في الكوميديا القديمة انبثقت عن الحكايات الهزلية التي تختلف عن حكايات المغنين بحبكتها. كانت تقدم مواقف مسلية في مشاهد قصيرة تؤديها شخصيات جماعيّة من نموذج واحد. كان أداؤهم غير محتشم لأن هذه الحكايات كانت لها علاقة بطقوس العضو الذكريّ"[1] وما أغرب أن يحمل المعنى بإحدى تشعباته وصدفه عبارة "قصف"؛ الكلمة التي نقولها بتعبيرنا العاميّ "قصف الجبهة"، وأن يوحي أرسطو الى الأصل الجريء للكوميديا. للكوميديا صور متعددة، مثلاً، المسرح، في المسرح اليوناني القديم أشتهر أرسطوفانيس، الحكايات القديمة والفلكلورية، نجدها مثلاً، بمدوّنات الإغريقي إيسوب وما جمعه وترجمه عبدالله بن المقفع من قصص "كليلة ودمنة"، بالروايات الأدبيّة، مثلاً "غرغانتوا وبانتاغرويل" لرابله. لا يوجد شعب لا يحمل إرثا كوميديا، سواء كان فلكلوريا أم أدبيا. وأكثر الأشكال الكوميدية شهرة ماجسّد بطريقة تفاعليّة وحركيّة.

 

فسيفساء تصوّر الأقنعة التي كانت تستخدم بالمسرحيّات قديما

 


النكتة :

 الحديث عن الكوميديا يقودنا للنكتة، والتي يمكن اعتبارها فنّ شعبيّ، بالعادة قصّة قصيرة هدفها إضحاك الآخرين لأسباب، منها: إدخال البهجة والسرور على المستمعين، السخرية والتشفّي، إيصال حكمة ورسالة مبطّنة. ومن معاني عبارة "نكتة" باللغة العربيّة: الأثر أو العلامة، سواء كانت خفيّة أم ظاهرة. وهي فعلا تترك أثرا وعلامة على المستمع. في الأعمال الأدبية، تظهر النكت في شعر الهجاء، يندر أن تجد بيتا هجائيّا لا يحمل في طيّاته غاية لإضحاك الآخرين. نجده بالشعر العربي الجاهليّ والإسلامي، إلا أنه يبدو أكثر وضوحا وإلحاحا بالأخير، من خلال أبيات الأخطل وجرير والفرزدق، وصولا إلى أقذع حالاته، مع شعراء العصر العبّاسي وما بعدهم. ومن أشهر أشعار الهجاء المُضحكة شطر بيت شهير لحسان بن ثابت -رضي الله عنه- "جسم البغال وأحلام العصافير"، كأن الشطر بتناقله على الألسن احدى صور الـ MEME الشهيرة. وظهرت النكتة من خلال الشخصيات الأدبيّة، الخياليّة والواقعيّة، بالتراث العربي مثلاً، جحا وشعيب. 



مكانة الكوميديا 

 الكوميديا وحكايات الضحك حاضرة كثيرا بقصص الملوك والحكّام، حيث بدوا من خلالها أقرب الى طباع سائر الناس، تزخر كتب التراث العربي مثلا، بقصص الظرفاء من أدباء وشعراء وغيرهم. ورُوي بالأثر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- متى وكيف ضحك، وتناولت الشريعة الإسلاميّة الضحك وآدابه، إذ نهي فقهيّا عن الكذب في سبيل إضحاك الآخرين، وفي حديث رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- :"كثرة الضحك تميت القلب"، ذلك يعني أن الضحك وما يجلبه بالكوميديا والنكت لا يخلو من الذمّ بظروف. بعيدا عن التراث العربيّ، تواجد المهرجون في قصور الحكّام الأوروبيين. ولعلّ أشهر صورة تحكي لنا تواجد مهرّج في حضرة أحد الحكّام، ما صورته لوحة "ستانزيك، 1862م"  للرسام البولندي يان ماتيكو، وهي تحكي قصة المهرج ستانزيك، الذي شاهد بالصدفة خريطة تصف الوضع العسكريّ لبولندا. نرى المهرج يجلس بعيدا عن ضحكات النبلاء واحتفالاتهم، بوجه متجّهم، بعد أن هاله ما تعكسه الخريطة من كارثة تنتظر بلده الأم. لعل هذا يظهر لنا إلى أي مدى يمكن أن تكون الكوميديا حاضرة بكلّ المستويات والأزمنة، وبمختلف الظروف، بما في ذلك أحلكها. وإلى أي مدي يمكن أن تكون معبّرة وبقسوة. كوسيلة، حاول الملوك من خلالها العودة لطبيعتهم البسيطة، والاطلاع على البسطاء. وحاول العامة تسلية حكامهم لنيل الحظوة والمكافآت، ومن خلالها نصح الحكماء ملوكهم، ومثل هذه الحالات رويت في كتب التراث مثل "الأغاني" للأصفهاني  و "العقد" لابن عبدربّه. وظلّت الكوميديا قناة فعّالة ومرنة -إن كانت غير رسميّة- للاتصال والتواصل بين مختلف الطبقات، من ملوك وحكام ورعيّة، قوّة ناعمة تفرض هيمنتها بميل البشر الطبيعيّ للكوميديا. بدونها كان يمكن أن يغدو الانسان أكثر انعزالا عن غيره، وتصبح الحواجز بين الطبقات الاجتماعيّة أكثر إحكاما. ومن خلالها تأمل الانسان كثيرا سلوك الحيوانات والطبيعة، ونرى كيف أسقط الانسان سلوك الحيوانات في قصصه الفلكلوريّة والطريفة؛ مثلاً، نجد الأسد بجبروته، والثعلب بمكره، والذئب بدهائه، ولعل أكثر الانطباعات رسوخا عن سلوك الحيوانات في الأذهان نابعة من تلك القصص. 


Stańczyk by Jan Matejko 1862

 



جرأة الكوميديا:

يتصرف البشر فيما بينهم وفق واعد سلوكيّة، تخلق سياقا يسيرون عليه،  والضحك غالبا ما يكون خروجا لحظيا وعفويا من هذا السياق، يخلق ترويحا عن النفس والأفكار. بعبارة أخرى، كأن أحدهم يرخي قليلا ربطة عنق الرسميّات عن أنفاسه. لذلك له طابع متمّرد على كل السياقات، ومن خلاله يمكن تمرير أكثر الرسائل جرأة وبذاءة. في أعمال الانمي اليابانية، كثيرا ما خالطت لقطات الإيروتيك تعابير كوميدية، تنعكس برسم الأوجه الشاخصة بنهم، وعلى العينين رسم قلوب ورعاف بالأنف. كثيرا ما رويت النكات السياسيّة في ظلّ أكثر الأنظمة السياسيّة قسوة. وتكمن براعة النكتة في الخروج من المسار والسياق بطريقة بهلوانيّة، تجلب الرضى رغم الانتقاد.

 سانجي من "One Piece" يمكن فهم الإشارات الكوميدية ومدى جرأتها من خلال العناصر الموجودة بالصورة.

الكوميديا، واحدة من أكثر وسائل الخروج عن السياق أمانا. مرّرت من خلالها أقسى تعابير النقد، على المجتمعات والشعوب والأعراق. مثلاً، عبارة nigga  غير مقبولة إطلاقا، إلا من باب النكتة والأعمال الكوميدية، وعلى نطاق ضيق بالتعامل بين الناس مباشرة. بحكم أن الأعمال الكوميديّة -كما نفترض- تحمل رسالة هادفة، في حين لا يحمل التعامل المباشر رسائل هادفة غالبا. وكما نعبّر عاميّا "مزحة برزحة"، ما الذي يجعل الخروج باستخدام الكوميديا والنكتة مقبولا أكثر من غيره؟ "لقد كان أرسطوفانيس معلما وشاعرا كوميديا. نقده الذي لا رحمة فيه للحركات الفكريّة والسياسية وقادتها قد أراد منه أن يقنع الأثينيين بتعديل سياساتهم العامة. كتب كل مسرحيّاته تقريبا حول مشاكل وأشخاص محليين. في مسرحياته بذاءة كبيرة. بتحويل أفكاره الأساسيّة الى مسرحيات، فإنه يستفيد من كلّ وسيلة ليدفع الناس الى الضحك. بتفوقه بالكوميديا الساخرة والحكايات الهزليّة إنه سيد الكلمة المسرحيّة، يعرف القيمة الكوميدية للقول المناسب والنهاية غير المتوقعة. كثير من نوادره لا تحكى بل تمثّل."[1] حتّى أنه بالضحك أو التعابير الكوميدية، يمكن للأشخاص القفز للوصول الى الآخرين والتفاعل معهم، ونسمّي ذلك كسرا للحواجز.

إذا سألنا أنفسنا عن نسبة النكات البذيئة التي نتذكرها، سنجد أن لها حضورًا لافتًا بين ما يتداوله الناس ، وتحظى بقبول لا بأس به. وعلى عكس الحكايات البذيئة التي تتطلب مناسبة محددة لسردها، فإن النكتة قادرة على تجاوز القيود؛ فهي موجزة ومباشرة، تقدم فكرة سريعة وتثير ضحكًا فوريًا يحظى بالتسامح.

 

التسامح مع الكوميديا 

في رواية "أيام سدوم المائة والعشرون"، حاول ماركيز دو ساد  بوصفه للرغبات الوصول لأقصى حالات اللغة تعبيرا ، وملامسة أعلى سقف للرغبات. بالخيال وصل أبعد مما وصله بازوليني في فيلمه Salo. وفي الأعمال الفنيّة، حاول الكثير من الرسامين رسم مشاهد ايروتيكية طافحة بالرغبات، وبطبيعة الحال واجهها النقّاد بعنف، ولنا أن نتخيّل لو أن نتفا من تلك المشاهد المرسومة تم تناولها بإطار كوميدي، كما نجدها بأعمال الياباني تاكاشي موراكامي، أجساد لشخصيات كرتونيّة منفوخة الأعضاء، كأنها أخذت من انميّ hentai ولكن بوضعيّات مضحكة. كانت المبالغة في الوضعيات المضحكة لا المثيرة. قد يبدو المجون حادّا ومنفّرا، وسيبدو أقلّ حدّة وأنعم إن ظهر بإطار كوميدي وساخر. في كلا الحالتين يمثّل ذلك انفلاتا، ولكون انفلات الرغبات غير محبّب، سيغدو أكثر تقبلا بالحالات الكوميديّة، كاستخدام مشهد إباحيّ أو صورة لممثل أو ممثلة اباحيّة بإطار كوميدي في MEME ساخر.


الـ MEME كظاهرة معاصرة:

 كما نعرّف الكلام باللغات بأنها: أصوات منبرة، كإشارة تحمل دلالة بين المستمعين والأحرف عبارة عن: رسم يشير لتلك الأصوات، ويمكن تركيبها لتغدو كلمة. ومثل ذلك إشارات الضوء والتلغراف، بنمط معيّن يمنحها دلالة للتواصل بين متلقين. أيضا الـ  MEME صورة تمثّل إشارة مركّبة لها دلالة بين المتلقّين -خصوصا- وسائل التواصل الاجتماعيّ. وكأي وسيلة تواصل وُجدت وليدة ظرف معيّن، فإن الـ MEME اختلقت لتختصر الكثير من العبارات على متلقّي يقلّب صفحات الانترنت سريعا؛ فلا وقت له للقراءة والتمعّن بعمق وجديّة. وبطبيعة الحال، الظروف تساهم في تجسيد طرق ولغات التواصل بين البشر وفق الاحتياج، مثل لغة الاشارة والتلغراف، وحتّى طريقة التواصل بين المساجين بقرع القضبان، واستخدام أدخنة النيران قديما للإشارة بين الناس من مسافات بعيدة، والـ MEME في عصر ازدهار وسائل التواصل الاجتماعيّ. ما يلفت النظر أنها أخذت كثيرا طابع النكت والكوميديا، وهو ما يُفهم أن ذلك ما يتطلبه الظرف وحاجة المتلقّين لتلك اللغة وقت فراغهم. صورة، لكن بدلالة مستحدثة على دلالتها الأصليّة. لغة محكيّة، مثل أي لغة، تبدأ بإشارة اعتباطيّة يفهمها سكّان وسائل التواصل الاجتماعيّ، ويصعب قليلا أن يفهمها أشخاص بعيدون عنه. ما Hلذي يعنيه كون الـ MEME لها طابع كوميدي بفهم مشترك. ولماذا اختار الناس في حساباتهم الافتراضية، تعابير كوميدية للتواصل؟ ما قد يدلّ على أن الكوميديا والنكتة طبيعة بشريّة ذات فهم مشترك، قد تشبه بجوانب في طبيعة وجودها اللغة نفسها.

وبتعريف آخر الـ MEME عبارة عن صورة لها دلالة نمطيّة، استحدثت لها دلاليّة إضافية خارج السياق. ولعلّ واحدة من أقدم أشكال MEME، الرسومات الزخرفيّة، الموجودة بالنقوش القديمة والرسومات القروسطية، صور لوحوش خرافيّة وكائنات بجسد مركب من عدة حيوانات، وفي رسومات بعض الفنانين اليابانيين، صور مخلوقات أسطوريّة، أحيانا بأعين جاحضة مخيفة، لكنها تخفي شيئا من الطرافة والسخرية، لدرجة أنها رغم رعبها فهي قد تسرق ضحكة ساخرة من فمك. وتحمل بعض كتب القرون الوسطى الأوروبيّة، رسومات مضحكة وطريفة، ربّما في أكثر كتبها تعنّتا، تصوّر الشياطين والوحوش بأشكال غريبة، وبوضعيات مضحكة ومشينة، بعضها حيوانات ترتدي ملابس بشريّة، تذكّرنا بلوحات الرسامين، هيرومينوس بوش (1450-1516م) وبيتر بروغل (1525-1569م)، وما تحمله من صور طريفة ومضحكة وإن كانت تصوّر الجحيم والعذاب. 

بوصف تلك الأشكال، قد نقول بأنها كائنات مركبة أو مشوّهة. ولاننسى أن خيطا رفيعا يفصل بين الأشكال المرعبة والمضحكة، والأشكال المشوّهة قد تحمل تعابير فنيّة بعيدة عن الهزل، مثلاً، لوحات بيكاسو وفرانسيس بيكون. وقد يرتعب الأطفال أحيانا من بعض وجوه الشخصيّات الكرتونيّة الطريفة. بالأساس أشكال غريبة، لكنها أصبحت طريفة، بفضل السياق المُحدث بإطار محصور. ولعلّ هذا ما يصنع الطرافة بالأشكال الغريبة، السياق في الإطار المحصور خلال فكرة طريفة. والسياق مع الإطار المحصور، يكوّن الفهم الذي ينبغي أن يبنى كمعنى طريف وفكاهيّ. ومثل هذا البناء لا يكون إلا بفهم جماعيّ، يتشكّل بصورة قريبة من تشكّل المفردات والمصطلحات. ولعلّ أشهر ما يمكننا الاستشهاد به، MEME معركة جودزيلا وكينج كونج MEME القط الأبيض الشهير على طاولة الطعام. الفهم الجماعيّ يكمن في السياق المضاف (قد تكون صورة مُحدثة أو عبارة) بالإطار المحصور المتمثّل بالصورة الأصليّة للـ MEME. المعركة بين إثنين والكلب دخل فجأة، العبارات المضافة بصورة القطّ. 

 
احدى الرسوم القروسطيّة بأحد الكتب


meem مشهد المعركة في فيلم Godzilla Vs Kong


صورة من مسلسل The Real Housewives of Beverly Hills أصبحت باستخدام العبارات  من أشهر الـ MEME



الكوميديا الإبداعية:

ازدهرت الكوميديا بالمسرح والأغاني الشعبيّة، بفضل أدائها التفاعلي، لكن مع جنس أدبيّ يفتقد لهذا التفاعل كالرواية مثلاً، تصعب الكوميديا. قد يسهل تأليف الروايات المأساويّة، لكن الكوميديا والخروج من السياق يتطلّب رشاقة وخفّة، أو ما نسميه "حسّا فكاهيا". يصعب تصوّره بلا حركة وتفاعل إلا ما ندر، مثلاً، رواية "الجندي الطيّب: شفيك"، تعتمد الفكاهة على المفاجأة، كطبيعة الخروج من السياق، لهذا لا تكفّ ابتسامتك عن الارتسام فجأة، وأنت تقرأ عن الطيّب شفيك. 



الكوميديا السوداء:

 أو ما نقول عنه "المضحك المبكي". خروج حاد -لكنه خاطف- عن سياق الواقع. المسألة ليست جمعا للأضداد؛ فالضحك ليس نقيضا للبكاء، وإن بدا كذلك، وإلا لكانت الكوميديا السوداء أسهل. فجمع الأضداد ينتج غالبا حالة بروز ملفتة لجمع النقيضين كما قال شاعر "اليتيمة"

فالوجه مثل الصبح مبيضّ

والشعر مثل الليل مسودّ

ضدان لما استجمعا حسنا

والضدّ يظهر حسنه للضدّ

ولو عومل الضحك كنقيض للبكاء، وأنتج من خلال هذا المفهوم عمل كوميدي، سيبدو مبتذلا. ولكونهما غير نقيضين، إبرازهما معا، بما فيهم من حديّة، تشبه ما يفعله الطباخون بإضافة الملح إلى الأطعمة الحلوة بمقدار قليل يساهم في إبراز حلاوة نكهة الـ salted caramel مثلا. عمليّة جمع لطبيعتين مستقلتين من تفاعلات النفس البشريّة، والجمع بينهما بقالب واحد بمقياس محكم صعب، لكنه ينتج عملا عميقا وفي غاية الذكاء، وهو ما تبدو عليه الكوميديا السوداء.  في فيلم كوبريك A Clockwork Orange، اقتحم أليكس منزل امرأة مسنّة كانت تمارس الرياضة في غرفة مليئة بالقطع الفنيّة الحديثة، أغلبها خليعة وإيروتيكيّة، حاولت المرأة ضرب أليكس بتمثال نصفي لبيتهوفن، في حين أمسك أليكس بقطعة فنيّة حديثة، وبدأ الشجار بالقطعتين على وقع سيمفونيّة بيتهوفن التاسعة، الفنّ الحديث ضدّ الفن الكلاسيكي. 


 لقطة فيلم A Clockwork Orange



هل الكوميديا بذاتها فنّ؟

 تبدو أقرب إلى ذلك، لنقل أن الحسّ الفكاهيّ موهبة. لكن ما إن يُمنح إطارا فنيّا إلا ويغدو عملا نسمه بالكوميدي. والمبدعون والأذكياء ذوي الحسّ الفكاهيّ على ندرتهم، يحوزون على سحر خاص، مثل فولتير ومارك توين. الحسّ الفكاهيّ شيء لا يمكن تعلمه، ولم يدرج في الأذهان وصف المضحكين والكوميديين بالذكاء. ولو أن للذكاء سمة كوميديّة عندما يقترن بالغدر والخداع، كما يروي الانسان بفلكلوره القصصي عن تصرّفات الثعلب الذكيّة، الذي يبدو أن لديه ذكاءً يخرجه قليلا من سياق طبيعة الحيوانات وسلوكياتها الاعتيادية، لهذا ربط الثعلب كثيرا بالشياطين بمعتقدات عدد من الشعوب[4]. ولو كان لنا أن نتساءل قائلين: هل يمكن للروبوت (الذكاء الاصطناعيّ) أن يكون مضحكا وذا حسّ فكاهيّ؟ قد نتخيّل أي ابداع للذكاء الصناعيّ، إلا الإضحاك والكوميديا، يصعب تصوّر أن شيئا في غاية الإتقان والدقّة، قد يخرج عن السياق المصمّم له. ولو تخيّلت وسيلة لاختبار وفحص انسان آلي، إذا كان روبوتا (ذكاء اصطناعي) أم لا، لاخترت الضحك والإضحاك، بدلا من سلسلة الأسئلة المنطقيّة، التي تعمل للكشف عن البشر الآليين، كما شاهدناها مثلاً، في فيلم Blade Runner (1982).

إن أردنا، كيف يمكن أن ينتج الذكاء الاصطناعي الكوميديا والنكت؟ ما ينتج عن الذكاء الاصطناعي عادة، معطيات تستند إلى منطق مستخلص من الخوارزميات، وبيانات يمكن تحليلها للوصول إلى استنتاجات وتوقعات منطقية، ما يجعله قادراً على معالجة مشاعر مثل الحزن، وإن كان بدرجات محددة. فالحزن يمكن توقّعه وفهم أسبابه، بينما يظل الحسّ الفكاهي لغزاً يصعب التنبؤ به، إذ يعتمد على عنصر المفاجأة الذي يولّد الضحك. لا يمكن بناء قصة كوميدية على حدث واحد يتطور بشكل متسارع، مثل كرة الثلج التي تكبر تدريجيًا، كما يحدث في حالات الحزن. ففي حين يعتمد الحزن على سلسلة من التطورات التي يمكن التنبؤ بها وتراكم المشاعر، فإن الكوميديا تقوم على سلسلة من المواقف المضحكة التي إذا توقفت، زال أثرها سريعًا. هذا يتناقض مع الحزن الذي يظل قائمًا بعمق وبُعد زمني. للكوميديا طابع ابتكاريّ أكثر من الحزن، ما هو مُحزن عند شعب ما، حتما محزن عند باقي الشعوب. لكن ما هو مضحك عند شعب ما، قد لا يُضحك شعوبا أخرى بالدرجة نفسها. وقد تزداد المسألة تعقيدا، فالنكتة يتفاوت مفعولها من راوي الى آخر. ومفهوم ما هو مضحك أوسع بكثير من ما هو محزن. ما هو محزن يُبنى ضمن قصّة أو حكاية، في حين أن ما هو مضحك يمكن أن يكون تصرّفا أو تجسيدا، شيء لحظيّ لا امتداد منطقيّ له. ومن خلال ذلك، قد نتخيّل الذكاء الاصطناعي يبني حكاية أو حدثا كوميديّا، لكنه لن يكون إلا اجترار أو استنساخ لصيغ فكاهيّة سابقة. من يملك حسّا فكاهيّا لا يستطيع أن يعلمها لغيره، بل إنه لا يملك لها معرفة ولا نتخيّل أن ينتهي حسّه الفكاهيّ، يمكن فقط أن نتخيّل روبوتا ذو حسّ فكاهيّ، شريطة استقباله البيانات مثل الانسان، بحواسه وانتباهه لردود الأفعال والتلميحات، و ماينتجه من تفاعل خاص ومباشر. الذكاء الاصطناعي يعتمد على المحاكاة، وتعتمد الكوميديا على الإبداع. 

 


 الضحك

الضحك  استجابة طبيعية للفرح أو المفارقات. لقد اهتمت الأدبيات البشرية بعلاقة الضحك بالمفارقات، حيث يُعتبر الضحك في بعض الثقافات، مثل الثقافة الروسية، دليلاً على قلة الأدب إذا كان بلا سبب. لأن الضحك فعل تفاعلي، فإن رواة النكت قد يضحكون أكثر من المستمعين. لكن أكثر النكات تأثيرًا هي تلك التي تثير ضحك المتلقي دون حاجة لتفاعل من الراوي. من جهة أخرى، فإن سرد النكات كتابةً يكون تحديًا، إذ تكون أكثر فعالية عندما تُروى شفهياً من قِبل شخص يتمتع بقدرة على الأداء، حيث تُعزز نبرات الصوت وحركات الجسم من التجربة. يبدو أن للضحك جذورًا عميقة في النفس البشرية، ورغم فهمنا لكون الضحك والنكات أفعالًا تفاعلية، إلا أن نقلها في إطار محدود، مثل النص المكتوب، يُعد مهمة صعبة، كما تفعله عبارات مارك توين بكتبه. وكم تبدو العبارات المضحكة والطريفة عميقة بلسان الفلاسفة، الذين يقلّ عندهم الطابع الكوميدي، إلا من باب النقد، و تكون لاذعة وبليغة بامتياز، مثل عبارات نيتشه الناقدة للألمان والعبارات السياسيّة اللاذعة للأديب والفيلسوف الفرنسي فولتير. ولفهم الغاية لمثل تلك العبارات "يمكن وضع حدّ فاصل بين النقد والإهانة المباشرة، يكمن الاختلاف في ذكاء التقديم الذي يعتبر سمة هامة للنقد إن هذه حقيقة نفسية و ليست تقليدا أدبيا. نستطيع أن نتحدّى أو نشتم الأشياء التي نخافها لكننا لا نضحك عليها. أن تضحك على شيء دليل على إحساس الضاحك بالتفوّق" [2]



الضحك شعور  أم فعل؟

هل سمعت أحدهم يقول (دون أن يضحك فعلاً) : أضحكني قول فلان، أو ضحكت من تصرف ذاك؟ ولو أنه فعليّا لم يضحك، أي لم يصدر ذلك الانفعال والذي نسمّيه الضحك. هل يصحّ أن نقول بأن الإنسان يضحك في قلبه؟ (من داخله)، عدا عن حالة الرغبة بالتعبير عن الفرح والابتهاج، بقوله أنه ضحك، دون أن يصدر منه ذلك التفاعل، كإثبات وجود الفرح والابتهاج بضحكة افتراضيّة. كثيرا ما يعبّر الضحك الافتراضي عن التندّر، كردة فعل مناقضة لما هو مفترض، أو ضحك يحمل طابع التفاعل مع الكوميديا السوداء، "ضحكت في داخلي" و "أنا من داخلي أضحك"، هل هو ضحك حقيقيّ؟ وهل خلق تفاعلا كيميائيا داخل الجسد، بما يجسّده من شعور كما يفعل الحزن وغيره من المشاعر. الضحك وما يمثله من تفاعل وانفعال (شعور)، يحمل طابعا أكثر فجائيّة ولحظيّة من الحزن، الذي يبدو أحب كثيمة يتم تناولها بالابداعات البشريّة، من قصص وأشعار وخرافات. لحظات الحزن أطول أمدا من لحظات الشعور بالضحك، لذا يمكن تأملها ووصفها أكثر. في حين يصعب الإمساك بلحظات الشعور بالضحك، وبالتالي تأملها. كأن الحزن صورة ساكنة في حين يبدو الضحك صورة متحرّكة وخاطفة. 


 "إذا ضحك المرء فعلى الآخرين، وإذا بكى فعلى نفسه"

مثل هنديّ [3]

 


جذور الضحك، متى ضحك الإنسان أو مرة؟

 هل تعلّم الانسان الضحك، ومعها تعلّم ما هو مضحك (الكوميديا)؟ يسهل إضحاك الأطفال أكثر من غيرهم، ويسهل إبهارهم و خداعهم، وكأن هناك صلة بين عمر الإنسان وسهولة إضحاكه. أيملّ الانسان مما كان يضحكه؟  وتزداد صعوبة إضحاكه وتقلّ  بتقدّم الانسان بالعمر؟  كأن في الأمر خدعة! كأن ما يضحك الانسان ليس إلا شيئا نجح بخداعه. يمكننا القول بأنّ الضحك يحمل شيئا من بقايا طفولتنا. ولنا أن نسأل باعتباطيّة، كيف سيضحك الروبوت لأوّل مرة وهو لم يكن طفلا في يوم ما؟

 


الختام: هل الحس الفكاهي ملَكة؟

كيف لصاحب الحسّ الفكاهي معرفة ما يضحك الناس؟ وكأنه فهم لنفسيّات البشر وتفكيرهم. ولكونها -كما سنفترض- مَلكة، فهي ليست قائمة على سلسلة من العمليّات التحليليّة وتنتهي باستنباط دقيق، بل إنها أقرب إلى الحدس. لهذا يمكننا القول بأن من يملك حسّا فكاهيّا، لديه حدس كوميديّ دقيق أكثر من غيره. 

يظل ما هو مضحك (الكوميديا) موضوع يصعب فهمه وتناوله. يمكن اسقاط أوصاف كثيرة لوصفه، ومن ثم دراسته. كأن نتخيّل أن الكوميديا عمل يحاكي الجانب الخلفيّ لتفكيرنا، والجانب الذي لانرغب أن يمثلنا ونُعرف به ونُختزل في داخله. ولكنه سيظل جانبا نحبّ من وقت لآخر الهرب إليه، كمساحة مريحة من ثقل وعبء الحياة وجديتها.

 

---------------------

الهوامش:

[1] ليليان هيرلاندز، ج. د. بيرسي، ستيرلنج أ. براون، ترجمة محمد الجورا، دار الحقائق للطباعة والنشر والتوزيع.

[2] نفس المصدر السابق.

[3] روحي البعلبكي، موسوعة روائع الحكمة والأقوال الخالدة، بيروت: دار العلم للملايين.

[4] مارتن والن، (٢٠١٠)، الثعلب التاريخ الطبيعي والثقافي، ترجمة ريم الذوادي، أبوظبي: كلمة للنشر والتوزيع.

 

 

 

 

السبت، 7 يناير 2023

الأعمال الكلاسيكية بعيدا عن الذكريات (بعد التعديل)

 أحيانا أتساءل هل من عاش الانميات "الكلاسيكية" على الفيديو والتلفزيون وبقت كذكريات قادر على لمس مواطن الجمال فيها بعيدا عن اعتبارها ذكاريات؟ مقارنة بمن بدأ مشاهدته لها متأخرا وعلى الانترنت ويرى فيها انميّات قديمة ومع ذلك يحبّها فهو لا يحمل تلك الذكريات التي قد يطغى وجودها على الحكم بجماليّة الانمي. 


كل شيّء يتغيّر:




بدءا بالكوميديا التي كانت بالسابق تعتمد كثيرا على الأوجه المطاطيّة كماهي في "نينجا: كابامارو" وصولا الى التعابير التي وجدتها مختلفة ولم أفهمها إلا مع الوقت بمسلسل "ماروكو الصغيرة"، ظهور الخطوط على الوجه في حال الاستغراب والاستنكار بالإضافة الى قطرة العرق الفريدة والتي يعرفها حتما مشاهدي الانمي. هل هذا التغيّر يعني اندثار التعابير القديمة أو الاسلوب االقديم في التعبير؟ 

 


أغلب المسلسلات الكرتونيّة التي شوهدت بالتلفزيون والفيديو عربيّا كانت قديمة في موطنها ربما أقدم بعشر سنوات أو أكثر. لهذا لا يمكننا الحكم على العمل بإعادته للفترة الزمنيّة وفق سنة الانتاج إلا عندما نتحدّث عن صناعة الانمي كصناعة ولكن  بالحديث عن تشكّل الأذواق والآراء عندنا، يهمنا بالدرجة الأولى سنة عرضها ودبلجتها، ما يعني ميلاد تشكّلها في ذائقة المشاهدين. 

 

الأسلوب يتغيّر تبع الأذواق -وأشياء أخرى الحديث عنها قد يكون مملا- والتقنية تتطوّر تبع الزمن. بفضل التقنية بالإمكان تصوير المشاهد البهلوانّية لتروس التحكّم في "هجوم العمالقة" بحركات أكثر مرونة من مقاتلي النينجا بالانميّات القديمة. "ون بيس" المسلسل الذي لا ينتهي لا تشبه حلقاته الأولى حلقاته الأخيرة لا أسلوبا ولا تقنيّا وهذه أكبر نقطة ضعف في الانمي من وجهة نظري فهو لم يعد قطعة واحدة أو one piece بل بات يشبه مسخ فرانكنشتاين. 

 

هل تتابع الأعمال مواكبة لأسلوبها أم لتقنيتها؟

 لأسلوبها يعني أنك تتذوّقها، ولتقنيتها يعني أنك تستخدمها وتستمتع بها، وغالبا وبنسب مختلفة لكلا السببين معا نتابع الأعمال. التقنية بعد أن تصبح قديمة قد تصل الى حدّ انتهاء صلاحيّتها ويفقد العمل بسببه مقدارا كبيرا من بريقه. لكن الأسلوب بعد قدمه هل تنتهي صلاحيّته؟ ومتى تنتهي صلاحيّة العمل أسلوبا أو تقنيّا؟ تقنيّا الإجابة أسهل جرّب نفسك هل تستطيع متابعة فيلم سينمائي صامت؟ (قديم) أما الأسلوب يمكن أحيانا في ظروف معيّنة يتم استعادته وإعادة إحيائه. 

 

هل للانميّات صلاحيّة؟




كثيرا ما ينظر لتلك الأعمال باعتبارها قديمة ولا تصلح بوجود الانميات الحديثة وباعتبار أن مافيها من رسوم وحركات وتعابير وأساليب لا تمتّ للوقت الحالي بصلة إلا كذكريات. حسنا عرضت تلك الأعمال بعد انتاجها بسنوات عديدة، أي أنها عرضت بعد أن أصبحت قديمة فعليّا دون أن ندرك ذلك ولكن حينما نتحدث كمستهلكين أو مستخدمين لا كمحبين سننظر للعمر الحقيقي للمنتج على أنه عمر استخدامه الفعليّ، وبسبب طبيعتنا الاستهلاكيّة ننظر للأشياء بتعاقبيّة مستمرّة. الانمي في نظر من يراه كمنتج استهلاكيّ يكون قديما ومنتهي الصلاحيّة حال الانتهاء منه ليس لكونه فقط أصبح قديما أسلوبا وتقنيّا. وفي نظر من يراه كعمل ابداعي ومحبّ يمكن أن يكون قديما ولم تنتهي صلاحيّته. يراه الأوّل كمادة مستهكلة -لها عمر استخدام- أو علكة لذيذة ينتهي طعمها سريعا ويُلقى في سلّة الذكريات وعندما يتحدّث عنها بحبّ يحكي عنها كذكريات جميلة لعلّ هذا ما جعلنا نرى العبارة المغلوطة "الزمن الجميل"؛ جميلة لأنها أصبحت ذكريات. يصعب الخلاص من شرك الذكريات حتّى لمن نظر اليها كعمل ابداعيّ لن يخلوا حديثه من لذة الذكريات لهذا قد يكون أقلّ تمييزا لروعة الأعمال من الذي شاهدها بعيدا عن اعتبارها شيئا جميلا يتذكره.  

 

بالنهاية هي أعمال جميلة أكثر من كونها ذكريات والأعمال الابداعيّة ليست سلع مستهلكة تنتهي بعد الاستخدام. توجد عبارة ولو أنها تستخدم أحيانًا بابتذال الا أنها تصف هذه الأعمال بدقة وهي "تحفة" أي عمل يبقى رغما عن أنف الأسلوب والتقنية. صحيح التقنية أحدثت فرقا واضحا بات بالإمكان انتاج عمل بقصة عادية ومع جودة الإخراج يصبح عملا مبهرا الأمر الذي لم يتوفر كثيرا بالانميات القديمة لهذا نجد ثقلها في القصة أكثر.


الى هنا انتهي وأجمل مافي النقاشات عن الانمي وعالمه بروز مصطلحات خاصة تدور في فلكها وان شابها لبس إلا أنها مفهومة مثل "كلاسيكية" و "الزمن الجميل" و الكلمة التي يستخدمها كثيرا محبوا الأفلام السينمائية "تحفة".